مجلس الأعيان
في اليوم العشرين من شهر أغسطس (آب) سنة ١٥٦٠ اجتمع أعضاء مجلس الأعيان من أطراف البلاد الفرنساوية، وسائر أنحائها في قصر فونتنبلو، وكان معظمهم وقوفًا، وأقبل مونمورانسي في مقدمة جمهور غفير من رجاله، وكان الملك ينتظره مع الملكتين في حجرته. فمثل بحضرته، وقال: لقد جئت أيها الملك صادعًا بأمرك. فأجابه: لقد سرني أن أراك بيننا؛ لأنك تفارقنا كثيرًا؛ ولأننا في حاجة إلى آرائك، ولكن لا أدري لماذا يقل وجودك معنا؟ فهل تحسب نفسك آتيًا إلى بلاط عدوٍّ؟ إن حرسك الكثير يعدل حرسي أنا.
فأجابه: إن رجالي أيها الملك رجالك، وكلهم مخلص صادق يتمنى الدفاع عنك والموت لأجلك.
قال: لعلنا نحتاج إليهم، فإن أعداءنا وقحاء يزداد اجتراؤهم علينا كل يوم، والآن هيا بنا إلى المجلس!
وبعد هنيهة دخل الملك مجلس الأعيان، وتبعته الملكتان ماري وكاترين، ووراءهما شقيقا الملك، وآل بوربون ولورين، والدوق دي جيز وأخوه وغيرهم ممن يضيق المقام عن إيراد أسمائهم. فتكلم الملك قائلًا: لقد جمعناكم أيها السادة للمفاوضة في شئون مملكتنا، ونروم أن يتكلم كل منكم بنزاهة ضمير، وقد تلقينا مُلْتَمسًا من المسيو دي شاتيليون سوف تسمعون نصه.
ثم التفت الملك إلى الأميرال دي شاتيليون، وقال: تكلم.
فنظر الدوق دي جيز وأخوه الكردينال كل منهما إلى الآخر؛ لأنهما كانا ينتظران أن يكونا البادئين بالتكلم في ذلك المحفل، ونظر الكردينال إلى وجه كاترين ليطالع فيه ما يخامر نفسها، فرآها تبتسم كأنها غير مكترثة لما أمامها، وأما الملكة ماري فظنت أن ذلك المجلس السياسي تطول مدة انعقاده، وأن ما يقال فيه مملٌّ فكان السأم ظاهرًا على ملامحها.
ووقف الأميرال دي شاتيليون، وهو من أنصار المذهب الكاثوليكي، فقال: إن أصل الاضطرابات ناجم عن التعصُّب والاضطهاد الديني، وأن المضطهَدين (بفتح الهاءِ) سلموه ملتمسًا لجلالة الملك ليس عليه توقيع، ولكن خمسين ألف نورمانديٍّ قد يوقعون عليه عند الحاجة، ومؤداه وجوب اجتناب الوشايات التي يُرمى بها أبناء المذهب البروتستانتي. فهو يطلب إلى الملك والمجلس أن يختصوهم بمواضع وهياكل يمكن فيها إلقاء الوعظ علنًا، ومباشرة الشئون المتعلقة بمذهبهم وعبادتهم.
ثم نهض آخر فشبَّه الدولة بعليل لا يمكن شفاؤهُ إلا بتشخيص علته، فنهض الدوق، فقال: إنه مستعدٌّ لتقديم حساب عن إدارة الحربية والجيش، وقال الكردينال: إنه يؤدي حسابًا عن المالية؛ لأنه ناظرها، وأعلن أن النفقات تزيد مليونين وخمسمائة ألف ليرة عن إيرادات البلاد. ثم تكلم كثيرون، وتفرقوا وفي يد كلٍّ منهم مذكرة للمواد التي يشاور فيها الملك، وكان موعد انعقاد المجلس الثاني في اليوم الثالث والعشرين من ذلك الشهر، وخرج الملك مع الملكتين، واستصحب المسيو مونمورانسي، وكان معنى ذلك، عند الدوق وأخيه، انحراف الملك عنهما وقرب زوال حظوتهما عنده. فقال الكردينال: إذا عرفنا كيف نتصرف كانت النتيجة حميدة لنا. فأجابه الدوق: لا جرم أن الضربة آتية من ناحية الملكة. قال الكردينال: بِلا شكٍّ!
وفي ذلك المساء أقيمت حفلة راقصة، وكان الدوق يراقب فيها كاترين فرآها تجتنبه. فتمتم الكلام قائلًا: حذار أيتها الملكة العظيمة، فإن عينيك تلمعان لمعانًا كثيرًا، فويل لك إذا جاء عشيقك الليلة فوقف تحت نافذتك!
ولما انتصف الليل أطفئت أنوار القصر، وسكنت حركة المدينة، إلا أن الأنوار لم تنطفئ في المدينة كلها، ولا سكنت الحركة في كل مكان، فقد رقد فرنسوا الثاني وزوجته رقاد عاشقين في أول عهد هواهما، ولكن الملكة الوالدة لم تنم، وكذلك الدوق وأخوه الكردينال، ونام زوج مرسلين، أما هي فلم تنم، بل كانت ساهرة إلى جانب نافذتها، والسماء صافية، والكواكب طالعة، والشذا يتضوع في الهواء، وقد هبَّت نسماته من ناحية الغابات، فحملت ما في أزهارها من طيب، والبلابل تغرد، ومرسلين معجبة بما في تلك الليلة من دواعي السرور، غير أنها آسفة على فراق حبيبها.
وفيما هي كذلك كان ترولوس وجاليو يسترقان الخطى في طريقهما إلى القصر. الأول: يأمل أن تطل حبيبته الملكة من نافذتها، والثاني: يرجو أن يرى مرسلين، ويقول في نفسه: سوف أتغنى تحت نوافذ القصر فتعرف صوتي. فلما صارا إلى المكان المقصود جعلا يتمشيان تحت النوافذ التي ظلت مقفلة حتى تولاهما الضجر. فقال ترولوس: لقد ذهب سعينا ضياعًا!
قال جاليو: ما رأيك فيما إذا دعوناها؟ فقال ترولوس: ويك! هل جُننت؟ فأجابه: كلا يا عزيزي، غير أن النساء ما برحنَ يعشقنَ الغناء، وصوتي رنان رخيم، وقد تلقيت الفن عن أستاذي الخبير، فدعني أقلد البلابل أو أسكتها، ولئن سمعتني مرسلين فسوف ترى عجبًا. سوف تفتح النافذة، ثم تظهر الملكة وتطرح إليك سلمًا من حبال فتتسلق عليه، وأما أنا فأمضي طروبًا راضيًا بفوزك.
وأحس ترولوس بخطى قريبة، فقال: يوجد هنا من يرصدنا. فأجابه جاليو: لا!
قال: بل هناك رجال مختبئون كامنون لنا.
قال: ويل لمن يتعرض لنا.
قال ترولوس: بل تعالَ نرجع.
أجاب جاليو: هيهات، فلا أرجع دون أن أرى.
وكان جاليو يحمل مصباحًا سريًّا فوجه نوره إلى الجهة التي أشار إليها صديقه، فلما لم ير أحدًا، قال له: دعني أغني. قال ترولوس: بل سِرْ بنا وغدًا نعود.
قال جاليو: أأسير، ولا أتعرض لمثل هذه الحادثة؟
ثم ظهرت امرأة في النافذة واحتجبت في الحال. فارتعد الرجلان، وكانت مدام مرسلين ساكنة في طبقة تحت الطبقة التي تسكن فيها الملكة فلما سمعت صوت جاليو أطلت كذلك، وتراجعت بعد أن صاحت صيحة ذعر وارتياع. فقال الرجلان: يا للغدر، واقتربا إلى خندق هناك، وكانت الجهة الثانية المعارضة من الطريق غاصة ببضعة رجال، شاهرين سيوفهم، واقفين يمنةً ويسرةً في عرض الطريق يمنعون المرور.
فتفقد جاليو غدارتيه، ثم جرد سيفه، وقال لترولوس: افعل فعلي ودعني أدير القتال، وارتعد ترولوس خوفًا من أن يكون قد فضح الملكة بجرأته، فلم يشته إلا أن يجرح جرحًا عريضًا، وينطرح في الخندق. أما جاليو فإنه حيَّا أخصامه ممازحًا، داعيًا لهم بالطرب والحبور، ثم قال: ماذا تريدون أيها السادة؟ فقال له واحد منهم بصوتٍ خشن: سلِّما سيفيكما!
فأجابه جاليو: اعلم يا مولاي أن سيفي رفيق لي قديم، فلا أستطيع مفارقته. قال الرجل: يا لك من ثرثار، إذن فسوف نأخذه منك رغمًا عنك.
وتقدم الرجل فألقى جاليو نظرة سريعة إلى ما وراءه فأبصر شجرة عند ضفة الخندق أغصانها، منحنية على جدار القصر، فقال لرفيقه: الزم ساق الشجرة فلا نجاة لنا إلا من هناك.
ودنا رجل من الرجلين، وقال قائل: استسلما وإلَّا فأنتما هالكان. فقال جاليو: إني أعرف هذا الصوت، وقد سمعته في وسط معمعة، وما هو بصوت برداليان، ولكنه صوت الدوق دي جيز! ومن هذا الرجل اللابس ثياب الرهبان؟ لا شك أنه أخوه الكردينال. إذن فلا يغضَّ شرفي أن أقاتلهما بسيفي؛ لأنهما من أندادي.
وقد فكر في التخلص من شر أعدائه، وأشدهم أذية؛ أي حملة البنادق، وكانوا ينتظرون أمرًا لإطلاق النار، ورأى الدوق دي جيز أن يقبض على الرجلين دون أن يقتلا. فهمس جاليو في أذن رفيقه يقول: أطلق النار على حملة البنادق! فدوى صوت أربع طلقات فسقط أربعة رجال من حملة البنادق وبقي واحد، فصاح به الدوق: ويك أطلق النار! إلا أن جاليو كان قد تمشى إليه وطعنه بسيفه وعاد في أسرع من لحظةٍ إلى مكانه قرب ترولوس، ولم يبق أمامه إلا خطوة توصله إلى الشجرة. فتناول الحراس بنادق الرجال الذين سقطوا صرعى وقدَحوا الزناد لإشعال فتيلها، ومعلوم أن موقف الجنود بإزاء الأشراف محفوف بالخطر إذ كانوا يسلحونهم، ولا يأذنون لهم باستخدام سلاحهم دون أمر، ولذلك كانوا يُقتلون قبل أن يتلقوا الأمر، وقبل أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
وهاج حنق الدوق دي جيز لفشله الوقتي فوثب على جاليو وهو يصيح: هذا دي نرساك من رجال ابن عمي كوندة، ونحن قابضون عليه هذه المرة لا محالة، فقال له جاليو: أتظن ذلك يا مولاي؟ فأجابه: بلا شك! فسلم سلاحك وإلا أمرنا بقتلك. قال: إني أفضل القتال بالسيف.
وسمعت مرسلين وهي في حجرتها اسم دي نرساك فأكبرت الأمر وأشفقت أن يقتل حبيبها تحت نافذتها ففكرت في إنقاذه وإدخاله القصر، وبعد أن تحققت أن زوجها مستغرق في النوم خرجت من حجرتها وهي حائرة، فنزلت في السلم ووقفت مضعضعة الحواس، وإذا بامرأةٍ واقفة أمامها تقول لها: إلى أين؟ أجابت: لست أدري. قالت المرأة: إن رحى القتال دائرة أمام القصر، فهل لك صديق بين المقاتلين؟ قولي ولا تكذبيني فالوقت أضيق من أن يتسع لجدال. أجابت: نعم. قالت: من صديقك؟ أجابت: هو جاليو دي نرساك.
فتنهدت المرأة وقالت: إن بعض المصالح السياسية تقضي عليَّ بالدفاع عن الرجلين فأروم إنقاذه. إلا أنني ملكة فلا يسعني أن أفضح نفسي، فإليك سلمًا من حبال، اطرحيه من النافذة التي فوق سلم القصر، فيبصره الرجلان، ويجتازا الخندق إليه، ثم يتسلقان عليه وننقذهما. فهيا وأسرعي!
فناولت مرسلين رزمة الحبال، وبادرت إلى النافذة التي أشارت إليها الملكة كاترين، وعقدت طرفي السلم في قضبان النافذة، وقبل أن تطرحه نظرت نظرة إلى من تحتها، فإذا بها ترى رجال الدوق يتراكضون إليه، وقد جردوا سيوفهم، ووقف جاليو أمامهم يدفعهم عنه بسيفه، وأراد ترولوس مساعدته إلا أن جاليو قال له: اصعد إلى الشجرة واستخدم الغدارتين.
وكان بين رجال الدوق جاسوسه جنليس، وهو من الماهرين بضرب السيف، فلاحق جاليو وضايقه، فأطلق ترولوس النار عليه فرماه جريحًا. فقال جاليو: عافاك الله يا أخي!
ولقد فرق الطلق الناري المهاجمين، واعتصم ترولوس بالشجرة بعيدًا عن سيوف الرجال، وطلب من جاليو غدارته ليحشوها وهو في موقفه العالي، وسمعه الدوق فقال: لله در هذين البطلين!
وكان جاليو قد انتهز فرصة من اضطراب المهاجمين فاستند إلى الشجرة، وأدرك ترولوس مراده فأمسكه من كتفيه فرفعه إليه فكانا كلاهما بين الأوراق.
فزعق الدوق وأخوه زعقات المجانين من شدة الحنق؛ لأنهما وهما أميران عظيمان مصحوبان بعدد من الجند، قد هاجما رجلين على حين غرة ولم يفلحا، ولم يفلح الذين حملوا البنادق؛ لأن الرجلين كانا محتجبين بورق الشجرة والرصاص يتطاير منها فيطرحهم قتلى. أما سائر الرجال فكانوا يقاتلون بسيوفهم ولم يكونوا يحملون غيرها، وسيف جاليو أطول وأقتل؛ لأنه يصيب به المقاتل من مكان مرتفع. فقال الدوق: لم يبق سبيل لنجاتهما إلا بالخندق والجدار فهما أسيران، فليذهب أحد منكم وليرجع بالرجال، فقال ترولوس لجاليو: والآن كيف نصنع؟ قال: هات الغدارتين، ووثب إلى الضفة الأخرى.
فوثب ترولوس إلى لسان ضيق من الأرض عند أسفل الجدار، وكان ذلك عندما عقدت مرسلين السلم بالنافذة، ولم يلتفت المهاجمون إلى ما جرى أمامهم، وقد بهتوا من جرأة ترولوس، فلم يدر في خلدهم أن الوثوب من الشجرة إلى الأرض أمر ممكن، وإذا بجاليو قد نزل، وصار إلى جانب صديقه شاهرًا غدارتيه، وقال: إذا تقدم إليَّ أحد أيها الدوق فهو هالك لا محالة، ولئن حاولتم هجومًا علينا تلقيناكم بالسيف، ثم خفض صوته، وقال: ما هذا؟
وقد أحس بشيءٍ على رأسه، فقال: هذا سلم، فاصعد يا ترولوس. قال: من أين لنا هذا السلم؟ قال: اصعد ولا تسأل، وكان ترولوس قد صعد حتى بلغ الطبقة الأولى بأسرع من رد الطرف، وسدد إليه أحد الرماة رصاصة فلم يمهله جاليو، بل أطلق على الرجل غدراته فرماه صريعًا. فقال الدوق: يا لك من غلام زنيم فلا بدَّ من قتلك عند صعودك؛ إذ تعجز عن استخدام سلاحك وأنت صاعد، والظاهر أن ترولوس أدرك ما يجول في ذهن الدوق فنزل سريعًا وطلب الغدارتين من جاليو، وقال له: سوف أدافع عنك عند صعودك. فصاح الدوق: أين الرجال؟ إن هذين الشقيين يوشكان أن يتخلصا منا. ولكن في أي مكان عقد هذا السلم؟ ما أراه من غرفة الملكة، فمن يتجرأ على حماية الشقيين؟
وكان ترولوس في أثناء ذلك قد وصل إلى النافذة، ونزل منها إلى الرواق في داخل القصر فلم يكلم الملكة ولا مرسلين، وكانتا أمامه، بل أطل من النافذة، ورفع صوته وقال: تعال يا صديقي ولا تخف، فعندي غدارتان كافيتان لقتل من يسدد المرمى إليك.
وصعد جاليو عاجلًا، ثم سحب السلم، وفيما كان الصديقان يشكران الملكة وهي تفكر في إتمام نجاتهما انفتحت حجرة المحامي أفنيل زوج مرسلين، ولم ير في بدء الأمر إلا زوجته، فقال: ماذا أتى بك إلى هنا؟ قالت: لقد راعني دوي البنادق. قال: من هذان الرجلان، ومن هذه المرأة؟
ثم وقف مرتاعًا من جرأته، وكانت الغيرة قد حملته عليها، فقال ما قال، لكنه لما عرف الملكة اعترته هزة، فدنت منه، وقالت له: اعلم أيها المحامي أنك لم ترَ، ولم تسمع شيئًا في هذه الليلة، وأنك تجهل وجود رجلين ها هنا معي، وإذا سئلت فقل إنك لم تفارق مخدعك. تلك إرادتي فاذهب. قال: أقسم لك يا ذات الجلالة على أنني سأنسى كل هذا! أجابت: لست في حاجة إلى قسمك، فعد مع زوجتك، وهي صديقتنا وسوف نذكرها دائمًا، وإذ ذاك ارتفعت الأصوات وانفتحت الأبواب، فعلمت الملكة أن الدوق آت مع رجاله يبحث عن الشابين، فقالت لهما: اتبعاني إلى غرفتي. قالا: شكرًا لك.
ومرت بسلم سري فوصلت إلى غرفتها، وخبأت ترولوس وجاليو في مخدع لا منفذ له إلا من قرب سريرها، وقالت لهما: البثا ها هنا، ومهما تسمعا لا تأتيا بأدنى حركة.
وظل الدوق في بحثه، وأقام أعوانه في الدهاليز والمماشي. ثم صعد إلى النافذة التي كان فيها سلم الحبال معلقًا، وكانت لا تزال مفتوحة، وبعد هنيهة امتلأ الرواق بالأشراف والسيدات، وفتح المحامي أفنيل وزوجته باب حجرتهما، وتقدما يمسحان أعينهما. فقال الدوق للمحامي: إن نافذة حجرتك قريبة إلى هذه النافذة، ألم تسمع شيئًا؟ قال: متى؟ أجاب: منذ هنيهة. قال: كأني سمعت ضجة عند أسفل القصر، فظننت أن بعض الجنود سكروا. قال: لست أتكلم عما جرى في أسفل القصر، ولكن عما جرى هنا، قال: هنا؟ أين؟ فقال الدوق: في هذا الرواق؟ أجاب: أتمزح يا مولاي؟ قال: لقد دخل القصر رجلان من هذه النافذة. قال: لم أر، ولم أسمع. فهدر الدوق ودمدم، وقال: تالله لأفتشنَّ القصر حتى أجد الشقيين.
ونزل الدوق وأقبل الأشراف رجال الملك والملكة يسألونه عن معنى تلك الضوضاء، واستيقظ الملك بغتة فأخذه القلق، واستعلم فقال الدوق: أجيبوه بأنه لم يحدث أمر ذو شأن، سوى مشاجرة بين الحراس. ثم قصد إلى حجرة الملكة الوالدة يصحبه الكردينال فتلقتهما كاترين وهي بملابس النوم، وقالت: بحقكما أزيلا ما خامرني من الانزعاج، ماذا جرى، فقد قيل لي إن المسيو جنليس جريح؟ أجاب الدوق: نعم جرحه صديق لابن عمك اللعين دي كوندة. قالت: من ذاك؟ أجاب: هو المدعو دي نرساك، وهو الذي أنقذتهِ قبلًا من عذاب الاستنطاق. قالت: تبًّا له، ألم يزدجر؟ أجاب: إنه لا يزدجر، ولا يؤخذ، وقد أفلت الليلة منا كما أفلت صديقه مستعينين بسلم من حبال طرحته إليهما امرأة من القصر. قالت: يا لله! لا جرم أن إحدى وصائفي تهوي ذلك الوصيف دي نرساك. إذن لا يحق لك أيها الدوق أن تشكو إذا كانت صاحبة الحيلة امرأة. قال: لا بدَّ من القبض على الشقيين. أجابت: أرجو ذلك، ولكن كيف كنتما خارج القصر في مثل هذه الساعة؟
فارتبك الدوق لهذا السؤال، وأجاب: لقد كنا في خدمة الملك. قالت: كأنكما من الحراس؟ فأنعم بكما من خادمين مخلصين.
فخجل الأخوان، وقالت الملكة: الشيء بالشيء يُذكر، لقد تلقيت نبأ جديدًا عن أمير كوندة وهو من تكرهانه. قال الإخوان: أحقًّا أنك تلقيت نبأ عنه، وماذا يقول؟ أجابت: إن رسالته مكتوبة من زمن، ولم تصلني إلا في هذه الليلة، سلمني إياها شريف وصل من غاسقونيا، وسوف أعرفكما به غدًا، وهو شاب لطيف المنظر، والآن أودعكما وأرجو لكما ليلة سعيدة.
فانطلقا، واستمرَّ ذلك البحث وقتًا طويلًا دون فائدة. ثم سادت السكينة على القصر.