مبادئ عامة في النقد
ما أظن بالقارئ إلا أنه سيستغرب أن أقول أن الأصل أن يذم الإنسان أخاه ويعيبه بما فيه من نقص لا أن يمدحه ويثني عليه، ولكن قولي هذا لا غلو فيه ولا وجه لاستغرابه لأن النقص حاصل ومسلم مفروغ منه، وكل ما تقوم عليه نظم الجماعات الإنسانية على اختلافها وتفاوتها ليس إلا وسائل لعلاج هذا النقص في الإنسان.
فالمدارس والسجون والقوانين والشرائع والعادات والتقاليد والمساجد والكنائس، إلى آخر ما هنالك غايتها العلاج وقد صدق ابن الرومي حين قال:
ولو اختار كلمة غير «الأخلاق» أعم منها وأشمل لكان قوله أجمع وأوعى، على أني لا أستقلها مع ذلك ولا أراها من الضيق بحيث لا تغني فإن أخلاق الناس مصدر كل ما يكون من أحوالهم وأعمالهم ففيها الكفاية ونحن نقتنع من الشعراء بما دون ذلك ونكتفي منهم باللمحات الدالة، لا لقصور خاص فيهم بل لأنهم يلزمون أنفسهم من القيود ما لا يلتزم غيرهم فليس عجباً أن يعيوا أحياناً بالتعبير وأن يجيء اللفظ أقصر من المعنى قليلاً والمعنى أكبر وأضخم من اللفظ الذي يكتسبه ويحاول أن يتبدى فيه.
وأنا أعرف هذا معرفة، فقد كنت أعالج النظم قديماً، فأطار عقلي وسود عيشي، ما كنت أعانيه من مشقة الأداء الوافي الدقيق، وما كنت أحس به من العجز عن التعبير الصحيح وما كنت أراني أقع فيه من اللغو والحشو والتزيد الفارغ ولهذا كففت وتبت إلى الله أو رشدت إذا شئت، فما تنقص الإنسان في حياته القيود العارقة حتى يضيف إليها قيود الوزن والقافية، فليعذر الناس الشعراء فإنهم بشر مساكين وليغضوا عن تقصيرهم فإنه اضطراراً، وليكبروا توفيقهم فإنه والله اقتدار.
وأهون شيء أن يبسط المرء لسانه فيما شاء بما شاء. ولكن المزية ليست في إرسال اللسان بالانتقاص والغض، فما في هذا مجهود من العقل أو النفس يتكلفه المرء وإنما المزية أن يفكر، ويتدبر ويقيس ويوازن، ويعدل، ويكبح نفسه عما يغريه به أول الخاطر، ويصدها عما يدفعها إليه الهوى.
والرجل الذي يجري مع أول الخاطر ويطيع في كل حال ما تهيب به غرائزه ونوازعه الفطرية هو رجل لا مهذب ولا مصقول ولا مثقف ولا انتفاع للدنيا به ولا خير للناس فيه.
وسبيل المدنية أو الثقافة أن تتناول الغرائز الفطرية أو النزعات الطبيعية فتدفعها في مجار تحبسها عن الانسياح، وتمنعها أن تتبدد سدى وتوجهها وجه الخير العام أي أنها تقيم الضوابط، وترفع الأحباس والسدود لينتظم التدفق على قدر ويعظم الانتفاع ويتقي شر التحدر بغير كابح، أي الفوضى. مثال ذلك أن الحب هو الذي يغري الرجل بطلب المرأة، والمرأة بطلب الرجل، والغاية منه حفظ النوع. فهو الأداة التي تحرك النفس وتثير فيها الرغبة أو الاشتهاء. فإذا لم يكن ثم نظام كابح فإن كل رجل يكون لكل امرأة، بلا حساب أو تمييز، ويكون الأمر مرجعه إلى القوة في صورة من صورها المتعددة — قوة الساعد أو قوة الحيلة وما أشبه ذلك، وهذا حال الجماعات المستوحشة أي التي لا تزال على الفطرة. ولكن الإنسان ارتقى قليلاً وارتفع عن هذه المرتبة الفطرية، فنشأ نظام الزواج والأصل فيه أنه يقوم على الحب. وأن الغرض منه هو تنظيم الجماعة. وتدبير أمر النسل لخيرها كلها.
والكبح يتطلب مجهوداً لأنه لا يتأتى بغير ذلك، إذا كان الإنسان غير مهذب بالطبع، وآية ذلك الطفل فإنه — إذا لم نتعهده بالتربية والتوجيه لا يبالي ماذا يصنع مما نعده نحن الكبار سوء أدب ولا يخطر له أن فيما يفعل أو يترك شيئاً يعاب أو لا يليق.
وأنت بتربيته تعوده شيئاً فشيئاً أن يبذل جهداً من ذات نفسه ومن عقله الذي ينمو تدريجياً، ليتأدب ويحسن سلوكه وتطيب سيرته فالأصل في الإنسان أنه على الفطرة. كالشجرة أو كالحيوان والانتفاع قليل بما هو على الفطرة، وإنما يريد النفع ويبلغ أقصاه بالتعهد والرعاية، والشجرة المهملة تهيج، ولكنها لا تؤتي كل ما يمكن أن تؤتي من ثمر إلا بالتقليم والتشذيب والتطعيم والتسميد والسقي وما إلى ذلك، ومثلها الإنسان يقل خيره وينحط إذا ترك وأهمل، ولأنه يبقى قوة طائشة والفضيلة والمزية أن تعالج هذه القوة وتنظم وتوجه ليحسن الانتفاع بها ويعظم.
فالكبح إذن مزية، وليس مجرد قيد يتململ منه الإنسان ويستثقله وأجيلوا عيونكم في الأمم تجدوا أن أرقاها وأقواها وأعظمها شأناً، أكثرها نظاماً، وأشدها حرصاً على النظام في كل شيء.
وكل نظام قيد، ولكنه قيد لازم لخير الجماعة وليس عبثاً أو تحكماً أو ظلماً.
وأعود الآن إلى موضوع النقد فأقول أن النقد مفروض فيه أن الناقد ند للمنقود وكفء له، على الأقل، فعلى الذي يهم بنقد كتاب أو غيره أن يسأل نفسه. أهو كفء لهذا؟ هل أوتي من العلم والفضل والمزية ما يؤهله لتناول الكتاب أو الناس بالنقد؟
وقد أوتي كل امرئ حظاً كافياً وافياً من الغرور وما أكثر ما يكون نصيبه منه فوق الكفاية ولولا الغرور لضاق المرء ذرعاً بالحياة ولما أطاق العيش، فهو نعمة على الإنسان ولكنها نعمة تنقلب نقمة إذا لم يكن لها كابح من العقل وصحة الإدراك.
فعلى الذي يريد النقد أن يصدق نفسه، فإن صدق النفس أولى وأحجى، لو يهون، وما أراه مع الأسف يهون، غير أنه إذا جاز أن يغالط المرء الناس، فإن من الغفلة وسوء الرأي وضلال العقل أن يغالط نفسه، ولا ينبغي أن يشعر المرء بغضاضة إذا هو صدق نفسه فإن معرفة المرء بمواطن النقص والقصور في نفسه، خليقة أن تستحث همته وتدفعه إلى تقوية الضعف، وسد النقص ومعالجة القصور، وذلك خير وأرشد من الاغترار والاستنكاف من الإقرار لنفسه بالضعف فيبقى كما هو، بل يزداد كل يوم قصوراً.
والنقد عبارة عن رفع ميزان، والميزان ذو كفتين، في واحدة يوضع الإحسان وفي الأخرى توضع الإساءة أو التقصير أو ما يجري هذا المجرى. والكفة الراجحة هي التي يكون لها الحكم فإذا شالت كفة النقص كان الرجل فاضلاً أو محسناً أو مجيداً وإذا رجحت كفة التقصير هوى صاحبها معها.
ومؤدى ذلك أن قيمة الكتاب مرجعها إلى قيمة ما فيه من الإجادة وكذلك قيم الناس. فليس من العدل أن ننظر إلى العيب أو المأخذ وحده. وأن نقول أن هذا رجل سوء أو هذا كتاب رديء. لأنه فيه كذا وكذا من العيوب فما أوتي الإنسان الكمال وقد يؤتاه بعد أدهار أخرى طويلة. ولكنه لم يرزقه إلى الآن، وما من كتاب إنساني يخلو من مأخذ أو مآخذ، فمن العنت أن نتعلق بالعيوب وإن كثرت، دون الحسنات، ومن الغرور القبيح أن نقول أساء الرجل في فعله أو كتابه وأن نغضي عما أجاد فيه ووفق إليه، ووجه الغرور هنا أننا نزعم ضمناً أننا نحن لا يمكن أن نقع في خطأ، أو أن نرتكب فعلاً مذموماً أو معيباً وأننا ننحل أنفسنا قدراً من الفضل لا يتاح للإنسان.
ومن مقتضيات العدل في النقد أن يضع الناقد نفسه في موضع المنقود، وأن يسأل نفسه ويخلص في الجواب «ماذا كنت خليقاً أن أصنع لو كنت مكانه وماذا كان يسعني أن أكتب في هذا الموضوع لو تناولته أنا؟»
جاءني ذات يوم شاب فانتقلنا من بحث إلى بحث حتى خضنا في حديث شكسبير الشاعر الإنجليزي فقال إن رواياته مأخوذة من قصص قديمة. فقلت «هذا صحيح والأصح أن نقول معظمها وأهمها، ولكن ماذا تعني، قال أعني أن فضله قليل فيما أخرج فلو لم تكن هذه القصص القديمة لما كان شكسبير».
قلت إني كبير الشك في هذه النظرية، وعندي أنه لو لم يجد شكسبير هذه القصص لابتكر غيرها أو لانتزع مادة لقصصه من الحياة حوله. ولكن دع هذا الآن وأنا أشير عليك أن تأخذ قصة من هذه القصص القديمة التي انتفع بها شكسبير، وأن تدرس أيضاً روايته فيها. وأن تضع الاثنين معاً أمامك.
وتحاول أنت أن تكتب رواية تبنيها على هاتين شعراً أو نثراً كما تشاء أو حتى باللغة العامية إذا أردت، وانظر ماذا يدخل في وسعك وحينئذ تعرف فضل شكسبير وتستطيع أن تقدر عبقريته.
إن النقد النافع هو الذي يتوخى فيه صاحبه القصد والاعتدال. والاعتدال واجب في كل أمر، ولكنه في النقد أوجب، فيحسن بمن يزاول النقد أو يبدو له ما يغري به أن ينام على الرأي الذي يعن له ليلة أو ليلتين. ويديره في نفسه يوماً أو يومين قبل أن يجري به لسانه أو قلمه. فإن النفس تسكن والوجوه تتفتح، والغوامض أو الخافيات تتبدى والراسب يطفو والغائب يحضر. والرأي في النهاية يكون أقرب إلى الاتزان وأشبه بالعدل.
وقد علمتني تجربتي الطويلة أن أنام هذا النوم ليلة وليالي على كل ما يخطر لي من قول أو فعل وكثيراً ما رأيتني أعدل عما كنت هممت به.
والسؤال الذي ينبغي أن يلقيه المرء على نفسه وهو يتدبر كتاباً هو هذا. ما هي الفائدة المباشرة التي خرجت بها من لغة أو فكرة، أو معنى، أو حقيقة أو ما هو من ذلك بسبيل.
ومن الإنصاف للكاتب أن لا نبخل عليه بالاعتراف بما أفدنا منه، إذا كنا أفدنا شيئاً ولو قليلاً.
على أنه قد يتفق أن لا يكون في الكتاب ما يستفيده القارئ مباشرة فلا يخرج منه جديداً أو معرفة طريفة أو فائدة حسنة ولكنه قد يستطيع على الرغم من خلوه من هذه الفوائد المباشرة أن يحرك خيالنا، ويوقظ أذهاننا، ويبتعث نفوسنا، وينشطنا على العموم إذ يوحي إلينا شيئاً — عفواً لا عمداً — ويخطر على بالنا أمراً، أو يعرفها وجهة ما، فهذه أيضاً لا تستقل ولا تستخف بها، وحسبنا هذه الاستثارة لكوامن نفوسنا، حتى ولو أغضبتنا، فإن إغضابنا يكون كأنه وخز لنا يستفزنا.
والوخز تحريك وتنبيه، وإنه ليكون من فضل الكاتب علينا أنه استطاع أن ينهضنا بعد الرقاد، ويفتح عيوننا بعد الإغماض.
وما أكثر ما يسأل السائلون عن بواعث التأليف؟ لم رأى الكاتب أن يتناول هذا الموضوع خاصة بالبحث؟ وماذا زين له ذلك وأغراه به؟ والإنسان بطبيعته فضولي؟ فلا استغراب لمثل هذا السؤال.
ولكني أقول أن البواعث كثيراً ما تخفي حقيقتها حتى على صاحبها، فمن العسير الاهتداء إلى الصحيح منها، ومن الصعب الغوص في قرارات النفوس على المستكن المستخفي في أعماقها وخير لنا أن لا نعني أنفسنا بهذا التساؤل.
وليكن الباعث ما يكون فإن المهم هو الكتاب الذي أمامنا وسيموت المؤلف ويلحق بمن غبر، ويذهب جيله كله أيضاً، ويجيء جيل جديد ولا يعرف الصداقات والعداوات التي كانت تحف بالمؤلف، ولا يدري إلا القليل عن الأحوال التي كان يعيش فيها ويتأثر بها، فلا يعنيه إلا الكتاب ذاته إذا كان قد قسم له البقاء.
ومن الذي يسأل عن بواعث الجاحظ حين ألف البيان والتبيين أو الحيوان؟
وما قيمتها الآن وما قيمة أن نعرف لماذا ترجم ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة؟
إن القيمة الحقيقية للأثر لا لما أغرى به وحمل عليه. وقد تكو البواعث سيئة ولكن الأثر يجيء حميداً والعكس أيضاً يحدث.
فلندع البواعث وإن كانت لا تخلو من فائدة إذا استبانت؟ هل في الدنيا شيء يخلو من نفع؟