ما وراء طبع الكتب المهيِّجة من الخطر
كان الأستاذ يعقوب لوم يتمشى في حانوته في أورليان مسرورًا، ولاحظته ابنته فلم ترَ على وجهه أمارات الانزعاج كالعادة، فقالت له: ها قد طابت نفسك يا أبتِ فلست أراك مكتئبًا.
– نعم يا ابنتي، فإنني اليوم أشد سرورًا مني بالأمس.
– أكنت مغمومًا يا أبتِ ولم تخبرني؟
– لم أكن مغمومًا، ولكن القلق أزال سروري. ألا تذكرين ذلك الكتاب الذي سلمني إياه بلترو؟
– نعم، هو كتاب عنوانه «النمر» كُتب ضد الدوق دي جيز.
– نعم، وقد توسلتِ إليَّ كي لا أطبعه، إلا أنني طبعته خفيةً عنك، وكان شديد اللهجة والطعن حتى جعلني أفقد راحتي، وكان يخطر لي على الدوام أن أحد رسل الدوق قد يعثر عليه في مكتبتي.
– لقد أتيت أمرًا إدًّا يا أبتِ.
– لا خوف يا بنية، فلم يبق عندي إلا رزمة واحدة من هذا الكتاب، وسوف يأتي صباح اليوم رسول من عند أمير كوندة ليأخذ تلك الرزمة. فإذا جاء غدًا أحد من رجال الدوق إلى هنا لم يجد عندي شيئًا.
واستمرَّ الكتبي يصفُّ الكتب والأوراق، وانهمكت مادلين في شغل البيت. إلا أنهما سمعا وقتئذٍ ضجة في الشارع، وأحسا بقوم مقبلين إلى الحانوت.
وكان في المدينة رجل اسمه ماتيو، ينوب عن الجلاد فيلار في مهمة التعذيب، وقد تلقى أمرًا بالبحث في مكتبة يعقوب لوم عن الكتب. فاتجه بجماعة من رجاله إلى حانوته فدخله فرأى اصفرار الأموات على وجه يعقوب، فقال له: إن اصفرارك يدل على اجترامك، وعلى أن ضميرك غير مستريح.
فأجابه لوم: إن ضمير الرجل الصالح المستقيم مستريح على الدوام.
فرفع ماتيو كتفيه وأخرج كتابًا من محفظة معه، وأطلع الكتبي عليه قائلًا له: أتعرف هذا؟
فأدرك لوم أنه هالك.
فقال ماتيو: أتعرف هذا الكتاب؟ إنك لا تريد مجاوبتي على سؤالي، فابحثوا يا رجال.
ولم تطل مدة البحث؛ لأن أحد الرجال وجد الرزمة في إحدى زوايا الحانوت فحملها إلى ماتيو، فأخرج منها مائتي نسخة شبيهة بالنسخة التي كانت معه.
فرفع يده على كتف لوم، وقال: إني أنوب عن الملك والدوق دي جيز وأستاذي فيلار في القبض عليك!
فأجابه الكتبي: لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!
وفي الحال أخذ الرجال بتلابيبهِ، وأوثقوا يديه وعزموا على اقتياده إلى القصر، وإنفاذ العدل في القصر أسرع وأعجل من إنفاذه في سجن المدينة، وكانت مادلين تتأمل ما يجري مرتاعة، والدمع يهطل على وجنتيها. فلما أمر ماتيو باقتياد أبيها ترامت على قدمي ذلك الجلاد الشقي، وقالت: كلا يا سيدي، حاشا لله وللمروءة أن تفعل. أناشدك الله لا تحرم ابنة من أبيها، وأتوسل إليك أن تتركه لي فليس لي أحد سواه، وهو قومي وأسرتي.
فقال: ردُّوا هذه الحسناء!
قالت: إذن أتأذن لي بأن أرافقه وأشاطره الأسر، فإذا مات أموت معه؟
قال: بل البثي في بيتك، فليس لديَّ أمر بالقبض على غير أبيك، فلا أسوق أحدًا سواه.
ودفع الفتاة عنه بعنف، فسقطت على قدمي أبيها مغمى عليها. فانحنى لوم وقبَّل ابنته، ثم اتجه إلى الباب، وقال بصوتٍ هادئ: إني مستعد فلنذهب.
وانتشر خبر القبض على يعقوب لوم، فكان وقعه على جماعات البروتستانت وقع الصاعقة. أما الكاثوليكيون ففرحوا وطربوا، وأخذوا يتكلمون عن ثروة الرجل، ويقولون: إن مصدرها نشر الكتب المهيجة، ورأوا إعدام الرجل عدلًا وإنصافًا، واستطالت الألسنة على مادلين فذكروا قصة الرجل الذي وجد صريعًا تحت نافذتها، وفيما كانت الفتاة المسكينة تصلِّي عند المساء في حجرتها أسمعوها الكلام القارص والإهانات الجارحة، فلم تنم ليلتها، ولما كان الصباح قصدت القصر، وهي ترجو أن يؤذن لها بمقابلة أبيها وتوديعه، فمنعها الحراس. فقالت لهم: إنه أبي يا قوم! إن السجين أبي، وأريد أن أراه فأي خطر يُخشى مني، وأنا امرأة ولا سلاح معي؟ فلماذا تطردونني؟
فأجابوها: اذهبي فالقي الملازم ماتيو فهو الذي يتولى شَنق أبيك غدًا.
وفي اليوم التالي اجتمع جمهور غفير في ساحة أورليان، وظلت مادلين ليلتها تسمع وقع المطارق على الخشب. فلما كان الصباح رجعت إلى القصر عازمة على انتظار والدها، وللحال انفتح الباب الكبير، ومرَّ أمامها موكب من الحراس والجند والجلاد ماتيو يمشي وراءهم، ويجيل بصره الوحشي في الجمهور، وقد ألبسوا يعقوب لوم ثوبًا أسود، وأحدق به أعوان الجلاد.
فتخطت مادلين الصفوف، وارتمت على صدر أبيها، فأراد ماتيو التفريق بينهما غير أن بقية رحمةٍ منعته من ذلك، فرافقت الفتاة أباها حتى المشنقة، وهي تنظر إلى وجهه، وكانت تمشي على مهل شاعرة بأن كل خطوة تدنيها من الساعة الهائلة، ساعة تغدو ابنة يتيمة. أما يعقوب فلم يتكلم، بل تهيأ لأن يموت موت الشجعان دفاعًا عن مذهبه. ففكر في الشهداء الماضيين، وفي سيره على خطتهم واقتدائه بهم.
ولما آن وقت افتراق مادلين عن أبيها تولاها الضعف والجزع، فقال لها: لا تجزعي يا بنية فموعدنا السماء.
فقبلته لآخر مرة، وركعت على الأرض مخفية وجهها بين راحتيها. فتلفظ الجلاد بكلمات مؤداها مجازاة الخائنين بما يستحقون من عقابٍ عادل. فهتف الجمهور وصاح يقول: ليمت عدو الدين! وليمت عدو الدوق دي جيز!
وهنا قال الجلاد ماتيو: تعذرني يا كتبيَّ جهنم إذا لم أنجز فيك أمر الدوق دي جيز؛ لأنه أمرني بشنقك على خشبة عالية، ولكن الوقت لا يتسع للبحث عن شجرة فأنا أشنقك بالحديد.
وطوق عنقه بطوق من حديد، وضغطه به فأزهق روحه كما فعل بجسبار عديل لارنودي فيما مضى.
فلبثت مادلين وقتًا طويلًا في ذلك المكان، ولما خطر لها الانصراف وجدت بلترو بقربها، وكان قد سافر ليلته بطولها ليرى صديقه في أواخر حياته، فأمسك بيد الفتاة، ومشى وإياها إلى البيت، فقالت له: إليك كل ما نمتلكه من مال فادفعه إلى أولئك الأنذال حتى يأذنوا لك بنقل جثَّة أبي.
فأجابها: سأفعل يا مادلين.
قالت: شكرًا لك يا بلترو، فإني لم أر سواك في وقت الشدة.
ودفع بلترو ثلاثين دينارًا حتى تمكن من أخذ الجثة ودفنها، وعاد إلى مادلين فسار بها إلى المدفن، وجاء بقسيس ليلًا فصلى على الميت. ثم إن مادلين أكرهت صديقها الوحيد بلترو على المبيت عندها تلك الليلة، فقال لها: لست قادرًا على قبول هذه الدعوة خيفة أن ينثلم صيتك.
فأجابته بكآبة: إن المدينة كلها تحسبني فتاة ساقطة، فلا صيت لي، وغدًا نتكلم عن الماضي، وعن المستقبل.
وفي اليوم التالي نزلت مادلين إلى الحانوت فأبصرت فيه كل ما يذكرها بأبيها فبكت بكاءً شديدًا، ولحق بها بلترو فمدت إليه يدها، وقالت له: أنت أخي فأنا أحبك حب الإخاء، ويحق لك أن تطالبني بإيضاح عما مضى.
قال: يالله ولم الكلام عن أشياء مضت؟
قالت: يجب أن تعرف كل شيء، ولا بدَّ لي من عفوك. فقد كنت تهواني، وحملني جنوني على أن أحتقر هواك، إلا أن ذلك لا يمكن تلافيه، كنت أهوى الملازم فرنسوا، وهو الذي كاد أن يقتلك في إحدى الليالي، وألقاك تحت نافذتي، وكنت أجهل أنك الرجل الذي وثب إليها من الشارع.
فسبقها الكلام قائلًا: هل تعرفين يا مادلين اسم الرجل؟
أجابت: اسمه فرنسوا، وهو ملازم، وقد وعدني.
قال: يا لك من فتاة مسكينة! لقد وعدك بأن يقترن بك، أليس الأمر كذلك؟
وفي تلك الدقيقة سمعا قرع الطبول في الساحة، وارتفعت أصوات الناس، فارتعد بلترو وصعد إلى شرفة البيت فتبعته مادلين، فأبصروا جمهورًا من الأشراف لابسين أفخر الملابس، وهم يتقدمون المركبات إلى ساحة أورليان.
فقالت مادلين: ما هذا؟ أليس بلاط الملك؟
أجاب: نعم يا مادلين، هذا موكب الملك فرنسوا الثاني، فإنه راجع إلى باريس مارًّا بأورليان.
وإذا بمادلين قد مدت يدها إلى أحد الفرسان، وقالت لبلترو بصوتٍ خشن: من ذاك الفارس؟
فلم يحر جوابًا.
قالت: تكلم بحق السماء!
أجاب: هو فرنسوا دي جيز.
قالت: يا للداهية.
وسقطت على الشرفة من غير حراك؛ لأنها عرفت به الملازم فرنسوا. فوثب إليها بلترو، وحاول تنبيهها، وإعادة رشدها إليها، وكان يغمغم الكلام قائلًا: ويل لك يا دوق فرنسوا، وويل لقومك؛ لأن كل ما جرى يستحق القصاص.