المؤامرات
لم يقع في اليوم التالي حادث من شأنه أن يؤثر في نيكول بوصَّه صاحب فندق حملة السلاح. فإن الرجل الغريب بقي في غرفته، وتناول الخادمان ريالين جديدين منه، واسترسل نيكول في تأملاته.
لكنه لما أمسى المساء أخذ يتمشى أمام فندقه، فأبصر رجلين غريبين على غمدي سيفيهما شريطة سوداء من حرير فاستقبلهما، وقال: نزل أمس عندي ضيف لا شك في أنه من أصدقائكما.
فقالا معًا: هل أتى؟
أجاب: نعم، وهو رجل غريب الخلق، إذ قدمت إليه أجود خمرة عندي فلم ينطق بكلمة شكر.
وإذا بقائل يقول: اذهب يا نيكول إلى نهر اللوار، وانظر إذا كان قد تحول عن مجراه، ثم عد فأخبرني.
فانثنى نيكول فأبصر الرجل الغريب، وقال: إن نهر اللوار لا يتحول عن مجراه، وإذا تركت الفندق فمن يستقبل صديقيك؟
فأجابه: أنا أستقبلهما.
فأدرك نيكول ألَّا فائدة من الجدال، وقصد إلى البرية وهو يلعن سوء خلق الرجل الغريب، فقد طرده وقتما كان يأمل أن يسمع أشياء مهمة، وهو يحب سماع مثل تلك الأشياء حبًّا جمًّا، ولا يعدُّ استطلاعه فضولًا، بل رغبة في الوقوف على أحوال بلاده، وهو أوضع منزلة من أن يعد نفسه من أهل السياسة والمؤامرات والتحزب على الحكومة والأحكام، إلا أنه يحب المتحزبين والمتآمرين كما يميل آخرون إلى الموسيقى. وطالما دارت المفاوضات السرية في فندقه وشهدها أو سمعها بفضل شقوق الأبواب وحدَّة أذنيه.
كانت المنافسة والمقاتلة دائرة رحاها في ذلك الزمن بين طائفتين هما الكاثوليك والبروتستانت، ونيكول لم يكن ينتمي إلى طائفة منهما إلا حسبما تقضي أحوال الجمعيات، وبين كبار الناس، ومن كان مثله فهو لا يلام على تذبذبه، وفيما كان يبتعد عن الفندق سمع أحد الرجلين يقول للرجل الذي جاء أولًا: أنحن هنا في موضع آمن؟
فأجابه: نعم؛ لأن صاحب الفندق مغفَّل يخشي المشنقة إذا أخبر بوجودنا هنا، فلا خوف من هذا القبيل. أما العسس فلا يتجرءون على الخروج من مدينة نانت. وإذا أفلح أصدقاؤنا في الخروج منها دون أن يبصرهم أحد أمكننا التفاوض ونحن مطمئنون.
وقال أحدهم: إني أرجو ذلك يا مولاي، ولكن …
قال: تكلم! أي شيء تخافه يا «لافين»؟
قال: أخشى أن يكون بين الحضور أحد الخائنين.
قال: ما هذا الكلام؟!
أجاب: لسوء الحظ أننا لسنا جميعًا بروتستانتيين؛ لأن بعض المعاهدين كاثوليكيون، وهم لم يدخلوا المؤامرات إلا لشدة كرههم للدوق دي جيز.
قال: إن كرههم للدوق دي جيز خير ضامن لأمانتهم ووفائهم لنا.
وكان المتكلم بهذا الكلام رجلًا قصير القامة، أسمر اللون، مظلم الوجه، لامع البصر.
وتكلم الرجل الذي دعاه «لافين» بمولاي، قال: إني واثق من كرهك للدوق دي جيز؛ ولذلك ضربت صفحًا عما فرط منك في الماضي مما لا يليق برجل شريف أن يفعله يا «بلترو».
فقال المدعو بلترو بلهجة كآبة: أنت ناكر الجميل يا مولاي لارنودي، بل أنت شبيه بسائر الناس في ذلك. فهل أذكِّرك بما جرى لك في حصار مِتْس يوم كدت تُقتل لولاي؟ وهل تلومني لأنني قمت بالواجب المفروض عليَّ إذ تجسست أخبارَ الأعداء لمصلحة الملك؟
فأجابه لارنودي بعظمة، قال: لم أنسَ شيئًا، ولكن إذا شئت مني نسيان جاسوسيتك الماضية فسر منذ اليوم سيرة جندي لا جاسوس. والآن فلنتأهب لملاقاة أصدقائنا.
وبعد هنيهة أقبل آخرون إلى الفندق فأدخلهم لافين، وكانوا يتجهون إلى لارنودي، ويتلفظون بهاتين الكلمتين وهما «مع الملك» فيجيبهم لارنودي بقوله: «على أمراء لورين»، حتى بلغ عدد القادمين ستة عشر، كلٌّ منهم ينوب عن ولاية من ولايات فرنسا. فلما تمَّ عددهم جميعًا أمر لارنودي أن يتكلم أصغر الحضور سنًّا. فنهض أحدهم وقال: أظنني أصغركم سنًّا، فأنا أطلب إقامة العدل بالنيابة عن طائفة الكلفينيين، واسمي بول دي رشيان من أشراف موفان.
فظهر الاستحسان على الحضور، وقال لارنودي مع معرفته للرجل: ما هي شكواك؟
أجاب: كان لي أخ فرنساوي من كرام الفرنساويين وشرفائهم، قتله الكردينال دي لورين إذ سلط عليه ثلاثة آلاف غلام، وقد مُزِّق بدن أخي، وسحبت أحشاؤه على أرض الشوارع، وطرح فؤاده للكلاب، وضرب الجمهور تلك الحيوانات التي أبت أكله. فأنا أطلب موت الكردينال دي لورين!
قال: كم جنديًّا لديك؟
أجاب: عندي ألفا رجل كلهم متأهب لسحق الكاثوليكيين المقيمين في بروفانس يوم إعلان الثورة والانقلاب.
ونهض بعد بول دي رشيان هذا شريف آخر اسمه مونبرون، فآخر اسمه ماليني، فشرحا حالة الشاكين في البلاد وفي مدينة ليون، ووعد كل منهما بأن يقدم خمسمائة مقاتل أو ألفًا. ثم أخذ كل موفد من كل ولاية يتكلم عن حالة الشعب مفصلًا أسباب البغضاء التي يضمرها للدوق دي جيز البروتستانتيون والكاثوليكيون من أهل ولايته.
ثم نهض لارنودي، وقال: مهما يكن من تباين أسباب كرهكم فأنتم جميعًا أعداء للدوق دي جيز؟
فأجابوه جميعًا بقولهم: نعم!
قال: إن آل جيز قد استخدموا نفوذهم الأول على الملك المتوفى هنري الثاني ليزوج ابنة أخيهم ماري ملكة إيكوسيا بالملك فرنسوا الثاني، وهم بفضل رابطة هذا النسب قد أحاطوا بالملك، وصاروا حاكمين باسمه.
فقال الحضور: هذا صحيح!
قال لارنودي أيضًا: ثم إن الكردينال دي لورين قبض على مالية البلاد، ثم أُخذت رئاسة الجيش من «الدوق دي مونمورانسي» وسُلِّمت إلى الدوق دي جيز، واضطرَّ ملك النافار إلى الابتعاد عن البلاط، وأصبح الخطر محيقًا بأمير دي كوندة، واستفحل اضطهاد البروتستانتيين، حتى باتوا لا يأمنون على أرواحهم إذا سمعوا العظات الدينية، وحدث في العام الماضي أن عضوًا من النواب، هو مستشار «بورج» قد صدر عليه حكم بالموت، لا لسبب غير أمياله المذهبية، فقامت أوروبا واحتجَّت على الحكم، إلا أن ذلك المستشار أُعدم. وها قد صودرت أملاك المصلحين وبيعت بنصف ثمنها إلى الوشاة والجواسيس، ولا ينقضي زمن قصير حتى تنتشر أحكام النفي في جميع فرنسا، فإذا لم نصدَّ تيار البغْي الذي يُهددنا الآن.
فنهض «بلترو» وقطع كلام الخطيب قائلًا: ذلك ليس بغيًا، وإنما هو ملكية جديدة تتهيأ أسبابها! فأنتم لا تعرفون «فرنسوا دي جيز» حق المعرفة. إن الفرنساويين كيفما كانت أميالهم المذهبية يجلون الملك ويحترمونه غير مكترثين لضعفه وصغر سنه. أما آل «جيز» فليسوا بفرنساويين، وليست فرنسا في نظرهم إلا بلدًا قد افتتحوها، وما الملك بين أيديهم إلا ألعوبة يلعبون بها. أما إذا انقلبت هذه الألعوبة إلى آلة تحول دون مطامعهم فهم يلاشونها ويصيِّرونها عدَمًا.
وفيما كان بلترو يتكلم، زال ما كان قد خامر نفوس السامعين من ريب، وكانت عينا بلترو تلمعان، وكأنه ينطق عن وحي وإلهام، وتولى الحضور ارتياع حقيقي عندما شهر بلترو خنجره، وقال: لنقسم جميعًا على قتل الدوق دي جيز إذا التقى أيُّنا به!
فأجابه الحضور: إننا نقسم.
فقال لارنودي إذ ذاك — وقد ارتاح إلى ما سمع من بلترو الجاسوس القديم: اعلموا أيها السادة أن الخطر جسيم، ولا بدَّ لنا من تلافيه قبل استفحاله. وقال بول دي رشيان: من نصيرنا في البلاط؟
فأجابه لارنودي: نصيرنا رجل عظيم يساوي الدوق دي جيز رفعة شأن. أمير لا أستطيع ذكر اسمه، ولكنكم تعرفونه جميعًا.
قال: لعله ملك النافار؟
فأجاب لارنودي: ليس لملك النافار إرادة.
قال: إن زوجته ذات إرادة كافية.
أجاب: نعم، إن زوجته «حِنَّة دالبر» امرأة نبيلة، وإنما تحتاج أعمالنا إلى زعيم قدير غير بعيد عن عرش فرنسا.
قال: إذن فمن الزعيم؟
أجاب: قلت لكم إنني لا أستطيع أن أسميه، غير أن اسمه على كل الشفاه، فتلفظ الحضور باسم «أمير كوندة» بصوتٍ منخفض.
فقال لارنودي: لقد بعث إليَّ ذلك الزعيم الذي أشرت إليه بالإيضاحات اللازمة مع «المسيو دي ميرة» فهو يروم أن تكون ظواهر أعمالنا موسومة بالصدق. والبلاط الآن في نواحي بلوا. أما جنودنا فلا بد من اجتماعهم في طوران في أوائل شهر مارس، وإذ ذاك نهاجم البلاط، ونقدم إلى الملك عرضًا، نسأله فيه طرد الدوق دي جيز وأخيه الكردينال دي لورين، فيأبى آل جيز السفر، ويومئذٍ نقبض عليهم، وننقذ الملك وزوجته ووالدته من أسْر هذه الأسرة.
ولو تمكن لارنودي عندئذٍ من أن يخترق ببصره ظلام الليل لأبصرَ رأس «نيكول بوصَّه» مطلًّا من كوة للفندق. فإنه ذهب إلى ضفاف اللوار كما أمر؛ ليتحقق أن ذلك النهر لم يتحول عن مجراه، ثم رجع إلى فندقه فدخله من باب سرِّي محجوب بالأدغال في بستانه حتى وصل إلى سنديانة وراء مطبخه، فتسلقها وقعد على أحد أغصانها الضخمة فسمع كل ما قيل في ذلك المجتمع، وشهد تلك المؤامرة التي كانت أساسًا للحرب المدنية التي قامت في القرن السادس عشر، وامتزجت فيها السياسة بالدين.
وشعر نيكول بفؤاده يخفق شديدًا من حنقه على الدوق دي جيز بعدما سمع ما سمعه لتدبير تلك المؤامرة التي لو كانت لأشياع الدوق دي جيز لتشيع للارنودي والبروتستانتيين، لكنه استرسل وقتئذٍ في أمياله الطبيعية، وجعل يسأل نفسه: كيف يستطيع صبرًا مدة شهر حتى يرى النتيجة؟
وكان لارنودي قد شهر سيفه، وصاح بالحضور: بُغْيتنا الانتقام! فليمُتْ آل جيز! فليمت الغُرباء!
وجعل الحضور يصرخون: «ليمتْ فرنسوا دي جيز! فليمت الكردينال دي لورين!»
وقال لارنودي: احضروا جميعكم بعد شهر إلى طوران.
فأجابوه على الفور: سنكون فيها.
ثم قال: بعد شهر تأتي ساعة الانتقام!
وإذ ذاك رأى نيكول المتآمرين يرحلون عن الفندق بحذَرٍ، فركب بعضهم الأفراس، وسار بعضهم مشيًا على الأقدام إلى شمال مدينة نانت. ثم لم يبق في الفندق إلا لارنودي وبلترو ولافين. ففكر نيكول وقتئذٍ في الظهور لهم بعد احتجابه. فنزل عن السنديانة، ولقي أضيافه فقال لهم بلهجة السذاجة: لقد تحققت أيها السادة أن نهر اللوار لا يزال.
فقال له لارنودي: اذهب وأعدَّ جوادي للرحيل؛ لأني مسافر بعد ساعة.
وأحضر نيكول الجوادَ، ثم صعد فأنبأ ضيفه بأنه صدع بأمره، وخرج الثلاثة من الفندق بعد أن ربط لارنودي هِميانه بعنق الجواد، وقال لبلترو: أتسافر إلى باريس؟
أجاب: كلا، وإنما إلى أورليان.
قال: هل أخبرك الأمير عن المكان الذي ينتظرني فيه؟
أجاب: إن الأمير يكون في باريس بعد خمسة عشر يومًا عند باب «القديس أنطوان» ساعة الغسق.
فأطرق لارنودي هنيهة، ثم قال: لقد أسأت استقبالك في هذا المساء يا مسيو بلترو، ولم أكن أعرفك بعد، فأطلب منك صفحًا، وهات يدك! قال: إليك يدي! قال: لا بدَّ من أسباب خطيرة تحملك على كره الدوق دي جيز.
أجابه: إنه عدو بلادي ومذهبي الديني، فأنا لذلك أكرهه.
قال: أما من سبب شخصي يحملك على كرهه؟
أجاب: لا.
قال: وما رأيك فيما لو كان الدوق دي جيز سببًا في مقتل واحد من أقربائك أو امرأة حبيبة إليك؟
أجاب: إذن لكنت أقسم على أنه لا ينجو من يدي.
قال: أصغِ إليَّ يا مسيو بلترو. إني أجهل ما خبأته لي الأقدار، ولكن إذا فاجأني الموت فهل تنتقم لي كما لو كنت قريبك، وهل تقسم لي على ذلك؟
فنظر بلترو إلى لارنودي مليًّا، ثم أجابه: أقسم لك؛ لأنك أول شريف من البلاط رضي بأن يرى أني غير جاسوس.
ثم افترق الثلاثة فسلك بلترو طريق إنجر وسار لارنودي مع لافين، وكان هذا كاتم سره، في طريق مانس بعد أن ألقى إلى نيكول بكيس مملوءٍ ذهبًا، وقال له: إذا حدثت أحدًا بما رأيت الليلة فاذكر كلامي أنني أكون وسيلة إلى شنقك.
فأجابه نيكول بأنه من أهل الكتمان، وأخذ يعدُّ الدنانير ويدسها في جيبه، وقبل أن ينام في تلك الليلة طفق يحدِّث نفسه، ويقول: لا جرم أن النار ستضطرم في باريس، وما إخال الدوق دي جيز المسكين إلا مشرفًا على العطب؛ لأن هؤلاء المتآمرين أشراف قادرون، ورجال لا يشربون خمرًا، ومع ذلك فقد دفعوا إليَّ ذهبًا كثيرًا أجرة ليلة صرفوها في فندقي، وجميعهم ميمِّمون باريس مقيمون فيها.
وهنا توقف نيكول لحظة، وكأنما خطر له خاطر مفاجئ، فقال: لو أن عمي ماروك ترك لي بيتًا في باريس بدلًا من هذا الفندق الحقير الذي غادره في نانت، إذن لكنت …
إلا أنه لم يتمَّ جملته، بل قال: ماذا الذي يمنعني من الرحيل إلى باريس؟ أبيع فندقي هذا وأسافر إليها.