أدب
١
كان أفضل ما في الشتاء أن تقود سيارتها إلى البيت بعد قضاء يومها في تدريس الموسيقى في مدارس روف ريفر. يكون الظلام قد حل فعليًّا، وربما تساقط الثلج في الشوارع البعيدة من المدينة، بينما الأمطار تضرب السيارة على الطريق الساحلي السريع. قادت جويس سيارتها إلى ما وراء حُدود المدينة نحو الغابة، وعلى الرغم من أنها غابة حقيقية ذات أشجار صَنَوْبَرِيَّة من فصيلة تنوب دوجلاس وأشجار أرز حقيقية، فقد كان هناك أناس يعيشون على مسافة رُبع مِيل أو نحو ذلك. يملك البعض منهم حدائق لبيع البضائع، وقلة منهم لديهم بعض الخِرَاف أو أحصنة للرُّكوب. كذلك كان هناك مشاريع مثل مشروع جون؛ فهو يُصلح الأثاث ويصنعه. وهناك أيضًا إعلانات عن الخدمات على جانب الطريق، منها ما هو خاص بهذا الجزء من العالم تحديدًا، مثل قراءة أوراق التاروت، والتدليك بالأعشاب، وحل الخلافات. عاش بعض الناس في مقطورات، وبنى آخرون بُيوتهم الخاصة مدعمة بأسقف من قش وخلفيات خشبية، والبعض الآخر، مثل جون وجويس، كانا يجددان بيت مزرعة قديمًا.
كان هناك شيء واحد خاص أحبت جويس أن تراه في طريقها إلى البيت وحين تدخل إلى ملكيتهما الخاصة. في ذلك الوقت، استخدم العديد من الناس، حتى بعض الذين يسكنون في بُيوت ذات سقف من القش، ما سُمِّيَ أبواب الفناء؛ حتى إذا لم يكن لدى البعض منهم، مثل جون وجويس، فناء. كانت تترك في العادة بدون ستار، وكان شراعتا النور المستطيلتان تبدوان علامة على الراحة والأمان والتجديد أو وعدًا به. لم تستطع جويس أن تعرف لماذا تعكس هذا أكثر مما تعكسه النوافذ العادية. ربما لم يكن الهدف من معظمها أن تطل على الخارج فحَسْبُ، بل أن تفتح مباشرة على عتمة الغابة، وأن تعرض ملاذ البيت ببساطة. ناس بالحجم الطبيعي يطبخون أو يشاهدون التليفزيون؛ مشاهد تفتنها، حتى مع علمها بأنه لا شيء مميز بالداخل.
كان ما رأته حين انعطفت إلى ممرها الموحِل غير المرصوف مجموعة من تلك الأبواب التي وضعها جون، تؤطر حشا بيتهما المتوهج. السُّلَّم النَّقَّال، ورفوف المطبخ التي لم يَنْتَهِ من العمل عليها، والدرجات العارية، وخشب دافئ يتألق بنور المصباح الذي وضعه جون ليشع نورًا أينما أراد، وأينما كان يعمل. يعمل طول اليوم في ورشته، وحين تبدأ العتمة، كان يرسل مساعِدته إلى بيتها، ويبدأ العمل في المنزل؛ إذ يسمع سيارتها، يدير رأسه إلى اتجاه جويس للحظة فقط، محييًا إياها. عادة تكون يداه مشغولتين جدًّا فلا يستطيع تحيَّتَها بهما. وإذ تجلس هناك وقد اطفأت أضواء السيارة؛ وتلتقط البقالة أو البريد الذي يجب أن تأخذه إلى البيت، كانت جويس سعيدة بتلك الدفقة الأخيرة عبر الظلام والرياح والمطر البارد إلى الباب. شعرت أنها تطرح عنها عمل اليوم الذي كان مزعجًا ومحيرًا، ومليئًا بتوزيع الموسيقى على المتجاوبين وغير المكترثين كذلك. كم هو أفضل أن تعمل مع الخشب ومع نفسك — لم تحسب المساعدة — عن أن تعمل مع طفل صغير لا يمكن التنبؤ بأفعاله.
لم تَقُلْ أيًّا من هذا لجون. كان يكره أن يسمع الناس يتحدثون عن أهمية، وروعة، وشرف التعامل مع الخشب. أي نزاهة في هذا العمل، وأي شرف؟!
إنه يراه هُراءً.
التقى جون وجويس في مدرسة ثانوية حَضَرية في مدينة صناعية في أونتاريو. حصلت جويس على ثاني أعلى معدل ذكاء في فصلهما، وحصل جون على الأعلى في المدرسة، وعلى الأرجح في المدينة. كان من المتوقع لها أن تصبح عازفة ماهرة على الكمان — هذا قبل أن تتخلى عنها من أجل التشيلُّو — وكان مقدَّرًا له أن يصبح عالمًا من النوع الْمَهِيب الذي يستعصي وصف عمله في العالم العادي.
تركا الدراسة في العام الأول من الالتحاق بالكلية وهَرَبَا معًا. حصلا على وظيفتين، وسافرا بالحافلة عبر القارَّة وعاشا عامًا على ساحل أرجون، وتصالحا، عن بُعد، مع عائلتيهما اللتين اعتبرتاهما نورًا انتشر في العالم. كان قد فات الوقت الذي يمكن تسميتهما فيه بالخنافس، لكن هكذا نعتتاهما عائلتاهما. لم يَرَيَا نفسَيْهما كذلك قطُّ؛ فهما لم يتعاطَيَا المخَدِّرات، وارتديا ملابسهما بأُسلوب متحفظ رغم رَثَاثة مظهرهما قليلًا، وأثبت جون ذلك بأنْ حَلَقَ ذقنه وجعل جويس تقص شعرها. تَعِبَا من وظيفتيهما اللتين تُدِرَّانِ دخلًا متدنيًا للغاية بعد فترة قليلة واستدانا من عائلتيهما المحبطتين حتى يصبحا مؤهَّلَيْنِ لتحقيق معيشة أفضل. تعلَّم جون النجارة وأشغال الخشب، وحصلت جويس على درجة علمية تؤهلها لتدريس الموسيقى في المدارس.
كانت الوظيفة التي حصلت عليها في روف ريفر. اشتريا هذا المنزل المتداعيَ بسعر بَخْس جدًّا، واستقرَّا في مرحلة جديدة من حياتهما. زرعا حديقة، وتعرَّفا على جيرانهما؛ الذين كان بعضهم لا يزالون خنافس حقيقيين، يزرعون كَمِّيَّات صغيرة من الحشيش في الدَّغْل ويصنعون عُقودًا من الخَرَز وأكياس أعشاب طبيعية للبيع.
أحب الجيران جون. كان لا يزال نحيفًا ولديه عينان لامعتان، مغرور لكنه مستعد أن يُصْغِيَ. وفي ذلك الحين كان معظم الناس قد بدءوا التعَوُّد على أجهزة الكمبيوتر، التي كان يفهمها واستطاع شرح طريقة عملها بصبر. كانت جويس أقل شعبية؛ فقد رَأَوْا أنها تُضْفِي على منهجها في تدريس الموسيقى أسلوبًا رسميًّا.
طبخ جويس وجون عشاءهما معًا واحْتَسَيَا بعضًا من نبيذهما البيتي (كانت طريقة جون في صنع النبيذ دقيقة وناجحة). تحدثت جويس عن إحباطات يومها ونوادره. لم يتحدث جون كثيرًا؛ وكان أحد الأسباب هو انهماكه في الطبخ. لكن حين كانا يأكلان معًا أخيرًا، ربما كان يحكي لها عن زبونٍ زارَهُ، أو عن مساعدته إيدي. قد يضحكان على شيء ما قالته إيدي. لكن ليس باستخفاف؛ اعتقدت جويس في بعض الأحيان أن إيدي مثل حيوان منزلي أليف؛ أو مثل طفل. مع أنها لو كانت طفلة، طفلتهما، وكانت على حالها هذا، فربما أصابتهما حيرة وقلق بالغان يمنعهما من الضحك.
لماذا؟ أي حال؟ لم تكن غبية. قال جون إنها لم تكن عبقرية فيما يتعلق بأشغال الخشب، لكنها تتعلم وتتذكر ما تتعلمه. والأمر الهام أنها ليست ثَرْثَارة. كان هذا أكثر ما خَشِيَهُ حين ثارت مسألة تعيين مساعد. دشنت البلدة برنامجًا حكوميًّا؛ كان سيتلقى مبلغًا معينًا لتعليم الشخص، وأيًّا كان هذا الشخص فالمبلغ يكفي لتغطية تكاليف معيشته أثناء تعلمه. لم يكن راغبًا في ذلك في البداية، لكن جويس أقنعته. كانت مقتنعة أن عليهما التزامًا نحو المجتمع.
ربما لم تكن إيدي تتحدث كثيرًا، لكن حين كانت تتحدث، كان حديثها قويًّا.
قالت لهما في مقابلتها الأولى معهما: «لقد امتنعت عن تناول كل المخدرات والكحوليات. إني أنتمي إلى برنامج زمالة المدمنين المجهولين، وأنا مدمنة كحول أتماثل للشفاء. لا نقول أبدًا إننا شُفينا؛ لأننا لن نُشفى أبدًا. لا نُشفى ما دمنا على قيد الحياة. لديَّ ابنة في التاسعة من عمرها وولدت بدون أبٍ، لهذا هي مسئوليتي الكلية، وأنوي أن أربيها تربية جيدة. طموحي أن أتعلم أشغال الخشب حتى أستطيع أن أَعُولَ نفسي وابنتي.»
بينما كانت تُلقي هذه الكلمة جلست تُحَدِّق بهما، واحدًا بعد الآخر، عبر طاولة مطبخهما. كانت شابة قصيرة قوية، لم تَبْدُ كبيرة في السن بما يكفي أو مُدمرة بما يكفي لأن تحمل سيرة من الفجور. كتفان عريضان، شعر غزير يغطي جَبِينها، ذَيْل حِصان محكوم، لا احتمال أن تبتسم.
قالت: «وأمر آخر.» فَكَّتْ أزرار بلوزتها ذات الكمين الطويلين. كانت ترتدي قميصًا تحتانيًّا. كان ذراعاها وصدرها من أعلى وظهرها — حين استدارت — من الأعلى مليئة بالأوشام. بدا كأن جلدها كساء مزخرف، أو ربما كتاب مصور بالوجوه الشَّبِقَة والرقيقة على السواء، المحاطة بالتَّنَانِين، والحِيتان والنِّيران، شديدة التعقيد أو ربما مروعة جدًّا لدرجة أنها تستعصي على الفهم.
أول شيء ستُضْطَرُّ إلى التساؤل عنه ما إذا كانت قد كَسَتْ جسدها كلَّه بهذه الأوشام.
قالت جويس بقدر ما تستطيع من حيادية: «مدهش.»
قالت إيدي: «حسنًا، لا أعرف كم هو مدهش، لكنه كان سيكلفني ثروة لو كان عليَّ أن أدفع مُقابِلَه. هذا ما كان يشغلني في وقت من الأوقات. إني أُريكما إياهُ لأن بعض الناس قد تعترض على هذا. مثل: فرضًا إذا شعرت بالحر في الورشة واضْطُرِرْتُ أن أعملَ مرتدية القميص التحتاني.»
قالت جويس: «ليس نحنُ» ونظرت إلى جون. هَزَّ كَتِفَيْهِ في لا مبالاة.
سألت جويس إيدي ما إذا كانت ترغب في احتساء فنجان من القهوة.
أجابَتْها إيدي: «كلَّا، شكرًا.» كانت ترتدي بلوزتها مرة أخرى. وأردفت: «كثير من الناس في زمالة المدمنين المجهولين يبدون وكأنهم يَحْيَوْنَ على القهوة. وما أقوله لهم هو: لماذا تُغَيِّرونَ عادةً سيئة بأخرى؟»
قالت عنها جويس فيما بعد: «استثنائية. شعرت أني إذا قلت أي شيء فإنها يمكن أن تعطيني محاضرة. لم أجرؤ على الاستفسار عن الميلاد العُذْرِيِّ لابنتها.»
قال جون: «إنها قوية. وهذا هو الأمر المهم. لقد ألقيت نظرة على ذراعيها.»
وحين يقول جون «قوي» فإنه يعني بالضبط ما تعنيه الكلمة. يعني أنها تستطيع أن تحمل لوح خشب.
يستمع جون إلى راديو سي بي سي أثناء عمله. الموسيقى، وكذلك الأخبار، والتعليقات، والمداخلات التليفونية. وفي بعض الأحيان، كان ينقل رأي إيدي فيما سمعاه.
إيدي لا تؤمن بنظرية التطور.
(كان يذاع برنامج للمداخلات التليفونية اعترض فيه بعض الناس على ما كان يُدرس في المدارس.)
– ولِمَ لا؟
قال جون: «حسنًا، لأنه في بلاد الكتاب المقدس تلك.» ثم غير نبرته إلى صوت إيدي أحادي النبرة الصارم وأردف: «في بلاد الكتاب المقدس تلك لديهم الكثير من القُرود، وتنزل القرود من الأشجار، وهكذا جاءت الفكرة لهؤلاء الناس بأن القرود تنزل من الأشجار وتتحول إلى بشر.»
قالت جويس: «لكن في المقام الأول …»
– «لا تبالي. لا تحاولي حتى المجادلة. ألا تعرفين القانون الأول بشأن الجدل مع إيدي؟ لا تبالي واسكتي.»
تعتقد إيدي كذلك أن شركات الأدوية الكبرى عرفت علاجًا للسرطان، لكن عقدت صفقة مع الأطباء للتكتم على المعلومات بسبب الأموال التي يَجْنُونَها هم والأطباء.
حين كان الراديو يذيع لحن «قصيدة غنائية للفرح»، كانت تُجبر جون على إغلاقه لأنها كريهة جدًّا مثل الموسيقى الجنائزية.
علاوة على ذلك، اعتقدت أنه يجب على جون وجويس — حسنًا، جويس وَحْدَها في واقع الأمر — ألا يتركا زجاجات النبيذ واضحة للعين على طاولة المطبخ.
قالت جويس: «هل هذا يخصها؟»
– «واضح أنها تعتقد هذا.»
– «متى يُتاح لها أن تتفحص طاولة مطبخنا؟»
– «عليها أن تمر عبره إلى الحمام. لا يمكن أن نتوقع منها أن تتبول في الأدغال.»
– «حقيقة لا أفهم ما شأن …»
– «وفي بعض الأحيان، تدخله لتُعدَّ لنا بعض الشطائر.»
– «إذن؟ هذا مطبخي. مطبخنا.»
– «إنها تشعر بالتهديد من المشروبات المسكرة. لا تزال هشة. شيء لن نستطيع أنت وأنا فهمه.»
مهددة! مشروب مسكر! هشة!
ما هذه الكلمات التي يستخدمها جون؟
كان يجب أن تفهم، وفي تلك اللحظة، وإن كان هو نفسه أبعد ما يكون عن أن يدرك هذا. لقد كان يقع في الحب.
يقع. هذا يحتاج فترة زمنية ما؛ لتَزِلَّ قدماه. لكن يمكن اعتبارها فترة زمنية وجيزة؛ الأمر يستغرق ثانية أو لحظة لتقع. في الوقت الحاليِّ جون لا يحب إيدي. تك. الآن هو يحبها. من المستحيل إدراك أن هذا أمر مرجح أو محتمل، إلا إذا فكرت في لكمة مفاجئة بين العينين، أو سكون مفاجئ. إنها ضربة القدر التي تجعل الإنسان عاجزًا؛ المزحة الشريرة التي تُحَوِّل عينين صافيتين إلى حَجَرَيْنِ مُصْمَتَيْنِ.
شرعت جويس تقنعه بأنه مخطئ. ليس لديه الخبرة الكافية بالنساء. لا خبرة إلا بها. اعتقدا دومًا أن دُخول تجارِب مع شركاء متنوعين فعل طفولي؛ الخيانة الزوجية فوضويةٌ ومدمِّرةٌ. الآن تتساءل: هل كان يجب أن يدخل تجارِب أكثر؟
لقد قضى شُهور الشتاء المعتم منعزلًا في ورشته، معرَّضًا لإشعاع إيدي الواثق. كان يضاهي الإصابة بالمرض بسبب التهوية السيئة.
كانت إيدي تصيبه بالجنون، لو استمر يتعامل معها بجدية.
قال: «فكرت في هذا، ربما هذا ما فعلته فعليًّا.»
قالت جويس إن هذا كلام مراهق أحمق؛ إذ يتظاهر بأنه مذهول وعاجز.
قالت له: «ماذا تظن نفسك، فارسًا من فرسان المائدة المستديرة؟ شخص ما أعطاك شربة سحرية؟»
ثم قالت إنها آسفة. قالت إن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله هو أن يستخدماه على أنه درس مشترك. وادي الظلال. أن يعتبراه يومًا مَحْض خلل في مسار زواجهما.
قالت: «سوف نجتازه.»
نظر لها جون نظرة مختلفة، نظرة مليئة بالعطف.
قال: «ليس هناك «نحن».»
•••
كيف يمكن أن يحدث هذا؟ طرحت جويس هذا السؤال على جون، وعلى نفسها؛ ومن ثَمَّ على آخرين. مساعِدة نَجَّار ثقيلة الحركة وثقيلة الظل، ترتدي سِرْوالًا واسعًا وقمصانًا صوفية وكنزة سميكة باهتة منقطة بنشارة الخشب طَوَال الشتاء. ذات عقل يتهادى متثاقلًا من كليشيه أو حماقة إلى أخرى، ويزعم أن كل خطوة من الرحلة هي قانون الأرض. شخصية كهذه تحجب جويس ذات الساقين الطويلتين، والخصر الرشيق، والجدائل الحريرية الطويلة لشعر داكن، ظرفها، وموسيقاها، وثاني أعلى معدل ذكاء.
تقول جويس: «سوف أخبرك ما أظنه حدث.» هذا فيما بَعْدُ حين طالت الأيام واشتعلت باقات زنابق الماء. حين ذهبت لتدريس الموسيقى ترتدي نظارات داكنة لتخفيِ عينين تَوَرَّمَتَا من البكاء والشراب، وبدلًا من أن تتجه إلى البيت بعد انتهاء عملها اتجهت إلى حديقة ولنجدون حيث أملت أن يأتي جون باحثًا عنها؛ خوفًا من أن تنتحر (فعل هذا بالفعل، لكن مرة واحدة فقط).
قالت: «أعتقد أن السبب أنها كانت تنتمي للشوارع. تنقش المومسات الوشم على أجسادهن لأسباب تتعلق بالمهنة. والرجال يثيرهم هذا. لا أعني الوشم — حسنًا، ذلك أيضًا يثيرهم بالطبع — أعني حقيقة أنها للبيع. كل تلك السُّهولة والخبرة. والآن تائبة. إنها مريم المجدلية اللعينة لعصرنا هذا، هذه هي المسألة. وهو طفل كبير جنسيًّا. كل هذا يثير اشمئزازك.»
لديها صديقات الآن تستطيع التحدث معهن هكذا. كلهن لديهن قصصهن الخاصة. بعضهن عرفَتْهن مِنْ قَبْلُ، لكن ليس كمعرفتها بهن الآن. يتجمعن ويشربن ويضحكن حتى يَبْكِينَ. يقُلن إنهن عاجزات عن تصديق هذا. الرجال. ماذا يفعلون. أمر مقزز وأحمق. لا يمكن تصديق هذا!
لِهذا هو واقعٌ.
في وسط هذا الكلام تشعر جويس أنها على ما يرام. على ما يرام حقًّا. تقول إن لحظات تمر عليها فعليًّا تشعر أثناءها بالامتنان لجون؛ لأنها تشعر بحيوية أكبر الآن لم تشعر بها طَوَال حياتها. شعور شنيع لكنه رائع. بداية جديدة. الحقيقة العارية. الحياة العارية.
•••
لكن حين تستيقظ في الثالثة أو الرابعة صباحًا، تتساءل أين هي. ليست في منزلهما. إيدي في ذلك المنزل الآن. إيدي وطفلتها وجون. هذا ما فضلته جويس نفسها؛ إذ اعتقدت أنه ربما يعيد جون إلى رُشده. انتقلت للمعيشة في شقة في المدينة تخص مدرسًا في إجازة طويلة لمدة عام. استيقظت في الليل على الأضواء الوردية المرتعشة من يافطة مطعم عبر الشارع تومض عبر نافذتها، منيرة متعلقات المدرس الغريبة المكسيكية؛ أُصُص صبار، عينا قِطٍّ متدليتان، بطانيات مقلَّمة بلون دم جافٍّ. كل تلك البصيرة السكرانة، تلك النشوة، تخرج منها مثل القيء. وبخلاف هذا، لم تُصِبْها أعراض السُّكْر قطُّ. تستطيع أن تغرق في بحيرات من الكحول، على ما يبدو، وتستيقظ جافَّة مثل ورقة كرتون، وكأنها لم تشرب شيئًا.
حياتها ضاعت. كارثة عادية.
الحقيقة أنها كانت لا تزال سكرانة، مع أنها تشعر بأنها واعية جدًّا. كان خطرًا أن تصل إلى سيارتها وتقودها إلى المنزل. ليس الخطر في أن تنزلق إلى الخندق على جانب الطريق؛ لأن قيادتها في تلك الأوقات تصبح بطيئة جدًّا ورَزِينة، بل إنها توقِف السيارة في الفناء الخارجي أمام النوافذ المعتمة وتنادي بصوت مرتفع على جون قائلة إنه يجب أن يتوقفا عن هذا ببساطة.
يتوقفان عن هذا. هذا ليس صحيحًا. أخبرها أن تذهب بعيدًا.
تذكُر حين نمنا في الحقل واستيقظنا والأبقار حولَنا في كل مكان تمضغ طعامها، ولم نُدرك أنها كانت موجودة الليلة السابقة. تذكُر حين اغتسلنا في الجدول المثلج. كنا نجمع الفُطْر في جزيرة فانكوفر ونطير عائدين إلى أونتاريو ونبيعه لندفع ثمن الرحلة، حين كانت أمك مريضة واعتقدنا أنها تُحْتَضَر. وقلنا، يا لها من مزحة، نحن حتى لا نتعاطى المخدرات، هذا بِرٌّ بوالدينا.
أشرقت الشمس وبدأت الألوان المكسيكية تعكس عليها بريقها الشنيع، وبعد فترة قصيرة نهضت واغتسلت ولطخت وَجْنَتَيْهَا بالحُمْرة وشَرِبَتْ قهوة ثقيلة مثل الوَحْل، وارتدت بعضًا من ملابسها الجديدة. اشترت قُمصانًا مُهَلْهَلَة، وتنُّورات مُهَفْهَفَة، وحلْقانًا مزينة بريشٍ بلونِ قَوْس قُزَح. خرجت لتدرس الموسيقى في المدارس، مثل راقصة غجرية أو نادلة في بار. ضَحِكَتْ على كل شيء وعبثت وتدللت مع الجميع. مع الرجل الذي أعد لها فطورها في المطعم الذي بالطابق الأرضي، والصبي الذي زود سيارتها بالغاز، والموظف الذي باع لها الطوابع في مكتب البريد. خطر لها أن جون قد يصل إليه كم هي جميلة ومغرية وسعيدة وتُذهِل كل الرجال. ما إن تخرج من الشقة حتى تصبح فوق خشبة المسرح وجون هو المتفرج الأساسي وإن كان على نحو غير مباشر. ومع ذلك، لم يأسر جون قطُّ المظهرُ الاستعراضيُّ أو السُّلوكُ العابثُ؛ لم يكن يعتقد قطُّ أن هذا سر جاذبيتها. فحين كانا يرتحلان، تدَبَّرا أمرَهما في معظم الأحيان بملابس عادية. جوارب سميكة وبنطلونات جينز وقمصان غامقة، ومعاطف ثقيلة.
تغيير آخر.
حتى مع الأطفال الأصغر أو الأغبى الذين تعرفهم، أصبحت نبرتها مداعِبة، مليئة بضحكة لعوب؛ شجاعتها لا تقاوم. كانت تجهز تلاميذَها للاحتفال المُزْمَع إقامتُه في نهاية السنة الدراسية. لم تتحمس في السابق لهذه الأمسية العامة؛ إذ شعرت أنه يتصادم مع تقدم هؤلاء الطلاب الذي يتمتعون بمهارة في العزف، فيجرُّهم إلى موقف ليسوا مستعدين له. لن يخلق كل هذا المجهود والتوتر إلا قيمًا مزيفة. لكن هذا العام كانت منخرطة بكل كيانها في التجهيز للعرض؛ البرنامج، الإضاءة، المقدمات، وبالطبع العرض الموسيقي. أعلنت أنه يجب أن يكون مسليًا وممتعًا. تسلية ومتعة للطلاب، وتسلية ومتعة للجمهور.
بالطبع كانت واثقة من حضور جون؛ فابنة إيدي واحدة من العازفين؛ لهذا يجب أن تحضر إيدي، وجون سوف يصاحب إيدي.
أول ظهور لجون وإيدي كزوجين أمام البلدة. إنه إعلان للزواج. لا يستطيعان تجنبه. هذه التحولات التي تماثل تحولهما ليست غير مسبوقة، خاصة بين الناس الذين يعيشون جنوب البلدة. لكنهما لم يكونا زوجين عاديين. وحقيقة أن الأوضاع الجديدة لم تكن مصحوبة بفضيحة لا تعني أنها لم تلفت الأنظار. تمر فترة زمنية ضرورية يهتم خلالها الناس بما حدث قبل أن تهدأ الأمور ثم يعتاد الناس الارتباط الجديد. وهو ما حدث، وسوف يُشاهَد الزوجان الجديدان في محل البقالة يتحدثان، أو على الأقل يُحَيِّيانِ المنبوذين.
لكن لم يكن هذا الدَّوْر الذي رأت جويس نفسها تلعبه، يراقبها جون وإيدي — جون فقط في واقع الأمر هو ما يعنيها — في مساء الاحتفال الموسيقي.
ماذا رأت؟ الله يعلم. لم تفكر، في أي لحظة عاقلة، في إبهار جون إبهارًا يصل إلى أن يعود إلى رُشْده حين تظهر لتحيي الجمهور عند نهاية العرض. لم تفكر أن قلبه قد يتحطم بسبب حماقته ما إن يراها سعيدة ومتألقة وتتولى مقاليد الأمور بدلًا من النحيب والانتحار. لكنه شيء ليس بعيدًا عن هذا؛ شيء لم تستطع تحديده لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها عن تَمَنِّيه.
كان أفضل حفل موسيقي أُقِيمَ. هذا ما قاله الجميع. قالوا إنه أكثر حيوية. أكثر مرحًا، مع أنه أكثر كثافة. ارتدى الأطفال ملابس متناسقة مع الموسيقى التي عزفوها، وزُيِّنَتْ وُجوهُهم فلم تظهر عليها مشاعرُ الخوف أو الاستعطاف.
حين ظهرت جويس في النهاية، كانت تلبس تَنُّورة حريرية سوداء تلمع لمعانًا فضيًّا مع حركتها. ارتدت كذلك أساور فضية ولمع شعرها المنسدل. انطلقت بعض الصَّفَّارات مع التصفيق.
لم يكن جون وإيدي بين الجمهور.
٢
يقيم جويس ومات حفلًا في بيتهما في نورث فانكوفر من أجل الاحتفال بعيد ميلاد مات الخامس والستين. مات أستاذ في علم النفس العصبي، وهو عازفُ كَمَانٍ هاوٍ جيدٌ أيضًا. هكذا قابل جويس، التي أصبحت الآن عازفة تشيلُّو محترفة، وزوجته الثالثة.
تردد جويس باستمرار: «انظر إلى كل هؤلاء الناس هنا. إنها قصة حياة بالتأكيد.»
إنها امرأة نحيفة حماسية ذات شعر كثيف قصديري اللون وانحناءة خفيفة، ربما نتجت عن احتضانها لآلتها الموسيقية الكبيرة، أو من العادة التي اكتسبتها كمستمعة كيِّسة ومتحدثة لَبِقَة.
حضر، بالطبع، زملاء مات من الكلية؛ الذين يعتبرهم أصدقاء حميمين. إنه رجل كريم لكنه صريح؛ لذا فمن المفهوم ألَّا يدخلَ كل زملائه ضمن تلك الفئة. حضرت زوجته الأولى، سالي، التي تصاحبها من ترعاها. أصيب مخ سالي بالتلف حين تعرضت لحادث سيارة في عمر التاسعة والعشرين؛ لذا، على الأرجح لا تعرف مَنْ هو مات، أو مَنْ هم أولادها الثلاثة الذين كبروا، أو أن هذا هو البيت الذي عاشت فيه عندما كانت زوجة شابة. لكن لم يُصَبْ بالتلف الجزء الخاص في مخها المسئول عن سُلوكها اللطيف، ويبهجها أن تقابل الناس، حتى وإن كانت قابلتهم فعليًّا منذ خمس عشرة دقيقة مَضَتْ. المرأة التي ترعاها اسكتلندية صغيرة الحجم ومنظمة؛ وكثيرًا ما توضح أنها لم تَعْتَد الحفلات الصاخبة الكبيرة مثل هذه، وأنها لا تشرب أثناء ساعات عملها.
عاشت زوجة مات الثانية؛ دوريس، معه أقل من عام، على الرغم من أنها تزوجته لمدة ثلاث سنوات. إنها هنا مع عشيقتها الأصغر منها بكثير، لويز، وابنتهما الرضيعة التي حملتها لويز وولدتها منذ أشهر قليلة. ظلت دوريس صديقة لمات وصديقة مقربة من ابن مات وسالي الأصغر، تومي، الذي كان صغيرًا جدًّا، فظل في رعايتها حين تزوجت والده. يحضر الحفل ابنا مات الكبيران مع أطفالهما ووالِدَتَيْ أطفالهما، على الرغم من أن واحدة منهما لم تَعُدْ زوجة لذلك الأب. صاحبته شريكته الحالية وابنها الذي تشاجر مع واحد من أطفال العائلة على من يدفع الأرجوحة.
أحضر تومي معه لأول مرة حبيبه جاي الذي لم يَقُلْ أي شيء حتى الآن. قال تومي لجويس إن جاي ليس معتادًا على العائلات.
قالت جويس: «أتفهَّم موقفه؛ لقد مر عليَّ وقت لم أكن كذلك أيضًا.» ضحكت؛ وكانت بالكاد تستطيع أن تُمسكَ نفسها عن الضحك بينما تشرح وضع الأعضاء الرسميين والنائين لما يسميه مات العشيرة. هي نفسها ليس لديها أطفال، على الرغم من أنه كان لديها زوج سابق؛ جون، الذي يعيش على الساحل في بلدة صناعية عانت من مشاكل عديدة. لقد دعتْه إلى الحفلة، لكنه لم يستطع الحضور؛ كان حفيد زوجته الثالثة يُعمَّد في ذلك اليوم. دعت جويس بالطبع زوجته كذلك؛ اسمها تشارلن وتدير مخبزًا. كتبت الرسالة الموجزة اللطيفة عن التعميد؛ مما دفع جويس إلى أن تقول لمات إنها لا تستطيع أن تصدِّق أن جون يمكن أن يصبح متدينًا.
قالت — وهي تشرح كل هذا لأحد المدعوين: «كنت أتمنى لو أنهم جاءوا.» (دُعي الجيران لكي لا يتذمروا من الضجيج.) وأردفت: «حينئذٍ كنت سأشارك بنصيبي في هذه التشابكات العائلية. كانت لديه زوجة ثانية، لكن لا فكرة لديَّ أين ذهبت، وأعتقد أنه لا يعرف كذلك.»
هناك كثير من الطعام الذي أعدَّه مات وجويس وأحضره الناس، وكثير من النبيذ ومزيج فاكهة للأطفال، ومزيج كحولي حقيقي خلطه مات لهذه المناسبة؛ على شرف الأيام الخوالي، كما يقول، حين كان الناس يعرفون حقًّا كيف يشربون. يقول إنه كان سوف يعدُّه في صفيحة قمامة بعد غسلها، كما كانوا يعدُّون الشراب حينذاك، لكن الآن، قد يشعر الجميع بالغثيان إذا شربوه. لم يقترب معظم الشباب منه على كل حال.
الأراضي فسيحة. هناك كروكيت لو أراد الناس اللعب، والأرجوحة التي يحتفظ بها مات منذ طفولته، وكانت محل نزاع. لم يَرَ معظم الأطفال سوى أرجوحات الحدائق والألعاب البلاستيكية في الفناء. بالتأكيد مات هو آخر واحد في فانكوفر يحتفظ بأرجوحة يدوية ويعيش في المنزل الذي كبر فيه؛ منزل في شارع ويندسور فوق سهل جروس ماونتن الذي كان قديمًا على حافَة الغابة. تتراكم في الوقت الحالي المنازل فوقه، ومعظمها قلاع بجراجات ضخمة. يقول مات، في أحد الأيام سوف يختفي هذا المكان. الضرائب مَهُولة. سوف يختفي ويحل محله زوجان من المنازل الشنيعة.
لا تستطيع جويس أن تفكر في حياتها مع مات في أي مكان آخر. دائمًا يحدث شيءٌ ما هنا. ناس تأتي وتذهب وتترك أشياءَ ثم يسترجعونها فيما بعد (بما فيهم الأطفال). حفل الرباعي الوتري الذي يقيمه مات في المكتب في ظهيرة أيام الأحد؛ واجتماع «طائفة التوحيد» في مساء أيام الأحد؛ واجتماع استراتيجية «حزب الخضر» الذي يُخطط له في المطبخ؛ ومجموعة القراءة التمثيلية التي تؤدِّي مشاهدَها أمام المنزل بينما شخصٌ ما يحكي تفاصيل دراما حياتية حقيقية في المطبخ (مطلوب حضور جويس في كلا الموقعين). يتناقش مات مع زميل له حول الاستراتيجية في غرفة المكتب التي أغلقا بابها عليهما.
كثيرًا ما تقول إنهما، مات وهي، نادرًا ما يكونان معًا وَحْدَهما إلا في السرير.
– «وحينَها يكون منغمسًا في قراءة شيء مهم.»
بينما تقرأ هي شيئًا غير مهم.
لا تبالي، إنه يحمل حبًّا وشغفًا هائلَيْنِ بالحياة الاجتماعية المختلفة وربما هي بحاجة لها. حتى في الكلية؛ حيث ينخرط في علاقات مع الطلاب والمساعدين وأعداء محتملين ومن يَحُطُّونَ مِنْ قَدْرِهِ؛ يبدو أنه يتحرك في زَوْبَعَةٍ فَوْضَوِيَّةٍ. كان هذا مريحًا لها في وقت من الأوقات. وربما يظل مريحًا لو كان لديها وقتٌ لتنظر إليه من الخارج، فربما تحسد نفسها، من الخارج، وربما يحسدها الناس، أو على الأقل يُعجبون بها؛ إذ يعتقدون أنها تناسبه تمامًا، بكل أصدقائها وواجباتها ونشاطاتها، إلى جانب مهنتها بالطبع. لا يمكن أن تنظر إليها الآن وتتخيل أنها كانت وحيدة تمامًا حين جاءت أولَ مرة إلى فانكوفر؛ وحيدة إلى حَدِّ أنها وافقت على الخروج في موعد مع وَلَدٍ يعمل في مِغْسَلَة، يَصْغُرها بِعقد. وعلاوة على ذلك تركها تنتظر ولم يأتِ.
تعبر الآن فوق الحشيش بِشَالٍ فوق ذِراعها من أجل السيدة فاولر؛ أم دوريس زوجة مات الثانية، والتي أعلنت عن ميولها السحاقية مؤخرًا. لا تستطيع السيدة فاولر أن تجلس في الشمس، لكنها ترتجف في الظل. وتحمل جويس في اليد الثانية كوبًا من عصير اللَّيْمُون الطازج للسيدة جوان، مرافقة سالي. وجدت السيدة جوان كوكتيل فواكه الأطفال مُسَكَّرًا جدًّا. لا تسمح لسالي بأن تَحْتَسِيَ أي شراب؛ فربما تسكبه فوق فستانها الجميل أو ترميه على أي شخص بدافع اللهو، يبدو أن سالي لا تنزعج من هذا الحرمان.
تمر جويس في رحلتها عبر الْمَرْج بمجموعة من الشباب يجلسون في دائرة، تومي وصديقه الجديد وأصدقاء آخرين رأتهم كثيرًا في المنزل وآخرين تعتقد أنها لم تَرَهُمْ قطُّ مِنْ قَبْلُ.
تسمع تومي يقول: «لا، لست إيزادورا دونكان.»
يضحكون جميعًا.
تدرك أنهم يلعبون تلك اللعبة الصعبة والنخبوية التي كانت شائعة منذ سنوات مضت. ماذا كان اسمها؟ تعتقد أن الاسم كان يبدأ بحرف «ب». تصورت أن الناس يعارضون النخبوية بشدة هذه الأيام لدرجة تمنعهم عن هذا النوع من التسلية.
قالت بصوت مرتفع: «بوكستهود.»
– «تلعبون بوكستهود.»
قال تومي — وهو يضحك ليشجع الآخرين على الضحك: «لقد أَصَبْتِ في حرف الباء على الأقل.»
ثم أردف: «انظروا، إنها زوجة أبي، ليست حمقاء تمامًا، لكنها موسيقية، ألم يكن بوكستهود موسيقيًّا؟»
تقول جويس بنبرة بها مسحة من الغضب: «بوكستهود مشى خمسين ميلًا ليسمع باخ يعزِف على الأورغان. نعم هو موسيقي.»
يقول تومي: «لقد أصبت.»
تنهض بنت من الدائرة، ويناديها تومي.
– «أهلًا كريستي. كريستي. ألن تلعبي ثانية؟»
– «سأعود، سوف أختبئ فقط في الأحراش مع سجائري البغيضة.»
ترتدي الفتاة فستانًا قصيرًا أسودَ مزخرفًا — يدفعك إلى التفكير في قطعة من الملابس الداخلية أو ملابس النوم — وجاكيت بسيطًا قصيرًا. لها شعر فاتح ناعم، ووجه شاحب مراوغ، وحاجبان غير مرئيين. نفرت جويس من الفتاة فورًا. تعتقد أنها النوع من الفتيات الذي مهمته إزعاج الناس. إنها تتطفل — إذ تعتقد جويس أنها لا بد حضرت متطفلة — على حفل في بيت أناس لا تعرفهم، ومع ذلك تشعر بأن لها الحق في احتقارهم؛ بسبب بهجتهم البسيطة (السطحية؟) وحفاوتهم البرجوازية. (هل ما زال الناس يستخدمون كلمة «برجوازية» حتى الآن؟)
لا يتعلق الأمر بأن الضيفة لا تستطيع أن تدخن في أي مكان تريد؛ فلا توجد أي لافتات مُنَمَّقة وُضِعَتْ للتحذير من التدخين، ولا حتى داخل البيت. تشعر جويس أن قدرًا كبيرًا من بهجتها قد خفت.
تقول بحِدَّة: «تومي! تومي! هل تسمح بأن تأخذ هذا الشال إلى الجدة فاولر؟ تشعر بالبرد على ما يبدو. وهذا العصير إلى السيدة جوان. تعرفها، أليس كذلك؟ السيدة التي ترعى والدتك.»
لا ضرر من تذكيره بعلاقات ومسئوليات معينة.
نهض تومي سريعًا وبرشاقة واقفًا على قدميه.
يقول — وهو يخلِّصها من الشال والكوب: «كنا نلعب بوتشيلي.»
– «آسفة. لم أقصد أن أُفْسِدَ عليك لُعبتك.»
قال فتًى تعرفه، اسمه جاستن: «لسنا ماهرين على أي حال، نحن لسنا أذكياء كما كنتم أنتم.»
تقول جويس: «كما كنا، عبارة في محلها.» للحظة شعرت بالحيرة بشأن ما ستفعله أو أين ستذهب بعد ذلك.
•••
يغسلون الأطباق في المطبخ؛ جويس وتومي والصديق الجديد، جاي. انتهت الحفلة. غادر الناس مع أحضان وقبلات وصيحات وُدِّيَّة، يحمل البعض منهم أطباق طعام لم تَجِدْ جويس مكانًا لها في الثلاجة. تخلصت من سلاطات ذابلة وفطائر بالكريمة وبيض مسلوق مَحْشُوٍّ. لم يأكلوا إلا قليلًا من البيض المسلوق على كلٍّ. إنه موضة قديمة. كوليسترول كثير.
تقول جويس وهي ترمي طبقًا عامرًا في القُمامة: «مؤسف جدًّا، استغرق إعداد ذلك البيض جهدًا كبيرًا. إنه يُذَكِّر الناس بوجبات الكنيسة.»
يقول جاي: «اعتادت جدتي إعداده.» كانت تلك أول كلمات يوجهها لجويس، ولاحظت أن تومي بدا عليه الامتنان. تشعر هي نفسها بالامتنان، على الرغم من أنه صنَّفها في فئة جدته.
يقول تومي: «أكلنا الكثير منه وكان شهيًّا.» اشتغل هو وجاي لمدة نصف ساعة على الأقل معها؛ إذ كانا يجمعان الأكواب والأطباق وأدوات المائدة التي تبعثرت في كل مكان من الْمَرْج والشُّرفة والبيت، حتى في أكثر الأماكن الغريبة مثل أُصُص الزُّهور وتحت وسائد الكنبة.
رَصَّ الأولاد — إذ تراهم جويس أولادًا — غسالة الأطباق بمهارة أكبر مما كان يمكن لها في حالة الإرهاق التي تعاني منها، وجهزوا الماء الساخن بالصابون ومياه الشطف الباردة في الحوضين لتنظيف الأكواب.
قالت جويس: «يمكن أن نُبْقِيَ الأكواب للدورة التالية لغسالة الأطباق.» لكن تومي قال لا.
– «لولا أنك فقدت صوابك بسبب كل ما قمتِ به اليوم، ما كنتِ فكرت في وضعها في غسالة الأطباق.»
يغسل جاي، وتجفف جويس، ويرص تومي. لا يزال يتذكر أماكن الأشياء في هذا المنزل. مات، في الشرفة، منخرط في نِقاش مُتَّقِد مع رجل من القسم الذي يدرِّس به في الجامعة. يبدو أنه ليس سكران للغاية كما كانت الأحضان العديدة والتوديعات المطولة تدل منذ فترة وجيزة.
تقول جويس: «ربما أكون قد فقدت صوابي لكن يراودني الآن إحساس داخلي بأن ألقيَ كل هذا في القمامة وأشتري بلاستيك.»
يقول تومي: «متلازمة ما بعد الحفلة. نعرفها تمامًا.»
تقول جويس: «إذن مَنْ تلك الفتاة بالفستان الأسود … تلك التي تركت اللُّعبة؟»
– «كريستي؟ لا بد أنك تقصدين كريستي، كريستي أودل، إنها زوجة جاستن، لكنها تحمل اسمها الخاص. تعرفين جاستن، أليس كذلك؟»
– «بالطبع أعرفه. فقط لم أعرف أنه متزوج.»
يقول تومي مشاكسًا إياها: «آه، كم كبروا.»
ويضيف: «جاستن في الثلاثين، وهي أكبر على الأرجح.»
يقول جاي: «أكبر بالتأكيد.»
تقول جويس: «مظهرها يثير الاهتمام. حدِّثني عنها.»
– «إنها كاتبة. لا بأس بها.»
يثير جاي الذي ينحني فوق الحوض ضجة لا تستطيع جويس تفسيرها.
يقول تومي: «تميل إلى التحفظ.» يتحدث إلى جاي: «هل أنا مُحِقٌّ؟ هل ترى هذا أيضًا؟»
يقول جاي بصراحة: «تظن نفسها بارعة موهوبة.»
يقول تومي: «حسنًا، أول كتاب لها نُشر توًّا. نسيت ما اسمه. عنوان كعناوين كتب مساعدة الذات. لا أعتقد أنه عنوان جيد. عندما تنشر أول كتاب لك، أظن أنك تظن نفسك بارعًا لا نظير لك لفترة من الوقت.»
•••
بينما كانت جويس تمر بمكتبة لبيع الكتب في لونسدال بعد عدة أيام، رأت وجه الفتاة على لوحة إعلانية. وها هو اسمها: كريستي أودل. ترتدي قبعة سوداء والجاكيت الأسود الصغير ذاته الذي ارتدته في الحفلة. جاكيت مضبوط وبسيط وقصير الرقبة. ومع ذلك لا يوجد ما تتباهى به. تحدق مباشرة إلى عدسة الكاميرا، بنظرتها الكئيبة والمجروحة الباردة المليئة بالإدانة.
أين رأتها جويس من قبل؟ في الحفلة بالطبع. لكن حتى في ذلك الحين، في خِضَمِّ نُفورها غير المبرَّر على الأرجح منها، شعرت أنها رأت ذلك الوجه من قبل.
طالبة؟ كان لديها العديد من الطلاب في زمنها.
تدخل إلى المحل وتشتري نسخة من الكتاب.
عنوان الكتاب «كيف يجب أن نعيش». سؤال لا يتبعه علامة استفهام. تقول المرأة التي باعَتْهُ لها: «إذا أَحْضَرْتِهِ يوم الجمعة بعد الظهر بين الثانية والرابعة، ستكون المؤلفة هنا للتوقيع عليه.»
– «فقط لا تنزعي الملصق الذهبي الصغير عنه، لكي يدل على أنك اشتريتِه من هنا.»
لم تفهم قطُّ فكرة الاصطفاف لإلقاء نظرة سريعة على المؤلف ثم المغادرة باسم غريب مكتوب على كتابك؛ لهذا همهمت بأدب، همهمة لا تشير إلى إجابة واضحة.
إنها حتى لا تعرف إن كانت سوف تقرأ الكتاب أم لا.
تقرأ في الوقت الحالي سيرتين ذاتيتين جيدتين، واثقة من أنهما تلائمان ذائقتها أكثر من هذا.
كتاب «كيف يجب أن نعيش» هو مجموعة قصصية لا رواية. هذا في حَدِّ ذاته محبِط. يبدو لها أن هذا يقلل قيمة الكتاب؛ إذ يجعل المؤلف يبدو وكأنه يتعلق بأهداب الأدب، وليس مستقرًّا في قلبه.
ومع ذلك، أخذت جويس الكتاب إلى سَرِيرها في تلك الليلة، وفتحتْه على صفحة المحتويات. في منتصف القائمة جذب انتباهَها عنوانٌ معين.
«كايندرتوتنليدر.»
إنها مجموعة أغنيات للمؤلف الموسيقي جوستاف مالر. موضوع مألوف لها. تفتح الكتاب على الصفحة المشار إليها شاعرةً بالألفة. شخص ما — المؤلفة ذاتها على الأرجح — كان لديه الحس السليم لترجمة هذا العنوان.
«أغاني عن موت الأطفال.»
أطلق مات صوتًا متذمرًا إلى جانبها.
أدركت أنه لا يعجبه ما يقرؤه ويريدها أن تسأله ما هو. لذا تسأله.
– «يا إلهي! يا له من كاتب أحمق!»
ترعرعت كريستي أودل في روف ريفر، بلدة صغيرة على ساحل كولومبيا البريطانية. تخرجت في يو بي سي، برنامج الكتابة الإبداعية. تعيش في فانكوفر، كولومبيا البريطانية مع زوجها جاستن وقطها تايبريوس.
بعد أن شرح لها الحماقة في كتابه، يرفع مات عينيه عن كتابه لينظر إلى كتابها ويقول: «هذه هي الفتاة التي كانت في الحفلة.»
– «نعم، اسمها كريستي أودل. إنها زوجة جاستن.»
– «ألَّفت كتابًا إذن؟ ما هو؟»
– «أدب.»
– «أوه!»
يتابع قراءته، لكن بعد لحظة يسألها بمسحة اعتذار: «هل هو جيد؟»
– «لم أعرف بعدُ.»
تقرأ: «عاشت مع أمها في منزل بين الجبال والبحر …»
ما إن قرأت هذه الكلمات، شعرت جويس بانزعاج شديد منعها عن مواصلة القراءة؛ أو مواصلة القراءة وزوجها إلى جانبها. تغلق الكتاب وتقول: «أعتقد أني سوف أنزل قليلًا.»
– «هل النور يزعجك؟ سوف أطفئه حالًا.»
– «لا، أعتقد أني أريد بعض الشاي. أراك بعد قليل.»
– «سأكون نائمًا على الأرجح.»
– «إذن تُصبح على خير.»
– «تُصبحين على خير.»
تُقَبِّلُهُ وتأخذ الكتاب معها.
•••
عاشت مع أمها في منزل بين الجبال والبحر. عاشت قبل ذلك مع السيدة نولاند التي تبنَّت الأطفال. تنوع عدد الأطفال في بيت السيدة نولاند، من حين إلى آخر، لكن كان هناك دائمًا عدد كبير. نام الصغار في سَرِير في وسط الغرفة بينما نام الكبار على سرائر متنقلة على جانِبَيِ السَّرِير لكي لا يتدحرجَ الصغار ويَسْقُطوا. يدق جرس ليوقظك في الصباح. تقف السيدة نولاند عند الباب تَقْرَع الجرس. وعندما تقرعه في المرة الثانية، من المفترض أنك تكون قد تبوَّلت واغتسلت وارتديت ملابسك وأصبحتَ مستعدًّا للفطور. كان من المفترض أن يساعد الكبار من هم أصغر منهم في ترتيب الأسرَّة. كان الصغار يُبَلِّلُونَ أَسِرَّتهم في بعض الأحيان لأنه يصعب عليهم الزحف إلى خارجه فوق الكبار في الوقت المناسب. اعتاد بعض الكبار أن يفتنوا عليهم، لكن البعض الآخر كان أكثر لطفًا، فيقومون بسحب الْمُلاءات من فوق السَّرِير وينشرونها لِتَجِفَّ، وأحيانًا، حين تعود إلى السرير في الليل، كنت تَجِدُهُ لم يَجِفَّ تمامًا. كان هذا معظم ما تذكرته عن منزل السيدة نولاند.
ثم ذهبت للعيش مع والدتها، واعتادت والدتُها أن تأخذها كلَّ ليلة إلى اجتماع زمالة المدمنين المجهولين. اضْطُرَّتْ أن تأخذَها لأنه لم يكن متوفرًا لديها أي شخص تتركها في رعايته. كان في مقرِّ الزمالة لُعبة الليغو؛ عُلبة مكعبات يلعب بها الأطفال، لكنها لم تُحِبَّ المكعبات كثيرًا. بعد أن بدأت في تعلُّم العزف على الكمان في المدرسة، أصبحت تأخذ كمان الأطفال معها إلى اجتماعات زمالة المدمنين المجهولين. لم تستطع أن تعزف عليها هناك، لكن كان عليها أن تتمسك بها طوال الوقت لأنها تخص المدرسة. إذا ارتفع صوت الناس، ستستطيع أن تتدرب بصوت منخفض.
كانت المدرسة تعطي دروسًا في العزف على الكمان. إذا لم ترغب في العزف على آلة موسيقية، تستطيع أن تعزف على آلة المثلث، لكن المعلمة فضلت أكثر العزف على آلة أصعب. كانت المعلمة امرأة طويلة ذات شعر بُنِّيٍّ مشَّطته في أغلب الأوقات كضفيرة طويلة على ظهرها. اختلفت رائحتها عن المدرسين الآخرين. كان بعضهم يضع عطرًا، لكنها لم تفعل هذا قطُّ. كانت تفوح منها رائحة خشب أو موقد أو أشجار. فيما بعد سوف تتصور الطفلة أنها كانت رائحة شجر أرز مقطع. بعد أن بدأت أمها في العمل لدى زوج المعلمة، فاحت منها رائحة مماثلة، لكن ليست مماثلة تمامًا. كان الاختلاف بينهما أن أمها تفوح منها رائحة الخشب، لكن المدرسة فاحت منها رائحة خشب بالموسيقى.
لم تكن الطفلة موهوبة، لكنها اجتهدت. لم تفعل ذلك لأنها أحبت الموسيقى، وإنما لحبها للمعلمة؛ وليس شيئًا آخر.
•••
تضع جويس الكتاب على مائدة المطبخ، وتنظر مرة ثانية إلى صورة المؤلفة. هل هناك أي شيء من إيدي في هذا الوجه؟ لا شيء. لا شيء في الشكل أو التعبير.
تنهض وتبحث عن البراندي، وتضع قليلًا منه في الشاي. تبحث في ذهنها عن اسم طفلة إيدي. بالتأكيد ليس كريستي. لم تستطع أن تتذكر أي مرة أحضرتها إيدي إلى المنزل. في المدرسة، كان هناك العديد من الأطفال الذين يتعلمون العزف على الكمان.
لا يمكن أن الطفلة كانت خالية من المهارة تمامًا، وإلا وجهتها جويس لآلة أقل صعوبة من الكمان. لكنها قطعًا لم تكن موهوبة — حسنًا، لقد كان لديها حدٌّ معقول من المهارة وليس الموهبة — وإلا لكان اسمها قد علق في ذهنها.
وجه خاوٍ من التعبيرات. لمحة من طفولة أنثوية. لكن جويس لاحظت شيئًا ما في وجه الفتاة، المرأة، الناضجة.
أيمكن ألَّا تكونَ حضرت إلى المنزل حين كانت إيدي تساعد جون يوم السبت؟ أو حتى في تلك الأيام حين تأتي فجأة إيدي إلى البيت في زيارة ما، ليس لتعمل، بل لكي ترى كيف يسير العمل، وتقدم المساعدة لو احتاجها. تجلس لتشاهد ما كان يفعله جون، وتعترض أي حوار يجريه مع جويس في يوم إجازتها الثمين.
كريستين. بالطبع. كان هذا اسم الفتاة. تحوَّل بسهولة إلى كريستي.
لا بد أن كريستين كانت شريكًا بطريقة ما في التودد بينهما، ولا بد أن جون كان يمر بشقتها، تمامًا كما مرت إيدي بمنزلهما، وربما أخذت إيدي رأي الطفلة.
ما رأيك في جون؟
ما رأيك في منزل جون؟
ألن يكون لطيفًا أن نذهب ونعيش في منزل جون؟
مامي وجون يحب أحدهما الآخر كثيرًا، وحين يحب الناس بعضهم بعضًا كثيرًا يرغبون في العيش في المنزل نفسه. معلمة الموسيقى وجون لا يحب أحدهما الآخر بقدر حب مامي وجون، ولهذا أنت ومامي وجون سوف نعيش في منزل جون، ومعلمة الموسيقى سوف تعيش في شقة.
كل هذا خطأ؛ لا يمكن أن تقول إيدي هذا الهُراء، أعطيها حقها.
تتصور جويس أنها تعرف المسار الذي سوف تسلكه القصة. أصاب الطفلة الاضطراب الكامل من اتفاقيات الناضجين وأوهامهم؛ إذ جُرجرت هنا وهناك. لكن حين التقطت الكتاب مرة ثانية، وجدت أن القصة لم تذكر شيئًا عن تغيير محل الإقامة.
يتمحور كل شيء حول حب الطفلة للمعلمة.
يوم الخميس، يوم درس الموسيقى، هو اليوم المشهود في الأسبوع، تعتمد سعادته أو تعاسته على نجاح عزف الطفلة أو فشلها وتعليق المعلمة على هذا العزف. كلاهما لا يحتمل تقريبًا. يمكن أن تسيطر المعلمة على صوتها وأن تكسوه باللطف والمزاح لكي تغطي إرهاقه وخيبة أمله. الطفلة تعيسة، أو فجأة تكون المعلمة جزلة ومرحة.
– «أحسنت، أحسنت. تفوقتِ اليوم فعلًا.» والطفلة سعيدة جدًّا، وتصيبها تقلصات في معدتها.
ثم يأتي الخميس حين تكبو الطفلة في الفناء وتُجرح ركبتها؛ وإذ تنظف المعلمة الجرح بقطعة قماش مبللة دافئة، يعلن صوتها الناعم فجأة عن أن هذا يحتاج إلى مكافأة، بينما تتناول إناء «الأذكياء» الذي تستخدمه لتشجيع الأطفال الصغار.
– «ماذا تفضلين؟»
تنجح الطفلة في قول: «أي شيء.»
هل هذا بداية تغير ما؟ هل هو بسبب الربيع، واستعدادات الحفل الموسيقي؟
تشعر الطفلة أنها مميزة. سوف تصبح عازفة منفردة؛ هذا يعني أنها يجب أن تبقى بعد انتهاء الدوام الدراسي أيام الخميس لتتدرب، ومِنْ ثَمَّ سوف تفوت وسيلة نقلها من البلدة في حافلة المدرسة إلى المنزل الذي تعيش فيه مع أمها الآن. سوف توصلها المعلمة. في الطريق تسألها ما إذا كانت تشعر بالتوتر تجاه الحفل الموسيقي.
– نوعًا ما.
تقول المعلمة: حسن إذن، يجب أن تدرب نفسها على التفكير في شيء جميل فعلًا. مثل طَيْر يطير في السماء، ما طيرها المفضل؟
تفضيلات مرة ثانية. لا تستطيع الطفلة التفكير، لا تستطيع تذكُّر طَيْر واحد. ثم «الدِّيك؟»
تضحك المعلمة. تقول: «حسن. حسن. فَكِّرِي في الدِّيك. قبل أن تبدئي العزف، فَكِّرِي في الدِّيك.»
ثم، ربما لكي تعوض عن ضحكتها؛ إذ تشعر بحرج الطفلة، تقترح أن تذهبا إلى حديقة ويلينجدون لتريا إن كان كشك الآيس كريم قد فُتِحَ بمناسبة حُلول الصيف.
– «هل يشعرون بالقلق إذا لم تحضري إلى المنزل مباشرة؟»
– «يعرفون أني معك.»
كشك الآيس كريم مفتوح لكن الاختيارات محدودة. لم يُحْضِروا النكهات الألَذَّ بعدُ. تختار الطفلة الفراولة، وقد حرصت هذه المرة على الاستعداد للسؤال، في وسط غبطتها وانفعالها. تختار المعلمة مذاق الفانيليا، كما يفعل الكثير من الكبار، ومع أنها تمزح مع البائع، تخبره أن يسرع ويضع زبيب الرُّم وإلا فلن تحبه بعد الآن.
لعل هذا قد تزامن مع تغيير آخر، فعند سماع المعلمة تتحدث بهذا الأُسلوب، بالنبرة اللَّعوب التي تتحدث بها البنات الكبيرات، تسترخي الطفلة. من الآن فصاعدًا تكتسب مزيدًا من السيطرة على عاطفتها المشبوبة نحو المعلمة، لكنها سعيدة تمامًا. اتجهتا بالسيارة إلى الميناء لتشاهدا القوارب الراسية، وتقول المعلمة إنها أرادت دائمًا أن تعيش في عوَّامة. ألن يكون ممتعًا؟ تقول المعلمة، وبالطبع توافقها الطفلة. تختاران القارب الذي يمكن أن تختاراه للعيش. إنه صناعة يدوية، ومدهون بالأزرق الفاتح، مع صف من النوافذ الصغيرة عليها أُصُص نبات إبرة الراعي.
يؤدي هذا إلى حديث عن المنزل الذي تعيش فيه الطفلة الآن، والمنزل الذي اعتادت أن تعيش فيه المعلمة. وعلى نحوٍ ما بعد هذا، في طريقهما، عادتا كثيرًا إلى ذلك الموضوع. تُقِرُّ الطفلة أنها تحب أن يكون لديها غرفة نومها الخاصة بها، لكنها لا تحب العتمة في الخارج. تعتقد في بعض الأحيان أنها تسمع صوت حيوانات بَرِّيَّة خارجَ نافذتها.
أي حيوانات بَرِّيَّة؟
دِبَبَة، أُسُود. تقول أمها إنها في الأدغال وتحذِّرها من الذهاب إلى هناك.
– «هل تركضين وتذهبين إلى سرير أمك حين تسمعينها؟»
– «يُفترض ألَّا أفعلَ ذلك.»
– «يا إلهي! لماذا؟»
– «جون هناك.»
– «ما رأي جون في الدِّبَبَة والأُسود؟»
– «يعتقد أنها مجرد غِزْلان.»
– «هل غضب من أمك بسبب ما قالته لك؟»
– «لا.»
– «أعتقد أنه لا يغضب أبدًا.»
– «جُنَّ جُنونه إلى حد ما ذات مرة، حين سكبنا أنا وأمي كل نَبِيذه في الحوض.»
تقول المعلمة إنه من المثير للشفقة أن تخافي من الغابة طول الوقت. تقول: إن بها مسالكَ يمكن أن تمشي بها، ولن تُزعجك الحيوانات البرية فيها، خاصة إذا أَثَرْتِ ضجة، وعادة تفعلين. تعرف الطرق الآمنة وتعرف أسماء الزهور البرية التي تزهر في ذلك الوقت. البَنَفْسَج النابي. الأطرليون. الزهرة الثلاثية. البَنَفْسَج الأرجواني وزهرة الحوض (على شكل أنف الفيل)، وزنابق الشوكولاتة.
– «أعتقد أن لها اسمًا صحيحًا آخر لكني أحب أن أسميها زنابق الشوكولاتة. يبدو لذيذًا. بالطبع لا علاقة لهذا بمذاقها وإنما بشكلها. تبدو مثل الشوكولاتة تمامًا بقطعة بَنَفْسَجِيَّة مثل التوت المسحوق. إنها نادرة لكن أعرف أين أجد بعضها.»
•••
تترك جويس الكتاب ثانية. الآن، الآن، تفهم المتواري، تستطيع أن تشعر بالرعب القادم. الطفلة البريئة، والناضجة المريضة المخادعة، ذلك الإغواء. كان يجب أن تعلم. كل هذا رائج هذه الأيام، بل عمليًّا هو إلزاميٌّ. الغابة، زهور الربيع. هنا حيث تبذر الكاتبة كَذِبَها القبيح في الناس، والموقف الذي أخذته من الحياة الحقيقية؛ لكونها أكسل من أن تبتكر، لكن ليس لحد أن يمنعها كَسَلُها عن التشهير والتشنيع.
بالتأكيد بعضٌ مما وَرَدَ حقيقي. إنها تتذكر الآن أشياء كانت قد نَسِيَتْهَا. توصيل كريستين إلى بيتها، بدون أن تفكر فيها أبدًا باعتبارها كريستين، بل دائمًا طفلة إيدي. تتذكر كيف لم تكن تقود سيارتها إلى الفناء لكي تستدير عائدة، بل دائمًا تُنزلها على جانب الطريق، ثم تقود نصف مِيل آخر أو نحو ذلك لكي تصل إلى مكان تستدير منه. لا تتذكر أي شيء عن الآيس كريم. لكن كانت هناك عَوَّامة راسية في الميناء بالضبط مثل تلك المذكورة. حتى الأزهار، والاستجواب الشنيع الماكر للطفلة؛ هذا قد يكون صحيحًا.
يجب أن تُواصل. وَدَّتْ أن تسكب مزيدًا من البراندي، لكن لديها تدريب في التاسعة صباحًا.
•••
لا شيء من هذا. ارتكبت خطأ آخر. أغفلت القصةُ الغابةَ وزنابق الشوكولاتة، ومرت مرورًا عابرًا على الحفلة الموسيقية. انتهت الدراسة توًّا. وفي صباح الأحد بعد الأسبوع الأخير، استيقظت الطفلة مبكرًا. تسمع صوت المعلمة في الفناء، وتذهب إلى نافذتها. هناك المعلمة في سيارتها بنافذتها المفتوحة تتحدث إلى جون. مقطورة صغيرة تلتحق بالسيارة. جون حافي القدمين، عاري الصدر، لا يرتدي إلا بنطلون جينز. ينادي على أم الطفلة فتأتي إلى باب المطبخ وتمشي بضع خطوات في الفناء لكنها لا تصل إلى السيارة. ترتدي قميصًا من قمصان جون، تستخدمه ثوبًا للنوم. ترتدي دائمًا أكمامًا طويلة لكي تخفيَ وُشومها.
يدور الحديث عن شيء في الشقة يَعِدُ جون بأخذه. ترمي المعلمة المفاتيح له. ثم يَحُثُّهَا هو وأم الطفلة أن تأخذَ أشياء أخرى. لكن المعلمة تضحك ضحكة مَقِيتَة وتقول: «كله لكما.» يقول جون بسرعة: «حسنًا، إلى اللقاء.» وتردد المعلمة: «إلى اللقاء.» ولا تقول أم الطفلة أي شيء يمكن سماعه. تضحك المعلمة بالأسلوب ذاته الذي ضحكت به من قبل، ويوجهها جون لتدير السيارة والمقطورة في الفناء. في تلك الأثناء، تنزل الطفلة ركضًا في بيجامتها، على الرغم من أنها تعرف أن المعلمة ليست في مِزاج يسمح بالكلام معها.
تقول أم الطفلة: «لقد رحلت للتوِّ، كان يجب أن تلحق الْمُعَدِّية.»
ينطلق نفير السيارة؛ فيرفع جون يدًا واحدة. ثم يعبر الفناء ويقول لأم الطفلة: «انتهى الأمر.»
تسأل الطفلة ما إذا كانت المعلمة ستعود فيجيبها قائلًا: «هذا مستبعَد.»
ما يشغل نصف صفحة أخرى هو فهم الطفلة المتزايد لما كان يحدث. فأثناء تقدمها في السن، تتذكر أسئلة محددة، التقصي الذي بَدَا عَفْوِيًّا. المعلومات — التي لا قيمة لها في الحقيقة — عن جون (الذي لا تسميه جون) وأمها. متى يستيقظان في الصباح؟ ما الطعام الذي يحبان تناوله وهل يطبخان معًا؟ إلى ماذا يستمعان في الراديو؟ (لا شيء؛ لقد اشتريا تليفزيون.)
ما الذي كانت تسعى إليه المعلمة؟ هل كانت تأمل في أن تسمع أخبارًا سيئة؟ أم كانت تهفو فقط إلى أن تسمع أي شيء، إلى أن تظل على صلة بشخص ينام تحت السقف نفسه، يأكل من المائدة ذاتها، قريبًا من هذين الاثنين يوميًّا؟
هذا ما لن تستطيع الطفلة معرفته أبدًا. ما تستطيع أن تعرفه هو كيف أنها لم تكن ذات قيمة، كيف قوبل إعجابها وافتتانها بالمعلمة بالتلاعب، كم كانت طفلة صغيرة حمقاء؛ وهذا يملؤها مرارة بالتأكيد. مرارة وكبرياء. تعتقد أنها أصبحت شخصًا لا يمكن خداعه مرة أخرى أبدًا.
لكن يحدث شيء ما، وهنا النهاية المدهشة. تتغير ذات يوم مشاعرها نحو المعلمة وتجاه تلك الفترة الزمنية من طفولتها. لا تعرف كيف ومتى، لكنها تدرك أنها لا تفكر الآن في تلك الفترة على أنها كانت غشًّا. تفكر في الموسيقى التي تعلمت عزفها بمشَقَّة (تخَلَّت عنها طبعًا قبل أن تبلغ حتى مرحلة المراهقة). فرحة آمالها، ومضات سعادتها، الأسماء الغريبة والمبهجة لزهور الغابة التي لم تتمكن من رؤيتها قطُّ.
الحب. كانت سعيدة به. يبدو أن التدابير العاطفية في العالم تتميز ببخل عشوائيٍّ وظالم بالطبع، إذا نبعت سعادة عظيمة لشخص ما — وإن كانت مؤقتة وواهية — من تعاسة شخص آخر.
تفكر جويس قائلة لنفسها: عجبًا، نعم، نعم.
•••
تذهب في ظهيرة يوم الجمعة إلى مكتبة بيع الكتب. تُحضر نسختها لتوقعها، إلى جانب صندوق صغير من محل بيع لوبون شوكولاتير. تقف في الصف. تندهش قليلًا من عدد الناس الذين جاءوا. نساء من عمرها، ونساء أكبر سنًّا وأصغر، وعدد قليل من الرجال جميعهم أصغر سنًّا، البعض منهم بصحبة حبيباتهم.
تتعرف المرأة التي باعت لجويس الكتاب عليها.
تقول: «جميل أن أراكِ، هل قرأتِ المقال النقدي في جلوب؟ رائع.»
جويس مرتبكة، ترتعد قليلًا في الحقيقة، تجد صعوبة في التحدث.
تمر المرأة بمحاذاة الصف، وتشرح أن الكتب التي بيعت في هذا المحل فقط هي التي يمكن توقعها هنا، وأنه غير مقبول توقيع كتاب مقتطفات أدبية يحوي واحدة من قصص كريستي أودل. تعتذر عن ذلك.
المرأة التي تقف أمام جويس طويلة وعريضة؛ لذا لا تستطيع أن تُلْقِيَ نظرة على كريستي أودل حتى انحنت هذه المرأة إلى الأمام لتضع كتابها على مائدة التوقيع. حينئذٍ ترى امرأة شابة تختلف تمامًا عن فتاة الملصق الإعلاني وعن فتاة الحفلة. اختفى الجاكيت الأسود، والقبعة السوداء أيضًا. ترتدي كريستي أودل جاكيت من القماش المقصب الحريري أحمر وردي، مع حبات ذهبية صغيرة مطرزة في طيته. وترتدي تحته قميصًا ورديًّا رقيقًا. يلمع شعرها لمعة ذهبية ويزين أذنيها حلقٌ ذهبي، ويحيط رقبتها سلسلة ذهبية رفيعة مثل الشعرة. تلمع شفتاها مثل بتلات الوردة وجفناها مظللان بلون عنبري.
حسنًا، من الذي يرغب في أن يشتريَ كتابًا ألفه شخص متذمر أو فاشل؟
لم تفكر جويس فيما سوف تقوله؛ إذ توقعت أن يحضرها.
والآن، تتحدث البائعة مرة ثانية.
– «هل فتحتِ كتابك على الصفحة التي ترغبين التوقيع بها؟»
كان يجب على جويس أن تضعَ صُندوقها لكي تفعل هذا. تشعر فعليًّا بتشنج في حلْقها.
تنظر كريستي إليها، تبتسم لها؛ ابتسامة مودة مصقولة، انفصال محترف.
– «اسمك؟»
– «جويس فحَسْبُ.»
يمر وقتها سريعًا.
– «هل ولدْتِ في روف ريفر؟»
تقول كريستي أودل بامتعاض خفيف، أو، على الأقل، بعد أن تلاشت بَهْجَتُهَا: «كلا، عشتُ هناك فترة من الوقت. هل أكتب التاريخ؟»
تستعيد جويس عُلبتها. يبيعون في لوبون شوكولاتير زهور الشوكولاتة، لكن ليس الزنبق. ورود وتيوليب فقط؛ لهذا اشترت تيوليب، الذي لا يبعد عن البَنَفْسَج في شكله حقًّا، كلاهما بصيلي الشكل.
تقول بعجلة كبيرة — حتى إنها تبلع تقريبًا الكلمة الطويلة: «أريد أن أشكرك على «كايندرتوتنليدر»، إنها تعني لي الكثير. أحضرت لك هدية.»
تأخذ البائعة العُلبة وتقول: «إنها قصة رائعة، سوف آخذ هذه.»
تقول جويس ضاحكة: «إنها ليست قنبلة، إنها زنابق شوكولاتة، تيوليب في الحقيقة. ليس لديهم زنابق لهذا أحضرت تيوليب. أعتقد أنها أفضل ثاني اختيار.»
تلاحظ أن البائعة لا تبتسم الآن، بل تنظر لها بقسوة. تقول كريستي أودل: «أشكرك.»
لا يعكس وجه الفتاة لمحة تدل على أنها تعرفت عليها. لم تتعرف على جويس من سنوات روف ريفر الماضية أو من أسبوعين في الحفلة. لا تستطيع حتى أن تتأكد من أنها تعرفت على عنوان قصتها. يمكن أن تفكر أنه لا علاقة لها بها، كما لو أنها شيء ما تخلصت منه وتركتْه على الحشيش.
تجلس كريستي أودل هناك وتكتب اسمها كما لو أنه الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مسئولة عنه في هذا العالم.
تقول البائعة — وهي لا تزال تنظر إلى العُلبة التي زينتها الفتاة في محل الشوكولاتة بشريط أصفر مجعد: «من دواعي سروري أن تحدثت إليك.»
رفعت كريستي أودل عينيها لتحيِّيَ الشخص التاليَ في الصف، وأخيرًا أدركت جويس أن عليها أن تتحرك، قبل أن تصبح هدفَ تسليةٍ عامة مع عُلبتها، ويعلم الله، ربما هدفًا للشُّرطة.
•••
تشعر بالإنهاك بينما تمشي في شارع لونسدال، وتصعد التلَّة، لكنها تستعيد جأشها تدريجيًّا. قد تصبح قصة مضحكة يمكن أن تحكيَها في يوم ما. لن يُدهشها هذا.