في التصويرة التي نبهت فضول دي مزغونة
وصل جاليو وترولوس إلى قصر يقال له «بو» فاستقبلهما الأمير أحسن استقبال، وبعد أن أخبره جاليو بما وقع له، قال الأمير: استريحوا الآن أنت وصديقاك، واصبروا.
فأعجب برنابا بهذا الجواب، وكان برنابا أنعمهم بالًا، وأحسنهم حالًا؛ لأنه عكف على طعامه وشرابه، وود إنفاق العمر بين الطاس والكاس في ذلك الموضع الذي رآه أشبه بجنة عدن.
أما ترولوس وجاليو فقد تمكنت بينهما أواصر المودَّة، وتوثقت عرى المصافاة والمصادقة، وكان ترولوس على مذهب البروتستانتيين، فانضمَّ إلى رجال أمير كوندة، وقد سرَّ ذلك الأمير؛ لأنه عرفه من أنصاره في حصار متس، وكان هذا الشاب في نحو الخامسة والثلاثين، طويل القامة، حسن المنظر، كثير التفكير والتأمل. فهو في ذلك على عكس ما اتصف به جاليو الفكه الخلق، الحلو المعاشرة. إلا أن بين الصديقين جامعة أخرى هي البسالة الحقيقية، وحب التعرض للمخاطر، وكان يلذ للأمير التنزه معهما على ضفاف نهر الغاق، أو في الوديان التي تحدق بها هناك الجبال الشامخة. فلما كان ذات يوم، قال الأمير لجاليو: ما أراك تحب بلادنا وجبالنا؛ لأنك لا تكلمني عنها، فأجابه: إني لمعجب بها كل الإعجاب؛ لأنها جنة الله في أرضه، ومتى وصلنا إلى بلاط الملك سمعت مني وصفها البديع، وقال الأمير لبرنابا: وأنت فما رأيك أيها الأستاذ؟ فأجابه: من لي بصرف العمر في هذا البلد السعيد؟
وبعد صمت قصير المدة، قال الأمير لجاليو: ما رأيك في مهمة تذهب بها إلى البلاط؟ فصاح جاليو: إني للمهمات يا مولاي، فإن شئت سافرت الليلة! قال: وأنت يا دي مزغونة؟ أجاب: أرجو أن تأذن لي فأصحب صديقي. قال: لقد تبين لي أن جمال هذه البلاد لم يؤثر فيكما، إذن تسافران غدًا.
فأظلم وجه برنابا، إلا أنه لم يجسر على اعتراض. فقال الأمير: إلا أنكما أجزلتما الولاء لبرداليان وعاملتماه بكرم الخلق، ولا بدَّ من أن تجتمعا به هنالك، فأجاب جاليو: ليتنا نستأنف القتال معه. فضحك الأمير، وقال: لست أرتاب في ميلكما إلى مبارزته، ولكنني أودَّ أن أعرضكما لغيره، فاسمع يا جاليو. إن الملكة الوالدة قد أخذت تشعر بضعف العزيمة، والعجز عن مقاومة آل جيز وحدها، وفي الرسالة التي وصلت إليَّ منها على يدك تعدني بالمساعدة لدى الملك إذا رضيت بالرجوع إلى البلاط.
وفيما كنت أفكر في السفر بعثوا إليَّ بالماريشال سنت أندريه جاسوسًا يرصد حركاتي وسكناتي فرابني أمرهم، ومعلوم أن مجلس الأعيان يجتمع قريبًا في فونتنبلو، ولكنني قبل أن أذهب إلى هذا الاجتماع أردت الاطلاع على ما ينويه البروتستانتيون أهل البلاد الشمالية، فأرسلت إليهم رسولي لاساج فذهب فأوصل الرسالة، ولما عاد بالأجوبة تمكن فيلار الملازم عند آل جيز من القبض عليه، وأطلع الدوق دي جيز وأخوه على الرسائل التي كتبها إليَّ أشراف البلاد الشمالية، وكان بينها كتاب من قائد الجيوش هناك يعرض به عليَّ مساعدته، وكذلك كان بينها كتاب من الفيكونت شارتر ليس عليه توقيع غير حروف متفرقة، ولم يكن في الإمكان معرفة التوقيع لولا أن المسكين عندما كانت تهواه كاترين قبلًا كان قد كتب إليها أبياتًا لطيفة ما برحت تضعها بين صفحات كتاب صغير للصلاة تحمله كل يوم. فلما قابل آل جيز بين الخطين تحققوا أن صاحب الكتاب هو الفيكونت شارتر، وفي ذلك الكتاب يقول الفيكونت شارتر: «إني مخلص لك أخدمك جهدي وأنصرك على كل مخلوق ما عدا الملك والملكة الوالدة وأبناء البيت المالك في فرنسا» فقبض آل جيز على الفيكونت شارتر، وطرحوه في قلعة الباستيل، وقد أمرت كاترين على أثر ذلك بأن يمكَّن السجين من استنشاق الهواء النقي في فناء القلعة. فعليكما أن تسافرا غدًا إلى باريس، وتحاولا إنقاذ ذلك الرجل الكريم الذي عقد أعداؤنا نياتهم على إهلاكه.
قال جاليو: ثم ماذا يا سيدي؟
أجاب الأمير: ثم تنتظرانني في ضواحي البلاط، وتنبئان كاترين بقرب وصولي.
ولقد فرح الصديقان بهذه السفرة، أما برنابا فكان لا يفتأ يذكر النعيم الذي فارقه، ويقول: لقد كنا بخير وسلام في غاسقونيا.
فلما وصلوا إلى باريس نزلوا عند نيكول بوصَّه، ولما رأى برنابا وجه نيكول العريض والمائدة الفاخرة التي أعدها نسي أحزانه، فأكل برنابا حتى امتلأ جوفه، فقال له نيكول: إلى أي جهة أميل يا ترى؟ إلى جهة الأمير أم إلى جهة آل جيز؟
فأجابه برنابا: إلى جهة النقود يا صديقي.
•••
ولما أمسى المساء خرج جاليو مع ترولوس قاصدين إلى ناحية الباستيل فاقتربا من القلعة. فقال ترولوس لصديقه: قد يكون هلاكنا في هذه المهمة التي نباشرها الآن، وقبل العمل أودُّ منك أن تطلعني على سرٍّ.
أجاب: تكلم يا صديقي فليس لي سر أكتمه عنك.
قال: ما هذه التصويرة التي معك؟ لعلها من حبيبتك مرسلين؟
أجاب: لا.
– إنما عنيت التصويرة التي رأيتها مرارًا على صدرك وقت الرقاد، فهل جاءت من امرأة تهواها؟
– كلا، فلست مجنونًا لأهوى ملكة.
– أملكة هي؟
– نعم؛ لأن عليها صورة كاترين دي مدسيس، تناولتها من يدها ليلة هربي من أرتناي، ولكن ما بالك؟ وما هذا الاصفرار الذي بدا على وجهك؟
– يا للداهية، إن ما أنا فيه فظيع! آه، إنني مجنون يا صديقي فما حمَّ واقع، ولا مردَّ له ولا دافع! لقد مضى زمن وأنا أرى هذه الصورة، فأنا أهوى الملكة، وكنت غيورًا منك. كنت أضطرب من هاتين العينين، ويزعجني التفكر فيهما كلما أويت إلى فراشي! وخيل لي أنني أخون صداقتنا بحبي للمرأة التي تهواها أنت. أما الآن فقد علمت أنك لا تهواها، بل علمت أن التي أهواها هي والدة الملك! ألا تعسًا لي! بمثل هذا الغرام يهلك رجل مثلي.
ولم يكد جاليو يتعجب من شيء فقال: ولماذا يهلك به رجل مثلك؟ وهل تيأس من تلك المرأة التي تقدم على كل شيء؟
فوصلا إلى الباستيل، وأخذ يبحثان عن موضع فناء القلعة، وهو الموضع الذي أشار إليه الأمير في حديثه، وقال: إن الفيكونت شارتر يخرج إليه للتنزه في كل يوم فردهما الحراس، فابتعدا على أن يرجعا ليلًا، وكان الظلام شديد الحلك حين رجعا. فزحفا على ضفاف خندق حتى بلغا المكان الذي تجري منه إلى السجن المياه، فقال جاليو: إنما ندخل من هنا. فالبث في موضعك لأرقب الموضع فإنني أود أن أفحص الممرَّ الذي أشار إليه الأمير في إيضاحاته الخاصة.
ونزل إلى الماء فسبح فيه فوصل إلى قبة ترتفع قدمين فوق الخندق، وقد غطس بدنه في ماءٍ ووحل. فعثر بباب من حديد كالشباك، فقال: واعجبًا من باب متين كهذا يكون في مجرى المياه، ولكن من حسن الحظ أننا قادرون على اقتلاع بعض قضبانه الحديدية. قال هذا الكلام واقتلع قضيبًا إلى جانب القفل بخنجر معه حتى تمكن من مد يده وإدارة القفل، فدار الباب على رزاته وانفتح، فمرَّ جاليو سابحًا حتى انتهى به العوم إلى فناءٍ مزروع أشجارًا، وكان ذلك المكان متنزه الفيكونت شارتر، فقال جاليو: إذا أعددنا ثلاثة أفراس عند باب سن أنطوان، واتخذنا الخناجر، تم لنا النجاح. ثم رجع إلى الموضع الذي غادر فيه صديقه فألفاه ينظر إلى السُّهى مسترسلًا في تأملاته، فقال له: حسبك يا هذا فما عشق الصور بمحمود. قال: لا تمزح، ولا تهزأ بي فإني عاشق حقًّا. قال: إذن كان الأجدر بك ألَّا تمدَّ يدًا إلى إنقاذ الفيكونت شارتر. فقد قيل إنها كانت تحبه. قال: لا تكلمني عن ماضي تلك المرأة يا جاليو فإنني قد تناسيته، وأنا أهواها، ولا غرض لي من حياتي إلا أن أخدمها وأموت في سبيل هواها.
فقال جاليو: لعمر الحق هذه أول مرة أفلحت فيها كاترين بأن كانت السبب في هوًى مجرد عن الأغراض.
قال ترولوس: وعن الأمل أيضًا!
وقال جاليو: ولم ذلك، أولست شريفًا مثل الفيكونت شارتر الذي عزمنا على إنقاذه؟ ألا فاذكر ذلك يا ترولوس، كل شيء ممكن حدوثه في بلاط فالوا!
•••
وبعد يومين قبيل الفجر كان حراس الباستيل يوزَّعون على أسواره، وحاكمه يلقي بعض الأوامر. فهمَّ جاليو بمباشرة العمل فأوقفه صديقه، وقال: بل أود أن ألقى الرجل وأراه قبلك. فنزل ترولوس إلى ضفاف الخندق، ووصل إلى الفناء الذي كان الفيكونت يتنزه فيه، والمجرى الذي وقف ترولوس عنده كان محجوبًا بالأشجار الغضة، فانتظر عنده ولم يره أحد، ومن ذا الذي يخطر في باله أن في العقلاء من يتجرأ على إنقاذ سجين من الباستيل عند طلوع النهار. فلبث ترولوس منتظرًا حتى أزفت الساعة التاسعة فانفتح باب الفناء، وخرج الرجال يتقدمون سجينًا تلوح على محياه أمارات النبل والذكاء. فقال ترولوس في سرهِ: هذا هو صاحبنا الفيكونت شارتر.
ثم انزوى الحراس إلى زاوية، وتركوا السجين يتنزه كما يشاء فمرَّ المسكين مرارًا أمام الأشجار الغضة، ثم ارتمى على مقعد هناك، وإذ ذاك سمع وراءه قائلًا يقول: أتسمعني يا سيدي؟
فاهتزَّ الفيكونت، وبعد هنيهة جعل يده على فمه، وقال: هل جئت لتنقذني؟ فأجابه: نعم، قال: قل ما اسمك؟ أجاب: لست تعرفه. قال: من مرسلك؟ أجاب: أمير دي كوندة.
فنهض الفيكونت ودنا من حراسه فرآهم منهمكين في لعب النرد. فعاد إلى مكانه قرب الشجر، وقال لترولوس: كيف يتسنى لك إنقاذي؟ فأجابه: وراء هذه الأشجار ساقية ماء يفضى منها إلى خندق، فاتبعني، ولسوف نتخلص بسهولة من كل من يحاول اللحاق بنا، وقد جئناك بسيف. فإذا اجتزنا الفندق قصدنا باب سن أنطوان، وهناك خيلنا تنتظرنا لنهرب.
فلمعت عينا السجين من الأمل بالنجاة. ثم غمغم يقول: ماذا أفعل بهذه القيود؟ قال: إليك منشارًا أتيت به فإذا تمكنت من كسر إحدى حلقات قيودك قبل الوقت المعدِّ لنزهتك عدنا إليك غدًا.
وناوله ترولوس منشارًا جعله الفيكونت في ردنه. غير أن الباب انفتح وقتئذٍ، وطلعت منه امرأة لابسة السواد، فنهض السجين لاستقبالها، ثم لما عرفها سقط على مقعده يقول بصوتٍ خافت: رباه هذه كاترين! كاترين هنا!
وغمغم ترولوس يقول: هذه هي! وا حر قلباه، ما أجملها!
فتقدمت الملكة يصحبها حاكم الباستيل، وكانت تقول له: لقد فهمت مرادي. إذا تقدم أحد رجال البلاط وأنا ها هنا فلا تدعه يدخل. قال: سأصدر الأوامر بهذا الشأن.
ومضى حاكم الباستيل والجنود معه، فخلا المكان للملكة كاترين وعشيقها القديم، ولم يتلفظ الفيكونت بكلمة؛ لأنه لم يدر معنى تلك الزيارة. فسكت منتظرًا سماع كلام الملكة، فقالت له: أكنت تعدُّ مؤامرة على الملك أيها الفيكونت؟
أجاب: أنا يا سيدتي؟ إني لا أزال أجهل السبب الذي من أجله أمر الدوق دي جيز بالقبض عليَّ.
قالت: لقد أمر بالقبض عليك؛ لأنك أعددت مؤامرة مع الأمير.
أجاب: ذلك مستحيل، فأين البرهان؟
قالت: البرهان كتاب منك.
قال: مني أنا؟
أجابت: نعم، وجدوه مع رسول اسمه لاساج.
قال: لست أعرف ذلك الرسول، ولا يمكن أن يوجد معه كتاب مني.
قالت: ألا تزال ماهرًا في المخادعة؟ ألا تذكر مخادعتك إياي مع إحدى وصائفي؟
قال: من منا نحن الاثنين خادع الآخر؟
قالت: كفى ولا تهن والدة الملك!
أجاب: إذن أخبريني لماذا أتيت تكدرين صفو وحدة السجين؟
قالت: إنما أتيت لأراك، وهل تسأل النساء عن الأسباب التي تدعو إلى تفكيرهنَّ؟ لقد خطر لي المجيء إلى هنا فأتيت.
أجاب: ما دام الأمر كذلك فقد خطر لي الآن أنك أنت الآمرة بانتشالي من قصري، وطرحي في هذا السجن الهائل.
قالت: أقسم لك على أن ذلك لم يكن بأمر مني يا شارتر.
– ولكن كيف تمكن دي جيز من مطالعة رسالة لم أكتب منها شيئًا؟
– يا لك من غلام ساذج. ألا تدري أن قراءتها ممكنة إذا غطست في الماء الغالي؛ لأنك كتبتها بحبرٍ خاص؟
قال: وهل تكلم لاساج؟
أجابت: نعم، بعد التعذيب.
قال: كيف أمكن آل جيز أن يعرفوا أن الرسالة مني؟
أجابت: ألا تذكر أبياتًا كنت أرسلتها إليَّ أيام كنت تهواني؟ فهذه الأبيات كنت أحملها على الدوام في كتاب للصلوات. قد أطلع عليها الكردينال، وعرف ناظمها. إذن تكون أنت الخائن نفسك.
فانطفأ غضب الفيكونت؛ لأنه لا يستطيع أن يحقد على امرأة حرصت على أبيات كتبها إليها فنسي ما هو فيه، وجعل ينظر إلى كاترين، فقالت له: ما بالك لا تجيب؟ أجاب: بماذا أجيب أيتها السيدة، فقد صرتُ إلى السجن، ولم يبق أمامي إلا أن أهلك، وأنا شريف. قالت: أتهلك أنت وأنا نصيرتك؟ قال: أنتِ نصيرتي أيتها السيدة؟ قالت: أنبئني بما تحويه تلك الرسالة. أجاب: ليس فيها إلا مطاعن على آل جيز، وإظهار ولاءٍ للأسرة المالكة.
قالت: وماذا كتبت فيها عني؟ أجاب: لا شيء، وهل أتجرأ على الكتابة عنك في رسالة إلى رجل آخر؟ قالت: إذن فليس فيها كلمة من شأنها أن تفضحني؟ أجاب: أبدًا. قالت: وأين الرسائل التي كتبتها إليك قبلًا؟ قال: بحقك لا تحرميني منها، فهي كل تعزيتي الأخيرة.
فمدَّت الملكة يدها إلى صدرة الفيكونت شارتر، وأخرجت منها رزمة عليها شريط من حرير، فجعلتها في صدرها، وكان يبكي وهو صامت، ثم قال: لماذا أخذتها مني؟ قالت: إن الدوق دي جيز عازم على استنطاقك، وقد يتجرأ على أخذ هذه الرسائل منك. أجاب: إن رسائلك خالية من التوقيع. قالت: إن الدوق وأخاه يعرفان خطي. فماذا يجري للملكة الوالدة إذا حصلا على برهان يؤكد لهما هفوتها. على أنني سأنصرك في البلاط عند الملك، وقد تطول مدة أسرك؛ لأن ابني كارهٌ لأمير كوندة، وأنت من أعوانه. إنما ثق بأنه ما من أحد يستطيع الفتك بك.
وقد تهلل وجه كاترين منذ ما حصلت على رسائلها، فنهضت وقالت: أنا التي مكنتك من التنزه في هذا الفناء. فأجابها: شكرًا لك، وإنما آمل منك أن تمكنيني من التنزه خارج هذا السجن تحت سماء طوران.
فعطفت عليه الملكة، ولثمت جبينه، وقالت: أودعك أيها الحبيب. وكان الفيكونت شارتر قليل الوثوق بالملكة فلم يشأ مخاطبتها عن فراره، فتركها تمشي، إلا أنها رجعت بعد دقيقة ممتقعة اللون حنقًا، وحاكم الباستيل يتبعها وهي تقول: ألم أقل لك لا يدخل أحد إلى هنا؟ فأجابها: لم يكن في إمكاني أن أدع الدوق دي جيز واقفًا عند الباب.
فقال ترولوس والفيكونت شارتر معًا: الدوق دي جيز؟ فغمغمت الملكة تقول: رباه ماذا أفعل الآن؟
فنهض الفيكونت، واقترب من الملكة، وقال لها: إنما يهمك أيتها السيدة ألَّا يراك الدوق ها هنا. أجابت: بلا شك يا حبيبي، والويل لي إذا رآني.
وبقي حاكم السجن وراء الملكة بعيدًا عنها قليلًا، وهو يحرك قبعته بيده حائرًا، فقال الفيكونت: يوجد وسيلة يسيرة، وهي أن يرجعني حاكم السجن إلى سجني سريعًا فيتبعني الدوق إليه، وإذ ذاك يمكنك الفرار.
قالت: هذا هو الرأي الصواب. فأسرع يا مسيو دي برسان (اسم حاكم السجن) وخذ السجين إلى سجنه، ودبر كيف شئت كي لا يمرَّ الدوق بالفناء، وإلا فويل لك مني!
فانحنى الحاكم، وأمسك يد الفيكونت، فلما صار إلى عتبة الباب أشار إلى الملكة كي تختبئ وراء الأشجار.
فوثبت كاترين إلى الموضع الذي كان مختبئًا فيه ترولوس، ولما رأته أمامها بُهتت وارتاعت، وقالت له: من أنت؟ وماذا تفعل ها هنا؟ فأجابها: أنا رجل يهواك أيتها السيدة ويموت فداك.
ولقد وصل الدوق إلى القلعة، وفي نيته استنطاق الفيكونت شارتر، فأبصر مركبة وخدمًا عند الباب، إلا أنهم بملابس ليست ملابسهم، أما المركبة فقد انتزع عنها الشعار الملكي، ولكن الدوق عرف الخدم، وأحس بإحدى الدسائس الخفية. فدخل القلعة، وأخذ يحقق النظر، ويتفقد كل مكان وكاترين واجفة الفؤاد، واقفة قرب ترولوس. أما هذا فكان مسترسلًا في لذة القرب من تلك الملكة غير مفكر في خطر موقفه، وكان كل منهما ممسك أنفاسه، وقد حاول الحاكم إمساك الدوق غير أن هذا وثب إلى الفناء، وسرح بصره في كل ناحية، ثم عاد إلى القلعة فانطبق الباب وراءه، فقالت كاترين: لقد نجونا! فقال ترولوس: لقد وجب الرحيل من هنا أيتها السيدة.
قالت: ويلاه، وكيف ذلك وحرس الدوق عند الأسوار؟ وهل يمكن الخروج من هنا دون أن يروني؟ قال: أيصعب عليك أن تجتازي خندقًا؟ أجابت: كلا. قال: إذن فاتبعيني. قالت: إلى أين؟
فلم يجب ترولوس، وخاف ألَّا تكون الملكة قادرة على المرور مثله في ذلك الخندق، إلا أنه رآها تبتسم، وتشير إلى حجر في زاوية، ثم قالت له: ارفع هذا الحجر.
وذلك لأن الملكة الوالدة كانت تعرف مخارج القلعة السرية التي لا يعرفها إلا أعضاء الأسرة الملكية، وذلك واحد منها. فرفع ترولوس الحجر فأبصر بابًا أمامه، فقالت: لندخل، ودخلا، ثم أقفلا الباب بعد أن أرجع ترولوس الحجر إلى موضعه، وسارا في ممر محفور في الجدار حتى وصلا إلى باب مشرف على الخندق ففتحه ترولوس بسهولة، ونزل حتى وصل إلى فم الخندق، ونادى جاليو فأقبل يقول: أين الفيكونت شارتر؟ فأجابه: يستحيل إنقاذه.
قال: وكيف أتيت من هناك؟
أجاب: سوف تعرف ذلك. أما الآن فلا بدَّ من إنقاذ الملكة كاترين.
قال: الملكة؟
أجاب: نعم. فانزل إلى الخندق إن الماء فيه قليل، وفي وسعنا حمل الملكة إلى الضفة الأخرى. قال: لم أفهم شيئًا.
فأجابه: سوف تفهم كل شيء.
فأطاع جاليو وهو يظن أن رفيقه قد جُنَّ. أما مزغونة فحمل الملكة على ساعديه، وساعده جاليو فنقلاها إلى ضفة الخندق دون أن تبتلَّ ملابسها بالماء. أما جنود القلعة فقد هاج فضولهم قدوم الدوق إلى الباستيل فلم يلتفتوا إلى الأسوار، وهكذا اجتازت الملكة مع الرجلين، ولم يجدوا في طريقهم إلا حارسين من حرس الدوق أرادا أن يمنعاهم من السير. إلا أن جاليو ومزغونة كانا إليهما أسرع من الصاعقة فطرحاهم قتيلين بضربتين من خنجريهما قبل أن يتمكنا من استخدام سلاحهما.
وقال ترولوس: وا رحمتاه للجنديين المسكينين. قالت: ذلك ما كتب لهما، ولا يجب أن يبوحا بما علما.
ثم خرج الثلاثة من باب سن أنطوان فوصلوا إلى الفندق أي إلى موضع الخيول. فقال جاليو: إلى أية جهة نقصد؟ فأجابته الملكة: إلى فونتنبولو.
فلما صاروا على مسافة من باريس، قالت الملكة لهما: أخبراني الآن أي معجزة حملتكما إلى خندق الباستيل؟
ولم يكن ترولوس قادرًا على الجواب؛ لأنه كان في أشد حالة من الانفعال، فأجابها جاليو: ذلك سر يا مولاتي. قالت: أتكتم عني سرًّا؟! إلا أنني واثقة من أنكما كنتما تحاولان إنقاذ سجين. أجاب: لست أريد أن أكذب يا سيدتي. قالت: وذلك السجين هو الفيكونت دي شارتر. فأجابها: ربما كان ذلك يا مولاتي.
فأطرقت كاترين تفكر، وقد أدركت أنها بوجودها في السجن حالت دون نجاة ذلك الفيكونت السيئ الحظ، وأنه بذل حريته فداءً عن حريتها، فأثر فيها ذلك البرهان بمقدار ما يؤثر في تلك المرأة برهان مثله، وهي لم تكن تهوي شيئًا مثل القدرة والسلطان.
ثم قالت: كيف قدمت إلى هنا يا مسيو جاليو دي نرساك بعدما غادرتك متوجهًا إلى غاسقونيا؟
أجاب: لقد رجعت يا سيدتي مع صديقي ترولوس كونت دي مزغونة، وهو أشجع رجل في الدنيا، وكاد يقتلني ليحصل مني على التصويرة التي أذنتِ لي بأخذها منك.
فاصفرَّ وجه ترولوس، وقال: هذا صحيح. فقالت كاترين: وماذا جرى لرسالتي؟ فأجابها: لقد أوصلتها إلى الأمير. قالت: ورسالة الآنسة دي ليمول؟ أجاب: أوصلتها إليه كذلك. قالت: ولماذا بقي الأمير في غاسقونيا؟ أجاب: لأنه في حاجة إلى معرفة ما ينويه أشراف هذه البلاد قبل أن يدخل البلاط. قالت: ألأجل ذلك أرسل لاساج؟ أجاب: نعم. قالت: وهو الذي أرسلكما لإنقاذ الفيكونت دي شارتر من الباستيل؟ أجاب: نعم. قالت: إن ابن عمي أمير كوندة صديق وفيٌّ يا جاليو، فتقدم وانظر لئلَّا يكون أمامنا عدوٌّ ينوي قطع طريقنا.
فتقدم جاليو بجواده إلى مسافة مائتي خطوة، ثم تركه يتمشى على مهلٍ وهو يفكر في الحوادث التي قضت عليه بإنقاذ الملكة كاترين بدلًا من إنقاذ الفيكونت شارتر. أما كاترين فأقبلت على الكونت دي مزغونة تتفرس في وجهه، وقالت لهُ: اذكر أنك طارحتني الحبَّ منذ هنيهة. فأجابها: إني خاطبتكِ يا مولاتي بما يطفح به فؤادي. قالت: ألا تحسب حسابًا للخطر الذي يحيق بمن يهوي ملكة إذا لم يكن أميرًا من سلالة لملوك؟ فأجابها: لست أبالي بالخطر والهلاك إذا مُتَّ، وأنا قادر على القول إنني عشقت. نعم، أنا أهواك، ونحن الآن وحدنا فلا مانع يمنعني من مخاطبتكِ كما أشتهي، ولا حائل يحول دون أن أبثَّك سرَّ فؤادي، ولسوف تهزئين بي متى علمت كيف دخل هواك فؤادي. لقد كانت مع جاليو تصويرة رأيتها، قالت كاترين: إنه اختلسها مني اختلاسًا، قال: لقد أعجبتني تلك الصورة ورأيتها جميلة، بل أجمل من كل ما رأيت. فتعشقتك من مجرد النظر إلى الصورة ودون أن أعرف من أنت، ولم أدرِ أنها صورة الملكة كاترين إلا منذ أيام فقط. فبكيت يومئذٍ وكدت أموت يأسًا وغمًّا، وحسبت نفسي مجنونًا؛ لأنني تعشقت ملكة يعجب بها ويحبها كل الناس، وإذ بي قد أبصرتك، وخدمتكِ، وكلمتك. آه يا سيدتي، مُريني بأن أموت إذا شئت، ولكن قولي لي إنه ليس في مخاطبتي إياك بهذا الكلام إساءَة كبرى، وإنك تصفحين عن اجترائي.
قالت: إني أحبُّ كل فتى جَريء أيها الكونت.
وحثَّت كاترين جوادها فلحقت بجاليو، وبقي ترولوس كالمجنون يقول: إني أسيرك أيتها الملكة، وأسيرك دائمًا أبدًا!