صديق لجاليو
كان الفندق الذي أقام فيه برنابا، أستاذ جاليو من أحسن الفنادق. فلم يأسف على فراق تلميذه في بادئ الأمر؛ لأنه أعجب بطعام الفندق وشرابه. غير أنه ما لبث أن أدركه الملل، وتولاه الضجر والسأم، فعول على الرجوع إلى باريس، وخامره شيء من القلق؛ لأن تلميذه كان قد وعد بأن يعرج على أمبواز قبل أن يلحق بأمير كوندة. فجلس عند المساء قلقًا، ولم يشعر بشهية للطعام، وإنه لكذلك وإذا بتلميذه جاليو قد ظهر عند باب الفندق محجبًا بالعرق والغبار. فهجم عليه برنابا بلهفة واشتياق. فبدره بقوله: الطعام قبل كل شيء!
وجلس الأستاذ والتلميذ إلى مائدة في غرفة برنابا؛ لأن جاليو لم يشأ أن يتعشى في القاعة العامة. فلما شبع جاليو وارتوى قال لأستاذه: سَل الآن ما بدا لك. قال: حدثني بخبرك واكفني مئونة الاستفهام. ماذا وقع لك بعدما تركتني للوحدة والوحشة؟ أجاب: كيف تذكر الوحدة والوحشة وأنت في فندق أنيق قد اشتهر في بلاط طوران بمطبخه وحلواه وخموره؟ قال: لقد تركتني يا ناكر الجميل، ولو لم تعد لانتقلت من الحياة إلى الموت.
أجاب: لو وقع ذلك لكان الخطب جللًا. فقد سافرت مع الأمير حتى أوصلته إلى البلاط وانتظرت، ولما رحل الأمير ولم يرجع قبض عليَّ دي جيز وحبسني، ولولا الملكة كاترين لأسلمني إلى الجلاد، وهو فيلار شر الجلادين. قال: ألم أشِر عليك بأن تبقى في مدرسة السوربون بدلًا من السقوط في مفاسد البلاط ومهالكه؟
أجاب: ليس ذلك بالأمر الذي يستحق الذكر بعدما أنقذتني كاترين مرتين: الأولى: في شنونسو، والثانية: في أرتناي.
قال: إن كاترين هذه ملكة عظيمة.
أجاب: منذ ليلتين نصبت شركًا على يد خادمة إيطالية لسجَّاني، وسكر السجانون الآخرون، ثم أقبلت الملكة بنفسها عليَّ.
قال: الملكة بنفسها؟
أجاب: نعم، فتناولت يدي وأعطتني جوادًا وذهبًا وسيفًا، وغدارتين وخنجرًا نفيسًا، ورسالة إلى أمير كوندة، فأنا سفير يا أستاذي، وقد بحت لك بسري فأقسم لي على أن تموت قبل أن تبوح به.
فانشرح صدر برنابا لسرور تلميذه، ورفع زجاجة خمر بيده، وقال: إني أقسم لك. ثم قال: إن هذه الملكة بديعة، ولا أدري لماذا يفضل عليها الملك فرنسوا الثاني دوقة من فالنتين، وآل مدسيس أقدم نسبًا؟ قال جاليو: بل يقال إن أسرتها قد تعاطت التجارة قديمًا. أجاب: كلا يا بنيَّ.
وهنا أخذ الأستاذ يسرد على تلميذه نسب أسرة مدسيس بإسهاب، حتى قال جاليو: تالله لئن لقيت الملكة كاترين لأطلعنها على تاريخ قومها.
فطفق برنابا يفيض في شرحه حتى غلب النعاسُ جاليو، فحمله كأنه يحمل طفلًا صغيرًا، ووضعه على فراشه، وقعد إلى جانبه لكي يرقب يقظته، إلا أنه ما لبث حتى نام مثله، وفيما كان جاليو يرى في حلمه مرسلين والملكة كاترين، ضرب باب الغرفة ضربات متوالية عنيفة، فصاح الأستاذ: مهلًا بحقِّ السماء! فعندي غلام نائم. فقيل له: افتح! قال: من أنتم؟ قيل: افتح باسم الملك!
فنهض جاليو وبادر إلى النافذة ليثب منها إلى الأرض ويفر، فأبصر تحتها ثلاثة رجال يحملون الحراب، فقال: ويلاه لقد فسد كل تدبير، ولكن لماذا تركتني أنام يا أستاذي؟ فأجابه: لقد كنت نائمًا نومًا عميقًا.
وتكرر النداء من الخارج فعرف جاليو صوت البارون دي برداليان. فتناول رسالة الملكة ودسها في ردنه حتى يبتلعها بسهولة عند الحاجة. ثم حشا غدارتيه وعلقهما في نطاقه، وشهر سيفه الطويل، وأعد خنجره، ثم طلب إلى برنابا أن يختبئ في إحدى الخزائن.
وكان برداليان ورجاله بالباب يصرخون، افتح الباب! واستمرَّ ذلك بضع دقائق، ثم انكسر الباب تحت صدمات المهاجمين، فأبصر جاليو جماعة من الرجال قد ملئوا الدهليز، وكان أحدهم يحمل مصباحًا فأطلق عليه جاليو النار فخرَّ صريعًا، وانطفأ مصباحه معه، وكان جاليو قد لاحظ جهة الباب فطرح عنده كل ما أمكنه طرحه من صحون وزجاجات وكراسي حتى قال برداليان: ما أحسب الذين في داخل هذه الغرفة أقل من عشرين رجلًا.
إلا أن جاليو لم يقتنع بفوزه الأول. ففيما كان برداليان نازلًا ليعد هجمة ثانية جذب السرير إلى أمام الباب، وكان يأمل بذلك أن يتمكن من طلقة نارية ثانية، إلا أنه لم يكن قد حسب حسابًا لمن في الخارج. ففيما كان يسدد غدراته إلى أحد رجال برداليان سمع النافذة وراءه تفتح، فانثنى وأطلق النار على رأس أحد الجنود، وكان قد صعد إلى الشرفة، وسدد إليه الطلق، وهكذا قتل جاليو رجلين، إلا أنه لم يبق له إلا سيفه وخنجره، وفيما كان جاليو يطرح قتيله من الشرفة كان برداليان قد قلب السرير والأمتعة وتقدم إلى عدوه ومعه أربعة رجال، ومعلوم أن البارون تلقى أمرًا بألَّا يقتل جاليو، بل يقبض عليه حيًّا، وقد ظن جاليو أن ساعته الأخيرة قد دنت، وركع برنابا يصلي في مخبئه. فاستند جاليو إلى الجدار بعدما اجتذب إليه خوانًا وكرسيين، وجعل يمدُّ سيفه الطويل إلى الرجال، فلم يجسروا على الدنو منه برغم حرابهم. فاضطرَّ برداليان إلى الهجوم عليه بنفسه قائلًا لرفاقه: اهجموا عليه أنتم من جانبيه.
وللحال ناله جاليو بضربة سيف على كتفه اليسرى، وقال له: لقد ظننت أن هذه الكتف تحسد تلك.
فصرخ برداليان من شدة الحنق والكمد، وهجم على عدوه، وقلده رجاله حتى ضايقوا جاليو مضايقة ظن معها أن هلاكه محقق، ومع ذلك فلم يصب إلا بخدوش هشمت ساعديه وكتفيه فتجلد. ثم دنا أحد الجنود رافعًا حربته، وإذا بجاليو قد طعنه في عينه بخنجره فارتمى المسكين من غير حراك على الخوان فانقلب معه، وزال حصن كان جاليو يحتمي به. فلما رأى سائر الرجال خلو الساحة تقدموا، فصاح بهم برداليان: لا تقتلوه، وإنما اضربوا ساقيه.
فارتعد جاليو لعلمه بما وراء نجاته من عذاب يلقاه من يد الجلاد، وأشفق برنابا على تلميذه فاضطرب وهو في مخبئه أشد اضطراب، وللحال خطر له خاطر عجيب، فقبض على زجاجة خمر، وخاطبها بقوله: انطلقي أيتها الزجاجة المحبوبة رسولًا إلى هؤلاء الرجال المسلحين، فأبلغيهم أن في الخمر منافع للناس، وأطفئي أنوارهم وأنقذي تلميذي العزيز.
ثم صوبها إلى البنادق الثلاث فرماها بالزجاجة، فانصب ما فيها على ذبال البنادق فتقهقر الرجال الثلاثة مذعورين، ولجئوا إلى الباب، فاعترضهم رجل طويل القامة، وقال لهم: إلى الوراء أيها القتلة، يا من لا يستنكفون من مهاجمة شريف واحد وهم عشرة.
ثم قال لجاليو: مهلًا أيها البطل إني نصيرك.
وكان جاليو في أشد الاحتياج إلى هذه المساعدة؛ لأنه كاد يفقد حواسه، وتأخر برداليان لينظم القتال تنظيمًا آخر، فانتهز جاليو هذه الفرصة فتخلص من الرجل الأخير حامل الحربة، وكان نصيره الجديد قد طرح اثنين من حملة البنادق، فبقي برداليان بين سيفين، فلاح له أن أجله قد دنا، وخطر لجاليو أن يرديه قتيلًا، إلا أنه أبى أن يقتله ومعه رجل آخر، فقال له: سلم نفسك! أجاب: أبدًا! قال: إذن نأخذك أسيرًا.
ولم يكن برداليان قادرًا على مقاتلة ذينك الرجلين؛ لأن صديق جاليو الجديد كان ماهرًا مثله في ضرب السيف، فما لبث أن أصيب بجرح وسقط مغمى عليه، فانثنى الطالب إلى منقذه، وصاح يقول: لست أعرفك يا سيدي، وإنما أعرف أنني لولاك لكنت قتيلًا. فحياتي لك واسمي جاليو دي نرساك من رجال أمير دي كوندة.
فأجابه: إن الأمير جنديٌّ شجاع، وقد قاتلتُ تحت إمرته، ويعجبني أنني أسديت يدًا إلى واحد من رجاله البواسل، واسمي ترولوس دي مزغونة.
فتأمل الرجلان وقتئذٍ ساحة القتال فأبصرا الجثث مبعثرة، والكراسي مقلوبة، وصاحب الفندق بالباب حاملًا مئزره بإحدى يديه، ماسحًا بالأخرى عينيه، ورأس برنابا بارزًا من باب الخزانة، وقد تنهد، وقال: يا له من منظرٍ فظيع!
فقال صاحب الفندق: ومن يدفع لي ثمن ذلك كله؟
فعطف جاليو على البارون وفحص جراحه فلم يجد فيها جرحًا مميتًا. فوضعوا الجرحى على الفُرش، ونقلوا القتلى، وأعدَّ صاحب الفندق لائحة بمبلغ كبير تمكن جاليو من دفعه من مال الملكة الوالدة. فخلا الصديقان وبرنابا، فقال جاليو: أي جهة تقصد يا سيدي، أشمالًا أم جنوبًا؟ فأجابه: كنت ميممًا بلاط فرنسوا الثاني في طلب التوفيق، فهل لك في مساعدتي؟
فأجابه: نعم، ولكن الأمير ورجاله ليسوا على وفاق مع بلاط الملك في هذه الآونة، وإني ذاهب إلى غاسقونيا لألحق بالأمير.
قال: لست أرى الطرق طرق أمان، فهل لك في استصحابي؟
أجاب: حبًّا وكرامة، ولكن ذلك السير يرجعك إلى الوراء.
قال: لا يهمني ذلك. فأنت تعرِّف الأمير بي فيذكر أنني كنت من المقاتلين تحت لوائه، ثم نرجع معًا إلى البلاط. فما رأيك؟
وتصافح الرجلان. فقال برنابا: وأنا فماذا أفعل؟
فأجابه جاليو: أنشئ خطبة بليغة عن القتال الذي شهدته، وفصِّل فيها كل ما رأيته من بداءة المعمعة حتى وصول دي مزغونة، وقد كان سيفه آية النصر لنا.
فقال مزغونة: ولماذا لا تسافر معنا أيضًا؟
قال: إلى غاسقونيا؟
أجاب جاليو: نعم، فإن الفراخ هناك طيبة، ولحمها طري، والخمرة جيدة، وشربها لذيذ، والفتيات حسان فاتنات.
– إذن فقد وجدت ضالتي.
قال جاليو: وما رأيك إذا لحق بنا أعداؤنا؟
قال: ما أظن هذا البارون يستطيع لحاقًا بنا، فهو لا ينهض عن فراشه إلا بعد أيام طويلة، وأنا أعرف الطرق فلا أدع أحدًا يهتدي إلى آثارنا.
قال جاليو: إذن هيا بنا نسافر. وهكذا سافر الثلاثة.