العاشق الجديد
قضى فرنسوا دي جيز ساعتين في الباستيل باحثًا فيه عن الملكة الوالدة، وعظم استياؤه وحنقه لما لم يجد لها أثرًا، وجعل حاكم السجن يقسم أنه لم ير امرأة دخلت الباستيل. أما الفيكونت دي شارتر فقد أهانهُ، وقال له: أنت شريف غادر. فسخط فرنسوا وأمر بالتضييق على ذلك السجين، وفيما كان راجعًا من القلعة قاصدًا إلى ناحية باب سَن أنطوان وقف أمام جثتي الحارسين، فأمر بدفنهما، واتجه إلى ذلك الباب، فقيل له: إنه قد خرج منه منذ ثلاث ساعات رجلان يصحبان امرأة لابسة ثيابًا سوداء. فقال في نفسه: هي الملكة ولا ريب، فمن الذي أخرجها من الباستيل يا ترى؟
ولكنه لم يهتدِ إلى جواب على هذا السؤال فطأطأ رأسه، وسار إلى فونتنبلو وهو يعزِّي نفسه بقوله: قد اقترب وقت اجتماع مجلس الأعيان، وسأكون في المجتمع السيد الآمر، ولا يجسر أمير كوندة على الحضور.
وسار في الطريق الذي سارت فيه الملكة الوالدة وجاليو وترولوس قبله بضع ساعات، حتى وصل إلى فونتنبلو ليلًا فألفى القصر غاصًّا بأعيان البلاد، ووجد أخاه الكردينال في غرفته يتمشى مضطربًا، فقال له: ما بالك يا أخي؟ إني أرى على وجهك علامات الاضطراب. فأجابه: إني شاهدت موكب ابن عمنا مونمورانسي فرأيته كبيرًا، وعدد رجاله يفوق الحصر، وكأنما أراد به نكايتنا وإذلالنا. قال: ألم تأمر جيوشنا بالأوبة إلى فونتنبلو؟
أجاب: نعم، ولكن كان قد مضى الوقت؛ لأن موكب مونمورانسي وصل أولًا، واتخذ له مواقفَ ومحطات على أبواب المدينة، وأصبح متسلطًا على طريق باريس.
قال: وهل من شاغل آخر يشغل فكرك؟
أجاب: نعم، فإن مونمورانسي قابل الملكة الوالدة مقابلة دامت وقتًا طويلًا.
قال: يا له من شيخ محتال.
قال: هل من نبأٍ عن أمير كوندة؟
أجاب: لست أظنه يأتي ولا يأتي أخوه؛ لأن رسائل الدعوة لم ترسل إليهما إلا متأخرة.
قال: لعلك مخطئ في ذلك.
قال: ما معنى هذا الكلام؟
أجاب: ألا تتذكر وصيف أمير كوندة ذلك الفتى المحتال المدعو جاليو دي نرساك؟
– نعم، وهو الذي كنت قبضت عليه.
– وفرَّ في أرتناي.
– لقد صادفته الليلة يمشي في زقاق ضيق، ويرجح عندي أنه أرسله إلى هنا جاسوسًا، ولعله لاحِق به.
قال الدوق: دعنا منه. أما من مشاغل آخر يشغل ذهنك يا أخي؟ فتنهد الكردينال، وقال: لعلك تروم التكلم عن الملكة الوالدة.
واصفرَّ وجهه، ثم قال: هنالك الخطر الحقيقي يا فرنسوا، فإن هذه المرأة تروم أن تعبث بنا وتطردنا من البلاط، وقد مضى يومان لم يرها فيهما أحد ها هنا، وقال نساؤها إنها مشغولة بالصلاة. فحاولت اليوم الدخول عليها من الممر السرِّي فوجدته لأول مرة مقفلًا. فلما كان المساء تكرَّمتْ بقبولي زائرًا بعد مونمورانسي، فأبصرتُ في مخدعها ثوبًا وحذاءين، والغبار يعلوهما وكأني بها قد وصلت من …
قال الدوق: من باريس ولا شك.
قال الكردينال: وماذا فعلت فيها؟ أجاب: ألا تدري؟ إنها ذهبت لعقد مؤامرة مع الفيكونت دي شارتر، وهي التي أشارت بطرحه في الباستيل.
قال: هل زارت الباستيل؟
أجاب: بل زارت الفيكونت فيه، وتمكنت على الرغم من كل تدبير دبرتُه من التخلص مني دون أن ألقاها.
قال الكردينال: وماذا قال لك شارتر؟
– لقد ارتاب بي، فأمرت بالتضييق عليه، وطرحه في سجن أشد رطوبة من سجنه الأول.
قال الكردينال: أحسنت بذلك يا أخي، فإنني أشد الناس بغضًا لمن أحبَّتْهم، وهل تظن الآن أنها لا تذكر ودادي؟ اسمع ما قالته لي يا أخي. قالت: «إن الكنيسة تحظر عليك أيها الكردينال أن تغازل امرأة»، أواه، لقد تمنيت أن تنقاد إليَّ بالسياسة أو بالطمع، أكثر من ذي قبل، ولئن امتنعت عني فلا أريد أن تميل إلى غيري.
قال الدوق: من ذا يتجرأ على حبها؟
أجاب: لا أدري، ولكن هل تذكر يا أخي كيف كانت تلمع عيناها فرحًا يوم كانت تهوى شارتر اللعين، وأي اضطراب كان في صوتها؟ فقد لاحظتها اليوم يا فرنسوا، فهي عاشقة، وعاشقة غيري.
فأجابه الدوق: إذن سوف نقتل عشيقها الجديد؛ إذ لا بدَّ من أن تكون لك وحدك دون سواك.
ثم إن الدوق ذهب فتفقد مواقف الجند والحراس الذين أقامهم على حراسة الملك بعد حادثة أمبواز، وفيما هو عائد إلى مخدعه لفت بصرهُ رجلان رآهما كأنهما يتخاصمان عند القصر فدنا واختبأ وراء شجرة وأنصت إليهما. فقال أحدهما: ألا تأتي معي؟ فأجابه الآخر: دعني، دعني أنظر إلى النافذة. قال: ألا تأتي، ألا تنتهي من هذا الجنون؟ أم تروم مني أن أتخذ السماء غطاءً والثرى وطاءً.
وتظاهر المتكلم بأنه يتمدد على الثرى، فأجابه رفيقه: صبرًا، فإنها اقتربت إلى نافذتها وفتحتها، وتميَّزتُ وجهها، وقد أشرق عليه ضياء الكواكب.
وكان الدوق يرقب الحركات ويسمع الحديث. فلما رأى الشاب يمد يده إلى النافذة، رفع بصره فعرف نافذة الملكة. فقال في نفسه: إن أخي على صواب، وهذا الشاب حسن المنظر. إلا أنه — من سوء حظه — لم يستطع أن يرى وجهه؛ لأنه كان محجوبًا بردائه. فلما سار مع صديقه حاول اللحاق به، إلا أن الشابين اختفيا في زقاق ضيق، فرأى من الحكمة أن يرجع عنهما.