جثة فرنسوا الثاني
وفيما كانت ماري ستوارت — أرملة الملك فرنسوا الثاني — تبكي أحر بكاء قرب جثة زوجها، قصد آل جيز حجرة الملك المتوفى، وفتحا خزانته بالمفتاح الذي تسلماه من ماري ستوارت، وأخذا منها ثلاثين ألف دينار. ثم رجعا إلى منزلهما، ولحق بهما بعض القواد والأشراف من أنصارهما وكل منهم يقول: ماذا نصنع؟ وأي مصير يكون مصيرنا؟ فأجابهم الدوق: صبرًا ولا تقلقوا فإن مدة الصبر لا تطول، وقد آلت السلطة إلى الملكة الوالدة، ولسوف نعرف نياتها في وقتٍ قريب.
وقد انتشر خبر وفاة الملك فرنسوا الثاني في المدينة، فاطمأنت قلوب البروتستانتيين، وقلَّ تعدِّي الكاثوليكيين عليهم.
ولم يكن جاليو مكترثًا لمشاجرات أبناء الطائفتين، وإنما انصرف ذهنه إلى التفكر في أمير كوندة، وكان موت الملك سببًا في تأجيل إنفاذ الحكم عليه، فجعل جاليو يقول في نفسه: هل يطلق سراحه؟ وتجرأ جاليو على دخول القصر بعد أن ارتدى أفخر ملابسه، وقال: لا حاجة بي إلى التنكر بعد اليوم!
وتقلد غدارتين وسيفه الطويل الذي جرح به جنليس وبرداليان، ودخل القصر فألفى الأشراف في اضطرابٍ عام. فقال لجنليس — وهو من رجال الدوق، كما يذكر القراء: هل لك في أن تخبرني عن أمر؟ قال: ما هو؟ قال: إلى من تئول الوصاية على الملك؟ فنظر إليه جنليس مدهوشًا، ولم يكن يعرفه، وقال: لست أدري!
– وماذا عسى يفعل الدوق دي جيز؟
– لست أدري.
– ومتى يحتفل بدفن الملك المتوفى؟
فأجاب جنليس: وهل لهذا الأمر من شأن؟!
ثم لقي جاليو رجلًا آخر من رجال آل جيز، هو حاكم أورليان — وهو من نظم فيه تلك الأبيات التي ترجمناها في فصلٍ سابق — فقال له: عفوًا أيها الحاكم، إني قادم من أقصى الولايات، وأودُّ أن أعرف متى يدفن الملك فرنسوا.
فرشقه الحاكم بنظرة حائرة، وقال: سيُدفن عندما يراد دفنه، وليس هذا الأمر بالشاغل الذي يشغلني الآن.
– إذن فأي شاغل لديك؟
– من أنت يا هذا؟
– من رجال الدوق دي جيز.
– إذن فكن مستعدًّا.
– لأي شيء؟
– للدفاع عن الدوق.
– وهل من يتجرأ عليه الآن؟
– بلا شك.
– ومن يقدم؟
– الملكة الوالدة أو ملك النافار، لست أدري.
– أشكر لك هذا البيان، وها أنا ذاهب كي ألازم الدوق.
ودخل جاليو رواق القصر فصادف اثنين يتكلمان. قال أحدهما: إن الخطب جلل، وقال الآخر: وإنه لرزءٌ جسيم.
فقال جاليو في نفسه: هذان رجلان يفكران في الملك حقًّا!
إلا أنه رجع عن رأيه عندما سمع تتمة المحادثة؛ إذ قال أحدهما: يظهر أن الحكم لم يوقع عليه من الملك قبل وفاته. فأجابه الآخر: يا لله ما أفظع هذا الإهمال. قال أحدهما: إذن فلا يمكن إنفاذ الإعدام.
– لو تمَّ إعدام أمير كوندة لكان المشهد نادرة حسنة.
– ولكنا حصلنا على نفع جزيل.
– نعم، ولكننا لسنا من أهل التوفيق.
فقال الآخر: لقد ساءت حرفتنا.
فتأمل جاليو المتكلم فإذا هو الجلاد، فقال له: هل لك يا سيدي في حاجة لي؟ قال: ماذا تروم؟ فأجاب: أين جثة الملك؟ أجاب: لا أدري. قال: متى يُدفن؟ أجاب: هذا أمر لا يعنيني أنا!
وهكذا كان جاليو يتخطى الجماعات حتى لقي المحامي أفنيل — زوج مرسلين — وقد عرفه المحامي؛ لأنه صرف بأسنانه لما رآه، فقال له جاليو: لقد سرني لقاؤك يا سيدي. فأجابه: وإني لكذلك.
– إني حديث العهد بهذا البلاط، وأود أن أعرف أمرًا.
– ما هو؟
– متى يدفن الملك؟
– هذا سؤال لا شأن لي به، وأي غرض للناس في جثة لا روح فيها.
– إذن ما غرض الناس من المجيء إلى هنا؟
– البث ها هنا وسوف تدري. فإن الملكة الوالدة دعت جميع خدم ابنها القدماء.
– شكرًا لك، وكيف حال السيدة مرسلين؟
– إنها سيدة محترمة بريئة من كل عيب. فانحنى جاليو أمامه، واستمرَّ في طريقه وهو يقول في نفسه: لا بدَّ لي من أن أرى الذين حول جثة الملك الآن قبل أن ألقى أمير كوندة.
وكانوا قد نقلوا فرنسوا الثاني إلى حجرته، ووضعوه على سريره، وكان عند طرف السرير أربع شمعات وامرأة تبكي، والتشويش سائد على الحجرة، وبعض الخزائن مفتوحة فارغة والأوراق مبعثرة، والملابس مطروحة على الأرض، وليس هناك حارس ولا خفير، وليس في الحجرة إلا زوجة الملك — ماري ستوارت ملكة فرنسا وإيكوسيا — تبكي وحدها على جثة زوجها.
ومعلوم أن جاليو لم يكن يحب فرنسوا الثاني، لكنه لم يتمالك أن وقف خاشعًا أمام الباب، وفيما هو كذلك دخل رجلان يتبعهما شيخ أعمى، هو الأسقف دي سنليك، أما الرجلان فكانا من الحكام، فجثوا قرب الجثة، ونظرت إليهم ماري ستوارت نظرة شكر وامتنان.
فنزل جاليو إلى الرواق الذي اجتمع فيه رجال البلاط، وهناك علم أن الملكة الوالدة عزمت على استدعاء أمير كوندة لتطلق سراحه، وإذا بالملكة الوالدة قد أقبلت يصحبها ملك النافار والمسيو مونمورانسي وأمين الأختام، وطلبت أن يقف في حضرتها جميع أصدقاء الملك القدماء، ثم وقع بصرها على جاليو، وكان واقفًا وقفة كبرياء قرب إحدى النوافذ، فقالت لترولوس: أليس هذا الشاب صديقك؟ فقل له أن يأتي إلى هنا.
فدنا جاليو من الملكة وجثا أمامها، فقالت له: اذهب يا مسيو دي نرساك، وخذ فرقة من حملة البنادق، وكن نائبًا عنا في مخاطبة سيدك الأمير، وقُل له: إننا أعدنا إليه حريته الشخصية.
وظن جاليو أنه يرى حُلمًا، إلا أنه ظلَّ رابط الجأش، فنهض واتجه إلى محبس الأمير، وفيما كان يقوم بتلك المهمة أقبل آل جيز وأصدقاؤهم، وكانوا جمهورًا غفيرًا فمثلوا بحضرة كاترين. فلما تحقق الدوق أن جميع رجاله حضروا الاجتماع التفت إلى الملكة، وقال لها: لقد طلبت حضورنا أيتها السيدة؛ لأننا من أصدقاء الملك المتوفى، وها قد أتينا نحن وأصدقاؤنا، وننتظر صدور الأوامر!
فأجابته كاترين بعظمة تقول: إن اجتماع أعضاء أسرتنا لم يتمَّ بعد، قال: وكيف ذلك؟
قالت: لقد بعثت رسولًا إلى الأمير، فلا يلبث حتى يأتي.
وإذ ذاك رجع جاليو، فاصفرَّ وجه كاترين لما رأته منفردًا، ولم تتمالك أن صاحت تقول: عجبًا لك يا مسيو دي نرساك! كيف عدت وحدك؟ فأجابها: وا أسفاه!
قالت: ألم تقل للأمير؟
أجاب: بل قلت له إنك تعيدين إليه حريته الشخصية. فعهد إليَّ بنقل كلماته إليك، قال: «إن امتنانه عظيم جدًّا، ولكنه يستحيل عليه أن يخرج من سجنه مغادرًا فيه شرفه؛ لأن حريته الشخصية تكون في هذه الحالة مسبَّة له وعارًا، وإنما ينبغي أن ينالها باشتهار براءته ومعاقبة الذين اتهموه كذبًا.»
وهنا تبسم جاليو، وكان استياء الكل عظيمًا، ولقد ظنت كاترين أن قبضها على السلطان يخولها السيادة، ولم يخطر في بالها أن سجينًا واحدًا قد يأمرها وهو في غيابة السجن. أما آل جيز فظنوا أن الأمير يغبط نفسه إذا خرج من محبسه سالمًا، وتكفيه سلامته بعد أن كاد ينفذ فيه حكم الإعدام. أما سائر رجال الأمير والأشراف فكانوا يأملون أن يقع صلح عام، وهم قد أشاروا على كاترين بعقد ذلك الصلح.
وبقي جاليو دون سواه منشرح الصدر بحمله إلى البلاط تلك الكلمات التي تدل على عظمة وخيلاء، ورأته مرسلين فأعجبت بمحاسنه في ذلك اليوم، ولم توافق زوجها أفنيل حين قال عن جاليو: «ما هذه الوقاحة؟ فإن هذا الوصيف يصلح لذلك المولى الشيطانيِّ.»
ولما زال انذهال القوم وقف المسيو مونمورانسي وقال لجاليو: إن الأمير على خطأ، فامض وقل له: إن الإفراج عنه دليل كافٍ على براءة ساحته التي سيتضح ظهورها بخروجه من سجنه. فقالت كاترين: على أن الأمير ليس الآن بسجين، والجند الذين يحدقون بمحبسه الأول، هم الآن حراس له يأمرهم وينهاهم كما يشاء.
فأجابها جاليو: مولاتي، إن عزيمة الأمير ثابتة، وهو يدري أنه ليس بسجين، ويدري كذلك أنه لا يوجد اليوم في البلاط من يتجرأ عليه، وأنه قادر على المجيء إليه لينزل منه في منزلته التي لم يغادرها إلا بدسائس الماكرين. لكنه يعتبر نفسه سجينًا إلى يوم يعلن مجلس النواب براءة ساحته. فقد اتُّهم علانية، وحكم عليه علانية، ونصبت المشنقة لإعدامه (وهنا تبسم جاليو)؛ ولذلك لا يرى بدًّا من إعلان براءة ساحته للجمهور.
وانحنى أمام الملكة، ثم تراجع، واتفق أنه وصل إلى قرب المحامي أفنيل وزوجته مرسلين أثناء رجوعه، ولم يعر المحامي التفاته إليه؛ لأنه كان منصرف الذهن إلى الشئون الهامة التي تجري أمامه. فلم يحفل بوصيف الأمير كوندة. فأخفت كاترين استياءَها من إباء الأمير، واستمرت على إنجاز الخطة التي رسمتها في ذهنها من زمن طويل، فقالت: بالنظر إلى قصور ولدنا المحبوب شارل وعجزه عن التصرف الشرعي، نرى من موجبات الشرف ألَّا نلقي مقاليد السلطة إلى أحد سوانا، ولكننا نروم الاستناد إلى مساعدة أقربائنا، وخصوصًا الخدم الأمناء للأسرة المالكة. فانحنى الأشراف أمامها.
وقالت أيضًا: ولقد رأينا أن نُحدِث شيئًا من التبديل في المناصب برغم حسن اختيار فقيدنا العزيز فرنسوا. فنحن نرجو من أصحاب المناصب أن يقدموا إلينا مناصبهم لنرى فيها رأينا ونقرها في مواضعها. فقد حاول أعداء أسرتنا الملكية أن يحدثوا شقاقًا بيننا، بتحريض ابن عمنا ملك النافار على طلب الوصاية، فأبى ملك النافار بحركة تدل على أنه لا يريد ذلك.
ثم قالت: إلا أن ابن عمنا نسيب كريم، ومن الرعايا الذين يذهبون إلى مساعدتنا بكل قواهم. على أننا ندعو الآن كل من يروم معرفة أوامر الحكومة إلى طلب هذه الأوامر منا، وبعد ذلك نهضت كاترين وغادرت القاعة، ودخلت مخدعها مصحوبة بملك النافار، وقالت له: لقد أساءَ أخوك كثيرًا في تمثيل هذه الرواية الشائنة.
قال: إني آسف يا سيدتي.
قالت: لسنا نجهل ذلك، ولكن كيف يأبى المجيء للانضمام إلينا؟
قال: سوف نجيء به إليك أيتها السيدة، فلا تنسي.
قالت: أنسى ماذا؟ أجاب: وعدِك لي.
قالت: بل سوف تحصل على النيابة العامة للمملكة، ولا أخلف وعدي، والمهم لدينا الآن أن لا نصغي إلى آراء آل جيز، وانقضت أيام على مفاوضات ودسائس، وكانت الملكة الوالدة تدعو إليها الدوق دي جيز في كل يوم، بل في كل ساعة، وفي كل مرة تلفح بانتزاع منصب منه، أو لقب، أو وظيفة، ولقد همَّ ذلك الجنديُّ الجريء بأن يتولى قيادة رجاله ويقاوم الملكة الوالدة إلا أنه أحسَّ بأن قواه تنفد سريعًا، فلم يجد بدًّا من الانقياد إلى كاترين، وكان ملك النافار فرحًا بالوعود التي أجزلتها له تلك المرأة الإيطالية، وما برحت ترددها له كلما سنحت الفرصة دون أن تنجز واحدًا منها. هذا وأمير كوندة يلقى الإكرام من أولئك الجنود الذين حوله، لكنه ما زال يظهر أنه سجين.
وعالجت الملكة الوالدة صلحًا بين ملك النافار والدوق دي جيز، فاستعانت عليه بعشيقة للدوق حتى تعاهدا على الولاء أمامها، وأقسم كلٌّ منهما على حفظ عهد ذلك الولاء دائمًا أبدًا.
وكان أول عمل عملته أنها أفرجت عن صديقها الفيكونت دي شارتر، وكان هذا الشاب مشتهرًا بحسن صورته إلا أن سجنه في الباستيل أودى بصحته فلم يكد يقوى على مبارحة سجنه والسفر إلى قصره فمات بعد زمن قصير.
ثم شعرت كاترين باتساع نطاق سلطتها، فلم تتردد في إرسال الكاردينال شارل دي لورين شقيق الدوق دي جيز إلى ديرِه.
وأجابها الكردينال يومئذٍ قائلًا: هل تجدينني مضايقًا لكِ في غرامك الجديد؟ إذن فليحذر ذلك الخليل الذي جئت به من الأزقة.
فقالت: حاذر أيها الكردينال أن أطيل مدة نفيك وإبعادك.
وهكذا غادرته يرجو ويأمل قربها، وكأنها وعدته بقرب إيابه إلى البلاط، فسافر ومعه من يلوذ به، وفي اليوم التالي أقبل جاليو على أمير كوندة وهو مكتئب مغموم، فقال له الأمير: ماذا دهاك يا عزيزي جاليو، فإن لك هيئة المشنوق؟
– وا أسفاه، إن فؤادي قد ذهب.
قال الأمير: كيف مرسلين؟
– إنها سافرت مع زوجها المحامي في جملة من سافروا مع الكردينال.
– وهل سافر الكردينال؟
– نعم، فقد ارتحل عن أورليان ليلًا بأمر الملكة كاترين.
فأطرق الأمير يفكر، ثم قال لأحد رجاله: ما رأيك في هذا السفر؟
– أرى أن الفساد يسرع إلينا ونحن قعود، فقد آن لك أن تهتمَّ بقضيتك، وترفعها بنفسك إلى مجلس النواب.
– وهذا رأيي أيضًا فلنتأهب للسفر، وما دام جاليو قد قطع من كل علاقة غرامية في أورليان فهو يصحبنا أيضًا.
أجاب جاليو: بلا شك يا مولاي، وسافروا في اليوم التالي، وفيما هم مارُّون بالكنيسة الكبرى أبصروا بعض القسيسين وخمسة أو ستة من المصلين، فقال جاليو متشائمًا: ما كنت أود أن أرى مشهد جنازة يوم رحيلنا.
فأجابه الأمير: إنها جنازة ميت من عامة الناس، ولكن ما لي أرى أسقف «سنليس»؟
فقال جاليو: هو الرجل الوحيد الذي رأيته قرب سرير الملك فرنسوا، واختلط بعض الجند بالقسيسين، وكان أربعة منهم يحملون نعش الميت، ومروا بأمير كوندة وحاشيته، وسمع الأمير قسيسًا يقول: صلوا لأجل الملك التقي فرنسوا دي فالوي الملك الثاني المدعو بهذا الاسم!
فكشف كوندة وأصدقاؤه رءوسهم وجثوا في ذلك الموقف، وقد أثر فيهم ما رأوا من الإهمال في ذلك المشهد، ولم يسر في جنازة فرنسوا الثاني أحد من حاشيته، ولا شيَّعه إلى المدفن أحد من أنسبائه، بل حمل جثته القسيسون وبضعة من الجند، وسار في مشهده أسقف أعمى واثنان من معاونيه.
فقال جاليو: إلى أين تسيرون بالملك؟
فأجابه قسيس: إلى مقبرة سن دنيس، وفيها مدافن الملوك، إلا أن قلبه بقي ها هنا في ضريح من رخام في وسط الكنيسة.
فدخل الكنيسة أمير كوندة وجاليو، وسجدوا قرب تلك البقية الباقية من عدوهما القديم، ولم يكن هناك لا حارس ولا قسيس.