الدوق والكردينال
وفي الليلة التالية حضر الكردينال إلى حجرة الملكة الوالدة ليزور الملك، فمنعه ترولوس من الدخول، فقال له: إني أريد مقابلة الملكة الوالدة وهي تنتظرني.
فأجابه: إني جندي يا مولاي، ولا أعتبر إلا الأوامر التي أتلقاها من رئيسي، وقد صدَّر إلي الأمر بأن أمنع أيًّا كان من الدخول إلى هنا.
– حذار يا هذا، فإنك وقفت في طريقي مرارًا حتى الآن.
– من يخدم الملكة يا مولاي لا يخشى بأس أحد.
وإذ ذاك خرج فرنل طبيب الملك من الحجرة فوثب الكردينال إليه، وقال له: أنبئني عن الملك.
– إنه ضعيف جدًّا.
– وهل يخشى عليه؟
– عِلْم ذلك عند ربي أيها الكردينال. وابتعد مسرعًا.
وإذ ذاك تمكن الكردينال من الدخول، فأبصر الملك كأنه مغمى عليه لا يعي شيئًا، وكانت ماري ستوارت زوجته قد انصرفت عنه، وبقيت كاترين ساهرة عنده تنقِّل حبَّات سبحتها بين أصابعها، فخاطبها الكردينال برقة، قال: يا سيدتي. فلم تجب!
فقال لها: إني أروم مخاطبتك أيتها السيدة في أمرٍ خطير.
فرفعت إليه رأسها بكبر وعظمة، وقالت: لم أكن أظن أنه يوجد في بلاط فرنسا رجل واحد يحق له ألَّا يدعوني بذات الجلالة!
فأجاب الكردينال بجرأة: لقد كان لي ذلك الحق فيما مضى.
قالت: لقد مضى ذلك الزمن يا كردينال، فما هذه الجسارة التي تبدو منك؟ وكيف تذكرني بذلك أمام ابني وأنت تراه مريضًا؟
فارتعد الكردينال من كبرها، وأوجس خوفًا من أن تكون قد أحست بشيءٍ من السلطة والقوة. فإن أمير كوندة قد بات سجينًا، وملك النافار قد بثت عليه العيون فلا ينجو، والأميرال كبير طائفة البروتستانت يوشك أن يصل، وسجنه مُهيأ له، وأعوان أمير كوندة قد طُرحوا في السجون، ولم يبق أحد تعتمد عليه الملكة، وليس في البلاط إلا أنصار آل جيز، ومجلس الحكام، وقد تألف منهم ومن أصدقائهم، وجميع النواب كاثوليكيون. فما معنى ذلك الكبر الذي تظهره الملكة؟ فهل طالعت صفحات الغيب وعرفت ما يكون؟
جالت هذه الخواطر في ذهن الكردينال، وبعد صمت قال: إن الملك في حالة سيئة، غير أن عناية طبيبه تشفيه عاجلًا إن شاءَ الله.
فلم تجب كاترين، لكنها ذكرت وقتئذٍ جملة تلفظ بها الطبيب «فرنل» منذ زمن طويل؛ إذ قال لها: سترزقين أولادًا أيتها السيدة إذا عملت بمشورتي، «غير أن أولهم يموت شابًّا شهيد عنايتي به» فقالت في نفسها: هل أزفَ الوقتُ يا ترى؟
وقال لها الكردينال أيضًا: إن أمير كوندة بين أيدينا فموته، وهو ألدُّ عدو لنا، قريب جدًّا، ولئن أبدى الملك شيئًا من التردد أفلا تساعديننا؟
فلبثت الملكة صامتة واستمرَّت تعد خرزات سبحتها، فانصرف الكردينال مذعورًا.
•••
واستيقظ أمير كوندة في اليوم التالي على جلبة الجند وضوضاء الخدم الذين كانوا يروحون ويجيئون أمامه، فصاح: ما معنى هذا؟ ولماذا؟
فأجيب: ذلك بأمر الملك.
قال: نعم به من ابن عم حبيب، وما هذا الخوان الذي تضعونه في داخل حجرتي؟
قالوا: هذا أمر الملك!
– وما هذا الغطاء الذي عليه؟ أهذا بأمر الملك أيضًا؟
– نعم، أيها المولى.
– ولماذا؟
– للاحتفال.
– أي احتفال؟
– هذا أمر الملك والسلام.
فهمهم الأمير ودمدم وولى وجهه شطر الجدار، وبعد هنيهة صار الخوان هيكلًا، ودخل قسيس يصحبه اثنان من رجال الدوق للاحتفال بقداس، وتقدم أحدهما إلى الأمير، وقال له: تعال فاقض واجب الصلاة؛ لأن الملك يرى أن للصلاة تأثيرًا حسنًا على نفسك.
فصاح الأمير بحدة: دعوني منكم ومن صلاتكم، إني أحب القتال والنضال في رائعة النهار، ولكنني لا أحب أن يستهزئ بي أحد، ولم أحضر إلى هنا للجدال في الدين، ولكن لأتبرأ من تُهم باطلة رُميت بها ظلمًا، فاذهبوا وأنبئوا الملك أنني أنتظر القضاة لمحاكمتي، ولا أنتظر كهنة البابا.
وأرسل الملك فرنسوا الثاني إلى الأمير رسولين، هما أخواه ملك النافار والكردينال دي بوربون؛ ليطفئا جمر غضبه، ويكلماه عن مصالحة تعقد بينه وبين آل جيز. فلم يسمعا منه غير هذه الكلمات، قال: لا وسيلة إلى صلح بيني وبين ذينك الرجلين إلا بالسيف الطويل القاطع.
وبذلك أصدر الملك أمرًا إلى رئيس النواب، وإلى مستشاري ذلك المجلس، والنائب العمومي وكاتبه، بالحضور إلى حجرة الملك لتلقي الإيضاحات، والشروع في محاكمة السجين، وانقضت أيام، وقد ارتبكت اللجنة التي عهد إليها بتحقيق قضية الأمير؛ لأن ذلك السجين استوجب رأفة جميع الأعضاء.
وفي يوم ٣٠ نوفمبر (تشرين الثاني) أطلع الرئيس الملك على تفاصيل الاستنطاق، وكان ذلك بحضور الدوق دي جيز وأخيه، فإن كوندة أبى المجاوبة على كل سؤال يوجَّه إليه، وقال: «إن تلك المحكمة التي تألفت لمحاكمته لا سلطة لها عليه. فهو يرفع شكواه إلى المترائس على مجلس النواب في بلاط المجلس في باريس، وإلى سائر المجالس المجتمعة فيها، ولا ينبغي أن يحاكم أمير — دمه من دم الملوك — بغير هذه الطريقة.»
فقال الملك: إن جرأة هذا الرجل لا نظير لها، فما لنا ولتحقيق دعواه؟ وإذ ذاك دخلت الملكة كاترين، وقالت لولدها: إن زوجة الأمير ترجو مخاطبة جلالتك.
قال: قد علمت أنها جاءت لتسألني عن زوجها، فلست أريد مقابلتها. إلا أن تلك المرأة كانت لاحقة بكاترين فدخلت برغم الحراس حتى دنت من فرنسوا الثاني، وارتمت على قدميه باكية، وقالت: دعني بحقك أيها الملك أدخل على الأمير في السجن، فلا أكلمه إلا بعذب الكلام ورقيقه. إني أريد أن ألقاه قبل موته.
قال: لقد كنت منعت دخولك عليَّ، وأنت تعلمين كما أعلم أن الأمير أكبر وألد عدو لي، وقد حاول الاعتداء على حياتي وعلى الملكة، فأقسمت على الانتقام منه، وسوف أنتقم.
قالت: عفوًا أيها الملك، عفوًا، وارحم ابن عمك فهو من لحمك ودمك، وقد سعى به الوشاة، وهو يحبك ويحترمك، ويحترم تاج فرنسا أكثر من كل واحد من رعاياك.
قال: إنك تحسنين الكذب أيتها السيدة، ولست تجهلين مقاصد زوجك ونياته الفاسدة. على أن الأوراق التي وجدت عند أمك تبرهن على مشاركتك في ذنبه.
فرفعت كاترين صوتها، وقالت: ليست هذه المعاملة لزوجة أمير من أبناءِ البيت المالك في شيءٍ من الشفقة!
فأشفق الكردينال أن ينعطف الملك أو يرق فؤاده، فقال لزوجة الأمير: إنك تضايقين الملك! فطُردت تلك المرأة بخشونة، إلا أن هذا الأمر أنهك الملك، فكانت علامات الموت ظاهرة على وجهه، وقلق الكردينال؛ لأنه خاف أن تفوت الفرصة فلا ينفذ حكم على أمير كوندة، فعوَّل على أن يحاول أمرًا مع الملكة الوالدة لعلها تنضمُّ إليه وإلى أخيه، فطلب مقابلتها، ولما انفرد بها قال لها: ألا تخشين أيتها السيدة حلول نازلة ببيتنا؟
فأجابته: أظنك تريد أن تقول: بيت ملك فرنسا؟
وكأنه لم يستأمن جوابها، فقال: لئن وقع مصاب على البيت المالك، فإن السلطة تنتقل إلى أيدٍ غير صالحة.
فرفعت الملكة رأسها، ونظرت إليه مليًّا، فقال الكردينال: نعم، فإن خليفة الملك لا يزال قاصرًا، فنيابة الملك تئول — إذ قَضى الملك — إلى ملك النافار؛ أي إلى أول أمير من الدم الملكي. فتبسمت الملكة لهذا الخاطر؛ لأن ملك النافار لا يحفل بسلطةٍ لاشتغاله بهوى النساء، إلا أنها لم تجب.
فقال الكردينال: لئن صارت نيابة المملكة إلى ملك النافار بعد وفاة الملك، فإن الخطر يحدق بك وبنا على السواء.
فحملقت إليه كاترين بصرها، فقال: نعم، فإن ملك النافار يغدو ألعوبة بين يدي أخيه أمير كوندة، وهذا الأخير لا ينسى سجنه، ولا القضية التي أقمناها عليه، ولا ينسى أننا لم نعبأ بطلبه استئنافها، وأننا اتهمناه بالاضطراب الحادث في البلاد، وهنا توقف الكردينال، فأشارت إليه الملكة إشارة ملؤها الاحتقار، وقالت: كل ذلك من عملك أنت لا من عملي أنا. فأمير كوندة كارهٌ لك ولأخيك، ولكنه محب للملك ولوالدة الملك.
– لئن تولى الوصاية ملك النافار فأنت هالكة.
– كلا، فربما كنت أنت يومئذٍ من الهالكين. أما أنا فلا، وأمير كوندة لا ينسى دفاعي عنه أمام الملك. كما أن زوجته الأميرة لا تنسى أنني عضدتها في هذا اليوم.
– أراك لأول مرة ساذجة أيتها الملكة. فإن كوندة لن يحفل بك ولا يهمه إلا طمعه الأشعبي، ولنتكلم بحرية. إن السلطة بين يديك وأيدينا؛ أي بين يدي والدة الملك وأيدي عميه، وما من أحد منا يروم فقدها.
– بل أرجو منك أن تصلح كلامك ليغدو مطابقًا للواقع. إن السلطة بين يديكما — أنت وأخيك — لا بين يديَّ أنا. إن أنا إلا امرأة منفردة، وهل من قوة لي؟
– ما هذا الكلام أيتها السيدة؟ أفلا ترين أنك الحزب الأقوى، وحسبك برهانًا على ذلك أنني أطوع لك من بنانك، ولكن لا يفوتك أن مرافقنا واحدة، ولا بدَّ لنا — قبل كل شيء — من إهلاك أمير كوندة وأخيه ملك النافار.
– لم يصدر عليهما حكم.
– سيصدر غدًا. فيجب التوقيع على حكم إعدامهما قبل موت ولدك، هذا أمر لا غنى عنه، وسوف تكونين مساعدة لنا على إنجازه. فأبعدي أمير الأختام ومن بقي من أعوان الأمير، وإذ ذاك تصبحين ملكة فرنسا حتى يبلغ الملك شارل سنَّ الرشد، وأصبحُ أنا وزيرك الأول.
فخفضت كاترين رأسها، وجعلت تحرُّك حبَّات سبحتها، فقال لها الكردينال بقلق ظاهر: ما رأيك يا سيدتي؟
فظلت صامتة وقتًا طويلًا، ثم قالت: إني أصلي إلى الله لأجل شفاء ولدي.
فوثب الكردينال خارجًا من عندها، وقد رأى منها القسوة لثاني مرة. فلم يكد يغيب عن نظرها حتى نادت ترولوس، وقالت له: تذهب الساعة وتدعو إلى هنا أمين الأختام، وليأت خلسة، ثم تسلِّم هذه الرسالة إلى جاليو، مع أمر مني بتسليمها إلى أمير كوندة، وجاليو حاذق فطن، فلا أشك في أنه يفلح.
ودفعت إلى ترولوس رسالة دسَّها في جيب صدرته، وبعد هنيهة كان أمين الأختام عندها، واسمه لسبتال، فقالت له: عهدي بك ذا رأي وتدبير، والوقت حرج فأسعفني بنصحك. إن الملك مشرف على التلف، وقد أنذرني بموته الطبيب فرنل. قال: يا لله!
قالت: إذا مات ولدي فماذا نصنع؟
أجاب: نهتف هتافًا عاليًا «ليحي الملك» وننادي بشارل التاسع ملكًا.
– إن شارل التاسع قاصر. فإلى مَن تئول الوصاية؟
– إلى ملك النافار بالاسم، وإليك بالفعل.
– فاعلم أن الدوق دي جيز وأخاه يرومان إهلاك ملك النافار وأمير كوندة، وقد تجرأ الكردينال فطلب مساعدتي على هذا العمل.
– يا له من شقي شرير. إن أمراء البيت المالك دعامة البلاط وركنه، وموت أحدهما يحدث فراغًا عظيمًا في الأسرة المالكة، واعلمي أيتها الملكة أن الأمة ترجو فيك رجاءً حسنًا، وتأمل من بنيك الثلاثة الباقين أملًا عظيمًا. فتولي شئون مملكتك، ولا تكوني خادمة مستشاريكِ.
– وماذا نفعل بأمير كوندة؟
– نوقف دعواه.
– شكرًا لك على حرية فكرك، واعلم أن الطبيب يتوقع وفاة الملك، فإذا وصل إليك النبأ المشئوم، فاحضر إليَّ سريعًا؛ لأنني سأحتاج إليك.
•••
وفي ذلك المساء اقترب شابٌّ يلبس رداءً واسعًا إلى باب السجن الذي سجن فيه أمير كوندة. فصاح به الحارس، مهلًا يا هذا، إلى أين؟ فأجابه: إني أريد مقابلة عمي.
– ومن عمك؟
– هو طبَّاخ الغرفة.
– لم أكن أدري أن له ابن أخ.
– بل له واحد حسن الهيئة والشكل، وأنا ذاك الواحد.
– لكن الدخول ممنوع من غير إذن.
– إن الإذن معي وهو في جيبي. فمدَّ إليه يدك.
– ألا يسعك أن تريني إياه؟
– ألست تراني أحمل الهدية التي جئت بها إلى عمي؟ مدَّ يدك إلى جيبي ولا تخف!
ففعل الجندي، ولكنه لم يجد في الجيب إلا عشرة دنانير.
فخفض الرجل صوته، وقال: خُذ هذه الدنانير، فهي خير من كل إذن مكتوب، ولك مثلها عند عودتي إذا لم تتكلم.
كن مستعدًّا، وأطِل مدة الاستنطاق ما استطعت؛ لأن الملك يحتضر.