فندق حملة السلاح
كان فندق حملة السلاح الواقع بجوار مدينة نانت، يملكه رجل يدعى «نيكول بوصَّه» يختلف بأخلاقه عن سائر الرجال كما كان يختلف فندقه عن بقية الفنادق التي في مدينة نانت.
ونانت مدينة تبعد عن باريس ثلاثمائة كيلومتر إلى الجنوب الغربي منها، وقد يزيد سكانها عن مائة وخمسة وعشرين ألفًا.
وكانت في عهد هذه السيرة؛ أي في سنة ١٥٦٠، مشهورة بزخارفها، وتوفر أسباب التأنق فيها.
أما فندق «حملة السلاح» فهو بناء قديم ينتهي تاريخه إلى القرن الرابع عشر، وهو سميك الجدران ضخم الأبواب المغطاة بالمسامير الغليظة، وكانت نوافذه مشبكة بقضبان الحديد كنوافذ سجن أو قلعة منيعة أو حصن حصين.
وكان «نيكول بوصَّه» صاحب الفندق، مفاخرًا به معتزًّا ولا اعتزاز ملك الفرنساويين بقصر اللوفر.
وكان يقيم في الفندق قبله رجل دأبهُ المراباة؛ أي إعطاء ماله بالرباء الفاحش، يتعيَّش بفضل ديونه. ثم باع الفندق إلى ماروك «بوصَّه» عَمِّ نيكول، وكان يلقب نفسه كذبًا بالقائد مع أنه لم يلبس لباس الجند قط حتى مات عام ١٥٥١.
فما عتَّم أن أبصر سكان تلك الناحية رجلًا بادن الجسم طويل القامة أحمر الوجه والشعر، زريَّ اللباس، تلوح عليه أمارات الخبث والشر والفقر المدقع، لكن معه أوراق صحيحة تشهد بنسبه إلى عمه، وتثبت حقه في وراثته، وكان هذا الرجل «نيكول» الذي لم تذرف عيناه دمعةً واحدة على ضريح ذلك الفقيد الذي ترك له كل ما ملكت يداه من دنياه.
واراه الثرى ولم ينبس بكلمة تقوم مقام تأبين للميت أو وداع للراحل، لكنه مضى إلى بيته؛ أي إلى ذلك البيت الذي ورثه عن عمه الفقيد، فعمد إلى مخزن المئونة والقوت يتعهده بعناية لا مزيد عليها، ويحقق النظر في محتوياته.
ووقعت يده على زجاجات عديدة ملأى بفاخر النبيذ وعتيق الخمر، كاسية بالغبار لتقادم عهدها، شاهدة بأن الفقيد — المنتقل إلى رحمة ربه — كان من أشد المخلصين في خدمة «باخوس» إله الخمر ورب المسكرات والسكر.
فافتضَّ «نيكول» أختام بعض هاتيك الزجاجات، وذاقها مرارًا وتكرارًا ليعدلَ في الحكم لها أو عليها، ويبدي رأيًا صالحًا في جودتها أو رداءتها، فتمشت الخمر في مفاصله، ودبت في عظامه وأوصاله، ومما لا ريب فيه أن العمَّ «ماروك» كان يفعل فعله، لو أتيح له أن يحلَّ محله، أو لا يموت قبله.
فقضى نيكول أيامًا ثمانية وهو شعبان ريان، نئوم، ممتلئ البدن لحمًا وشحمًا، طيِّب العيش، متناسٍ هموم دنياه ومتاعب حياته. إلا أنه بعد طول البحث وفرط التنقيب في كل مكان من ذلك الفندق لم يجد سوى ريالات عشرة تسرَّب إليها الفناء بالإنفاق وصارعها البلى، فالاضمحلال رويدًا رويدًا، وهكذا راحت سَكرته وجاءت فكْرته.
فكان أول ما فكَّر به هو أن يبيع البيت الموروث، لكنه ما لبث أن ذكر مبيته فيما مضى تحت القبة الزرقاء، فأنفت نفسه عودًا غير أحمد إلى ما كان فيه من الضنك والتشرد وسوء الحال، فعقد نيته على حفظ الميراث والحرص على الفندق أو البيت.
وبعد ذلك بأسبوعين رفع فوق الباب عنوانًا عليه هذه الكلمات: «فندق حملة السلاح».
فلم يتهافت عليه أحد من العملاء، ولم يقبل إليه أحد من القصَّاد؛ إذ يستحيل أن يزهد المسافرون من التجار أو المسافرات من الغيد الحسان في فنادق مدينة نانت، وهي الفخيمة الأنيقة الزاهية الزاهرة، ويبادروا إلى فندق «حملة السلاح» وموضعه من البلد أقصى ضواحيها على ضفاف نهر اللوار.
إلا أنه لم يطل الزمن حتى نشأت لذلك الفندق البعيد مكانة عند العاشقين ورجال الجندية. يؤمُّه الأولون هربًا من أعين الرقباء والحساد، ويقصده الآخرون لأنه أفضل مكان للمبارزات الخفيَّة والمشاجرات.
ولم يكن عدد أولئك القصَّاد كثيرًا، إلا أنهم على قلتهم كانوا يدفعون الأجرة الكبيرة ولا يساومون.
فلما كان مساء اليوم الثامن من شهر فبراير (شباط) سنة ١٥٦٠ ونيكول يتأهب لإغلاق أبواب فندقه، متذمرًا من سوء حالته وقلة توفيقه، شاكيًا حرمانه منذ أسبوعين، طرق سمعه وقع حوافر جواد، وما لبث أن رأى فارسًا طويل القامة قد وقف ببابه وصاح: ألا يوجد أحد في هذا المكان؟
فلم يُجب نيكول، بل بقي واقفًا وراء الباب يحقق النظر إلى القادم، وتلك كانت عادته؛ أي إنه لا يفتح الباب لأحد إلا بعد أن يرقب حركاته وسكناته.
ولعله سُرَّ بذلك الفحص والتأمل؛ لأنه فتح الباب ورفع قبعته مسلمًا وقال للفارس: أرجو عفوًا من مولاي، وعُذرًا عن تأخري، فقد كنت مشغولًا عنه في بستاني.
قال: ويك، خذ فرسي وأعدَّ لي عشاءً.
قال: هل يأكل مولاي؟
أجاب: نعم. ما توافيني به.
قال: هل يقيم مولاي زمنًا طويلًا في مدينة نانت؟
أجاب: ذلك لا يعنيك.
قال: عندنا في هذه النواحي آثار جميلة جليلة.
قال: صهْ يا مهذار واعتنِ بجوادي! وتعال فالحق بي إلى القاعة الكبرى، فلي كلام معك.
وكان الرجل الغريب يتكلم بلهجة لا تدع مجالًا للجدال. فاقتاد نيكول الجواد إلى الإصطبل ولاحظه فإذا هو جواد كريم الأصل، سَرجُه موشًّى بالذهب، فقال في نفسه: لا جرم أن الرجل سيِّد عظيم، سيِّد عظيم أتى إلى فندقي! إذن فله شأن سياسي أو غرامي، ولكن ما لي وهذا أو ذاك؛ إذ لا يهمني من أمره إلا أن يكون كيس نقوده ضخْمًا!
ولما عاد إلى فندقه قال للمسافر: أي حاجة لمولاي؟
قال: أعندك خادم في بيتك؟
أجاب: بل عندي اثنان أيها المولى.
قال: هما شيخان أو فتيان؟
أجاب: أحدهما شيخ، والآخر فتًى.
قال: إليك ريالًا لكل منهما. فدع الشيخ يمضي ويشرب، والفتى يعدو للقاء عشيقته، فلست بحاجة إلى أحد سواك ها هنا.
فصدع نيكول بأمر الضيف، ثم عاد إليه، فوجده جالسًا إلى النار، وقد أشرق منها الضوء على وجهه فبان كأنه في الأربعين من عمره، حديد البصر، طويل الشاربين، أقنى الأنف، قوي البنية، إلا أن أمارات الكآبة بادية عليه. فلما رفع بصره إلى نيكول وقف هذا متهيبًا، وقال: إن خادميَّ قد ذهبا، وأقفلتُ البابَ، ولم يبق هنا أحد إلا أنا وأنت يا سيدي.
وبعد هنيهة قال الرجل المجهول: أأنت من يُدعى نيكول بوصَّه؟
أجاب: نعم، أنا نيكول بوصَّه دون غيري من الناس، أنا هو بعينه، صاحب فندق حملة السلاح، وخادمك المطيع.
قال: أنت ابن أخي ماروك؟
أجاب: نعم كان ماروك عمي، فوا حسرتى عليه.
قال: أما وقد تحققت أن اسمك نيكول، فهلا علمت أنك تستوجب الشنق؟
فارتجفت ساقا نيكول وقال: يا رباه! أنا أستوجب الشنق؟ ولماذا؟
قال: ألم يُقتل هنا «المسيو دلاشسناي» في مبارزة منذ شهرين؟
أجاب: لقد كانت والله مشاجرة لا مبارزة. مشاجرة صغيرة يا مولاي!
قال: ألا تأتي إلى هنا «مدام بورتو» زوجة الرئيس الأول لنيابة نانت؟
أجاب: نعم، وتأتي أيضًا سيدات كثيرات إلى هنا.
قال: أليس هذا المكان الذي يستقبل فيه «اللورد تروكمارتو» سفير إنكلترة جواسيسه وأرصاده؟
فلم يحر نيكول جوابًا إلا أنه تصاغر واستكان.
فقال الرجل الغريب: لقد علمت يا مسيو نيكول أنني مطَّلع على شئونك. فلو أنبأت بها نائب الملك لتيسر لي أن أطوِّق عنقك وأصفِّد يديك، إلا أنني لست من أهل الشر، فنم مطمئن القلب، وإنما تذكَّر في هذه الليلة عندما يمتد ستر الظلام أن فندقك هذا يكون لي أنا دون سواي.
قال: وإذا أتاه مسافرون فماذا أصنع؟
أجاب: سوف يأتيه مسافرون فتأذن بدخول كل من علقت بقبضة حسامه شريطة سوداء من الحرير.
قال: وماذا أفعل إذا جاء غير هؤلاء؟
أجاب: تمتنع عن قبولهم، وتقول لهم أن ليس في فندقك مكانٌ خالٍ لهم.
قال: لن أفارق بابي أيها المولى.
قال: والآن أرشدني إلى غرفتي، وهات لي عشائي.
فأنزل نيكول الرجل الغريب في أحسن غُرفه، وطلب إليه أن يلاحظ متانة الأقفال والنوافذ وسُمك الجدران، ثم هيَّأ له عشاءً فاخرًا، واستأذن منه بعد أن أكَّد له إخلاصه. وهنا لا يتوهم القارئ أن نيكول أوى إلى مضجعه؛ لأنه مضى إلى مطبخه وقعد يعاقر الراح ويأكل طعامه وهو يقول: قاتل الله جوزيف اللعين — وجوزيف اسم الطباخ الذي يشتغل في مطبخه — فإنه أهمل قِدر الطعام حتى نضج أكثر مما ينبغي له، وهذا الضيف الذي نزل بي الليلة راغب في الانفراد منتظر بعض أصدقاء له، يود الانفراد بهم والتحدث معهم، فهو لا يمكن أن يكون من أصدقاء الملك، ثم إن هذا الشيطان يعرف عني أشياء؛ يتهمني بوقوع حوادث قتل في فندقي، ولكن هل يكون الذنب في ذلك ذنبي أنا؟ أليس عنوان المحل فندق حملة السلاح؟! ورجال الحرب لا يكونون عادةً من الملائكة المحبين للسلام، ولا أنكر أن قصَّة سفير إنكلترة وجواسيسه قد تسوء «المسيو دي جيز» إذا اطلع عليها، وأخشى أن يحمله حب الانتقام على شنقي.
ونظر نيكول إلى سقف مطبخه، وقد علَّق فيه لحمًا مقددًا بحبال ثخينة تهتزُّ في الفضاء، فقال: إني أفضل رؤية هذا اللحم المقدد يتأرجح فوق رأسي على أن أهتزَّ أنا في أعلى مشنقة، ولسوف أطلب إلى اللورد تروكمارتو سفير إنكلترة عندما يأتي إلى هنا أن يبتعد، إلا إذا كان كيسه منتفخًا جدًّا.
وما زال نيكول يسأل نفسه ويشاورها حتى انتهى به التأمل إلى هذه النتيجة، قال: إن الضيف الذي نزل عندي يعرف أخباري كما أني أجهل أخباره، فهو أقوى مني. فيجب عليَّ أن أستطلع شئونه لأساويه في قوته.
وصعد الدرجَ مستمهلًا حتى وقف أمام باب غرفة الرجل، عازمًا على معرفة ما يكون منه، وكانت ثقوب أبواب الغرف كلها واسعة، فأبصره نيكول جالسًا على كرسيٍّ من خشب السنديان يطالع كتابًا مجلدًا بقطيفة سوداء، وتمكن نيكول من أن يقرأ على القطيفة هاتين الكلمتين: التوراة المقدسة.
فلما انتهى الرجل من القراءة أخذ يتمشى في الغرفة، ثم حلَّ الحبل عن هميانه، وتناول منه شيئًا عرف نيكول أنه إطار (برواز) لتصويرة رجل، فتفرس فيها فرآها مشابهة لضيفه، إلا أن المصوَّر فيها أشقر الشعر وضيفه أسوده، فجعل الرجل التصويرة على خوان، وسمعه نيكول يقول: وا حسرتاه عليك يا جسبار! ولكن قرَّ عينًا وأنت في ضريحك، فسوف أنتقم لك!
ونظر الرجل الغريب إلى تلك التصويرة مليًّا، ثم أخذ يتمشى في الغرفة وهو يظن نفسه منفردًا، فكان يتكلم بصوتٍ مرتفع، ويقول: لقد تجرأتما يا مسيو دي جيز، ويا أمير لورين على مهاجمة أشراف الفرنساويين، كان لي عديل أحبه كما يحب الوالد ابنه، وكنا تزوجنا شقيقتين، ولا قرابة بيننا غير تلك، إلا أننا متشابهان خلقًا كأننا أخوان، فلم تكتفيا بقتله، بل عذَّبه الملازم «ميشال فيلار» بأمركما، فأزهق روحه وهو يعاني عذاب الاستنطاق، وقد آن وقتي يا فرنسوا دي جيز، كنت أتردد في قبول ما يقدمه إليَّ الأمير، أما الآن فإن البغضاء تحول دون ترددي، ولا ينقضي شهر واحد حتى أكون قد انتقمت لحبيبي جسبار، وأنقذت الملك وفرنسا من هذه السلالة اللعينة، سلالة جيز.
ولم يفهم صاحب الفندق معنى ذلك الكلام تمامًا، إلا أنه ارتعدت فرائصه؛ لأن ما سمعه دله على أن ضيفه عدو للدوق دي جيز، وما من أحد في ذلك العهد إلا وهو يرهب فرنسوا دوق دي جيز، وزير الملك الشاب، بل المتسلط على فرنسا أكثر من الملك فرنسوا الثاني، ومن امرأته ماري ستوارت، أو من والدته الملكة كاترين دي مدسيس، ولم يكن من أحد إلا وهو يخشى سطوة ذلك الدوق إلا إذا كان متصفًا ببسالة نادرة.
أما فرنسوا الثاني، وهو الذي جرت على عهده حوادث هذه السيرة، فهو بكر أنجال الملك هنري الثاني وكاترين دي مدسيس، ولد سنة ١٥٤٤ وتوفي سنة ١٥٦٠، وتزوج بماري ستوارت سنة ١٥٥٨، وتبوأ عرش فرنسا سنة ١٥٥٩، وجِدُّهُ «فرنسوا الأول» الوارد خبره في الرواية الموسومة «بدار العجائب»، وفي الرواية التالية المسماة باسمه.