سياسة الملكة الوالدة
كان قصر «فونتنبلو» في أوائل شهر أغسطس (آب) سنة ١٥٦١ حافلًا بالأشراف والسيدات، وقد اختلط فيه الكاثوليكيون والبروتستانتيون. والملكة كاترين ما برحت تحب المجتمعات السارَّة، وقد لبس الرجال أفخر ملابسهم، وتزينت النساء بأبهى الزينات، وكان ذلك الزمن زمن المجادلات الدينية والأدبية، والوعاظ منتشرون في كل مكان، وأبناء المذهب الكاثوليكي يتهمون كاترين بإخلاصها للمذهب الجديد (البروتستانتي).
ولم يكن في ذلك القصر من ذاكر للملك فرنسوا الثاني إلا زوجته ماري ستوارت، وكان الكردينال قد أتى بها إلى فونتنبلو غير مشفق على نفسه من سخط الملكة الوالدة.
فلم تجب ماري، وهي تعرف جبال مملكة إيكوسيا (اسكُتلندا)، ولا ترى وجهًا للشبه بينها وبين سهول فرنسا الجميلة وجبالها البهيجة، وكان الاسكُتلنديون شعبًا خشنًا يكاد يكون همجيًّا، ولا يمكن أن يقاس بالشعب الفرنساوي، فكانت تقول: ويلاه! من يُبدل دينارًا بدرهم؟ فلا أسافر الآن.
ولما نقل جوابها إلى الملكة الوالدة قطبت وجهها، وقالت: كفاني مَن عندي من الفتيات الجميلات في حاشيتي، فلا حاجة بي إلى أرملة ابني، إن ثيابها السوداء كالوصمة في بلاطي.
وبعد اللتيا والتي ضربت موعدًا لسفرها هو يوم ١٦ أغسطس (آب)، وفي ١٥ منه أمرت كاترين بإقامة حفلة باهرة إكرامًا لماري، وكانت ماري في ذلك المساء مكتئبة مغمومة لا تكاد تجيب على كلمات التودد التي يخاطبها بها ظرفاء البلاط. ثم ما لبثت أن دخلت الرواق حينما كانت كاترين وحولها المعجبون بها، وكان الدوق دي جيز إلى جانب الملكة الوالدة ينظر بقلق إلى حركة الإعجاب التي تدور حول الملكة الصبية.
وإذا بغلام لا يتجاوز العشرة من سنيه قد تخطى الصفوف، وأقبل على ماري فأمسك بيديها الاثنتين، ونظر إليها نظرة مبهمة، وكان ذلك الغلام «شارل دي فالوي» ملك فرنسا باسم شارل التاسع، وبعد أن تأمل كنته وقتًا طويلًا، قال لها: لقد أكدوا لي أنك عازمة على الرحيل عن فرنسا، وهذا الخبر غير صحيح، أليس كذلك؟ إنني لا أريد سفرك.
فارتعدت ماري أملًا، وقالت: وا أسفاه! لا بدَّ من سفري أيها الملك، ولو عملتُ برغبة فؤادي لبقيت ها هنا، ولكن ظروفي وأسرتي يوجبان عليَّ الرحيل، وهنا ترددت وكادت تبكي، فنظر الملك الفتى إليها متعجبًا، وقال: من ذا يُكرِهك على السفر، ألست الملكة؟
فتبادرت الدموع إلى وجنتيها، وأجابت: كلا، كيف أكون الملكة وأنت الملك؟
قال: أريد أن تلبثي ها هنا فلا تسافري.
فقالت كاترين للمربية: خذي هذا الصبيَّ، لماذا تركته يجيء إلى هنا؟
فأجابها الغلام: أنا أردت المجيء إلى هنا لأقبِّل الملكة، فإن حُسنها عجيب!
فعطفت ماري ستوارت على الغلام، فقبَّلها بلهفة، وقال لها: عديني بألَّا تسافري حتى أراك غدًا!
قالت: نعم غدًا.
ولم تتمكن من التلفظ بكلمة أيضًا؛ لأن انعطاف شارل عليها قد أثر فيها تأثيرًا عميقًا، فرفعت كاترين ابنها ودفعته إلى مربيته، ثم عادت إلى قرب الدوق دي جيز، وقالت له بلهجة خشنة: لقد آن لماري أن تسافر!
فأجابها: نعم أيتها السيدة.
ثم دعت كاترين ترولوس، وقالت له: أنت تعرف حاشية ملكة النافار، فاستعلم عما إذا كان قد طرأ طارئ جديد بينها وبين زوجها، وذلك لأن كاترين سمعت إشاعة عن ملك النافار مؤداها أنه ارتدَّ عن مذهب كلفين إلى المذهب الكاثوليكي. فما لبث أن رجع إليها ترولوس بالخبر اليقين، قال لها: إن أحد القسس البروتستانتيين زار ملك النافار اليوم كعادته، فامتنع عن مقابلته، ودخل على زوجته من غير إنباء سابق بدخوله، وعنفها على تشبثها بمذهب البروتستانت، وأشار عليها بترك مذهبها، ولما جاوبته بخشونة احتدم وصاح في وجهها قائلًا: ما أنتِ أهلًا لأن تكوني زوجة أمير من آل بوربون، ولقد أتيتُ حماقة فظيعة يوم خطر لي الاقتران بك! ثم تركها وهو يقول: من حسن الحظ أن اقتراننا ذاك لا يدوم أبدًا!
وكانت كاترين قد لاحظت ملك النافار فرأته يقترب إلى ماري ستوارت ويحدثها همسًا، ففهمت مغزى ذلك الهمس، وكذلك تنبه الدوق دي جيز إليه إلا أنه لم يفهم المراد من تلك المجاملة، فقالت له كاترين: لا جرم أن ماري تروم الاستيلاء على القلوب التي تميل إلينا. قال: ما معنى هذا الكلام؟ قالت: إنها تتودد إلى ملك النافار كما كانت تتودد إلى زوجها، وعلمت بالأمس أن دامفيل قضى سحابة نهاره عندها.
قال الدوق: أتعنين دامفيل ابن مونمورانسي؟
– نعم، ولقد حدثتني بهذه الزيارة الآنسة دي موفال فقد سمعت ماري تقول: لئن ماتت زوجة دامفيل فإنني أتخذه بعلًا.
– هذه وشاية كاذبة.
أجابت كاترين: لعلها اليوم وشاية، لكنها غدًا تغدو فضيحة، فلا ينبغي أن نفسح لها مجالًا، ولما انتصف الليل أقبل الدوق دي جيز على ماري ستوارت، وقال: هيا بنا نسافر.
فأجابته: لا أسافر الليلة، ولكن بعد بضعة أيام!
قال: لقد أعددنا الأهبة للسفر، وهؤلاء سُفراء مملكتك ينتظرونك في «ليث»، فمتى خرجت من المرقص فالبسي معطف السفر فنرتحل عن فونتنبلو قبل طلوع النهار، وانتشر خبر سفر ماري، ولما صعدت إلى مركبة السفر تألف حولها جمهور زاهر من أهل البلاط ليشيعها، فظلت تتوهم أنها ملكة حتى الدقيقة الأخيرة، وكان الدوق دي جيز إلى جانبها، وكثيرون من الأشراف قد أحدقوا بها، ورام بعضهم ألَّا يفارقها إلا بعد وصولها إلى اسكتلندا. فذرفت عيناها دمع الأسى والأسف، وأراد ملك النافار لحاقًا بالأصدقاء الذين شيعوا تلك الملكة الراحلة، إلا أن الملكة الوالدة نادته بحجة أن له شغلًا عندها بشئون المملكة. فلما انتهى لجب القوم المسافرين، وابتعدوا تنهدت كاترين كمن استراح من تعب، وقالت: الآن صرتُ ملكة فرنسا! أما الدوق دي جيز فرجع وهو يقول: لا بدَّ من استئناف النضال، وها أنا وأنتِ يا كاترين، وسنرى من يفوز!
•••
ولما انعقد مجلس الحكام لم يظهر الدوق في البلاط إلا نادرًا، واقتدى به مونمورانسي والماريشال سَن أندرة، وحضر المجلس الكردينال دي لورين وملك النافار فأبصروا بأعينهما كيف تقلص ظل نفوذهما. ثم انفضَّ المجلس دون أن تظهر نتيجة لأعماله.
وفي اليوم التالي كانت كاترين في مكتبها تطالع كتابًا مجلدًا تجليدًا نفيسًا، فامتنعت عن المطالعة هنيهة لتلخص سياستها، وقالت: إن أمير كوندة عدو للدوق دي جيز، فهو ينصب له الأشراك، وملك النافار عدو للكردينال أخي الدوق، ومونمورانسي خصم لسَن أندرة، وهذا عداء يفرق بين الجميع ويسلطني عليهم، والفضل في ذلك يعود إلى مواطني واضع هذا الكتاب.
اذهب عند منتصف هذه الليلة إلى قصر اللوفر دون أن تدع أحدًا يعرف من أنت. فهناك صديق مخلص ينتظر وصولك. فاصعد إلى الطبقة الثانية، واضرب الباب الوحيد الذي ترى تحته نورًا، أما كلمة المرور فهي: فرنسا ولورين.
فذهبا في الوقت المعين دون تردد، فكانا في منتصف الليل عند باب واحد، فعرف كل منهما الآخر. فقال الماريشال: ما جاء بك إلى هنا يا مسيو دي مونمورانسي؟ فأجابه: وأنت أي أمر ساقك إلى اللوفر؟ ثم نظر كل منهما إلى الباب، وقالا معًا: هذا باب حجرة الدوق دي جيز.
وقال الاثنان معًا: إنه عدوي الألدُّ، وعندئذٍ انفتح الباب، وظهر الدوق يحمل مصباحًا، فقال لهما: ادخلا أيها السيدان، فإن مدام ديانا كتبت إليكما عن هذا الموعد بعد أن طلبت منها الكتابة إليكما. فبهت الرجلان، إلا أنهما دخلا حجرة الدوق، فقدم إليهما كرسيين وجلسوا إلى مكتب عليه ورقة كبيرة بقربها دواة وأقلام وأختام.
فقال مونمورانسي: ألا توضح لنا معنى هذه الدعوة؟
قال الدوق: ألا يدهشك قدومك إليَّ؟
– إني متعجب من أمرين: أحدهما اجتماعي بك؛ لأنك كنت على الدوام عدوي، والآخر أنني ألقاك في هذا القصر بدلًا من أن تكون في قصر آل جيز.
– لو كنا في قصر آل جيز لراقبتنا العيون، أما في هذا القصر فما من أحد يظن أن ثلاثة رجال مثلنا يدخلونه من غير حاشية، ولو كنا في غير هذا الوقت لما صلح قصر اللوفر لاجتماعنا، أما اليوم فهو خير ملجأٍ لنا لغياب كاترين.
قال مونمورانسي: وهل أتينا إلى هنا للقيام بمؤامرة؟
أجاب الدوق: كلا يا سيدي، ولكن للدفاع عن أنفسنا، وما فرق بيننا إلا مصالح زهيدة جدًّا، ولذلك أردت أن أصافحكما معترفًا بخطئي، وإني أقدم ولاية (دمارتين) ضمانة على صدق كلامي وعربونًا لصداقتي. ومدَّ يده إلى مونمورانسي فصافحه من غير اهتمام، منتظرًا إتمام المحادثة. فقال الدوق: لا بد من تناسي أحقادنا، ثم الاهتمام باتحادنا لمقاومة الخطر المحدق بنا ومصدره امرأة.
فقال الرجلان معًا: كاترين؟
– نعم، كاترين التي تناولت مقاليد السلطة من غير حق، وعبثت بحقوقنا وبالقوانين الفرنساوية، وشريعة الإفرنج تمنع النساء من التملك، بل تمنعهن من الوصاية، ولئن لم تتخذ كاترين لقب «الوصية» لاعتراض مجلس الحكام، فقد قبضت على السلطة، وإرادتها أصبحت مطلقة، وأشركت فيها ملك النافار، وهو غبيٌّ مغفل، وأمين الأختام، وهو شيخ تولاه الخرف، والأميرال كوليني، وهو بروتستانتي المذهب، فذلك لا يمكن دوامه.
قال الأميرال سن أندرة: نعم ذلك لا يمكن دوامه.
وقال الدوق: ولم تكتفِ كاترين بذلك كلِّه، بل أعلنت أنها عازمة على مقاومة خدم الملك المتوفى وهنري الثاني، وأسماء هؤلاء الخدم مونمورانسي، وسَن أندرة، ولورين.
قال الماريشال: إن هذه الإيطالية تستوجب أن يعلق حجر في عنقها وتطرح في السين.
فقال الدوق دي جيز: لا ينبغي أن ننسى أن عدوتنا امرأة، وحسبنا أن نجعلها في دير بعيد. أما قتلها فلا يليق بنا، ولا سبيل إلى الظفر بهذه المرأة إلا إذا اتحدنا اتحادًا ثابتًا، وتعاهدنا على التعاون بجميع الوسائل.
قال الماريشال: إني أسير معك في هذا الطريق أيها الدوق، وتردد مونمورانسي شيئًا؛ لأن وفاءه القديم للبيت المالك كان حائلًا دون موافقته على ذلك الاقتراح، لكنه ذكرَ أن هذه المرأة تروم أن تعامل كبار الدولة كما تعامل وصائفها.
فقال الدوق: ألا تقبل يا مسيو مونمورانسي بما قبلنا به؟
فأجاب: بل قبلت ورضيت.
فانثنى الدوق إلى الأميرال، وقال له: أتروم أن نكتب اتفاقنا على ورق ونوقع عليه؟
فأجابه الأميرال مرتبكًا، قال: بل الكلام يكفي.
وقال الدوق: الكتابة أفضل.
– إنني لا أحسن الكتابة إلا قليلًا فاكتب الاتفاق أنت.
– إن خطي لا يقرأ.
فقال مونمورانسي: أما أنا فلا أجيد كتابة شيء.
وقال الدوق: هنا ثلاثة أختام لمونمورانسي، وسن أندري، ودي جيز، قد اصطنعها أخي الكردينال، ولكن ما لنا ولها فنحن أشراف والقسم يكفي بيننا. ثم جرد سيفه ووضعه على المكتب، وقال: إنَّا نُقسم بأسيافنا على أننا نتحد ضد الملكة كاترين، ونتعاون عليها تعاون صدق وأمانة في كل عمل نباشره. فجرد سن أندره ومونمورانسي سيفيهما، وقالا: إنَّا نقسم على ذلك.