حافَة وينلوك
كان لأمي ابن عمة أعزب، اعتاد أن يزورَنا في المزرعة مرة كلَّ صيف. كان يُحضر والدته معه، العمة نيل بوتس. كان اسمه إيرني بوتس. كان رجلًا طويلًا متأنقًا ذا تعبير طيب، ووجه مربع كبير وشعر مجعد فاتح ينبت مباشرة من جبينه. كانت يداه وأظافرهما نظيفةً نظافة الصابون، وردفاه مليئتين قليلًا. كان الاسم الذي أطلقته عليه — حين لا يكون موجودًا — إرنست ذا المؤخرة السمينة. كان لساني قذرًا.
لكني كنت أعتقد أني لا أقصد أذًى. لا أذى تقريبًا. بعد أن ماتت العمة نيل بوتس، كف عن المجيء، لكنه كان يرسل بطاقاتِ معايَدَة في أعياد الميلاد.
حين التحقت بالكلية في لندن — أي في لندن، أونتاريو — حيث كان يسكن، كرَّس عادة أن يدعوَني على العشاء مساء الأحد كل أسبوعين. اعتقدت أنه يفعل هذا لأننا أقرباء؛ فما كان ليُضْطَر للتفكير فيما إذا كنا مناسبين لقضاء الوقت معًا أم لا. كان يأخذني دائمًا إلى المكان نفسه، مطعم اسمه أولد تشيلسيا، في الدَّوْر العُلوي ويطل على شارع دونداس. كان ذا ستائر مخملية، ومفارش بيضاء، ومصابيح صغيرة مظللة بظل ورديٍّ على الموائد. يكلفه على الأرجح أكثر من قدرته، لكني لم أفكر في هذا، بما أني كنت أحمل تصور الفتاة الريفية بأن كل الرجال الذين يعيشون في المدن ويرتدون بذلة كاملة كلَّ يوم، ويستعرضون أظافر نظيفة مثل أظافره، بلغوا مستوًى من اليسر أصبح معه أمرًا عاديًّا بالنسبة لهم أن يستمتعوا بهذا النوع من التَّرَف.
كنت أختار أعجب الأطباق على قائمة الطعام، مثل دجاج «فول أو فنت» أو بط بالبرتقال، بينما كان يأكل دائمًا اللحم البقري المشوي. كانت تأتي التَّحْلِيَة إلى المائدة على عَرَبَة عَشاء. كان هناك غالبًا، كعكة جوز الهند؛ فطائر الكاسترد مُحَلَّاة بالفراولة في غير مَوْسِمِهَا؛ معجنات مغموسة في الشوكولاتة مليئة بالكريمة المخفوقة. كنت أستغرق وقتًا طويلًا لأقرر، مثل طفل ذي خمس سنوات أمام نكهات الآيس كريم، ثم كان عليَّ أن أصوم يوم الإثنين لكي أُعَوِّضَ هذه التخمة.
كان إيرني أصغر من أن يكون والدي. أملت ألَّا يرانا أحد من الكلية ويعتقد أنه حبيبي. سأل عن موادِّ دراستي وأومأ بجدية حين قلت له أو ذكَّرته أني في بكالوريوس اللغة الإنجليزية والفلسفة الشرفي. لم يبدِ عدم اهتمامه بالمعلومة، مثلما فعل الناس في قريتي، بل قال لي إنه يُكِنُّ احترامًا عظيمًا للتعليم، ونادِم على أنه لم يكن لديه الوسائل التي تساعده على مواصلة تعليمه بعد الثانوية. عوضًا عن هذا حصل على وظيفة في الخُطوط الجوية الكندية الوطنية، وظيفة بائع تذاكر. الآن ترَقَّى إلى مُشرف.
أحبَّ القراءات الجادَّة، لكنها لم تكن بديلًا عن التعليم الجامعي.
كنت متأكدة تمامًا أن فكرته عن القراءات الجادة هي سلسلة الكتب الموجزة التي تصدرها ريدرز دايجست، ولكي أبعده عن موضوع دراستي أخبرته عن غرفتي التي أعيش بها. في تلك الأيام، لم تكن الجامعة لديها مدينة جامعية؛ عاش جميعنا في شقق مشتركة أو شقق رخيصة أو بيوت الأخوية أو نوادي الفتيات. كانت غرفتي عبارة عن عُليَّة في بيت قديم، ذات مساحة أرضية ضخمة وسقف منخفض. لكن لأنها كانت تخص الخادمة السابقة، فلها حمَّامها المستقل بها. الطابق الثاني تحتله طالبتان أخريان حاصلتان على منحة تعليمية، كانتا في السنة النهائية من دراسة اللغات الحديثة. كان اسمهما كاي وبيفرلي. في الغرف عالية السقف السفلية المقسمة، كان يعيش طالب طب، نادرًا ما يوجد في البيت، وزوجته بيث، التي توجد في البيت طول الوقت؛ لأن لديها طفلين صغيرين. كانت بيث مديرة المنزل وجامعة الإيجار، ودائمًا على خلاف مع الفتيات اللواتي يَسْكُنَّ الطابق الثاني، حول غسل ملابسهن في الحمَّام وتعليقها لتجف فيه. اضطر طالب الطب، حين يكون في المنزل، في بعض الأحيان، إلى استخدام ذلك الحمَّام بسبب حاجيات الطفل في حمَّام الطابق السفلي، وقالت بيث إنه لا يجب عليه أن يتكيف مع شرابات ترتطم بوجهه وحفنة من أغراض الزينة. أجابت كاي وبيفرلي بحسم أنه كان لديهما وعدٌ بحمَّام خاص بهما حين انتقلتا للعيش هنا.
كان هذا هو نوع الأمور التي اخترت أن أحكيَها لإيرني الذي احْمَرَّ وجهه وقال: كان يجب عليهما أن تحصلا على هذا الوعد كتابةً.
مثَّلت كاي وبيفرلي خيبة أمل لي. عملتا بكد في دراستهما في اللغات الحديثة، لكن لم يختلف حديثهما وانشغالاتهما عن تلك الفتيات اللاتي يعملْنَ في البُنوك أو المكاتب. كانتا تلفَّان شعرهما إلى الأعلى بالدبابيس وتلونان أظافرهما أيام السبت؛ لأنهما تلتقيان حبيبَيْهِمَا في تلك الليلة. اضْطُرَّتَا في أيام الأحد إلى دَهْن وَجْهَيْهِمَا بمستحضر سائل طبي بسبب الالتهاب الذي كان يصيبهما من ذَقْنَيْ حبيبَيْهِمَا بسبب التقبيل. لم أَجِدْ في واحد من حبيبَيْهِمَا أيَّ لمحة من الجاذبية، وتعجَّبْتُ من أنهما تريانِهِمَا جذَّابَيْنِ.
قالتا إنه خطر ببالهما فكرةٌ مجنونةٌ ذاتَ مرة، أن تصبحا مترجِمَتَيْنِ في الأمم المتحدة، لكن انتهيتا إلى أنْ تصبحا مدَرِّسَتَيْ ثانوي وتتزوجا لو حالفهما الحظُّ.
أعطيتا لي نصيحة لم أرغب في سماعها.
حصلت على عمل في كافيتريا الكلية، أدفع عربة أمامي أجمع فيها الأطباق المستعملة من الموائد وأمسحها حين تكون خالية، وأقدِّم الطعام على الرُّفوف ليلتقطَه الطلاب.
قالتا إن هذا العمل ليس فكرة جيدة.
– «لن يواعدَكِ الشبابُ إذا رَأَوْكِ في هذا العمل.»
قلت هذا لإيرني فقال: «وماذا قلتِ؟»
أخبرته أني قلت إني لن أرغب في مواعدة أي شخص يمكن أن يطلق هذا الحُكْم، فما المشكلة إذن؟
الآن عزفت على الوتر الصحيح. أشرق إيرني؛ وأخذ يرفع يديه في الهواء ويخفضهما.
قال: «صحيح جدًّا. هذا بالضبط الموقف الذي يجب أن تَتَبَنَّيهِ. العمل الشريف. لا تستمعي أبدًا لأي شخص يرغب في ثنيك عن عمل شريف. استمِرِّي وتجاهليهما. احتفظي بكبريائك، ومن لا يعجبه فلْيَخْرَسْ.»
كلامه، استقامته، الاستحسان الذي أنار وجهه الضخم، الحماسة الحمقاء التي ظهرت في حركاته، كل هذه الأمور أثارت الشكوكَ الأولى داخِلِي، بداية ارتياب مشئوم بأن التحذير الذي شعرت به لم يكن من فراغ في النهاية.
•••
كانت هناك ورقة صغيرة تحت عَقِبِ بابي، فيها أن بيث تريد التحدث إليَّ. خَشِيتُ أن يكون عن معطفي المعلَّق على الدَّرَابزين ليجف، أو عن قَدَمَيَّ اللتين تثيران ضجة عالية على دَرَجات السُّلَّم حين يكون زوجها بلاك نائمًا (أحيانًا) أو الرضيعان نائمَيْنِ (دائمًا) أثناءَ النهار.
انفتح الباب على مشهد من المأساة والفوضَى؛ غسيل مبلَّل — حفاظات وأقمشة صُوفية كريهة الرائحة — يتدلى من مشابكَ في السقف، زجاجات في وعاء التعقيم تقعقع وتصلصل على الموقد. كانت النوافذ مُبَخَّرَة، وعلى الكراسيِّ ملابس نَدِيَّة أو ألعاب مُكَوَّمَة متسخة. كان الطفل الكبير يتعلق بدرجات قفص ألعابه ويصدر عواءً، لائمًا إياها — حيث كانت بيث فيما يبدو قد أجلسته توًّا بداخله — وكان الأصغر على كرسيٍّ مرتفع، مع بعض من طعام مهروس بلون قرع العسل، المبعثر مثل الطفح الجلدي فوق فمه وذقنه.
ظهرت بيث وسط كل هذا بتعبير صارم من التعالي على وجهها الصغير الخالي من التعبير، كما لو أنها تقول لا يستطيع الكثيرون تحمُّل هذا الكابوس الرهيب مثلها، حتى لو أن العالم كان ضنينًا في تقديرها.
قالت: «أتعرفين، حين انتقلت للعيش هنا …» ثم رفعت صوتها لتغطيَ على صوت الطفل الكبير: «حين انتقلت للعيش هنا، ذكرت لك أن هناك مساحة كافية في العُلِّيَّةِ تستوعب اثنين؟»
كنت على وشك أن أقول لها: ليس فيما يخص ارتفاع السقف، لكنها تابعت مباشرة لتُعْلِمَنِي أن فتاة أخرى سوف تسكن معي. سوف تقيم من الثلاثاء إلى الجمعة. سوف تُحضر بعض المواد الدراسية في الجامعة كطالبة مستمعة.
– «سوف يُحضر بلاك السَّرير المتنقلَ الليلة. لن تحتلَّ كثيرًا من الغرفة. لا أتصور أنها سوف تُحضر ملابس كثيرة؛ فهي تعيش في البلدة. كانت لك وَحْدَك لمدة ستة أسابيع، وسوف تظل لك خلال الإجازات الأسبوعية.»
لا كلام عن أي تخفيض للإيجار.
•••
لم تَحْتَلَّ نينا الكثير من الغرفة فعليًّا. كانت صغيرة ومتأنية في حركاتها؛ لم تصدم رأسها قطُّ في رافدات السقف كما كنت أفعل. أنفقتْ كثيرًا من وقتها جالسة وهي تضع ساقًا فوق ساق على أريكة النَّوْم، وشعرها الأشقر الضارب للبُنِّيِّ يسقط فوق وجهها، وكيمونو ياباني فوق ملابسها الداخلية البيضاء الطفولية. كان لديها ملابس جميلة؛ معطف من جلد الجمَل، وسترات كشميرية، وتَنُّورة ذات طيات من الطرطان بدبوس فِضي كبير. بالضبط نوع الملابس التي يمكن أن تراها على غِلاف مجلة بعنوان: «جهز آنستك الصغيرة لحياتها الجديدة في الجامعة». لكن لحظة عودتها من الجامعة، كانت تتخلص من ملابسها من أجل كيمونو. غالبًا لا تكلف نفسها تعليق أي شيء. كانت هذه عادتي في التخلص من ملابس المدرسة، لكن في حالتي، لكي أحتفظ بكَسْرة الْمِكْوَاة في تنورتي، وأحافظ على نضارة معقولة في القميص أو السترة، كنت أعلق كل شيء بحرص. كنت أرتدي في المساء روبَ حمَّامٍ صوفيًّا. كنت قد تناولت عشاءً مبكرًا في الجامعة بجزء من أجري، ويبدو أن نينا أكلتْ كذلك، على الرغم من أني لا أعرف أين. ربما كان عشاءها هو ما تأكله كل مساء؛ لوز وبرتقال ومئونة من قطع الشوكولاتة المغلفة في ورق ألمونيوم أحمر أو ذهبي أو بَنَفْسَجِيٍّ.
سألتها كيف لا يصيبها البرد في ذلك الكيمونو الخفيف.
قالت: «كلا. كلا.» أمسكت بيدي ووضعتها على رقبتها، وأردفت: «أنا دافئة دومًا.» وفي الحقيقة كانت دافئة بالفعل. كان جلدها يبدو دافئًا على الرغم من أنها قالت إنها السمرة التي اكتسبتها والتي تتلاشى حاليًّا. ارتبط بهذا الدفء الجلدي رائحة معينة كانت كرائحة اللوز أو رائحة حريفة ليست منفرة لكنها ليست رائحة جسد يواظب على الاستحمام (ولم أكن أنا نفسي ذات رائحة نضرة طوال الوقت بسبب قاعدة بيث بالاستحمام مرة في الأسبوع. كان العديد من الناس في ذلك الوقت لا يَسْتَحِمُّونَ إلا مرة في الأسبوع، وأتذكَّر وجود روائح بشرية أكثر حولنا، رغم بودرة التلك ومزيلات الروائح القوية).
غالبًا كنت أقرأ كتابًا ما حتى وقت متأخر من الليل. اعتقدت أنه من الأصعب أن أقرأ في وجود شخص آخر في الغرفة، لكن كان حضور نينا مريحًا. كانت تقشر برتقالها وقطع الشوكولاتة، وتلعب سوليتير. حينما تُضْطَرُّ إلى بسط ذراعها لتحرك ورقة، كانت تثير في بعض الأحيان ضجة قليلة أو أَنَّة أو نَخْرَة كما لو أنها تشتكي من هذا التعديل الخفيف لوضع جسدها، لكنها كانت تستمتع به كذلك. ما عدا هذا كانت قانعة، وتتكور لتنام في النور في أي وقت تنعس فيه. ولأننا لم نشعر بإلحاح أو احتياج خاص للكلام، فسرعان ما بدأنا الحديث معًا وحَكَيْنَا عن حياتنا.
كانت نينا في الثانية والعشرين، وهذا ما حدث لها منذ كانت في الخامسة عشرة:
في البداية، حبلت (هكذا قالت) وتزوجت أب الطفل الذي لم يكن يكبرها في العمر كثيرًا. حدث هذا في بلدةٍ ما خارج شيكاجو. كان اسم البلدة لانفيل، والوظائف المتاحة بها في مخازن الحُبوب أو إصلاح الْمُعَدَّات للأولاد، والعمل في المحلات للبنات فقط. كان طُموح نينا أن تصبحَ مُزَيِّنَةَ شعر لكن كان يجب عليها أن تغادر وتتدرب على هذا. لم تكن لانفيل المكان الذي عاشت فيه طول الوقت، بل الذي عاشت فيه جدتها، وهي عاشت مع جدتها لأن أباها مات وتزوجت أمها مرة ثانية وطردها زوج أمها.
أنجبت طفلًا ثانيًا؛ ولدًا آخر، وكان من المفترض أن يحصل زوجها على وظيفة وُعِدَ بها في بلدة ثانية، ولهذا غادر إلى هناك. كان سوف يرسل لها لكي تلتحق به، لكنه لم يفعل هذا قطُّ. تركت كلا الطفلين مع جدتها واستقلت الحافلة إلى شيكاجو.
في الحافلة، قابلت فتاةً اسمها مارسي كانت متجهة إلى شيكاجو مثلها. عرفت مارسي رجلًا هناك امتلك مطعمًا وسوف يعطيهما عملًا. لكن حين وصلتا إلى شيكاجو وعثرتا على مكان المطعم اتضح أنه لا يملكه، بل كان يعمل به فقط وترك العمل منذ وقت قصير. كان لدى الرجل الذي يملك المطعم غرفة عُلْوِيَّة فارغة، وسمح لهما بالبقاء فيها مقابل أن تنظِّفا المكان كلَّ ليلة. اضْطُرَّتَا إلى استخدام حمَّام السيدات في المطعم لكن لم يكن من المفترض أن تقضِيَا وقتًا كبيرًا فيه أثناءَ النهار لأنه كان للزبائن. اضْطُرَّتَا إلى غسل الملابس الضرورية لهما بعد موعد الإغلاق.
لم تَجِدَا صُعوبة في النَّوْم على الإطلاق. اكتسبتا صداقة ساقٍ — كان غريبًا لكنه لطيف — يعمل في مكان في الناحية المقابلة من الشارع، وسمح لهما باحتساء بيرة الزنجبيل مجانًا. قابلتا رجلًا هناك دعاهما إلى حفلة، ومن هناك دُعِيَتَا إلى حفلات أخرى. وكان أن قابلت نينا خلال تلك الفترة السيد بورفيس، كان هو من أعطاها اسم نينا في الحقيقة. قبل ذلك كان اسمها جون. عاشت في بيت السيد بورفيس في شيكاجو.
كانت تنتظر التوقيت المناسب لتثير موضوع وَلَدَيْهَا. كان في منزل السيد بورفيس مساحة كبيرة، ففكرت في أنهما يمكن أن يعيشا معها هناك. لكن حين ذكرت الموضوع للسيد بورفيس، أخبرها أنه يكره الأطفال. لم يرغب أن تحبل قطُّ. لكنها حَبِلَتْ بطريقة ما، وذهبت هي والسيد بورفيس إلى اليابان لتجري عملية إجهاض.
حتى اللحظة الأخيرة، تصورت أنها سوف تُجريها، لكنها قررت بعد ذلك أنها لن تفعل، سوف تحتفظ به وتنجب الطفل.
قال لها: حسنًا، سوف يدفع ثمن عودتها إلى شيكاجو، ومنذ تلك اللحظة فصاعِدًا، هي وَحْدَهَا.
كانت في ذلك الوقت تَعرِفُ إلى حَدٍّ ما ماذا ستفعل، وذهبت إلى مكان حيث يَعتنون بها فيه حتى ميلاد الطفل؛ ومِنْ ثَمَّ يمكن أن تعرضه للتبني. وُلِدَ الطفل، وكانت فتاةً، وأَسْمَتْهَا نينا جيما، وقررت أن تحتفظ بها.
عرفت فتاة أخرى، أنجبت طفلًا في ذلك المكان واحتفظت به، واتفقت مع الفتاة أن تعيشا معًا وتعملان بالتناوب وتربيان الطفلين. حصلتا على شقة يمكن أن تتحملا إيجارها، وحصلتا على وظيفتين، وكانت وظيفة نينا في حانة، وكان كل شيء على ما يرام. ثم ذهبت نينا إلى بيتها قبل بداية الاحتفال بأعياد الميلاد مباشرة، كان عمر جيما حينذاك ثمانية أشهر، ووجدت الأم الأخرى سكرانة تقريبًا وتلهو مع رجل، والطفلة جيما، محمومة ومريضة جدًّا حتى إنها عاجزة عن البكاء.
دَثَّرَتْهَا نينا، وطلبت سيارة أجرة وأخذتها إلى المستشفى. كانت حركة المرور مزدحمة بسبب احتفالات أعياد الميلاد، وحين وصلوا أخيرًا، أخبروها أن هذا ليس المستشفى المناسب لسبب ما، وأرسلوها إلى مستشفى آخر، وفي الطريق إلى هناك، أصاب جيما نوبة تشنج وماتت.
أرادت أن تقيم لها جنازة حقيقية، لا أن تدفنها مع صعلوك طاعن في السن مات (هذا ما سمعت أنه يحدث مع جسد الطفل حين لا يكون معك مال)، لهذا ذهبت إلى السيد بورفيس. كان ألطف معها مما توَقَّعَتْ، ودفع ثمن التابوت وكل شيء وشاهِد القبر باسم الطفلة، وبعد أن انتهى كل شيء أخذ نينا معه إلى البيت. ذهبا في رحلة طويلة إلى لندن وباريس وأماكن أخرى كثيرة لإبهاجها. حين عادا، أغلق البيت في شيكاجو وانتقل إلى هنا. لديه عقار خاص بالقرب من هنا، وفي الريف، يملك أحصنة سِباق.
سألها إذا كانت ترغب في الدراسة، وقالت إنها تود ذلك. قال إنها يجب أن تُحضر محاضرات بعض المواد الدراسية لترى ما الذي تحب أن تدرسَه. قالت إنها تحب أن تعيش جزءًا من الوقت كما يعيش الطلاب النظاميون، وتلبس مثلهم وتدرس مثلهم، وقال إنه يمكن تدبير هذا.
أشعرتني حياتها أني ساذجة.
سألتها عن الاسم الأول للسيد بورفيس؟
قالت: «آرثر».
– «لماذا لا تناديه به؟»
– «لن يبدو لي هذا طبيعيًّا.»
•••
لم يكن من المفترض أن تَخْرُجَ نينا ليلًا، إلا إلى الكلية لحُضور مناسبات معينة، مثل مسرحية أو حفل موسيقي أو محاضرة. كان من المفترض أن تتناول الغداء والعشاء في الكلية. رغم أني لا أعرف ما إذا كانت تفعل هذا أم لا كما قلت. كانت وجبة الإفطار عبارة عن نسكافيه وكعك مُحَلًّى من اليوم السابق، أحضرته البيت من الكافيتريا. لم يُحِبَّ السيد بورفيس هذا، لكنه قَبِلَهُ جزءًا من محاكاة نينا لحياة طلاب الجامعة. ما دامت تأكل وجبة ساخنة مرة في اليوم وشطيرة وشوربة في وجبة أخرى، كان راضيًا، وهذا ما كان يعتقد أنها تفعله. كانت تتفقَّد ما تقدمه الكافيتريا، بحيث تستطيع أن تخبره أنها تناولت النقانق أو شريحة لحم ساليسبري، والسلمون وشطيرة من سلاطة البيض.
– «إذن كيف يمكن أن يعرف أنك خرجت؟»
نهضت نينا على قَدَمَيْهَا، وهي تُصدر ذلك الصوت الخاص بها الصغير الذي يعَبِّر عن شكوى أو متعة ومشتْ بخِفَّة إلى نافذة العُلِّيَّة.
قالت: «تعالَيْ إلى هنا؛ وابْقَيْ خلف الستائر. أتَرَيْنَ؟»
وقفت سيارة سوداء، ليس أمام البيت مباشرة، بل على بُعد عدة بُيوت قليلة. انعكست أضواء الشارع على شعر السائق الأبيض.
قالت نينا: «إنها السيدة وينر؛ سوف تظل هناك حتى منتصف الليل، أو حتى لما بعد ذلك، لا أعرف. إذا خرجْتُ سوف تتبعني وتحوم حولي أينما ذهبْتُ وتتبعني رجوعًا.»
– «ماذا لو نامت؟»
– «ليست هي من تنام، ولو فعلتْ، وحاولتُ أنا فعل أي شيء، سوف تستيقظ بكل نشاط.»
•••
لكي نعطيَ السيدة وينر بعض النشاط، كما قالت نينا، غادرنا البيت ذات مساء، واستقللنا حافلة إلى مكتبة المدينة. من نافذة الحافلة، شاهدنا السيارة السوداء الطويلة تُبطئ وتتوانى مع كل توقف للحافلة، ثم تسرع وتبقى معنا. كان علينا أن نمشي بطول مربع سكني إلى المكتبة، وتجاوزتنا السيدة وينر ووقفت بعد المدخل الأمامي، وراقبتْنا — كما كنا نعتقد — من مَرْآة الرؤية الخلفية.
أردت أن أعرف إذا كنتُ أستطيع استعارة نسخة من رواية «الحرف القرمزي»، التي كانت مطلوبة في مادة من موادِّي الدراسية. لم أستطع تحمل تكلفة شراء واحدة، وكل النسخ في مكتبة الكلية مستعارة. كما كان لديَّ فكرة أن أستعير كتابًا لنينا؛ كتابًا من النوع الذي يعرِض مخططات مبسطة عن التاريخ.
اشترت نينا مراجع المواد الدراسية التي كانت تُحضرها. اشترت كراساتٍ وأقلامًا — أفضل أقلام حبر في ذلك الوقت — بألوان متجانسة. الأحمر من أجل الحضارات الأمريكية في القرون الوسطى التي سبقت كولومبس، والأزرق للشعراء الرومانسيين، والأخضر للروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري والجورجي، والأصفر للحكايات الخيالية من بيرو إلى أندرسون. كانت تذهب إلى كل محاضرة، حيث تجلس في الصف الخلفي لأنها اعتقدتْ أنه المكان المناسب لها. كانت تتكلم كما لو أنها تستمتع بالمشي في مبنى الآداب مع حشد الطلاب الآخرين، وبالعثور على مَقْعدها وبفتح المقرر على الصفحة المحددة وبإخراج قلمها. لكن كراساتها ظلت خالية.
كانت المشكلة، كما رأيتها، هي أنها لا تملك نقاطًا مرجعية تعتمد عليها؛ فهي لم تكن تعرف ماذا يعني العصر الفيكتوري أو الرومانسي أو قبل الكولومبي. زارت اليابان وباربادوس والعديد من البلاد الأوروبية، لكن لم تستطع تحديدها قطُّ على الخريطة. لم تكن لتعرف ما إذا كانت الثورة الفرنسية اندلعت قبل أم بعد الحرب العالمية الأولى.
أتساءل من الذي اختار لها تلك المواد الدراسية. هل أحبت أسماءها؛ هل اعتقد السيد بورفيس أن بِوُسعها إتقانَها، أم تراه اختارها سخرية، حتى تكتفي سريعًا من حياة الطالبة؟
حين كنت أبحث عن الكتاب الذي أريده، وقع نظري على إيرني بوتس. كان يحمل كومة من الألغاز، جمعها من أجل صديق قديم من أصدقاء أمه. كان قد أخبرني أنه يفعل هذا دائمًا، كما يلعب دائمًا الشطرنج في صباح أيام السبت مع أحد أصدقاء والده الحميمين في دار وور فيترانس.
عرَّفته على نينا. أخبرته عن انتقالها للسكن معي، لكن لم أذكر شيئًا بالطبع عن حياتها السابقة أو حتى الحالية.
صافح يد نينا وقال إنه أسعده اللقاء بها، وسأل فجأة إذا كان يمكن أن يوصلَنا إلى البيت.
كنت على وشك أن أقول له لا شكرًا، سوف نستقل الحافلة، حين سألته نينا أين تقف سيارته.
قال: «في الخلف.»
– «هل لها باب خلفي؟»
– «نعم، نعم. إنها سيدان.»
قالت نينا بلطف: «لا، لم أقصد هذا. أقصد في المكتبة. في المبنى.»
قال إيرني بارتباك: «نعم، نعم، بها. آسف، اعتقدت أنك تقصدين السيارة. نعم، باب خلفي في المكتبة. أدخل من ذلك الطريق أنا نفسي. أنا آسف.» احمَرَّ وجهه، وكان سوف يستمر في الاعتذار لولا أنها قاطعته بضحكة لطيفة، بل مجامِلة.
قالت: «حسنًا إذن. نستطيع أن نخرج من الباب الخلفي. إذن اتفقنا. شكرًا لك.»
أوصلنا إيرني إلى البيت بسيارته. سألنا إذا كنا نحب أن نمر على بيته، لاحتساء كوب من الشاي أو الشوكولاتة الساخنة.
قالت نينا: «معذرة، نحن مستعجلتان قليلًا؛ لكن شكرًا لسؤالك.»
قال: «أعتقد أن لديكما واجبات دراسية.»
قالت: «واجب، نعم، بالتأكيد.»
كنت أفكر أنه لم يَدْعُنِي قطُّ إلى بيته، مراعاةً لآداب المجتمع. فتاة واحدة، لا. لكن فتاتان، لا بأس.
لم نرَ سيارة سوداء على جانب الطريق حين كنا نقول شكرًا ونتبادل التمنيات بليلة سعيدة. لم نرَ سيارة حين نظرنا من نافذة العُلِّيَّة. بعد فترة قصيرة، رَنَّ الهاتف، وسمعتها تقول: «أوه لا، ذهبنا إلى المكتبة فقط وأخذنا كتابًا وأتينا مباشرة إلى البيت في الحافلة. كانت هناك حافلة بمجرد خروجنا. أنا بخير تمامًا، طابت ليلتك.»
طلعت السلم تتمايل وتبتسم.
– «السيدة وينر أخذت دشًّا ساخنًا الليلة.»
ثم قفزت قفزة صغيرة وبدأت تدغدغني، كما تفعل في بعض الأحيان، دون أي إنذار، بعد أن اكتشفت أني حساسة للدغدغة على نحو استثنائي.
في أحد الأيام لم تنهض نينا من سريرها. قالت إن حلقها ملتهب، وحرارتها عالية.
– «تحسسي جبيني.»
– «أنتِ دائمًا دافئة بالنسبة لي.»
– «اليوم أنا أكثر سخونة.»
كان يوم الجمعة. طلبت مني أن أتصل بالسيد بورفيس لكي أخبره أنها تريد أن تظل هنا في إجازة الأسبوع.
قالت: «سوف يسمح لي؛ لا يستطيع أن يتحمل أي شخص مريض معه. يصاب بالجنون.»
تساءل السيد بورفيس إذا كان عليه أن يرسل طبيبًا. تنبأت نينا بهذا، وقالت لي أن أقول له إنها تحتاج إلى الراحة فقط، وإنها سوف تتصل به، أو أنا، إذا ساءت حالتها. قال لي: حسن إذن، أخبريها أن تهتمَّ بنفسها، وشكرني على اتصالي، وعلى أني صديقة جيدة لنينا. ثم، بعد أن بدأنا في قول كلمات الوداع، سألني إن كنت أود أن أشاركه العشاء يوم السبت. قال إنه مملٌّ أن يأكل وَحْدَهُ.
فكرت نينا في هذا أيضًا.
– «لو طلب أن تذهبي وتتناولي معه العشاء غدًا ليلًا، لِمَ لا تذهبين؟ هناك دائمًا طعام جيد ليالي السبت، طعام مميز.»
كانت الكافيتريا مغلقة أيام السبت. أزعجني احتمال أن أقابل السيد بورفيس وأثار اهتمامي في الوقت نفسه.
قلت لها: «هل ينبغي أن أذهب حقًّا؟ إذا طلب؟»
لذا صعدت إلى الدَّوْر العُلويِّ، بعد أن وافقت على تناول العشاء مع السيد بورفيس — لقد قال «نتناول العشاء» فعلًا — وسألت نينا ماذا يجب أن أرتدي.
– «لِمَ القلق الآن؟ إنك لن تذهبي قبل مساء الغد.»
لِمَ القلق فعلًا؟ لديَّ فستان واحد جيد، من قماش الكريب، تركوازي اللون، اشتريته من مال مِنْحَتي الدراسية لكي ألبسه حين كنت أُلقي خِطَاب الوداع في التمارين على حفل تخرج المدرسة الثانوية.
قالت نينا: «على أية حال، لا يهم، لن يلاحظ أبدًا.»
•••
جاءت السيدة وينر لتأخذني. لم يكن شعرها أبيض، بل أشقر فِضِّيًّا، وهو لون بالنسبة لي يدل على قلب قاسٍ، ومعاملات لا أخلاقية، ودَرْب وَعْر طويل عبر الأَزِقَّة الخلفية القذرة من الحياة. ومع ذلك، ضغطت على مقبض الباب الأمامي لأركب إلى جانبها؛ لأني اعتقدت أن هذا هو الفعل المهذب والديمقراطي الذي يجب أن أقوم به. سمحتْ لي بهذا؛ إذ كنت أقف إلى جانبها، ثم فتحت فجأة الباب الخلفي.
اعتقدت أن السيد بورفيس لا بد أنه يعيش في واحد من تلك الصُّروح المتينة التي يحيطها فدادين من الأعشاب والحقول الجرداء شمال المدينة. ربما ما جعلني أفكر هكذا هو أحصنة السباق. بدلًا من هذا، تحركنا شرقًا عبر شوارع تتسم بالرخاء، لكنها لم تكن فخمة، وبيوت قرميدية على الطراز التيودوري أضاءت مع دخول الليل، وأضواء عيد الميلاد تخفق من بين الشجيرات التي يكللها الثلج. انعطفنا إلى طريق صغير بين سياج عالٍ، ووقفنا أمام بيت رأيت أنه حديث بسبب سقفه المستوِي والحائط الطويل من النوافذ، وبدا أن مادة البناء من الأسمنت. لا أضواء عيد الميلاد هنا، لا أضواء من أي نوع.
لا علامة على السيد بورفيس كذلك. انحدرت السيارة إلى قبو تحت الأرض، وركبنا مصعدًا دورًا واحدًا وخرجنا إلى قاعة منخفضة الإضاءة تحوي أثاث غرفة معيشة بِكَرَاسٍ قاسية مُنَجَّدة وموائد صغيرة مصقولة، ومرايا وسجاجيد صغيرة. قادتني السيدة وينر أمامَها عبر واحد من الأبواب يُفتح من هذه القاعة على غرفة خالية من النوافذ؛ تحتوي على مَقْعَد طويل وخطافات على جميع الحيطان. كانت مثل غرفة المعاطف المدرسية باستثناء الخشب المصقول والسَّجَّاد على الأرض.
قالت السيدة وينر: «هنا تتركين ملابسك.»
خلعتُ حذائي الطويل، وحشوت قفازي في جَيْبَيْ مِعْطَفي، وعلقت المعطف. ظلت السيدة وينر معي. افترضت أن هذا واجبها لكي تريني أي اتجاه أسلكه بعد ذلك. كان في جيبي مُشْط، وأردت أن أضبط شعري، لكن ليس وهي تراقبني. ولم أرَ مرآة.
– «والآن بقية الملابس.»
نظرتْ إليَّ مباشرة لكي ترى إذا كنت فهمت، وحين بدا أني لا أفهم (على الرغم من أني فهمت إلى حد ما؛ فهمت لكن أملت أن أكون مخطئة) قالت: «لا تقلقي، لن تبردي. البيت مدفأ تدفئة جيدة.»
لم أتحرَّك بعدُ لكي أنَفِّذَ ما طلبتْه، وتحدثت إليَّ عرضًا، كما لو كانت لا تهتم حتى باحتقاري.
– «أرجو ألَّا تتصرفي بطفولية.»
كان يمكن أن آخذ معطفي عند تلك المرحلة، كان يمكن أن أطلب إرجاعي إلى بيتي، ولو رفضت هذا، كان يمكن أن أرجع بنفسي. كنت أتذكَّر الطريق الذي سلكناه رغم أن الجو بارد لا يحتمل المشي، قد يستغرق مني الطريق أقل من ساعة.
لا أعتقد أنهم أغلقوا الباب الخارجي أو سوف يبذلون أي مجهود لإرجاعي.
قالت السيدة وينر — إذ رأتني لم أَقُمْ بأي حركة بعدُ: «أوه، لا. هل تعتقدين أنك مختلفة عن بقية النساء؟ تعتقدين أني لم أرَ كل ما لديك قبل الآن؟»
كان احتقارها هو ما جعلني أبقى، جزئيًّا، بالإضافة إلى كبريائي.
وإذ كنت لا أزال مرتدية قميصي التحتاني، أرجعت ذراعي إلى الخلف، فككت أربطة صدريتي، ثم على نحو ما سحبتها كلها على طول ذراعي وحررتها ثم أدرتها إلى الأمام فتخلصت منها في حركة واحدة، ثم جاء دَوْر حزام أربطة جوربي، ثم سِرْوالي. حين خلعتهما، كَوَّرْتُهما وخبأتهما تحت صدريتي. وضعت قدمي مرة ثانية في حذائي.
قالت السيدة وينر — وهي تتنهد: «بدون حذاء.» بدا وكأن القميص التحتاني رثٌّ جدًّا؛ حتى إنها لم تَحْتَجْ إلى الإشارة إليه، لكن بعد أن خلعت حذائي مرة ثانية قالت: «عارية، هل تعرفين معنى الكلمة؟ عارية.»
سحبت القميص التحتاني إلى الأعلى وخلعته من فوق رأسي، وناولتني زجاجة سائل وقالت: «امسحي جسدك بهذا.»
يشبه رائحة نينا. مسحت أجزاء من ذراعي وكتفي، والأجزاء التي استطعت لمسها، بينما تقف السيدة وينر أمامي تنظر، ثم ذهبنا إلى القاعة، تفادت عينايَ المرايا، وفتحت بابًا آخر ودخلت إلى الغرفة التالية وَحْدِي.
لم يخطر قطُّ ببالي أن السيد بورفيس يمكن أن يكون منتظرًا عاريًا مثلي، ولم يكن كذلك. كان يرتدي سترة زرقاء غامقة وقميصًا أبيض وربطة عنق عريضة العقدة (لم أكن أعرف أنها تسمى كذلك)، وسروالًا رماديًّا. لم يكن أطول مني، وكان رفيعًا وكبير السن، أصلع تقريبًا، وتظهر التجاعيد على جبينه حين يبتسم.
لم يخطر ببالي أيضًا أن العري يمكن أن يكون توطئة لاغتصاب أو أي طقس سوى تناول الطعام. (وحقًّا لم يكن هناك شيء كهذا، كما يبدو من روائح المشهيات والأطباق المغطاة الفِضية على البوفيه). لماذا لم أفكر في هذا؟ لماذا لم أكن أكثر وعيًا؟ بسبب تصوري عن الرجال كبار السن. اعتقدت أنهم ليسوا فقط عاجزين ومنهَكين، بل أصبحوا أيضًا وقورين — أو مكتئبين — بفعل التجارِب والخبرات المتنوعة التي عاشوها وتدهورهم الجسدي كذلك، حتى لم يَعُدْ في داخلهم أي اهتمام بهذا. لم أكن غبية بالقدر الذي يجعلني أعتقد أن عُريي لا يعني نوعًا ما من الاستغلال الجنسي لجسدي، لكني اعتبرته جرأة أكثر منه تمهيدًا لمزيد من الانتهاك، وكان قبولي لهذا سببه الكبرياء، كما قلت، وطيش مهزوز أكثر منه لأي سبب آخر.
لعلِّي أردت أن أقول: ها أنا ذا، في جلد جسدي الذي لا يُخجلني أكثر من عري أسناني. بالطبع لم يكن هذا صحيحًا، وفي الحقيقة بدأت أتعرق، على الرغم من أن ذلك لم يكن بسبب خشيتي من أن أتعرض لانتهاك ما.
صافحني السيد بورفيس، دون أي إشارة تدل على أنه يعي أني دون ملابس. قال إنه سعيد أن يقابل صديقة نينا. بالضبط كأني شخص ما أحضرته نينا إلى البيت من المدرسة.
وهو ما كان صحيحًا على نحو ما.
قال إني أمثل إلهامًا لنينا.
قال: «هي معجبة بكِ جدًّا. لا بد أنك جائعة الآن. فلنرَ ماذا جهزوا لنا؟»
رفع الأغطية. وشرع يضع لي الطعام. دجاج كورنول، التي اعتبرتها فراخًا قزمة، وأرز بالزعفران والزبيب، خَضْراوات متنوعة مقطعة قطعًا رفيعة متراصَّة ومحتفظة بلونها بصفاء أكبر من الخَضْراوات التي أَطْهُوها عادة، طبق من الْمُخَلَّل الأخضر الرَّمادي، وطبق من طعام مجفف أحمر داكن.
قال السيد بورفيس عن الْمُخَلَّل والطعام المجفف: «لا تأكلي كثيرًا من هذين؛ إنهما حارَّيْنِ على أن تبدئي بهما.»
أوصلني إلى المائدة، واستدار للبوفيه، ووضع لنفسه كَمِّيَّات قليلة، وجلس إلى المائدة.
كان هناك إبريق ماء وزجاجة نبيذ على المائدة. حصلت على الماء. قال إن تقديم النبيذ لي في بيته، سوف يحسب على الأرجح جريمة كبرى. أُصبت بخيبة أمل صغيرة بما أنه لم يُتَحْ لي قطُّ فرصة لشرب النبيذ. عبَّر إيرني دومًا، حين كنا نذهب إلى أولد تشيلسيا، عن رِضَاهُ بأنه لا يقدم النبيذ أو الكحول يوم الأحد. لم يكن يرفض فقط أن يشرب يوم الأحد أو في أي يوم آخر، بل كان يكره أن يرى الآخرين يشربون أيضًا.
قال السيد بورفيس: «تقول لي نينا إنك تدرسين الفلسفة الإنجليزية، لكني أعتقد أنها الإنجليزية والفلسفة. هل أنا مُحِقٌّ؟ لأني متأكد أنه ليس هناك عدد وفير من الفلاسفة الإنجليز؟»
على الرغم من تحذيره، تناولت نقطة من المخلل الأخضر على لساني، وقد صعقتني إلى درجة لم تسمح لي بأن أجيبَه. انتظرني بكياسة حتى أنتهيَ من تجرع المياه.
قلت حين أمكنني التحدث: «نبدأ باليونانيين. إنهم مادة شاملة.»
قال: «أوه نعم، اليونان. حسنًا، بقدر ما دَرَسْتِ اليونانيين، مَنِ المفضَّل لديكِ حتى الآن … أوه! لا، لحظة. سوف تتقطع بسهولة أكبر هكذا.»
تبع هذا عرض من فصل اللحم وإزالته عن عظم دجاجة كورنول، بلطف ودون تفضل، كما لو أنها مزحة يمكن أن نتشاركها.
– «مَن المفضَّل لديك؟»
قلت: «لم نَصِلْ إليه بَعْدُ، نحن ندرس ما قبل سقراط. لكن المفضل هو أفلاطون.»
– «أفلاطون هو المفضل لديك. إذن أنت تسبقين في القراءة، لا تقفين حيث يُفترض؟ أفلاطون، نعم، كان يمكن أن أخمن هذا. أنت تحبين الكهف؟»
– «نعم.»
– «بالطبع. نظرية الكهف. جميلة. أليس كذلك؟»
حين كنت أجلس، كان أكثر أعضاء جسدي عورة متواريًا عن النظر. ولو كان ثدياي صغيرين ومتناسقين مثل ثديي نينا، بدلًا من أن يكونا ممتلئين وكبيرَيِ الحلمتين وغليظين، كان يمكن أن أكون في غاية الارتياح تقريبًا. حاولت أن أنظر إليه بينما أتحدث، لكن كنت أعاني رغمًا عن إرادتي من دفقات من حمرة الخجل. أعتقد، أنه حين حدث هذا لي، تغيَّر صوته قليلًا؛ إذ أصبح ناعمًا وراضيًا ومهذبًا، كما لو أنه قام بحركة ناجحة في لعبة ما. لكنه استمر في الحديث برشاقة ومتعة، يحكي لي عن رحلته إلى اليونان. دلفي، الأكروبوليس، الضوء الشهير الذي تعتقد أنه لا يمكن أن يكون حقيقيًّا ولكنك تجده حقيقيًّا، والهيكل العظمي لبيلوبونيز.
– «ومن ثَمَّ إلى كريت؛ هل تعرفين الحضارة المينوية؟»
– «نعم.»
– «بالطبع تعرفين، بالطبع. وهل تعرفين كيف كانت ترتدي السيدات المينويات؟»
– «نعم.»
نظرت إلى وجهه هذه المرة، إلى عينيه، كنت مصممة على ألا أرتبك، حتى حين شعرت بالحرارة في حلقي.
قال بشيء من الحزن: «جميلة جدًّا، تلك الأزياء. جميلة جدًّا. غريبة هي الأشياء المختلفة المختبئة في العصور المختلفة. والأشياء التي تعرضها.»
كانت التحلية كاسترد فانيليا والكريمة المخفوقة مع قطع من الكعك بالتوت البري. أكل بضع لقيمات منه فحسب. ولكن بعد أن أخفقت في أن أهدأ بالقدر الذي يجعلني أستمتع بالطبق الأول، صممت على ألا أفوِّت أي شيء غني وحلو، وأن أركز شهيتي وتركيزي على كل ملعقة.
سكب القهوة في فناجين صغيرة، وقال إننا سوف نشربها في المكتبة.
صدر عن مؤخرتي صوت يشبه الصفعة، حين كنت أحرر نفسي من التنجيد الأملس لكرسي غرفة العشاء. لكن تقريبًا غطى عليه خشخشة فناجين القهوة على الصينية في قبضته المرتعشة الطاعنة في السن.
كنت أقرأ عن مكتبات البيوت في الكتب فحسب. كان مدخل هذه المكتبة عبر لوحة معلقة على حائط غرفة العشاء. تتأرجح اللوحة لتفتح دون صوت من لمسة بقدمه المرفوعة. اعتذر عن أنه سبقني، بما أنه اضطر إلى هذا لأنه يحمل القهوة. كان هذا مريحًا بالنسبة لي. كنت أعتقد أن المؤخرة — ليست مؤخرتي فقط، بل مؤخرات الجميع — هي أكثر جزء بهيمي في الجسد.
حين جلست على المقعد الذي أشار إليه، ناولني قهوتي. لم يكن مريحًا الجلوس هنا، في الخلاء، كما كان إلى مائدة غرفة العشاء. كان كرسي مائدة العشاء مغطًّى بحرير مقلم ناعم، لكن هذا الكرسي كان منجدًا بقماش رقيق داكن، يَخِزُنِي. بدأت أشعر بتهيج حميمي.
كان النور في هذه الغرفة أسطع مما كان في غرفة الطعام، وأثارت الكتب المصطفة على الحوائط انطباعًا مزعجًا ومؤنبًا أكثر من مشهد غرفة الطعام بصورها ذات المشاهد الطبيعية واللوحات الماصَّة للإضاءة.
للحظة، بينما كنا ننتقل من غرفة إلى أخرى، خطرت لي فكرة قصة — قصة سمعت بها لكن قليلًا من الناس هم من حالفهم حظ قراءتها — يتضح فيها أن الغرفة المشار إليها على أنها مكتبة هي غرفة نوم، بإضاءة ناعمة ووسائد وثيرة وكل أنواع الأغطية الناعمة. لم يكن لديَّ الوقت لأعرف ماذا كان يمكن أن أفعل في ظل هذه الظروف؛ لأن الغرفة التي كنا بها لم تكن إلا مكتبة ببساطة. مصابيح القراءة، الكتب على الرفوف، الرائحة المنعشة للقهوة. يسحب السيد بورفيس كتابًا، يتصفح صفحاته، يجد ما يريد.
– «سيكون لطفًا منك أن تقرئي لي. عيناي تكونان مرهقتين في المساء. هل تعرفين هذا الكتاب؟»
«غلام شروبشير.»
عرفته، بل في الحقيقة كنت أحفظ العديد من قصائده عن ظَهْر قَلْب.
قلت إني سأقرأ.
– «وهل يمكن أن أطلب منك، هل يمكن أن أطلب منك من فضلك، ألا تضعي ساقًا فوق ساق؟»
كانت يداي ترتعشان بينما آخذ الكتاب منه.
قالت: «نعم، نعم.»
اختار كرسيًّا أمام خزانة الكتب، في مواجهتي.
– «الآن.»
– «على حافَة وينلوك، الغابة مضطربة.»
هدأتني الكلمات المألوفة والإيقاع. استحوذت عليَّ. بدأت تدريجيًّا في الشعور أكثر بالراحة.
أين يوريكون؟ من يعلم؟
إني لم أنسَ حقًّا أين كنت أو مع من كنت أو في أية حالة كنت أجلس. لكني شعرت أني بعيدة إلى حدٍّ ما وفي حالة فلسفية. خطرت لي فكرة أن الجميع في العالم عراة، بطريقةٍ ما. السيد بورفيس عارٍ، على الرغم من ملابسه. كنا جميعًا مخلوقات حزينة، عارية، ماكرة. انحسر الخجل. ظللت أقلب الصفحات، أقرأ قصيدة بعد الأخرى؛ إذ أحببت صوتي، حتى قاطعني السيد بورفيس لدهشتي، وتقريبًا لخيبة أملي — حيث كانت هناك سطور شهيرة قادمة — وقف وتنهد.
قال: «كفى. كفى. كان هذه جميلًا جدًّا. شكرًا لك. لُكْنتك الريفية مناسبة تمامًا. حان موعد نومي.»
تركت الكتاب. وضعه على الرف وأغلق الأبواب الزجاجية. كانت اللُّكْنة الريفية التي تحدث عنها مسألة جديدة بالنسبة لي.
– «وأخشى أنه حان وقت توصيلك إلى البيت.»
فتح بابًا آخرَ على القاعة التي رأيتها منذ وقت طويل، في بداية المساء، ومررت أمامه، وأغلق الباب خلفي. لعلِّي قلت ليلة سعيدة، ربما حتى شكرته على العشاء وتحدث هو إليَّ بكلمات قليلة جافَّة (على الإطلاق، شكرًا على صحبتك، كان كرمًا منك، شكرًا على قراءتك هوسمان) بصوت مرهق وطاعن ومرتعش وغير مبالٍ. لم يلمسني.
غرفة الملابس المعتمة هي نفسها، وملابسي هي نفسها، والفستان التركوازي، وقميصي التحتاني، وجواربي. ظهرت السيدة وينر بينما كنت أربط جواربي. قالت لي شيئًا واحدًا فقط حين كنت مستعدة للرحيل.
– «نسيتِ وشاحَكِ.»
وفعلًا كان هناك وِشاح كنت قد نسجته في فصل الاقتصاد المنزلي، الشيء الوحيد الذي نسجته في حياتي. كنت على وشك تركه في هذا المكان.
•••
بينما كنت أخرج من السيارة قالت السيدة وينر: «يرغب السيد بورفيس أن يتحدث إلى نينا قبل أن ينام. لو تكرمت بتذكيرها.»
•••
لكن لم تكن نينا موجودة لتتلقى هذه الرسالة. كان سريرها مرتبًا. اختفى معطفها وحذاؤها الطويل، وبعض من ملابسها الأخرى لا يزال معلقًا في الخزانة.
رحلتْ كلٌّ من بيفرلي وكاي لبيتهما لقضاء الإجازة الأسبوعية؛ لهذا نزلت السُّلَّم راكضة لأرى إذا كان لدى بيث أي معلومات.
قالت بيث، التي لم أَرَها قطُّ آسفة على أي شيء: «آسفة؛ لا أستطيع أن أتابع خروجكم ومجيئكم.»
ثم قالت حين كنت أستدير: «طلبت منك عدة مرات أن تصعدي دون ضجة. استطعت أن أنوِّم سالي-لو توًّا.»
لم أكن قد قررت ماذا يمكن أن أقول لنينا حين أصل إلى البيت. هل سوف أسألها إذا كان مطلوبًا منها أن تكون عارية في ذلك البيت، لو أنها كانت على دراية تامة بالأمسية التي كانت تنتظرني؟ أم أني لن أقول الكثير، وأنتظر منها أن تسألني؟ وحتى حينذاك يمكن أن أقول ببراءة إني أكلت دجاج كورنول وأرزًا أصفر، وكان جيدًا جدًّا، وإني قرأت من كتاب «غلام شروبشير».
أستطيع أن أتركها تتساءل فقط.
بما أنها رحلت الآن، فلم يَعُدْ أيٌّ من هذا مهمًّا. تحول تركيزي. اتصلتِ السيدة وينر بعد العاشرة مساء — منتهكة قانونًا آخرَ من قوانين بيث — وحين قلت لها إن نينا لم تكن هنا قالت: «هل أنت متأكدة من هذا؟»
وكررت السؤال نفسه حين قلت لها إنه ليست لديَّ أي فكرة أين ذهبت نينا: «هل أنتِ متأكدة؟»
طلبت منها ألا تتصل مرة أخرى حتى الصباح؛ بسبب قواعد بيث ونوم الأطفال، وقالت: «حسنًا. لا أعرف. هذه مسألة خطيرة.»
حين استيقظت في الصباح، كانت السيارة واقفة في الجهة المقابلة من الشارع. ضربتْ وينر جرس البيت وأخبرت بيث أنها جاءت لكي تتفقَّد غرفة نينا، حتى بيث قمعتها السيدة وينر؛ فصعدت السلم دون توبيخ أو حرف تحذيري واحد. بعد أن فتشت كل الغرفة، فتشت الحمام والخزانة، بل هزت بطانيتين مطويتين في قاع الخزانة.
كنت لا أزال في بيجامتي، أكتب مقالًا عن السير جاوين والفارس الأخضر وأشرب النسكافيه.
قالت السيدة وينر إنها اضطرت إلى الاتصال بالمستشفيات لترى إن كانت نينا قد حُجزت في إحداها مريضة، وإن السيد بورفيس خرج بنفسه ليتفقد عدة أماكن أخرى يمكن أن تكون بها.
قالت: «إذا كنت تعرفين أي شيء فمن الأفضل أن تخبرينا؛ أي شيء على الإطلاق.»
ثم حين بدأت تنزل السلم، استدارت وقالت في صوت حَمَلَ نبرةً أقل تهديدًا: «هل هناك أي أحد في الكلية كانت على صداقة به؛ أي أحد تعرفينه؟»
قلت: «لا أعتقد.»
رأيت نينا مرتين فقط في الكلية، مرة كانت تعبر الممر السفلي في مبنى الآداب بعجلة بين محاضرتين، ومرة كانت في الكافيتريا. كانت وحيدة في المرتين. لم يكن أمرًا غير معتاد أن تكون وحيدًا خاصة حين تسرع من محاضرة لأخرى، لكنه كان غريبًا قليلًا أن تجلس وَحْدَكَ في الكافيتريا مع كوب من القهوة حوالي الرابعة إلا الربع بعد الظهر حين يكون هذا المكان مهجورًا. جلست بابتسامة على وجهها، كأنما تقول كم هي سعيدة ومميزة، أن تكون هنا، كم هي يقِظة وجاهزة لتلبية متطلبات هذه الحياة، ما إن تفهم ما هي.
•••
بدأ الثلج يتساقط فيما بعد الظهيرة. كان على السيارة التي تقف في الجهة المقابلة من الشارع أن ترحل لتفسح المجال لكاسحة الجليد. حين دخلت الحمام وسمعت خفقان ردائها الكيمونو على مِشْبَكه، شعرت بما كنت أقمعه؛ بخوف حقيقي على نينا. تصورتها، تائهة تنتحب تحت شعرها المرسل، تتجول ضائعة في الثلج في ملابسها الداخلية بدلًا من معطفها، على الرغم من أني أدرك أنها أخذت المعطف معها.
•••
رنَّ الهاتف بالضبط حين كنت على وشك المغادرة لمحاضرتي الأولى في صباح الإثنين.
قالت نينا بلهجة تحذير متعجلة لكن تشوبها نبرة انتصار: «هذه أنا. اسمعي. من فضلك، هل يمكن أن تقومي لي بخدمة من فضلك؟»
– «أين أنتِ؟ إنهما يبحثان عنكِ.»
– «من؟»
– «السيد بورفيس، والسيدة وينر.»
– «حسنًا، لا يجب أن تخبريهما. لا تخبريهما أي شيء. أنا هنا.»
– «أين؟»
– «في بيت إرنست.»
– «إرنست؟ إيرني؟»
– «هش. هل سمعكِ أحد؟»
– «لا.»
– «اسمعي، هل يمكن، من فضلِك، من فضلِك، أن تستقلِّي الحافلة وتحضري لي بقية أغراضي؟ أحتاج الشامبو. أحتاج الكيمونو. أنا أرتدي رداء الحمَّام طوال الوقت في بيت إرنست. يجب أن تريني، أبدو مثل كلب بُني أشعث عجوز. هل لا تزال السيارة بالخارج؟»
ذهبتُ ونظرتُ.
– «نعم.»
– «حسن إذن، يجب أن تستقلِّي الحافلة وتتوجهي بها إلى الجامعة كما تفعلين عادة، ثم استقلي الحافلة التي تذهب إلى وسط المدينة. تعرفين من أين تستقلِّينها، كامبل وهوو، ثم امشي إلى هنا. شارع كارلسيل، ٣٦٣. تعرفينه، أليس كذلك؟»
– «هل إيرني موجود؟»
– «لا يا حمقاء. هو في عمله. يجب أن يعيلنا، أليس كذلك؟»
نحن؟ هل يجب على إيرني أن يعيل نينا وأنا؟
كلا، إيرني ونينا، إيرني ونينا.
قالت نينا: «أوه، من فضلك. ليس لديَّ غيركِ.»
فعلت كما أرشدتني. ركبت حافلة الجامعة، ثم إلى وسط المدينة. نزلت عند كامبل وهوو ومشيت غربًا إلى شارع كارلسيل. كانت العاصفة الثلجية انتهت، والسماء صافية، والنهار ساطع وبلا رياح وشديد البرودة. أوجع الضوء عينيَّ، والثلج انسحق تحت قدمي.
ثم بعد نصف مربع سكني شمالًا في شارع كارليسل وصلت إلى البيت الذي عاش فيه إيرني مع أمه وأبيه ثم مع أمه ثم وَحْدَهُ، والآن مع نينا. كيف يعقل هذا؟
بدا البيت هو نفس البيت تمامًا الذي رأيته حين أتيت مرة أو مرتين مع أمي. منزل من طابق واحد قرميدي بفناء أمامي صغير ونافذة مقنطرة ذات لوح من الزجاج الملون في غرفة المعيشة. كان ضيقًا وأنيقًا.
كانت نينا، كما وصفت نفسها، ملفوفة في رداء رجالي طويل من الصوف البُني، تفوح منه رائحة إيرني الرجولية والبريئة من رغوة الحلاقة وصابون لايفبوي.
قبضت على يديَّ، اللتين كانتا متيبستين من البرد في قفازي. كانت تحمل كل واحدة منهما حزمة من أكياس التسوق.
قالت: «يداكِ متجمدتان، تعالَيْ، سوف نضعهما في بعض الماء الدافئ.»
– «ليستا متجمدتين، بل باردتين فحسب.»
لكنها واصلت وساعدتني على التخلص من الأشياء التي أحملها وأخذتني إلى المطبخ، وحضَّرت وعاء من الماء، وحينما بدأت الدماء تعود بألم إلى أصابعي أخبرتني كيف جاء إرنست (إيرني) إلى البيت ليلة السبت. كان معه مجلة بها كثير من الصُّور عن أطلال وقلاع وأشياء، أعتقد أنها قد تثير اهتمامي. أجبرت نفسها على مغادرة السرير والنزول؛ لأنه لا يستطيع بالطبع الصعود، وحين رأى كم هي مريضة، قال إنها يجب أن تأتي معه إلى بيته حتى يستطيع أن يرعاها. وهو ما فعله على أحسن وجه حتى شفي فعليًّا احتقان حلقها وخفت الحمى تمامًا. ثم قررا أن تظل هنا، سوف تبقى معه فقط ولن تعود أبدًا إلى المكان الذي كانت فيه من قبل.
لم ترغب حتى في ذكر اسم السيد بورفيس. قالت: «لكن يجب أن يظل هذا سرًّا كبيرًا. أنتِ الوحيدة التي تعرف؛ لأنك صديقتنا وأنتِ سبب لقائنا.»
كانت تحضر القهوة. قالت — بينما كانت تشير إلى خزانة مفتوحة: «انظري هنا. انظري أسلوبه في ترتيب الأشياء: الأكواب هنا؛ الفناجين وصحونها هنا؛ كل كوب له مشجبه، أليس مرتبًا؟ البيت كله هكذا. أحبه.»
وكررت: «أنت سبب لقائنا، إذا أنجبنا طفلًا وكان فتاةً سنسميها باسمك.»
لففت يدي حول الكوب؛ إذ لا زلت أشعر بنبض بارد في أصابعي. كان هناك بَنَفْسَج أفريقي على عتَبة النافذة التي تعلو حَوْض الغسيل. ترتيب أمه في الخزانات وزرع أمه. لعل السرخس لا يزال أمام نافذة غرفة المعيشة، والمفارش على مساند الكراسيِّ. بدا ما قالته عنها وإيرني صفيقًا وبغيضًا تمامًا؛ خاصة حين أفكر في نصيب إيرني منه.
– «هل ستتزوجان؟»
– «حسنًا.»
– «قلت لو أنجبتما طفلًا.»
قالت نينا، وهي تخفض رأسها بمكر: «حسنًا، إنك لا تعرفين أبدًا ما يمكن أن يحدث، لعلنا بدأنا هذا بالفعل بدون زواج.»
قلت: «مع إيرني؟ مع إيرني؟»
قالت: «حسن، ولِمَ لا؟ إيرني لطيف. وعلى أي حال، أنا أناديه إرنست.» واحتضنت رداء الحمام الذي كانت تلبسه.
– «ماذا عن السيد بورفيس؟»
– «ماذا عنه؟»
– «حسن، لو أنك تحملين طفلًا فعلًا، أيمكن أن يكون منه؟»
كل شيء تغير في نينا، تحوَّل وجهها إلى وجه سافل ومقيت. قالت بازدراء: «منه! لماذا تتحدثين عنه؟ إنه عاجز عن هذا.»
قلت: «أوه!» وكنت سوف أسألها ماذا عن جيما، لكنها قاطعتني.
قالت: «لماذا تتحدثين عن الماضي؟ لا تثيري استيائي، كل هذا مات وانتهى. لا يعنيني ولا يعني إرنست. نحن معًا الآن، نحب بعضنا الآن.»
حب. مع إيرني. إرنست. الآن.
قلت: «حسن.»
قالت: «أعتذر عن صُراخي في وجهك، هل صرخت؟ أنا آسفة، أنتِ صديقتنا، وأحضرتِ أغراضي وأنا أقدِّر هذا. أنت ابنة عمة إرنست ونحن عائلة.»
تسللت ورائي وأقحمت أصابعها تحت إبطي وبدأت تدغدغني، بكسل في البداية، ثم بقوة وهي تقول: «أليس كذلك؟ أليس كذلك؟»
حاولت أن أحرر نفسي، لكن لم أستطع. أصابتني نوبات من الضحك والْتَوَيْتُ وصرخت وتوسلت أن تتوقف، وهو ما فعلته، حين جعلتني عاجزة تمامًا، وانقطع نفَس كل منا.
قالت: «أنتِ أكثر شخص حساس للدغدغة رأيته في حياتي.»
•••
اضطررت أن أنتظر الحافلة طويلًا، وأنا أحرك قدمي أثناء وقوفي على الرصيف. حين وصلت إلى الكلية كانت المحاضرة الثانية قد فاتتني، إلى جانب الأولى، وكنت متأخرة عن موعد عملي في الكافيتريا. ارتديت الزي القطني الأخضر في خزانة أدوات التنظيف، ودفعت كتلة شعري الأسود (أسوأ شعر يمكن أن يظهر في الطعام، كما حذرني المدير) تحت طاقية قطنية.
كان عملي أن أرصَّ الشطائر والسلاطات على الرُّفوف قبل أن تُفتح الأبواب للغذاء، لكن الآن اضْطُرِرْتُ أن أفعل هذا مع صف متبرِّم من الأشخاص يشاهدني، وهذا جعلني أشعر أني خرقاء. في هذه اللحظة كنت مَحَطَّ الأنظار أكثر مما كنت حين كنت أدفع العربة أمامي بين الموائد لأجمع الأطباق القذرة. يركز الناس حينَها على طعامهم وأحاديثهم، أما الآن، فكانوا ينظرون إليَّ فقط.
فكرت فيما قالته بيفيرلي وكاي عن إفساد فرصي؛ إذ أميز نفسي بطريقة خاطئة. بدا هذا صحيحًا الآن.
بعد أن انتهيت من تنظيف موائد الكافيتريا، ارتديت ملابسي العادية وذهبت إلى مكتبة الكلية للعمل على مقالي. كانت فترة ما بعد الظهيرة في هذا اليوم خالية من المحاضرات.
كان هناك نفق تحت الأرض يقود إلى المكتبة من مبنى كلية الآداب، وعند مدخل هذا النفق، كان هناك ملصقات إعلانية عن الأفلام والمسرحيات والمطاعم والدراجات المستعملة والآلات الكاتبة، كذلك إشعارات بمواعيد المسرحيات والحفلات الموسيقية. أعلن قسم الدراسات الموسيقية عن تقديم حفل غنائي من قصائد شعراء الريف الإنجليزي في موعدٍ فات الآن. رأيت هذا الإشعار من قبل، ولم أنظر إليه لأتذكَّر أسماء هريك وهوسمان وتنيسون. وبعد عدة خطوات في النفق بدأت السُّطور تهاجمني.
لن أتذكَّر أبدًا تلك السُّطور مرة أخرى دون أن أشعر بوخزات قماش التنجيد في مؤخرتي. العار الشائك اللزج. إنه الآن عارٌ أكبر بكثير مما بدا حينَها. لقد فعل شيئًا بي في النهاية.
لا.
لا، أبدًا.
لا، لا، لا.
سوف أتذكَّر دومًا ما وافقت على أن أفعله. لم أُجْبَرْ، لم أُومَرْ، ولم أُغْوَ حتى. وافقت على أن أفعله.
نينا تعرف، كانت مشغولة بإيرني هذا الصباح فلم تَقُلْ أي شيء، لكن سوف يأتي وقت سوف تضحك عليه، ليس بقسوة، لكن بالطريقة التي تضحك بها على كثير من الأشياء، وربما حتى تغيظني، وإغاظتها سوف يشوبها شيء مثل دغدغتها؛ شيء مُلِحٌّ، وفاحش.
نينا وإيرني. في حياتي منذ الآن فصاعدًا.
•••
كانت مكتبة الكلية مكانًا جميلًا عالي السقف، صممه أناس وبَنَوْهُ ومَوَّلُوهُ إيمانًا منهم بأن هؤلاء الذين جلسوا إلى الطاولات الطويلة أمام الكتب المفتوحة — حتى المتسكعين والناعسين والممتعضين والعاجزين عن الفهم منهم — يجب أن تتوفر لهم مساحة أعلاهم، ولوحات من الخشب المصقول الداكن حولَهم، ونوافذ عالية بلوحات من النصائح اللاتينية تنفتح على السماء. لقد استمتعوا بهذا المكان عدة سنوات قبل أن يشرعوا في التدريس أو العمل أو تربية الأطفال، والآن جاء دوري لأستمتع به أيضًا.
«سير جاوين والفارس الأخضر.»
كنت أكتب مقالة جيدة، ربما أحصل على امتياز. سوف أستمر في كتابة المقالات والحصول على الامتيازات؛ لأن هذا ما أستطيع فعله. سوف يستمر الناس الذين يمنحون المنح التعليمية، والذين يشيدون الجامعات والمكتبات في دفع النقود حتى أستطيع أن أفعل ذلك.
لكن ليس هذا هو المهم. هذا لن يحميك من الأذى.
•••
لم تمكث نينا لدى إيرني حتى لأسبوع واحد؛ ففي يوم قريب، يرجع إلى البيت ويجد أنها اختفت، اختفى معطفها وحذاؤها الطويل، وملابسها الجميلة والكيمونو الذي أحضرته إليها، اختفى شعرها العسلي، وعاداتها في المداعبة، والدفء الزائد لجلدها وأنَّاتها وهي تتحرك. كل شيء اختفى دون تفسير، بلا كلمة واحدة على ورقة ما، بلا كلمة واحدة.
ومع ذلك، لم يكن إيرني من النوع الذي يتقوقع وينتحب. قال هذا حين هاتفني ليطلعني على الأخبار ويتفقد جدولي لعشاء الأحد. صعدنا السلم لأولد تشيلسيا، وعلَّق قائلًا إن هذا هو عشاؤنا الأخير قبل إجازات عيد الميلاد. ساعدني على خلع معطفي، وشممت رائحة نينا. هل لا تزال على جلده؟
لا، انكشف المصدر حين ناولني شيئًا ما، شيئًا مثل منديل كبير.
قال: «ضعيه فقط في جيب معطفك.»
ليس منديلًا، كان القماش أكثر سمكًا مع تضليع خفيف، قميص تحتاني.
قال: «لا أريده معي.» ومن صوته تعتقد أنه كان مجرد سروال دخلي لا يريده في البيت، بصرف النظر عن أنه كان لنينا ويحمل رائحة نينا.
طلب اللحم المشوي وقطعه ومضغه كالمعتاد بشهية مهذبة. أبلغته بأخبار بلدتي التي كانت كعادتها في مثل هذا الوقت من العام تملؤها جرافات الثلج والطرق المسدودة والخراب الذي يسببه الشتاء، وهو ما كان يميزنا.
بعد مضي قليل من الوقت قال إيرني: «ذهبت إلى بيته. لم يكن هناك أحد.»
– «بيت من؟»
قال إنه بيت عمها. عرف بيته؛ لأنهما هو ونينا مرَّا أمامه مرة بعد حُلول الظلام. قال إنه لم يَعُدْ فيه أحدٌ الآن، لقد حزما أمتعتهما ورحلا. إنه خيارها في النهاية.
قال: «إنه امتياز خاص للمرأة. كما يقولون، حق المرأة أنْ تُغير رأيها.»
عيناه، الآن وأنا أنظر إليهما، فيهما نظرة جافة جائعة، ويحيطهما السواد والتجاعيد. زَمَّ فمَه ليسيطر على رعشته، ثم واصل بِسِيمَاءِ مَنْ يُحاول أن يرى كل الجوانب؛ من يحاول أن يفهم.
قال: «لم تستطع أن تترك عمها الطاعنَ في السن، لم يطاوعْها قلبُها أن تتخلى عنه. قلت إنه يمكن أن يعيش معنا؛ لأني معتاد على العيش مع كبار السن، لكنها قالت إنها سوف تنفصل قريبًا عنه. لكن أظن أن قلبها لم يطاوعها في النهاية.»
– «من الأفضل ألَّا يتوقعَ المرء الكثير. أعتقد أن بعض الأشياء ليس مقدرًا للإنسان أن يحظى بها.»
حين تجاوزت المعاطف في طريقي إلى الْمِرْحاض، أخرجت القميص من جيبي، حشرته مع الفوط المستعملة.
•••
في ذلك اليوم، عجزت عن مواصلة العمل على مقال السير جاوين في المكتبة. مزقت صفحة من كراستي وأخذت قلمي وغادرت. في المساحة الخارجية أمام أبواب المكتبة كان هناك هاتف عمومي، وإلى جانبه دليل تليفونات معلَّق. تصفحت الدليل وكتبت رقمين على الورقة. لم يكونا رَقْمَيْ هاتفٍ، بل عنوانين.
١٦٤٨ شارع هينفرين.
وكان العنوان الثاني، الذي كنت أريد فقط أن أتأكد من صحته؛ إذ رأيته حديثًا وعلى أظرف بطاقات المعايدة، كان ٣٦٣ كارليسل.
رجعت عبر النفق إلى مبنى الآداب، ودخلت إلى المحل الصغير الذي يواجه غرفة الاستراحة. كان لديَّ ما يكفي من الفكة في جيبي لأشتري ظرفًا وطابعًا بريديًّا. مزقت الجزء الذي يحمل عنوان شارع كارليسل ووضعته في الظرف. أغلقت الظرف، وكتبت فوقه الرقم الآخر الأطول مع اسم السيد بورفيس وعنوان شارع هينفرين. كل هذا بحُروف كبيرة، ثم لعقت الطابع ولصقته. أعتقد أن ثمنه في تلك الأيام كان أربعة سنتات.
كان هناك خارجَ المحل مباشرة صندوقُ بريد. وضعت الظرف فيه، هناك في الممر السفلي الواسع من مبنى الآداب، والناس يمرون بي في طريقهم إلى قاعات الدراسة، وفي طريقهم للتدخين أو لعب البريدج في غرفة الاستراحة. في طريقهم إلى القيام بأفعال لم يعرفوا أنها بداخلهم.