مجلس الملك
ولما استيقظ جاليو كانت الشمس قد دخل نورها مخدعه، ففتح عينيه وسمع قائلًا يقول له: يلوح لي يا عزيزي جاليو أنك تحب الفُرش الوثيرة التي في بلاط الملك؟
فأدار وجهه فأبصر البارون دي برداليان عند مدخل الغرفة ينظر إليه نظرة الساخر المتهكم، فلم يقطب وجهه، بل أجابه: إني على الدوام أحب الفُرش الوثيرة.
– رأيي ألَّا تزدري فُرش الفنادق.
– نعم إذا كنت على سفر، ولكن يلوح لي أنني تشرفت قبل الآن بلقائك.
– صدقت، فإنك رأيتني ثلاث مرات.
– ألم أستعلم منك عن طريقي حين وصولي إلى القصر؟
– نعم، وهي مرة واحدة فقط.
– لست أذكر غيرها.
– عجبًا لمن كان في سنك، ويفقد ذاكرته!
– لعلَّ ذلك من التربية والعادة، ولكن تفضل بالدخول إلى هنا.
– كلا، فإني لا أستطيع التقدم.
– وأي مانع يمنعك؟
– إني مقيم هنا على حراستك، ولا يحق لي الدخول على منزل الأمير.
– مقيم على حراستي أنا؟ فهل صرتُ من القواد العظام حتى صرتَ أنت حارسًا عندي؟
– ربما كان ذلك.
– تكرم بالإيضاح.
– إن الملك أمرني بالوقوف هنا لأمنعك من الخروج، وهكذا لم يبق لك من رجاء في مواعدة وصائف الملكة، ولا في التنزه في المدينة.
– أنت يا سيدي تنمُّ على وصائف الملكة.
– وكيف ذلك، فهل نسيت أيضًا موعدك ليلة أمس؟
– موعدي ليلة أمس؟
– لا تمزح فقد خرجت أمس من القصر.
– أنا؟
– إني رأيتك بعيني.
– أهذه إحدى المرات الثلاث التي رأيتني فيها؟
– نعم أيها الطالب.
– أنت واهم يا سيدي فلست طالبًا، وإنما أنا موظف عند الأمير، ولكن هل لك في أن تخبرني عن الموضع الآخر الذي اجتمعنا فيه أيضًا؟ أجاب: حبًّا وكرامة، كان التقاؤنا على الطريق الذي بين باريس وأمبواز قرب فندق في ساعة قتال، ورصاص البنادق يتطاير في الفضاء.
– أتلك هي المرة الثالثة؟
– نعم، وفيها تلقيت منك ضربة سيف على كتفي، وأشار برداليان إلى كتفه.
– يسوءني كثيرًا ما أصابك، ولكنني لا أتذكر أنني لقيتك في ذلك الموضع أو غيره.
ونظر إلى برداليان نظرة ساذج، حتى جعل هذا يسأل نفسه عما إذا كان واهمًا. أما جاليو فأدرك أنه لا يفيده في ذلك الحال إلا الاحتيال، وقد أقيم الحراس على حجرة الأمير بأمر الملك، وليس لدى الأمير أحد ينصره أو يدافع عنه.
فقال: إذا اعتبرنا ما نحن فيه الآن فإننا سجينان، أنا ومولاي الأمير، وأنت السجان. أفتأذن لي بإنباء سيدي الأمير؟
– لقد أنبئ الأمير.
– من أنبأه؟
– أنا يا سيدي، وقد مضى زمن وأنا أقرع بابك هذا حتى اضطرَّ جناب الأمير إلى أن يفتحه بنفسه وأنت نائم ملء جفونك.
– ذلك من فضل الشباب.
– ذلك من نتائج التعب، وليس بمنكر على من يجول في الأسواق ليلًا أن يتعب.
– صدقت، إلا أنني نسيت ذهابي بالأمس إلى مقابلة غرامية، ولكن بحقك يا مسيو برداليان، إلا ما أنبأتني عن تلك الحبيبة، أتراها حسناء؟
– أظنك تسخر بي يا رجل، فحذار!
فكاد يرميه جاليو بكلمة لاذعة إلا أنه أمسك عنها، ونهض غير مكترث، وأخذ يتمشى في المخدع حتى وصل إلى النافذة ففتحها ليستنشق الهواء. لكنه تعجب لما رأى فرقة من حملة البنادق تحت النافذة، وفي ذلك الوقت رفع أمير كوندة الستر عن بابه، ونادى جاليو واجتذبه إلى وسط غرفته، وقال: تكلم واخفض صوتك، فقد سمعتُ ما قلته لهذا البارون اللعين، وإني لراضٍ عنك.
– لقد فعلت ما قدرت عليه.
– هل تظن أنك أفلحت في تحويله عن اعتقاده؟
– لست على يقين، وإنما أظنه قد تزعزع اعتقاده شيئًا.
– تذكر ما أوصيك به الآن، فإذا سُئلت فقل إنك إنما دخلت البلاط بناءً على طلب رُفعَ إليَّ من والدتك، وإنني عرفت والدك فيما مضى، واتخذتك وصيفًا لي حافظًا ولاءه، وأما مشاجرتك في الفندق، وقد أفلحت فيها، فأنكرها بتاتًا.
– سمعًا وطاعةً يا مولاي.
– واعلم ألَّا قيمة ها هنا لغير البسالة والدهاء، فيجب على المرء أن يحسن ضرب السيف وتدبير الحيلة، ولا تعرض عن وصائف الملكة فهنَّ ثرثارات لا يكتمن سرًّا عمن يحسن ملاطفتهنَّ ومداعبتهنَّ، وقد بدأت أمس بما يعجب ويدهش، فاستمرَّ على ذلك.
– شكرًا لك يا مولاي.
– إني لها يا مولاي.
– إني ذاهب إلى مجلس الملك، فاتبعني وجرد سيفك نصف تجريد من غمده، والبث مستعدًّا للدفاع عني عند أول دعوة مني. واتجه كوندة إلى باب مخدعه دون أن يظهر عليه شيء من الاهتمام بحاله كسجين. فقال له البارون دي برداليان: عفوًا يا مولاي، فإنني على الرغم مني لا أستطيع أن أدعك تخرج من هنا؛ لأن الأوامر التي لديَّ بهذا الشأن شديدة.
فأجابه الأمير: لئن حاولت منعي من الخروج فأنت تلجئني إلى قتلك.
فأثر هذا الكلام في البارون، إلا أنه قال: ومع ذلك فإنني لا آمن غضب الملك إذا تركتك تخرج.
– قل غضب الدوق دي جيز لا الملك. ألا فاعلم يا هذا إن أمراء البيت المالك لا يطيعون غير الملك، وقد تركتك تمثل في هذا الصباح روايتك المضحكة، أما الآن فأرجو منك أن تترك بابي هذا. على أنني ذاهب لألقى فرنسوا الثاني، وقد أذنت لك بأن تكون من حراس الشرف فتلحق بي.
واجتاز الأمير أروقة القصر بعظمة حتى وصل إلى قاعة المشورة، فقال: افتحوا أيها الحراس!
فأجابوه: إن جلالة الملك مجتمع على عميه آل جيز.
قال: افتحوا أيها الحراس!
فأجابوه: لقد تلقينا أمرًا بألَّا نفتح لأحد.
فلم يجب كوندة، لكنه التفت إلى جاليو، وقال له: تقدم أيها الشريف، ما دام هؤلاء القرويون الغلاظ لا يفعلون ما يجب عليهم فافعل أنت.
فتقدم جاليو ففتح الباب، ودخل كوندة الإيوان الذي أسموه قاعة المشورة، وقال للحاجب: أنبئ الملك بقدوم الأمير دي كوندة.
فتردد الحاجب إلا أن نظرة الأمير كانت فصيحة فلم يتمالك أن زحزح الستر، ونادى بصوتٍ يضطرب فقال: مولاي أمير دي كوندة!
فامتنع المتحدثون عن الكلام، ونظر الملك والدوق دي جيز وأخوه الكردينال والملكة الوالدة إلى القادم متعجبين؛ لأنهم حسبوه سجينًا يحرسه البارون دي برداليان.
فصاح الأمير بكبر: يلوح لي أن حضوري يضايقكم!
فأجابه الملك بلهجة الغضب قال: لقد كنا نظن يا ابن العم أنك في مسكنك!
وكان عمَّا الملك يحدثانه منذ الصباح بما عرفاه في ذلك الليل، ويحاولان أن يستصدرا منه أمرًا نهائيًّا بالقبض على أمير كوندة، وكادا يحصلان عليه عند دخول الملكة الوالدة، إلا أنها جعلت تلقي الأسئلة عليهما، وتوري وتلمِّح حتى منعت ابنها من التوقيع على ذلك الأمر، ولما حضر الأمير تحيَّر أعداؤه، فقال متمهلًا: مما لا شك فيه أن ابن عمي دي جيز كان يفضل ألَّا أجئ إلى هنا، إلا أنني علمت بأن جلالتك عقدت مجلسًا، ولما كنت من أمراء البيت المالك، وكل مجلس لا يمكن انعقاده بدوني، أتيت لأبسط رأيي الحقير في هذا المجلس الكبير، ولأؤكد إخلاصي لجلالة الملك.
فتبسم الأخوان تبسُّم اكتئاب، وهمس أحدهما في أذن الآخر يقول: لقد فسد تدبيرنا.
فأجابه: إن هذه المرأة أقوى منا يا شارل فلا بدَّ من إهلاكها، وفي أثناء ذلك تناولت كاترين يدي ابنها ملاطفة، وهو لا يحفل بتلك الملاطفة؛ لأنه لم يحبَّ أمه قط، وزال ما كان له من العطف عليها منذ ما تزوج ماري ستوارت. فكان يرى في والدته حماة زوجته وعدوة عمي حبيبته.
وإذ ذاك فتح الباب، ودخل القاعة مونمورانسي، فانحنى أمام الملك وكاترين، وسلَّم على الدوق دي جيز وأخيه باحتقار، ودنا من أمير دي كوندة، ثم قال: هل دعوتني أيها الملك؟
– لقد دعوتك لأقف على رأيك بشأن المؤامرة الفظيعة التي كدنا نذهب ضحاياها.
– لقد اجتزت البلاد أيها الملك، وأجهل ما هي المؤامرة التي تتكلم عنها جلالتك، وإنما عرفت أن التأديب كان هائلًا، وأن وقت الرفق والرأفة قد أزف.
فعضَّ الدوق دي جيز شاربه، وأخذ ينظر إلى ضفاف اللوار، فقال مونمورانسي: هل عرفتم زعماء المؤامرة؟
أجاب الملك: نعم.
قال: وهل من الممكن معرفة أسمائهم؟
فلم يجب الملك، غير أن أمير دي كوندة استلَّ سيفه من غمده، وجعله على منضدة، وألقى قفازه إلى جانب السيف.
فصاح الملك: ما معنى هذا؟
قال أمير كوندة: لقد مضت ثلاثة أيام، وحولي جواسيس مجهولون يرقبون حركاتي وسكناتي، والشكوك الدنيئة حائمة حولي، وأعدائي الخائنون لا يهابون مهاجمة أمير من بيت الملك، ولا يرهبون لويس دي بوربون (يعني نفسه) وهم جبناء، يمنعهم جبنهم من الهجوم نهارًا وعلانية، فيعمدون إلى السعي والنميمة سرًّا لإهلاكي. وقد رأيت في صباح هذا اليوم حراسًا وقوفًا عند بابي وتحت نوافذي، كأنني من المجرمين. ولقد سألتَ يا مسيو دي مونمورانسي عن زعماء المؤامرة وأسمائهم، فأنا أجيبك أنه لا يوجد شاهد واحد يدل على أولئك الزعماء، ولقد اجتهدوا كل الاجتهاد في حمل الأسرى المساكين على الاعتراف كذبًا بما لا يعرفون، وقد تلفظ بعضهم بأسماء ضخمة، وإنما كان ذلك تخلصًا من عذاب الاستنطاق الهائل، وعلى هذه التهم توكأ أعداؤنا ليدخلوا على الملك الشك في إخلاصنا. أما هؤلاء الزعماء الذين لم يشأ جلالة الملك ذكر أسمائهم فإني أذكرها لك يا مسيو دي مونمورانسي، أو أنا أذكر لك من يتهمونهم خفيةً، فأولهم أنت!
قال مونمورانسي: أنا! ومن ذا يتجرأ؟
أجاب أمير كوندة: ما من أحد هنا إلا ويتجرءون عليه. أجل، إنهم يتهمونك أنت، ثم يتهمون زعيم المستشفى، ويتهمون معكما الأمير لويس دي بوربون.
قال مونمورانسي: أنت أيها الأمير؟
أجاب: نعم أنا، ولم يتجرأ أحد حتى الآن على التكلم أمامي عن هذه الوشاية الدنيئة، ولكنني مطلع على ما يجري في البلاط، ومن يدري ما يكون لو لم أقدم إلى هنا للدفاع عن نفسي؟ كان يمكن أن يسفك الليلة دم أمير ينتمي إلى سن لويس! على أنني أيها السادة أجهل، وأودُّ أن أجهل، مصدر هذه التهم، ولكن إذا تجرأ أحد على إعادتها فأنا أسأل جلالة الملك أن يتكرم عليَّ فيأذن لي بقتله في مبارزة. هذا سيفي وهذا قفازي أطرحهما أمام النمامين!
وكان لهذه الكلمات وقع خطير على السامعين، فتناولت الملكة الوالدة مسبحتها، وبادرت إلى عدِّ خرزاتها، واصفر وجه الملك اصفرارًا شديدًا، وظهرت عليه بقع صفراء هي آثار مرض اتصل إليه من مولده، وأما مونمورانسي فلم يكد يتمكن من إخفاء سروره؛ لأنه كان ألدَّ عدو لآل دي جيز، وأما الدوق وأخوه الكردينال فلم يعرفا ما يفعلان. فقد استردَّ أمير كوندة في ساعة ما كانا يظنَّان أنه أضاعه، ورأى الدوق دي جيز أنه يستحيل الاعتراض، فعوَّل على اتخاذ خطة المسالمة ريثما يتمكن من سوق الأمور إلى الجهة التي يرومها، فنهض وقال: إن هذه التهم ولا شك دنيئة فظيعة، وأحسبها تحط من قدري كما تحط من قدر ابن عمي الأمير، ولئن وجب قتال لأجلها، فلا يكون من شهداء لويس دي بوربون أحد قبلي؛ لأنني أعدُّ هذا الدفاع شرفًا لسيفي.
ودنا الدوق دي جيز من أمير كوندة، فلم يسع هذا إلا الاعتراف بدهاء ابن عمه، فقال له: أقر لك بأن كلامك لا يدهشني، وهو ما ينتظر سماعه من بطل مثلك، فأنا أشكر لك هذه المؤازرة.
قال: ألم يكن ذلك من واجباتي؟
فاستطار الفرح كاترين، وقالت: بل ذلك من واجبات كل خادم للملك.
وهكذا حصل أمير كوندة على ما أراد، فخرج من قاعة المجلس رافع الرأس تيهًا، فوجد عند الباب خادمه الأمين جاليو يحدث برداليان ويقول له: نعم، إني لم أتقلد سيفًا من زمن إلا قريب، ولم يعلمني أستاذي إلا المصارعة، فإن بقيت مصرًّا على منازلتي، فإننا سنضطر إلى ترك سلاحنا جانبًا، والمصارعة حتى يفوز أقوانا جسمًا.
أجاب: إذن إنا ننتظر حتى تتعلم استعمال السلاح؛ لأن المصارعة ليست من شأني.
– هذا هو الرأي الصواب أيها البارون. أفتأذن لي بمفارقتك؟
– بل أنا أصحبك؛ لأن حياتك عزيزة لديَّ.
وهنا قال أمير كوندة: لا حاجة لي بهذه الخدمة منك يا مسيو دي برداليان، وأشكرك على مصاحبتك إياي.
فأشار الدوق دق جيز إلى برداليان يأمره باللحاق به، وابتعد الأمير مع جاليو، فقال برداليان للدوق: لا يهنأ لي عيش حتى أقطع أذنَي ذلك الفتى المغفل.
– ألم تفتح معه باب الخصام؟
– ذلك مستحيل، فهو لا يسمع إلا ما يعجبه سماعه، وإذا سمع كلمة مؤلمة أخذ يدندن.
– لعله جبان؟
– كلا، ولكن لا بدَّ له من سبب يحمله على اجتناب المشاجرة في هذا الوقت، ولعل لديه أمرًا من مولاه الأمير!
– عليك بمراقبة المولى والشاب فقد أخطأنا مرماهما اليوم، ولكننا سنصيبهما في وقتٍ غير بعيد.