وجه
إني على قناعة بأن أبي لم ينظر إليَّ ويحدق بي ويراني سوى مرة واحدة فقط. بعد هذا، قَبِل بما رآه حقيقة مسلَّمًا بها.
في تلك الأيام، كانوا يمنعون الآباء من الدُّخول إلى وهج خشبة مسرح الولادة، أو إلى الغرفة التي تضم النساء وهن على وشك الولادة يكظمن صرخاتهن أو يتألمن بصوت عالٍ، بل كان الآباء يَرَوْنَ الأمهات بعد أن يصبحن نظيفات وواعيات، يرقدن تحت الغطاء الباهت في الجناح، أو في الغُرَف الخاصة أو نصف الخاصة. كانت لأمي غرفة خاصة، تمامًا مثل وضعها الخاص فيما بعدُ في البلدة؛ ومثلما آلت إليه الأمور في الحقيقة كذلك.
لا أعرف ما إذا كان قبلَ أن يشاهد أبي أمي أَمْ بعدَها، وقف أمام نافذة الحضانة ليراني للمرة الأولى. أميل إلى الاعتقاد أنه كان بعد ذلك، ذاك حين سَمِعَتْ خطواته خارج غرفتها وهو يتجاوز غرفتها، سمعت الغضب في خطواته لكنها لم تعرف ما سببه. في النهاية، لقد أنجبتْ له ولدًا، وهو ما يريده كل الرجال فَرْضًا.
أعرف ما قاله، أو ما قالت لي أنه قاله.
– «يا له من قطعة سميكة من الكبد المفروم!»
ثم، «لا تفكري في إحضاره إلى المنزل.»
كان جانب واحد من وجهي عاديًّا، ولا يزال كذلك. وكان جسدي كله عاديًّا من أصابع قَدَمَيَّ إلى كَتِفَيَّ. وكان طولي واحدًا وعشرين إنشًا، ووزني ثمانية أرطال وخمس أونصات. رضيع ذَكَر متناسق الجسم، أبيض البشرة، رغم الحُمرة التي شابتني بسبب رحلتي العادية التي قطعتها مؤخرًا.
لم تكن وحمتي حمراء بل بَنَفْسَجِيَّة، وكانت داكنة في سنواتي الأولى وسنوات طفولتي؛ إذ بهتتْ إلى حدٍّ ما مع نُموي، لكنها لم تتلاشَ تمامًا؛ إذ ظلت أول شيء تلاحظه فيَّ، مباشرة، أو تشعر بالصدمة حين تراها إذا أقبلت عليَّ من الجانب الأيسر أو النظيف. تبدو كما لو أن شخصًا ما ألقى عليَّ عصير عنب أو دهن وجهي بلطخة كبيرة جدًّا لا تتحول إلى قطرات حتى تصل إلى رقبتي، مع أنها تحيط بأنفي تمامًا بعد أن تغمر إحدى جَفْنَيَّ.
«يبرز بياض تلك العين جميلًا وصافيًا.» كانت تلك واحدة من الجمل الحمقاء — وإن غفرتها — التي كانت تقولها أمي، آملةً في أن أُعجب بنفسي. لكنَّ شيئًا غريبًا قد حدث؛ صدقتها تقريبًا، في ظل الحماية التي كانت تحيطني بها.
بالطبع لم يستطع أبي أن يفعل أي شيء ليمنع جَلْبِي إلى البيت. وبالطبع تسبب جَلْبي ووُجودي في صَدْع شنيع بين أبي وأمي، مع أنه من الصعب عليَّ أن أصدق أنه لم يكن بينهما دائمًا صَدْع من نوعٍ ما، أو عدم تفاهم أو على الأقل خَيْبَة أملٍ فاترة.
كان أبي ابنًا لرجل غير متعلم امتلك مَدْبَغة ثم مصنعًا للقُفَّازات. كان الرخاء يتراجع مع تقدم سنوات القرن العشرين، إلا أن المنزل الكبير ظل ملكًا لهم، وكذلك بَقِيَ الطباخ والبستاني. التحق أبي بالكلية، وانضم إلى أخويةٍ، وعاش ما كان يسمى العصر الذهبي، واشتغل في مجال التأمين حين تدهور حال مصنع القُفَّازات. كان محبوبًا في أنحاء بلدتنا كما كان في الكلية، لاعب جولف بارع، وبَحَّار ممتاز (لم آتِ على ذِكْر أننا عشنا على منحدرات مطلَّة على بُحيرة هورون، في البيت الفيكتوري الذي بناه جَدِّي مواجهًا لغُروب الشمس).
كانت ميزة أبي الأولى الحية البارزة في البيت هي قدرته على أن يكره وينفر. في الحقيقة كان هذان الفعلان يتزامنان معًا في الغالب؛ ففي يومه، كان أبي يكره وينفر من طعام محدد، وطرازات معينة من السيارات وألوان محددة من الموسيقى، وأشكال محددة من آداب الحديث وأشكال معينة من الأزياء، ومسلسلات إذاعية محددة، ثم فيما بعد من الشخصيات التليفزيونية، إلى جانب تشكيلة الأعراق والطبقات التي كان من المعتاد كرهها والنفور منها (وإن لم يكن بالعمق الذي كان يُكِنُّه لها أبي على الأرجح). في الحقيقة لم تكن آراؤه تُجادَلُ خارجَ منزلنا، أو في بلدتنا أو مع رفاق الإبحار أو إخوته في الأخوية القديمة. أعتقد أن حَمِيَّتَه هي التي كانت تُسبب إزعاجًا يمكن أن يصل إلى حد الإعجاب أيضًا.
كان يقال عنه إنه يتحدث بصراحة ومباشرة ولا يجمِّل حديثه.
بالطبع أن يُرزَق بطفلٍ مثلي كان إهانة اضْطُرَّ إلى أن يواجهها كلَّ مرة يفتح فيها باب غرفته. كان يتناول إفطاره وَحْدَهُ، ولم يكن يعود إلى المنزل لتناول وجبة الغذاء، فكانت أمي تتناول هذه الوجبات معي وجزءًا من العشاء، والبقية منه معه. لكن أعتقد أنهما اختلفا حول هذا، فجلست معي خلال وجبتي، لكنها أكلت معه.
من الواضح أني لم أستطع المساهمة في زواجٍ مريح.
لكن كيف الْتَقَيَا؟ لم تلتحق بكليةٍ، اضْطُرَّتْ إلى الاستدانة للالتحاق بمدرسة حيث كان المدرسون يَتَلَقَّوْنَ تدريبًا خلال اليوم الدراسي. كانت تخاف من الإبحار، خرقاء في الجولف، ولو كانت جميلة، كما قال لي بعض الناس (من الصعب أن تحكم على أمك من هذه الناحية) ما كان مظهرُها ليُعجب أبي؛ فقد كان يتحدَّث عن نساء محددات بأنهن مذهلات، أو — فيما بعد في حياته — دُمًى. لم تستخدم أمي ملمِّع شفاه، كانت صدرياتها محتشمة، وكانت تمشط شعرها في تاج محكم من الضفائر يُبرز جبينها الأبيض العريض. لم تكن ملابسها تلتزم بأحدث صيحات الموضة؛ إذ كانت قبيحة ومَلَكية نوعًا؛ كانت من ذلك النوع من النساء الذي تتخيل أنه يرتدي ثوبًا مرصَّعًا باللؤلؤ الصغير مع أني لا أعتقد أنها فعلت هذا قطُّ.
ما أحاول أن أقوله، على ما أعتقد، هو أني كنت على الأرجح ذريعة، أو لِنَقُلْ نعمة؛ إذ أمددتهما بمادة جاهزة للشجار؛ مشكلة عويصة، أرجعتهما إلى اختلافاتهما الطبيعية؛ حيث كانا يشعران براحة أكبر في الحقيقة. خلال كل السنوات التي عشتها في البلدة لم أقابل شخصًا مُطلقًا، ومِنْ ثَمَّ يمكن أن نسلِّم بأنه كان هناك أزواج آخرون يعيشون حياتين منفصلتين في منزل واحد؛ رجال ونساء آخرون قَبِلُوا بواقع أن بينهم اختلافات لا يمكن إصلاحها أبدًا؛ كلمة أو فعلًا لا يمكن غفرانه أبدًا؛ حاجزًا لا يمكن تجاوزه أبدًا.
من الطبيعي في قصةٍ من هذا النوع، أن أبي راح يُدخن ويعاقر الخمر؛ مع أن كل أصدقائه مارسوا هذا أيضًا، أيًّا كانت مواقفهم في الحياة. أُصيب بسكتة دماغية وهو بعدُ في خمسينات عمره، ومات بعد شهور عديدة أمضاها في الفراش. ولم يكن أمرًا مدهشًا أنْ رَعَتْهُ أمي طوال تلك الفترة؛ إذ أبقته ماكثًا في البيت. وفي المقابل، بدلًا من أن يصبح رقيقًا معها مُقدِّرًا ما تفعله من أجله، راح يكيل لها الشتائم القذرة، التي جعلها حظه العاثر مبهمة، ولم تكن أمي لتفهمها، لكنها بدت مُرْضِيَةً تمامًا بالنسبة إليه.
في الجنازة، قالت لي امرأة: «والدتك قديسة.» أتذكَّر شكل هذه المرأة جيدًا جدًّا، مع أني لا أتذكَّر اسمها. شعر أبيض مجعد، وَجْنَتان مزينتان بالحُمرة، ملامح جميلة. كانت الكلمات التي همستها إليَّ شَجِيَّة. كرهتها على الفور. تجهَّم وجهي. كنت في ذلك الوقت في عامي الثاني الجامعي. لم ألتحق أو لم أُدْعَ للالتحاق بأخوية أبي. رافقت أناسًا كانوا يخططون لأن يصبحوا كتَّابًا وممثلين، وكانوا حينَها ظرفاء، مخلصين في إهدار الوقت، نقادًا للمجتمع بوحشية، مُلْحِدين جددًا. لا أحترم الناس الذين يتصرفون مثل القديسين. وللصدق، لم يكن هذا ما كانت تستهدفه أمي، كانت بعيدة بما يكفي عن تلك التصورات الورِعة؛ فلم تطلب مني قطُّ في أيٍّ من زياراتي للمنزل، أن أذهب إلى غرفة والدي لأجرب كلمة تصالح معه، ولم أذهب قطُّ. لم يكن لدينا تصور عن التصالح أو التبرُّك؛ لم تكن أمي حمقاء.
لقد كرَّسَت نفسها لي — لم يستخدم أيٌّ منا هذه الكلمة، لكني أعتقد أنها الكلمة الصحيحة — حتى التاسعة من عمري. علمتني بنفسها، ثم أرسلتْني إلى المدرسة. يبدو هذا وصفة للتسبب في كارثة. صبيُّ أمِّه المدللُ ذو الوجه الأرجوانيِّ، رُمي فجأة وسط الساخرين الهازئين والإهانات القاسية من الهمجيين الصغار. لكني لم أقضِ وقتًا سيئًا، ولا أعرف لماذا حتى يومنا هذا. كنت طويلًا وقويًّا بالنسبة لسِنِّي، وربما نفعني هذا، مع أني أعتقد أن الجو في البيت، ذلك الطقس من المزاج العكر والشراسة والاشمئزاز — حتى ولو من أبٍ لا أراه غالبًا — ربما هو ما جعل أي مكان آخر معقولًا، وشبه مقبول، وإن كان بنحو سلبيٍّ وليس إيجابيًّا. لم تكن المشكلة مع من يبذلون مجهودًا في التعامل معي بلطف. كان لي اسم؛ جَوْز-العنب، إلا أن كل فرد تقريبًا كان له لقبٌ ما ينتقص من شأنه. كان هناك صبي تفوح من قدمه رائحة كريهة مميزة — لم يفلح معها على ما يبدو الاستحمام اليومي — استحق معها لقب «النَّتِن». تأقلمتُ مع الوضع. كتبتُ لأمي رسائل كوميدية، وردَّتْ بالأسلوب نفسه إلى حدٍّ ما؛ إذ اتخذت نبرة لطيفة يشوبها شيء من السخرية الطفيفة عن الأحداث التي تدور في البلدة والكنيسة؛ أتذكَّرها حين وصفت خلافًا حول الطريقة الصحيحة لتقطيع الشطائر من أجل وقت احتساء شاي السيدات؛ بل ونجحتْ حتى في أن تتحدث بحس فكاهيٍّ يخلو من المرارة عن أبي الذي كانت تشير إليه ﺑ «نعمة الرب».
أرى أني قد جعلت من أبي وحش هذه القصة، ومن أمي البطلة المُخلِّصة والحامية، وأعتقد أن هذا حقيقي. لكنهما ليسا الشخصيتين الوحيدتين في قصتي، ولم يكن المنزل هو البيئة الوحيدة التي عرفتها — فأنا هنا أتحدَّث عن الفترة التي سبقت التحاقي بالمدرسة — فما أصبحت أرى أنه الدراما العظيمة في حياتي حدث فعليًّا خارج المنزل.
دراما عظيمة. يحرجني أني كتبت هذا. أتساءل ما إذا كان التعبير يعطي انطباعًا بالسخرية المبتذلة أو السخافة. لكني فكرت بعد ذلك، أليس من الطبيعي تمامًا أن أرى حياتي هكذا، وأتحدث عنها هكذا، ننظر بعين الاعتبار إلى الكيفية التي أكسب بها دخلي؟
أصبحت ممثلًا، أيدهشك هذا؟ كنت أصاحب في الجامعة مجموعة تمارس نشاطًا مسرحيًّا بالطبع، وأخرجْتُ في عامي الأخير مسرحية، وابتكرت مادة للضحك عن الكيفية التي سأتدبر بها لعب دورٍ على خشبة المسرح بإبقاء الجانب غير المشوَّه من وجهي موجهًا إلى الجمهور أن أسير إلى الخلف عبر خشبة المسرح عند الضرورة، لكن لم تكن هذه المناورات الجذرية ضرورية.
في ذلك الوقت، كانت الإذاعة الوطنية تذيع مسلسلات درامية بانتظام؛ فكان هناك برنامج يتميز بالجهد الواضح المبذول فيه يذاع في أمسيات الآحاد؛ وهناك المسلسلات المقتبسة عن أعمال أدبية. مسرحيات شكسبير وإبسن. كان صوتي طيِّعًا طبيعيًّا، ومع قليل من التدريب تحسَّن. حصلت على وظيفة في الإذاعة الوطنية، أدوار صغيرة في البداية، لكن مع مجيء التليفزيون وتراجُع نِسَب الاستماع إلى الإذاعة، كنت أخرج على الهواء كلَّ أُسبوع تقريبًا، وأصبح اسمي معروفًا لجمهور مخلص وإن لم يكن ضخمًا. وصلتنا خطابات تعترض على اللغة السيئة أو على ذكر زنا المحارم (فقد أخرجنا بعض المسرحيات اليونانية كذلك). لكن إجمالًا، لم ينهمر عليَّ من التوبيخ بالقدر الذي تخوفت أمي منه، حين كانت تجلس على كرسيِّها إلى جوار الراديو، في إخلاصٍ وقلقٍ مساء كل أحد.
ثم جاء دور التليفزيون، وقد انتهى عهد التمثيل — بالنسبة إليَّ بالتأكيد. لكن صوتي حفظ لي مكانًا جيدًا، واستطعت أن أحصل على وظيفة مذيع، في وينيبيج أولًا، وفي تورنتو مرة أخرى ثانية. وعملت مذيعًا لآخر عشرين عامًا من حياتي المهنية في برنامج موسيقي يبث مختارات موسيقية، يذاع أيام الأسبوع بعد الظهيرة. لم أكن أنا من يختار الموسيقى — كما كان الناس يعتقدون في أغلب الأحيان — فمشاعري التقديرية للموسيقى محدودة. لكنني صنعت من نفسي شخصية إذاعية محبوبة، وغريبة الأطوار قليلًا وراسخة. تلقَّى البرنامج العديد من الخطابات. وردت علينا الخطابات من دور المسنين ودور المكفوفين، ومن أشخاص يقودون سياراتهم لمسافات طويلة أو يقومون بأعمال رتيبة، ومن رَبَّات بُيوت يَمْكُثْنَ في المنزل وَحْدَهُنَّ في منتصف النهار مع العجن والكيِّ، ومن مزارعين في جرارات يحرثون أو يُجَرِّفون فدادين ممتدة، من جميع أرجاء البلد.
تدفق الثناء عليَّ حين تقاعدت أخيرًا، كتب الناس لي يقولون إنهم في شدة الحزن، وإنهم يشعرون كما لو أنهم فقدوا صديقًا حميمًا أو فردًا من العائلة. ما كانوا يقصدونه هو أني كنت أملأ وقتًا محددًا من يومهم على مدار خمسة أيام في الأسبوع. كنت أملأ وقتهم بشيء يُعتَمَد عليه ومحبب إلى أنفسهم، لم يُضْطَرُّوا إلى قضاء وقتهم بلا هدف؛ ولهذا هم يشعرون بامتنانٍ محرج لهم. وللمفاجأة، كنت أشاركهم هذه المشاعر الجياشة. كان عليَّ أن أنتبه إلى صوتي لِئَلَّا يرتجف بينما أقرأ بعضًا من خطاباتهم على الهواء.
ومع ذلك، تلاشت ذكرى البرنامج وذكراي سريعًا، أُبرمت تعاقدات جديدة، انقطعت تمامًا؛ إذ رفضتُ أن أترأس مزادات الحفلات الخيرية أو أن أُلْقِيَ خُطبًا مفعمةً بالحنين. ماتت أمي بعد أن عاشت عمرًا مديدًا، لكني لم أَبِعِ المنزل، أَجَّرْتُهُ فقط؛ ثم جهزته كي أبيعَه، وأخطرت المستأجرين. نويت الإقامة فيه خلال الوقت الذي كان يستغرقُه تجهيزُه؛ خاصةً الحديقة.
لم أكن وحيدًا في تلك السنوات، فبعيدًا عن جمهوري كان لي أصدقاء. وكانت لديَّ نساء أيضًا. تتخصص، بالطبع، بعض النساء في هؤلاء الرجال الذين يحسبونهن في حاجة إلى رفع معنويات، يتلهَّفن إلى دعمك إظهارًا لسخائهن. كنت محتاطًا منهن. كانت المرأة الأقرب إليَّ في تلك السنوات تعمل موظفة استقبال في محطة القطار؛ كانت شخصية حساسة ولطيفة، وأمًّا وحيدة لأربعة أطفال. كان هناك شعور بيننا بأننا سنعيش معًا ما إن يتولى أصغر أطفالها مسئولية نفسه، لكن الصغرى كانت ابنة، تمكنت من إنجاب طفل بدون أن تفكر في مغادرة البيت قطُّ، وبنحو ما تضاءل أملُنا وتراجعت علاقتنا الغرامية، حافظنا على التواصل بيننا عن طريق الرسائل الإلكترونية بعد أن تقاعدْتُ وعدْتُ إلى الإقامة في منزلي القديم. دعوتُها للمجيء لزيارتي؛ فما لبثتْ أن فاجأتْني بخبر أنها ستتزوَّج وتنتقل للعيش في أيرلندا، ولفرطِ ذُهولي وانحسار مشاعرها نحوي لم أستطع أن أسألها ما إذا كان البنت والرضيع سوف يذهبان معها أم لا.
•••
إن الحديقة في حالة متردية، لكني أشعر براحة أكبر هناك أكثر مما أشعر في المنزل، الذي يبدو كما هو من الخارج لكنه تبدَّل جذريًّا من الداخل؛ فقد حولت أمي غرفةَ المعيشة الخلفية إلى غرفة نوم، وغرفةَ الخزين إلى حمَّام كامل، وفيما بعد خُفض ارتفاع الأسقف، ورُكِّبَت أبواب رخيصة، ولُصِقَ ورق حائط بأشكال هندسية صارخة الألوان؛ إكرامًا للمستأجرين. لم تَجْرِ على الحديقة هذه التغييرات؛ أهملتها إهمالًا تامًّا. لا تزال النباتات المعمرة القديمة تشق طريقها بين الأعشاب الضارَّة؛ وتحد الأوراق الجافَّة الأكبر التي يفوق حجم كل منها الْمِظَلَّة حوض نبات الرواند المعمر من ستين أو سبعين عامًا، ولا يزال هناك نصف دستة من أشجار التفاح، التي تحمل بعض الثمرات المدودة المتنوعة التي لا أتذكَّر اسمها. تبدو البُقع التي طهرتها ضئيلة، لكن أكوام الأعشاب الضارَّة والأغصان المقطوعة التي جمعتها تكاد تبلغ الجبال طولًا. يجب نقلها، علاوة على ذلك على نفقتي الخاصة، فالبلدة لم تَعُدْ تسمح باضْطِرام النار في الهواء.
اعتاد بستانيٌّ أن يرعَى كل هذا، كان اسمه بيت. لا أتذكَّر اسم عائلته. كان يسحب ساقًا وراءه، ويُميل رأسه دائمًا إلى جانب واحدٍ. لا أعرف إذا كان تعرض لحادث أمْ أصابتْه جلطة دماغية. كان يعمل ببطء لكن بجِدِّيَّة، وكان مُعْتَلَّ الْمِزاج دائمًا. كانت أمي تتحدث إليه بصوت ناعم يحمل احترامًا، لكنها اقترحت عليه تغييرات محددة في أحواض الزهر لم يَرَهَا جديرة كثيرًا، لكنها حصلت على ما أرادت. كان يكرهني لأني كنت أركب عجلتي الثلاثية باستمرار في أماكنَ لا يجب أن أسير عليها، وأصنع مخابئَ تحت أشجار التفاح؛ ولأنه عرف على الأرجح أني كنت أسميه «بيت» الجبان، هَمْسًا. ولا أعرف من أين حصلت على هذا النعت، هل كان من إحدى قصص الرسوم الهزلية؟
خطر على بالي توًّا سبب آخر لكراهيته العدائية، ومن الغريب أني لم أفكر في هذا من قبل؛ فكلانا معتلٌّ؛ ضحيتان واضحتان لبَلِيَّة جسدية. قد تعتقد أن مثل هؤلاء الناس يتضامنون معًا، لكن الواقع أنهم لا يفعلون ذلك في الغالب، ربما يذَكِّر الواحد منهم الآخر بشيء ينساه من فوره.
لكني لست متأكدًا من هذا. لقد هيأت أمي الأمور بحيث أبدو معظم الوقت غير مدركٍ إطلاقًا لحالتي، ادعت أنها تعلمني في المنزل بسبب مرض في شعبي الهوائية، وضرورة أن تحميني من هجمات الجراثيم التي تحدث خلال العامين الأولين من المدرسة. لا أعرف إذا كان صدقها أحد أم لا. وأما عدوانية أبي، فكانت تكتنف منزلنا بأكمله حتى إني لا أعتقد حقًّا أني شعرت بأني وَحْدِي المقصود منها.
يجب أن أقول — وإن كنت أكرر نفسي — إني أعتقد أن أمي كانت مُحِقَّة فيما فعلتْه. كان يمكن أن أقع أسيرًا للتركيز على عيب واحد بارز فيَّ، والنخز والتحزب في سن مبكرة، وما كان لي من ملتجأ. إن الأمور مختلفة الآن، والخطر على طفل مُبتَلًى مثلي كان يمكن أن يكون من النوع الانفعالي، المضطرب، المحفوف بشفقة استعراضية، وليس من النوع الاستهزائي والانعزالي، أو هكذا يبدو لي. لقد استقَت الحياة في تلك السنوات كثيرًا من حيويتها ومكرها وفلكلورها، وربما تكون أمي قد علمتْ ذلك، من الشر الخالص.
كان هناك على الأرض التي نملكها، حتى عَقْدين ماضيين — وربما أكثر — مبنًى آخر. عرفته على أنه حظيرة صغيرة أو سقيفة خشبية ضخمة، يُخزن فيها بيت البستانيُّ أدواته، أو نضع بها أشياءَ مختلفة غير مستخدمة حتى نقرر ماذا نفعل بها. هُدمت بعد أن حل محل بيتر زوجان شابان مفعمان بالحيوية، أحضرا عُدَّتهما العصرية في شاحنتهما. لاحقًا، بعد أن عملا في زراعة المحاصيل التي يحتاجها السوق، لم يَعُدْ لديهما الوقت الكافي، لكنهما استطاعا أن يمدانا بأطفالهما المراهقين لجز العشب، وكانت أمي قد فقدت الاهتمام بفعل أي شيء آخر.
قالت: «أنا لم أَعُدْ أهتم، من المدهش كم هو سهل ألَّا تهتمَّ بالأشياء.»
رجوعًا إلى المبنى — كم أَلُفُّ وأَدُور حول هذا الموضوع — في وقت ما، قبل أن يصبح المكان سقيفة للتخزين، كان يسكنه أُناس. سكنه الزوجان بيل؛ حيث كانت الزوجة تعمل طباخة ومدبرة منزل، والزوج يعمل بستانيًّا وسائقًا لجدِّي. كان جدي يملك سيارة باكارد لم يتعلم قيادتها قطُّ. كان عصر كل من الزوجين والباكارد قد زال مع مولدي، إلا أن المكان ظل يُشار إليه على أنه كوخ الزوجين بيل.
ولسنوات قليلة من طفولتي، استأجرت امرأةٌ كانت تُدعى شارون ساتلز كوخ الزوجين بيل. عاشت فيه مع ابنتها نانسي. جاءت ساتلز إلى البلدة مع زوجها — وكان طبيبًا — في بداية مزاولته المهنة، وفي غضون عام أو نحو ذلك، مات جَرَّاء إصابته بتسمم في الدم. ظلت في البلدة مع ابنتها؛ إذ لم يكن معها مال، ولم يكن لها أهل — كما كان يقال. لا بد أن المقصود من هذا أنه ليس لديها أهل يمكن أن يساعدوها أو يعرضوا عليها أن يحتضنوها. وفي وقت ما، حَصُلَت على وظيفة في مكتب التأمين الذي يملكه أبي، وجاءت لتعيش في كوخ الزوجين بيل. لست متأكدًا من الوقت الذي حدث فيه كل هذا. ليس لديَّ ذكريات عن انتقالهما للسكن في الكوخ أو عن خلوه منهما. دُهن الكوخ حينَذاك بلون وردي مُغْبَرٍّ، ولطالما اعتقدت أن هذا من اختيار السيدة ساتلز، كما لو أنها لم تستطع السكن في بيت بلون آخر.
أسميتها السيدة ساتلز طبعًا، لكني كنت أعلم اسمها الأول؛ حيث إني نادرًا ما أُدرك أي اسم امرأة راشدة أخرى. لم يكن اسم شارون اسمًا عاديًّا في تلك الأيام. وله صلة بترنيمة عرفتُها من مدرسة الأحد، التي سمحت أمي لي بحضورها لأن بها مراقبة ولا تضم فترة استراحة. كنا نرتل ترانيم كانت كلماتها تُعْرَض على شاشة، وأعتقد أن كلًّا منا قبل أن يتعلم حتى القراءة كوَّن فكرة عن الشعر من شكله أمامنا:
لا أعتقد أنه كانت هناك وردة فعلًا في زاوية الشاشة لكني رأيت واحدة، رأيت زهرة وردية شاحبة، تحولت هالتها إلى اسم شارون.
لا أقصد أن أقول إني كنت واقعًا في غرام شارون ساتلز، كنت مغرمًا — منذ كنت بالكاد أخطو خطواتي الانتقالية الأولى من مرحلة الرضاعة إلى مرحلة الطفولة — بفتاة شابَّة غلامية اسمها بيسي أخذتني في نزهة قصيرة في عربة الأطفال الخاصة بي، وراحت تؤرجحني بقوة على أرجوحات الحديقة، وصلت إلى القمة تقريبًا. وفي وقت لاحق، وقعت في غرام صديقة من صديقات أمي، كان لمعطفها ياقة مخملية وكان لها صوت بَدَا لسببٍ ما مرتبطًا بهذه الياقة. لكن شارون ساتلز لا تصلح للحب بهذه الطريقة؛ إذ لم تكن صاحبة صوت مخملي ولم تبالِ بأن أقضيَ وقتًا ممتعًا معها. كانت أطول وأرفع من أن تكون أمًّا لأي أحد؛ لم تتمتع بأية منحنيات. كان شعرها بُنِّيًّا فاتحًا بأطراف ذهبية، وفي وقت الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال تقصه قصيرًا. كان أحمر الشفاه الذي تضعه لامعًا وكثيفًا مثل شفاه نجمات الأفلام اللواتي كنتُ أَرَاهُنَّ على ملصقات الإعلانات وفي أرجاء المنزل، كانت عادةً ما ترتدي الكيمونو — حسبما أعتقد كان منقوشًا بطُيور شاحبة، ربما كانت طيور اللقلاق. ذكرتني سيقانها بساقَيْ ساتلز. كانت تقضي جزءًا كبيرًا من وقتها مستلقيةً على الأريكة، تدخن، وفي بعض الأحيان — لكي تسلينا أو تسلي نفسها — ترفس ساقيها عاليًا، ساقًا بعد الأخرى، لتطيِّر خُفَّها الريشي، وحينما لم تكن غاضبة منا، يكون صوتها أَجَشَّ وساخطًا؛ ليس عدائيًّا، لكنه لا يحمل نبرة الحكمة أو الرِّقَّة أو التوبيخ العميقة، وإيحاء الحزن الذي أتوقعه في صوت أم.
كانت تُطلق علينا غَبِيَّيْنِ مغفلين.
«اخرجا من هنا واتركاني أرتاح في سلام، أيها الغبيين المغفلين.»
تكون فعليًّا مستلقية على الأريكة ومِنْفَضَة السجائر على بطنها، بينما ندفع سيارات نانسي الصغيرة بسرعة عبر أرض الغرفة. أي قدر من السلام كانت تريد؟
كانت تأكل هي ونانسي طعامًا غريبًا في أوقات غير منتظمة، وحين كانت تذهب إلى المطبخ لكي تعد لنفسها وجبة سريعة، لم تكن تعود قطُّ بكاكاو أو بسكويت جراهام لنا. من ناحية أخرى، لم تمنع قطُّ نانسي من أن تغرف حساء الخَضراوات — التي كانت دائمًا سميكة مثل البودنج — من عُلبته، أو أن تأخذ قطع كريسبي بملء يدها من العُلبة مباشرة.
هل كانت شارون ساتل عشيقة أبي؟ هل كانت وظيفتها تلبي احتياجاتها، وهل كانت تدفع قيمة إيجار الكوخ الوردي، أم أَجَّرَتْهُ بالمجَّان؟
كانت أمي تتحدَّث عنها بطيبة، ولم تكن تزهد في ذكر المأساة التي حلت بها، بموت زوجها الشاب. أيًّا كانت الخادمة التي تعمل لدينا في ذلك الوقت، فقد اعتادت أن ترسلها إلى هناك بهدايا من التوت والبطاطا الجديدة أو البازلاء الطازجة من حديقتنا. أتذكَّر البسلة خاصة. أتذكَّر شارون ساتلز — ما زالت مستلقيةً على الأريكة — تقلب البازلاء في الهواء بسَبَّابتها وتقول: «ماذا يُفتَرَض بي أن أفعل بهذه؟»
فقلت مساعدًا إياها: «تطهينها فوق الموقد مع المياه.»
– «فعلًا؟»
بالنسبة إلى أبي، لم أَرَهُ قطُّ معها. كان يذهب إلى عمله متأخرًا قليلًا، وينتهي منه مبكرًا؛ ليمارس نشاطاته الرياضية المتعددة. في بعض العطلات الأسبوعية؛ كانت شارون تستقل القطار إلى تورونتو، لكنها كانت تصطحب نانسي دائمًا معها، وتعود نانسي بجَعْبَة مليئة بالمغامرات التي خاضتها، والعروض التي شاهدتها، مثل موكب بابا نويل.
ومرت أوقات بالتأكيد حين لم تكن أم نانسي في البيت، ولا ترتدي الكيمونو ومستلقية على الأريكة، ومن المفترض أنها أيضًا — خلال تلك الأوقات — لم تكن تدخن أو تسترخي، بل تؤدي عملها اليومي في مكتب أبي، ذلك المكان الأسطوري الذي لم أَرَهُ قطُّ، ولم يكن مرَحَّبًا بي هناك بالتأكيد.
في مثل تلك الأوقات، حين تكون والدة نانسي في العمل، وتُضطر نانسي إلى أن تظل في المنزل، كان هناك امرأة عصبية تُدعى السيدة كُودْ تجالس نانسي؛ حيث تستمع إلى المسلسلات الإذاعية، وكانت على استعداد لمطاردتنا إلى خارج المطبخ؛ حيث كانت هي نفسها تأكل أي شيء يقع في متناول يدها. لم يخطر ببالي قطُّ أن أمي من الممكن أن تَعرض تولي رعاية نانسي — بما أننا نقضي كامل وَقْتَيْنَا معًا — أو أن تطلب من الخادمة أن تفعل هذا، لتوفر أجرة السيدة كُودْ.
يبدو لي الآن أننا فعليًّا كنا نلعب معًا طوال ساعات يقظتنا. وكان ذلك منذ كنت في سن الخامسة حتى الثامنة والنصف من عمري، وكانت نانسي تصغرني بنصف عام. كنا نلعب في الخارج أغلب الأحيان؛ لا بد أنها كانت أيامًا مطيرة، بسبب ذكرياتي عنا في كوخ نانسي حيث كنا نزعج والدة نانسي. كان علينا أن نبتعد عن حديقة الخضَر، وأن نحاول ألَّا ندهس الزهور، لكننا كنا دائمًا ما نلهو عند أحواض التوت وتحت أشجار التفاح، وفي المنطقة البَرِّيَّة المهملة تمامًا وراء الكوخ، حيث بنينا مخابئنا وملاجئنا التي تحمينا من الغارات الجوية الألمانية.
كان هناك قاعدة تدريب عسكرية شمال بلدتنا، وكانت هناك طائرات حقيقية تحلِّق فوقنا باستمرار. تحطمت طائرة ذات مرة، لكن لإحباطنا، وقعت الطائرة — التي فقدت السيطرة — في البحيرة. وبسبب كل هذه الإشارات إلى الحرب، استطعنا أن نجعل من بيت عدوًّا محليًّا، بل نازيًّا، ومن آلة جَزِّ العشب دَبَّابة. كنا نقذفه أحيانًا بثمرات التفاح من شجرة التفاح الفاسدة التي تحمي معسكرنا. اشتكى ذات مرة لأمي وكلَّفنا هذا رحلة إلى الشاطئ.
كانت تأخذ نانسي في رحلات إلى الشاطئ. ليس إلى ذلك الشاطئ القريب الواقع أسفل المنحدر الذي يقوم عليه منزلنا مباشرةً، ويتميز بأنبوب الانزلاق المقام عليه، بل إلى شاطئ أصغر عليك أن تركب للوصول إليه، ليس به سباحون مشاغبون. في الحقيقة، علَّمت كلينا السباحة. كانت نانسي أكثر إقدامًا واندفاعًا مني، الأمر الذي أزعجني؛ لهذا سحبتها ذات مرة تحت موجة قادمة وجلست على رأسها. رفست وحبست أنفاسها وحاربت لتتحرر مني.
وقتها عنفتني أمي قائلةً: «نانسي فتاة صغيرة، إنها فتاة صغيرة يجب عليك أن تعاملها كأختك الصغرى.»
وهذا ما كنت أفعله بالضبط. لم أكن أراها أضعف مني. نعم هي أصغر مني حجمًا، لكن كان هذا ميزة لها في بعض الأحيان، فحين كانت تتسلق الأشجار، كانت تتمكن من أن تتأرجح مثل قرد على فُروعها التي لم تكن لتتحملني. وفي أحد شجاراتنا — لا أستطيع أن أتذكَّر أيًّا من أسباب شجاراتنا — عضَّتْ ذراعي التي كنت أقيدها بها، ولم تُخرج منه أسنانها إلا بالدم. فُصلنا عن بعضنا بعد ذلك الشجار أُسبوعًا بالكامل كما كان مفترضًا، لكن حَمْلَقَتنا من وراء الشبابيك سرعان ما تحولت إلى تَوْق وتَوَسُّل، فرُفع عنا الحظر.
كان مسموحًا لنا باللعب في كل أنحاء أرضنا في فصل الشتاء، فكنا نبني قلاعًا من الجليد مدعومة بِعِصِيِّ التدفئة الخشبية، ومجهزة بترسانة من الكُرَات الثلجية لرميها على أي شخص يقترب منها. قليلون هم من اقتربوا؛ فقد كان شارعًا مسدودًا. وهكذا كنا نُضْطَرُّ إلى بناء رجل جليد، حتى نجد من نضربه بكُرات الثلج.
إذا حبستنا عاصفة كبرى، في منزلي، تُشرف أمي على تحركاتنا، فكنا نُضْطَرُّ إلى أن نظل هادئين إذا كان أبي في المنزل راقدًا بسبب صداع أَلَمَّ به، فتقرأ لنا قصصًا. أتذكَّر أنها كانت تروي لنا «أليس في بلاد العجائب». كنا ننزعج حين تشرب أليس الجرعة التي تجعلها تنمو جدًّا فتعلق في جُحْر الأرنب.
لعلك تتساءل عن الألعاب الجنسية. نعم، لعبناها أيضًا. أتذكَّر اختباءنا، في يوم قائظ، داخل خيمة نُصبت — ولا أدري سبب وجودها في ذلك المكان — خلف الكوخ. تسللنا إليها بهدف أن يكتشف أحدنا الآخر. كان قماش الخيمة يفوح برائحة مثيرة للغرائز لكنها رائحة صبيانية، مثل الملابس الداخلية التي خلعناها. أثارتنا دغدغات أحدنا الآخر في أماكن مختلفة، لكنها سرعان ما أشعرتنا بالسخط، وراح العرق يتصبب منا، وشعرنا بالانزعاج والخزي. حين خرجنا من هناك، شعرنا أننا أكثر تباعدًا من المعتاد، وأن كلًّا منا متحفِّظ تحفُّظًا غريبًا من الآخر. لا أذكر إذا كان الأمر نفسه تكرر بنفس النتيجة أم لا، لكني لن أندهش إذا كان حدث.
لا أستطيع تذكُّر وجه نانسي بالوضوح الذي أتذكَّر به وجه أمها. أعتقد أن لوني بشرتها وشعرها كانا مماثلين للون بشرة أمها وشعرها، أو كان كذلك آنذاك؛ وشعر أشقر يتحول إلى البني طبيعيٌّ، لكنه يبهت بسبب الوقت الكثير الذي تقضيه تحت أشعة الشمس. وكان جلدها ورديًّا جدًّا، بل مُحْمَرًّا. نعم، أرى وَجْنَتَيْهَا حَمْراوين، كما لو أنهما لُوِّنَا بقلمِ تلوين أحمر؛ وكان ذلك أيضًا بسبب الوقت الهائل الذي نقضيه في الخارج صيفًا كذلك، وبسبب تلك الطاقة الساحقة.
لا أحتاج إلى ذكر أن كل الغرف في منزلي كانت ممنوعة علينا باستثناء التي خُصِّصت لنا. لم نحلم أن نذهب إلى الطابق العُلْوي أو إلى القبو أو إلى غرفة المعيشة الأمامية أو إلى غرفة الطعام. لكن كان كل شيء مسموحًا به في الكوخ، باستثناء المكان الذي كانت تحاول والدة نانسي أن تحصل فيه على بعض السلام أو حيث كانت تلتصق السيدة كُودْ بالراديو. كان القبو مكانًا مناسبًا حينما نشعر بالإرهاق من الحرارة في أوقات بعد الظهيرة. لم يكن هناك درابزين عند حافَة الدرَج، فكنا نستطيع أن نؤدِّيَ قفزاتٍ تتزايد جُرأة مع الوقت على الأرض القاسية القذرة. وحين نملُّ هذا كنا نعتلي سريرًا نقَّالًا ونقفز فوقه علوًّا وهبوطًا، بينما نجلد حصانًا خياليًّا. حاولنا ذات مرة تدخين سيجارة سرقناها من عُلبة سجائر والدة نانسي (لم نجرؤ على أخذ أكثر من واحدة). وقد تعاملت نانسي مع السيجارة بنحو أفضل؛ إذ مارست التدخين أفضل مني.
كانت هناك خزانة خشبية قديمة في القبو، يعلوها بعض عُلب صفيح من دهان جافٍّ تقريبًا وعُلب ورنيش وتشكيلة من فُرَش الطلاء المتيبسة، وعِصِيِّ تقليب، وألواح خشبية مُجرب عليها ألوان أو مُسحت فيها الفُرَش لتنظيفها. بعض العُلب كانت لا تزال مغلقة، لكنا فتحناها ببعض الصعوبة فاكتشفنا دهانًا يمكن تقليبه حتى يبلغ قوامه درجة فعالة من الكثافة، ثم قضينا الوقت نحاول تليين الفرشاة بغمسها في الدهان ثم ضربها على ألواح خزانة الملابس الخشبية، لم نحصل على نتيجة رائعة بعد أن لوثنا المكان. ومع ذلك، اكتشفنا أن واحدة من عُلب الصفيح بها زيت تربينتين، الذي يعطي نتيجة أفضل. بدأنا حينها ندهن بشعر الفرشاة التي أصبحت صالحة للاستعمال. كنت أستطيع القراءة والتهجي إلى حد ما، بفضل أمي؛ وكذلك نانسي أيضًا؛ لأنها أنهت السنة الدراسية الثانية.
قلت لنانسي: «لا تنظري حتى أَنْتَهِيَ.» ودفعتها بعيدًا قليلًا. فكرت في شيء أرسمه، لكنها على كل حالٍ كانت مشغولةً، تغمس فرشاتها في عُلبة دهان أحمر.
كتبت: كان هنا نازي.
قلت: «انظري الآن.»
كانت قد أدارت ظهرها لي، لكنها كانت تدهن نفسها بالفرشاة.
قالت: «أنا مشغولة.»
حين أدارت وجهها لي كان ملطخًا كله بالطلاء الأحمر.
قالت: «الآن أنا أشبهك»؛ إذ دهنت وجهها بالفرشاة حتى رقبتها. «الآن أنا أشبهك.» كانت متحمسة، واعتقدْتُ أنها تسخر مني، لكن صوتها كان متخمًا بالرضا، كما لو أن هذا ما كانت تهدف إليه كل حياتها.
الآن لا بد أن أحاول شرح ما حدث في الدقائق التالية.
أولًا، كان رأيي أنها تبدو بشعة.
لم أكن أعتقد أن أي جزء من وجهي أحمر، وفي الحقيقة لم يكن؛ فالنصف الذي كان ملونًا كان بلون وحمة التوت المعتاد، التي كما قلت بهتت إلى حد ما مع تقدُّمي في العمر.
لكن ليس هذا ما كنت أراه في عقلي. كنت أعتقد أن وحمتي ذات لون بُنِّيٍّ ناعم، مثل فروة فأر. لم ترتكب أمي أي شيء أحمق أو درامي من قَبِيل منع المرايا من المنزل، لكن المرايا يُمكن أن تُعَلَّق على مستوًى أعلى من طول طفل صغير، فلا يمكنه أن يرى نفسه فيها. كان هذا هو الحال مع مرآة الحمام على وجه التحديد. كانت المرآة الوحيدة التي كنت أرى فيها انعكاس صورتي بسهولة معلقةً في البهو الأمامي، والتي كانت معتمة أثناء النهار ومضاءةً بإضاءة خافتة في الليل. لا بد أن تصوري عن أن نصف وجهي كان ذا لون خفيف باهت — أشبه بظلٍّ بلون الفراء — قد جاء من انعكاس صورتي في هذه المرآة؟
كان هذا هو التصور الذي اعتدْتُه، وهذا ما جعل طلاء نانسي لوجهها إهانةً كبيرةً، ومزحة خبيثة. دفعتها إلى الخزانة بكل ما تمكنت من قسوة وهربت منها، إلى الأعلى. أعتقد أني كنت أجري لأجد مرآة، أو حتى أجد شخصًا يمكن أن يخبرني أنها كانت مخطئة. وما إن يثبت هذا، حتى أستطيع أن أغرز أسناني فيها بكراهية خالصة. أعاقبها. لم يكن لديَّ الوقت حينها لأعرف كيف.
ركضت عبر الكوخ — لم تكن أم نانسي في أي مكان بحثت فيه، رغم أنه كان يوم السبت — وصفَقت الباب الخارجي. ركضت على الممشى المعَبَّد بالحصَى، ثم على الممر المبلَّط بين صَفَّيْ نبات سيف الغراب المزدهر. رأيت أمي تنهض عن كرسيِّها الخُوص حيث اعتادت الجلوس لتقرأ، في شرفتنا الخلفية.
«لست أحمر الوجه»؛ صِحْتُ وأنا أزدرد دُموع الغضب. «لست أحمر الوجه.» هبطت أمي درجات السلم بوجه مصدوم لم يفهم بعد، ثم اندفعت نانسي من الكوخ خلفي مندهشة تمامًا، بوجهها المزخرف.
فهمت أمي.
صرخت في وجه نانسي بصوت لم أسمعه من قبل، صوتٍ مرتفع، وحشي ومرتعش: «أيتها المجرمة الصغيرة البغيضة.»
«لا تقتربي منا، إياك، أنت فتاة سيئة جدًّا جدًّا، ليس في داخلك ذرة شفقة إنسانية؟ لم يعَلِّمْكِ أحدٌ قطُّ أن …»
خرجت والدة نانسي من الكوخ، وكان شعرها مبتلًّا منسابًا فوق عينيها، وكانت تحمل فوطة.
قالت والدة نانسي: «بحق الإله، ألا أستطيع غسل شعري في هذا المكان …»
صرخت أمي فيها أيضًا: «إياك أن تستخدمي هذه اللهجة أمام ابني وأمامي …»
ردت والدة نانسي من فورها: «يا للهراء! هل عليَّ أنا أقف صامتة وأنا أسمعك تصيحين وتصرخين؟!»
أخذتْ أمي نفسًا عميقًا، وقاطعتها قائلة:
«أنا … لا … أصرخ، كل ما أريد هو أن أقول لابنتك المجرمة إن وجودها لم يَعُدْ مُرَحَّبًا به في منزلنا. إنها طفلة قاسية حاقدة حتى تسخر من ابني في أمر لا حيلة له فيه. أنتِ لم تُعَلِّميها أي شيء؛ أنت لم تعَلِّميها أي سُلوك مهذَّب؛ إنها لم تعرف كيف تشكرني حين اصطحبتها معنا إلى الشاطئ، لم تعرف كيف تقول من فضلك أو شكرًا؛ ولا عجب في ذلك، إذا كانت تعيش مع أم مثلك تتبختر في إزارها.»
تدفق كل هذا من أمي كما لو كان بداخلها سيلٌ من الغضب والألم والسخافات لن يتوقف أبدًا. حتى وأنا أجذبها من ثوبها متوسلًا: «كفى، كفى.»
ثم زاد الأمر سوءًا مع ترقرق عينيها بالدموع وابتلاعها الكلمات واختناقها وارتجافها.
أزاحت والدة نانسي شعرها المبلل عن عينيها، ووقفت تراقب.
ثم قالت: «سأقول لكِ شيئًا واحدًا: استمري في هذا وسوف يأخذونك إلى مزبلة المجانين. ماذا أفعل إذا كان لديك زوج يكرهك وابنٌ بوجه مشوَّه؟!»
أمسكت أمي برأسها بين يديها وراحت تصيح متأوهةً كأن الآلام تلتهمها. كانت فيلما — المرأة التي كانت تعمل لدينا في المنزل في ذلك الوقت — قد خرجت إلى الشرفة؛ قالت: «سيدتي، تعالَيْ، سيدتي» ثم إذا بها ترفع صوتها وتصيح في والدة نانسي.
«اذهبي، اذهبي إلى منزلك، اذهبي من هنا.»
– «حسنًا سأذهب، لا تقلقي. ولكن، من تظنين نفسك لكي تقولي لي ماذا أفعل! وكيف تَرَيْنَ العمل عند ساحرة عجوز لديها خفافيش في برج منزلها؟» ثم تحولتْ إلى نانسي.
– «كيف أنظفُكِ بحق السماء؟»
ثم عادت ترفع صوتها مرة أخرى لكي تتأكد من أني أسمعها، وقالت:
– «إنه مقزز، انظري كيف يتعلق بسيدته العجوز. لن تلعبي أبدًا مع هذا الصبي مرة أخرى. رضيع السيدة العجوز.»
رُحنا نحاول أنا وفيلما تهدئة أمي وإعادتها إلى داخل المنزل. كانت قد توقفت عن الضجيج الذي كانت تُحْدِثه؛ واستوتْ في وقفتها، وراحت تتحدث بصوتٍ مصطنع البهجة يمكن أن يبلغ الكوخ:
«أحضري لي الْمِجَزَّة يا فيلما من فضلك! يمكنني أن أقلِّم الزنابق أثناء وجودي هنا؛ فقد ذَبُل بعضها تمامًا.»
لكن مع انتهائها من التقليم، اختفت كلها من الممر؛ لا زهرة واحدة، ذابلة أو مزدهرة.
•••
لا بد أن هذا حدث يوم سبت كما قلت؛ لأن والدة نانسي كانت في المنزل وفيلما كذلك كانت حاضرة؛ إذ إنها لا تأتي يوم الأحد. ومع مجيء يوم الإثنين أو ربما قبل ذلك، أنا متأكد من أن الكوخ كان قد خلا من ساكنِتَيْهِ. ربما وصلت فيلما إلى أبي في النادي أو في ملعب الكروكيت أو أينما كان، فجاء إلى المنزل ضيِّق الصدر وَقِح اللسان، لكنه سرعان ما أذعن. وأقصد «أذعن»، بشأن طرد نانسي وأمها من المكان. لا أعلم أين ذهبتا. ربما أنزلهما فندقًا حتى يستطيع أن يدبر مكانًا آخر لهما، ولا أعتقد أن والدة نانسي أظهرت أي اعتراض على المغادرة.
راحت حقيقة أني لن أرى نانسي مرة أخرى تتضح لي ببطء. في البداية كنت غاضبًا منها ولم أُبالِ، ثم حين سألْتُ عنها، فلا بد أن أمي أسكتتني بإجابة غامضة؛ لعدم رغبتها في أن يتذكر أيٌّ منا المشهد المؤلم. بالتأكيد كان ذلك هو الوقت الذي باتت تفكر فيه بجدية بشأن إلحاقي بالمدرسة. في الواقع، أعتقد أني ألحقت بلاكفيلد ذلك الخريف. لعلها ظنت أني ما إن أتعود على وجودي في مدرسة للبنين، سوف تتلاشى ذكرى صديقة طُفولتي؛ الفتاة، وستبدو تافهة، بل سخيفة.
•••
بعد يوم من جنازة أبي، فاجأتني أمي حين سألتني أن أدعوَها على العشاء (بالطبع كان الوضع أن تدعوَني هي إلى العشاء) في مطعم على بُعد بضعة أميال إلى جانب شاطئ البحيرة، حيث كانت تأمل في ألَّا تقابلَ أحدًا نعرفه.
قالت لي أمي: «أشعر أني قد سُجنت في هذا المنزل للأبد، أحتاج إلى بعض الهواء.»
في المطعم، راحت تختلس النظرات حولَها، ثم أعلنت أنه ما من أحد تعرفه.
قالت: «هل تشاركني كأس نبيذ؟»
هل قطعنا كل هذا الطريق لتستطيع أن تحتسيَ نبيذًا علنًا؟
حين جاء النبيذ وطلبنا الطعام، قالت: «هناك أمر يجب أن تعرفَه.»
ربما تكون تلك الكلمات من بين أبغض الكلمات التي يُضْطَرُّ الشخص إلى سماعها في حياته. إنها تحمل دلالات قوية أن أيًّا ما كان يجب أن تعرفَه سيكون حِمْلًا ثقيلًا، وتنطوي على إيحاءٍ بأن أُناسًا آخرين اضْطُرُّوا إلى حَمْله على كاهلهم، بينما كنت متحررًا منه، كل ذلك الوقت.
فقلت: «أبي ليس أبي الحقيقي، أليس كذلك؟»
– «لا تكن سخيفًا. هل تتذكر صديقتك الصغيرة نانسي؟»
لم أتذكَّرْها حقيقة للحظة. ثم قلت «ذكرى مبهَمة!»
في ذلك الوقت، كانت كل أحاديثي مع أمي تتطلب تعاملًا استراتيجيًّا من جانبي. لا بد أن أبقى مرحًا وظريفًا وهادئًا. كان صوتها ووجهها يواريان مشاعر أسًى. لم تتذمر قطُّ ممَّا أصابها من بلاء، لكن القصص التي كانت تحكيها لي كان أبطالها دائمًا أشخاصًا كثيرين أُسيء استغلالهم رغم براءتهم؛ كانت قصصها تنضح بالسخط، لدرجة جعلتي بالتأكيد، على أدنى حد، أُقبل على أصدقائي وحياتي المحظوظة بقلب مثقل.
رفضت أن أؤازرها. كل ما أرادت أمي على الأرجح علامة ما على التعاطف، أو ربما على حنان جسدي، لا أضمن هذا. كانت امرأة شديدة الاهتمام بهندامها لم يتمكن منها الهَرَم بعدُ، لكني أحجمت عنها كما لو أن الاقتراب منها يحمل في جَعْبته كآبة لجوج؛ أو ربما خطر الإصابة بداء مُعْدٍ. أحجمت عن أي إشارة إلى عيبي الخلقي خاصة، الذي بدا لي أنها تُكِنُّ له معَزَّة خاصة؛ القيد الذي لا أستطيع منه فكاكًا، الذي يجب أن ألتزم به، الذي ربطني بها منذ الرحم.
قالت أمي: «ربما علمت بالأمر لو أنك كنت تقيم في المنزل فترة أطول، لكن هذا الأمر حدث قبيل إلحاقك بالمدرسة.»
ذهبت نانسي وأمها إلى العيش في شقة يملكها أبي في الميدان، وفي صباح خريفي باكر مشمس، عثرت أم نانسي على ابنتها في الحمام، وكانت تشق وَجْنَتها بموسَى حلاقة. تناثر الدم على الأرض وفي الحوض، وهنا وهناك على نانسي، لكنها لم تتنازل عن هدفها، ولم تَفْلِتْ منها صرخةُ ألَم.
كيف عرفت أمي كل هذا؟ أستطيع أن أخمِّن أنها قصة درامية انتشرت في البلدة فقط، وكان من المفترض أن تظل في طَيِّ الكتمان، لكن دمويتها المفرِطة — وهذا بالمعنى الحرفي للكلمة — حالت دون أن تُحْكَى تفصيلًا.
وضعت والدة نانسي فوطةً حول ابنتها، وبطريقةٍ ما أخذتها إلى المستشفى. لم يكن هناك إسعاف في ذلك الوقت، ربما أشارت لسيارة لتبطئ عند الميدان. لماذا لم تتصل بأبي؟ لا يهم — إنها لم تتصل به وحَسْبُ. لم تكن الجروحُ عميقة، ولم تفقد دماءً كثيرة على الرغم من الدم المتناثر؛ لم تقطع وعاءً دمويًّا رئيسًا. ظلت والدة نانسي توبِّخ طفلتها طَوَال الوقت وتسألها إذا كان عقلها سليمًا.
ظلت والدتها تقول: «أنتِ قَدَري؛ قَدَري أن تكون لي طفلة مثلك.»
قالت أمي: «لو كان هناك في ذلك الوقت اختصاصيون اجتماعيون، لحصلت تلك الفتاة الصغيرة المسكينة على رعاية (مساعدة الأطفال)، بلا شك.»
«كانت الجروح في الوَجْنة ذاتها، كتلك التي لديك.»
حاولتُ أن أحافظ على صمتي، متظاهرًا أني لا أعرف عمَّ تتحدث؛ لكن اضْطُرِرْتُ أن أتحدَّث.
فقلت: «كان الطلاء يغطي وجهها كله.»
– «نعم، لكنها فعلتْه هذه المرة بدقة أكبر، شقَّت تلك الوَجْنة فقط؛ بذلتْ ما في وُسعها لتبدوَ مثلك.»
هذه المرة نجحتُ في أن أظل هادئًا.
«لو كانت صبيًّا لاختلف الأمر، لكنه أمر شنيع بالنسبة إلى فتاة.»
«جراحات التجميل تصنع المعجزات هذه الأيام.»
«يا إلهي! ربما تستطيعان أن تفعلا ذلك.»
قالت بعد لحظة: «يا لعمق مشاعر الأطفال!»
«لربما يتجاوزون الأمر.»
أخبرتني أمي أنها لا تدري ماذا حدث لهما، الطفلة أو أمها. قالت إنها سعيدة أني لم أسأل قطُّ؛ لأنها كانت ستكره أن تخبرني بأي شيء محزن لهذه الدرجة، في وقت كنت لا أزال صغيرًا فيه.
•••
لا أعلم ما علاقة القصة بأي شيء، لكن يجب أن أقول إن أمي تغيرت كلِّيَّةً في سنوات شيخوختها؛ إذ أصبحت بذيئة اللسان وكثيرة الأوهام. ادَّعت أن أبي كان حبيبًا رائعًا وأنها نفسها كانت «فتاة سيئة جدًّا». أعلنت أني كان يجب أن أتزوج «تلك الفتاة التي شقَّت وجهها» لأن أيًّا منَّا لن يستطيع التبجح بأنه فعل جميلًا للآخر، ثم قهقهت ضاحكةً وهي تقول إن كلًّا منا سيكون مشوهًا مثل الآخر تمامًا.
كنت متفقًا معها؛ إذ إني أحببتها حبًّا جمًّا آنذاك.
•••
منذ بضعة أيام، لدغني دبور بينما أزيل بعض ثمرات تفاح معطوبة تحت واحدة من الأشجار العتيقة. لدغني في جفني، الذي سرعان ما انغلق. قُدْتُ السيارة بنفسي إلى المستشفى معتمدًا على عيني الأخرى (كانت العين المتورمة في الجانب «الجيد» من وجهي)، وأدهشني حين علمت أني يجب أن أقضيَ الليلة في المستشفى. كان السبب هو أنه ما إن أُحقن، حتى يجب أن أضع ضِمادة على عينيَّ؛ لكي أتجنب أن تصابَ العين التي ترى بالترشيح. نمت نومًا قلقًا في تلك الليلة؛ إذ كنت أستيقظ كثيرًا. بالطبع لا يسود الهدوء المستشفى أبدًا، وفي تلك الفترة القصيرة التي كنت لا أرى فيها، بدا أن سمعي أصبح أكثر حِدَّة. حين سمعت خطوات في غرفتي عرفت أنها لامرأة، وشعرت أنها ليست الممرضة.
لكن حين قالت: «حسنًا، أنت مستيقظ، أنا القارئة.» اعتقدت أني أخطأت، فقد كانت ممرضةً في النهاية. مددت ذراعي؛ إذ اعتقدت أنها أتتْ لتقرأ ما هو معروف بالعلامات الحيوية.
فقالت بصوتها الجادِّ الصغير: «لا، لا، أتيت لأقرأ لك، إذا كنت تحب هذا. يحب الناس هذا في بعض الأحيان؛ إذ يضجرون من الاستلقاء بعينين مغلقتين.»
سألتُها قائلًا: «هل يختارون ما تقرئينه لهم، أم أنك من تختارين؟»
– «بل هم من يختارون، لكن في بعض الأحيان أذكِّرهم بنحو ما، فأحيانًا، أحاول أن أذكِّرهم ببعض قصص الإنجيل؛ جزء من الإنجيل يحفظونه، أو قصة من طفولتهم. أحمل معي مجموعة كاملة من الموضوعات.»
– «أحب الشِّعْر.»
– «لا تبدو متحمسًا.»
أدركت أن هذا صحيح وعرفت السبب. لديَّ خبرة في إلقاء الشعر، على الراديو، وفي الإصغاء لقراءة أصوات مدربة أخرى وهي تُلقي الشعر، وهناك أساليب إلقاء أحبها وأخرى أَمْقُتُهَا.
قالت: «إذن نستطيع أن نلعب لُعبة.» كما لو أني أوضحت لها هذا، دون أن أفعل. «يمكن أن أقرأ عليك بيتًا أو بيتين، ثم أتوقف وأرى إذا كنت تستطيع أن تُكمل البيت الثاني. حسنًا؟»
أثار إعجابي أنها يمكن أن تكون صغيرة في العمر، ومتلهفة على المراهنة وعلى النجاح في هذه الوظيفة.
وافقت، ولكن أخبرتها ألَّا تذكرَ أي أبيات بالإنجليزية القديمة.
بدأت وفي صوتها نبرة السؤال: «جلس الملك في بلدة دونفرملين …»
فتدخلت آخذًا دوري: «يحتسي النبيذ الأحمر الدموي …» وواصلنا اللعبة في حالة مزاجية جيدة. تقرأ جيدًا، مع أنه بأداء طفولي قليلًا، وسرعة فيها ما فيها من التباهي. بدأت أحب نبرة صوتي؛ إذ كانت تتمكن مني نزعة تمثيلية انعكست نوعًا ما على أدائي.
قالت: «رائع.»
«وأدلك على منبت السوسن/على ضفاف إيطاليا …»
قالت: «أهي منبت أم غير ذلك؟ ليس لديَّ في الحقيقة كتاب به هذا، مع أني يجب أن أتذكَّر. لا يهم، إن هذا رائع، لطالما أحببت صوتك في الراديو.»
– «حقًّا؟ هل كنت تستمعين إليَّ؟»
– «بالطبع. كثير من الناس استمعوا إليك.»
توقفتْ عن تلقيني الأبيات، وتركتْني أسترسل. لك أن تتخيل، روينا قصائد «شاطئ دوفر» (ماثيو أرنولد)؛ و«قبلاي خان» (كولريدج)؛ و«الرياح الغربية» (شيلي)؛ و«البجعات البرية» (بتلر)؛ و«شباب هالك» (أون). حسنًا، ربما بعض أجزاء منها، وليس كلها.
قالت لي: «لقد بدأ نفَسُك ينقطع.» كانت يدها الصغيرة السريعة فوق فمي، ثم وجهها أو جانب منه فوق وجهي؛ «يجب أن أذهب، إليك واحدة أخرى قبل أن أذهب، سأصَعِّبها لأني لن أبدأ من مطلعها.»
«لن يبكيك أحدٌ طويلًا/لن يصلي أحدٌ لأجلك؛ لن يفتقدك أحد/أصبح مكانك خاويًا …»
قلت: «لم أسمع بها قطُّ.»
«متأكد؟»
«متأكد. أنت تفوزين.»
ارتبْتُ في شيءٍ ما حينَها. بدتْ مشتتة، منزعجة قليلًا. سمعت صياح الإِوَزِّ أثناء تحليقه فوق المستشفى. يتدرب على الهجرة في هذا الوقت من السنة، ثم تطول المسافات، وفي يوم ما يختفي. استيقظت في حالة من الدهشة، والسخط، تلك التي تتبع حلمًا يبدو واقعًا. كنت أريد أن أعود وأشعر بوجهها فوق وجهي، وَجْنتها فوق وَجْنتي، لكن الأحلام ليست كريمة إلى هذا الحد.
•••
حين استعدتُ بصري وعدتُ إلى البيت، بحثت عن تلك الأبيات التي تركتْها لي في الحُلم. تفحصت كتابين من المقتطفات الشعرية ولم أعثر عليها فيهما. بدأت أشك أن هذه الأبيات ليست جزءًا من قصيدة حقيقية، لم تكن إلا إبداعًا داخل الحُلم؛ لكي تتركني في حيرة من أمري.
ولكن، من الذي أبدعها؟
في وقت لاحق، من فصل الخريف، حين كنت أجهز بعض الكتب لأتبرع بها إلى بازار خيري، وقعَتْ قُصاصة ورق مائلة إلى اللون البني، مكتوب عليها بعض السطور بالقلم الرَّصاص. لم يكن خط أمي، ولا يمكن أن يكون لأبي، إذن لمن كان؟ أيًّا من كان، فقد كتب اسم مؤلفها في النهاية. والتر دي لا مير. لا عنوان. لم يكن من الكُتَّاب الذين أعرفهم بشكل خاص، لكن لا بد أني رأيت القصيدة في وقت ما، ربما ليست في هذا الكتاب، ربما في مرجع ما، لا بد أني دفنت الكلمات في فجوات غائرة من عقلي، ولماذا؟ حتى تسخر مني، أو كي يسخر مني شبح طفلة مُلح في حُلم ما؟
لم تُصبْني القصيدة بالإحباط، بل الأمر الغريب أنها عززت بداخلي قرار عدم بيع العقار، بل وأن أبقى فيه أيضًا.
شيءٌ ما قد حدث ها هنا، في حياتك، هناك أماكن قليلة، أو ربما مكان واحد فقط، حدث به شيء ما، وبعده تأتي كل الأماكن الأخرى.
بالطبع أعرف لو أني رأيت نانسي — في مترو الأنفاق على سبيل المثال في تورنتو — فكل منا لا يزال يحمل علامته المميزة، فإننا على كل الاحتمالات لن نتدبر سوى إجراء إحدى هذه المحادثات المحرجة الجوفاء؛ حيث نسرد في إيجاز قائمة من الحقائق الذاتية عديمة الجدوى، لعلِّي كنت سألاحظ الوَجْنة الملتئمة التي تكاد تبدو عادية، أو الجرح الذي لا يزال ملحوظًا، لكننا لن نشير إلى هذا في حديثنا على الأرجح. ربما نذكر الأطفال — لكن لن نذكر على الأرجح إذا كانت تعافت أم لا — والأحفاد، والأعمال. ربما لن أُضْطَرَّ لذكر هذا عَنِّي. لعلنا كنا لنشعر بالصدمة والحميمية والرغبة الشديدة في الفرار.
هل تعتقد أن هذا كان يمكن أن يغير الأمور؟
الإجابة هي: بالتأكيد، ربما لفترة من الوقت، وربما لم يكن ليغيرها أبدًا.