أحد الشعانين
وازدادت حركة الباريسيين في اليوم التالي؛ لأنهم علموا بوصول ملك النافار واجتماعه بالدوق اجتماعًا كان الغرض منه الدفاع عن المذهب الكاثوليكي، ولم يكتف ملك النافار بذلك، بل جاء بدليل آخر على صدق إيمانه، فحضر الصلاة في كنيسة نوتردام على مرأى من الجميع، وهتف له الجمهور كما هتفوا للدوق ولمونمورانسي هتافًا متواصلًا، ودعوهم: «نصراء الدين، وأصدقاء الملك الحقيقيين.»
وفيما كانت باريس مسترسلة في هذه الاحتفالات كانت كاترين دي مدسيس منفردة في حجرتها، تبكي بالقرب من نافذتها، وعيناها محملقتان إلى طريق العاصمة، مصغية إلى وقع الحوافر، تسأل نفسها عما عسى أن يكون كل قادم، وتقول: أكوندة أم جيز؟ وكانت خائفة من آل جيز؛ لأنهم أسرةٌ منها كثيرون من رجال الدولة، وفيها القواد البواسل وذوو المطامع والآمال البعيدة، ولذلك كانت تنتظر قدوم أمير كوندة بذاهب الصبر؛ لأن ذلك الأمير كان شجاعًا كريمًا محبوبًا من البروتستانتيين حبًّا يفوق الوصف، وهو ذو مطامع ككلِّ آل جيز، لكنه شديد الوفاء والولاء للبيت المالك، ولا يكيد لأسرة فالوي. وفيما هي ممتعضة حزينة النفس سمعت وقع حوافر خيل عديدة، فأخذت تلثم ولدها شارل التاسع، وتقول: أسأل الله أن يكون القادم أمير كوندة. تالله لأشيدنَّ معبدًا للعذراء يكون أجمل المعابد! ودنا الصوت، فأطبقت عينيها وهي تقول: من لي بك يا ترولوس؟
وما كادت تنتهي من هذه الكلمات حتى دخل الحاجب يقول: بالباب ملك النافار، والمسيو دي مونمورانسي، والدوق دي جيز. ففتحت عينيها فأبصرت الثلاثة قد صاروا أمامها، وسمعت ضجة الجند الذين جاءوا معهم، وكان هؤلاء الثلاثة قد دخلوا فجأة كأنهم ينوون إهانة والدة الملك، إلا أنهم وقفوا متهيبين خاشعين؛ لأنهم رأوا أنفسهم تجاه امرأة حسناء ضعيفة، وخجل دي مونمورانسي كما خجل الكردينال دي بوربون لتهجمهم على والدة وأولادها، فكان سكوت طويل المدة، ثم قالت كاترين: ماذا تريدون؟
فأجابها الدوق بخشونة: إننا أتينا أيتها السيدة طالبين إليك الإياب معنا إلى باريس. فارتعدت كاترين؛ لأن دخولها مدينة كاثوليكية مما يشقُّ عليها بعدما قضت عامًا كاملًا وهي تدافع عن البروتستانتيين جهرًا، وهي التي بذلت مجهودها لإنقاذ أمير كوندة من حكم الإعدام، والباريسيون كانوا قد تهددوه بالقتل إذا لم يرتحل عن مدينتهم، وكاترين لم تكن تحفل بالمذاهب الدينية، وإنما تحب السلطة حبًّا كالجنون. ومعنى إيابها إلى باريس استسلامها إلى أعدائها، وأولهم ملك النافار، وكانت قد هزأت به، ثم مونمورانسي وكانت قد ناقشته الحساب عن شئون منصبه، ففرنسوا دي جيز، وكانت قد طردته من البلاط قبلًا. فنظرت بكبر إلى الرجال الثلاثة، وأجابتهم قائلة: لا أدخل باريس أبدًا!
فاضطربوا من هذا الجواب؛ لأنهم كانوا يتوقعون منها مراوغة ومماطلة لا عزيمة ثابتة، فقال لها الدوق: إذن أين يكون مقرك أيتها السيدة، ولا حاشية لك، ولا جيش، ولا حراس؟
فأجابته: سأذهب إلى حيث أجد أصدقاء مخلصين للملك.
قال: لعلك ترومين أن تجدي أمير كوندة؟
قالت: لا ينبغي أن أخبرك بشيء من ذلك، ولكن، يا للعجب منكم، أهكذا تدخلون على مليككم؟ انظر يا ولدي شارل إلى هؤلاء الرجال الثلاثة المدججين بالسلاح، فقد تجرءوا على مخاطبة والدتك وقبعاتهم على رءوسهم، وقد أتوا إلى هنا مستصحبين جيشًا حقيقيًّا، متهددين، متوعدين، آمرين ناهين، ولعلك تحسبهم غرباء أو أعداء، كلا! فأحدهم اسمه أنطوان دي بوربون وهو عمك، والآخر اسمه دي مونمورانسي وهو قائد جيوش المملكة الفرنساوية، أعني الرجل الذي يجب عليه أن يكون أشد الناس إخلاصًا لك؛ لأنه أقسم بشرفه على ذلك، وأما هذا الآخر فهو فرنسوا دي جيز خادم أبيك، وهو الذي استخلص مدينة كاليه من أيدي الإنكليز، ومدينة ثيونفيل من أيدي الإسبانيين، فتذكر يا شارل أن هذا الرجل جاء إلى هنا وأهانك؛ لأن الرجلين الآخرين لا يُحسبان شيئًا مذكورًا بالقياس إليه، بل هما كألعوبة بين يديه. ألا فاذكر ما أقوله لك يا شارل، إن هذا الرجل ألدُّ عدو لك ولأسرتك! والآن أيها السادة اذهبوا من هنا وولدي هذا قوي الذاكرة فلن ينسى أحدًا منكم!
فلم يدرِ مونمورانسي وأنطوان دي بوربون بماذا يجاوبان، غير أن الدوق دي جيز كان أقساهم قلبًا وأربطهم جأشًا، ففكر في وسيلة يتخذها لإقناع الملكة، وجعلت كاترين تنظر من النافذة إلى البرية راجية مساعدة من كوندة وهي تغمغم، وتقول: ترولوس، ترولوس، لماذا لا تجيء؟!
ولم يكن حول القصر إلا جيش الدوق دي جيز مستعدًّا للحرب والنضال، وإذا بها قد أحست بأنهم ينتزعون يد ولدها شارل من يدها، فصرخت صرخة عالية، وانثنت فأبصرته يمتنع عن الدوق دي جيز، وقد أبعده عنها، فنهضت.
فقال الدوق: سواء لبثتِ في مكانك أو أتيتِ معنا فإنَّا لا نتخلى عن الملك، ولا بدَّ لنا منه. قالت: أتتجرأ!
قال: لستِ بالسيدة الآمرة إلا إذا شئتِ المسير معنا، أو الاعتزال في أحد القصور، ولا بدَّ لنا من أخذ الملك وإخوته. فامتقع لونها كمدًا، وهمت بشتمهم إلا أنها رأت السكوت، وقد شعرت بالغلبة، وكان ابنها يبكي فاسترسلت أيضًا في البكاء. فجعل الرجال الثلاثة ينظرون إليها صامتين إلى أن قال لها الدوق: كيف ترين؟
فأجابته برقَّة: إني متأهبة للذهاب معكم. فأمر الدوق بالرحيل، وللحال سار القوم عائدين إلى باريس ومعهم الملكة الوالدة والملك أسيرين، وكانا يبكيان. فقال الدوق دي جيز: إن المصلحة العامة تظلُّ مصلحة عامة سواء أُدرِكَت بالرفق أو بالعُنف.
ووصلوا عند المساء إلى ملون، فباتت الملكة وابنها في قصر هناك، لم يسكنه منذ أكثر من مائة عام إلا السُّجناء.
إلا أن ترولوس، بالرغم عن مراقبة الحراس وطوافهم حول موضع الملكة، تمكن من الوصول إليها عند منتصف الليل. فضرب باب مخدعها فنهضت وفتحته، فلما رأى آثار الدموع على وجهها لم يتمالك أن زفر زفرة كادت تخنقه، وقال: يا لله من هذه الحال التي صرتِ إليها يا سيدتي!
قالت: ماذا جرى لكوندة؟
أجاب: وا أسفاه إن الفرسان البروتستانتيين بدءوا يتوافدون إلى «مو» وبعد يومين يمشي الأمير في طليعتهم، ويحضر للدفاع عنك، وقد رأيت من جاليو همةً كبيرة.
قالت: وا حسرتاه لقد ضاعت سلطتي بتأخير يومين!
قال: لا شيء يعزيني عما حلَّ بك يا سيدتي، أما الآن فلا أريد مفارقتك؛ لأني أخشى أن يحاول هؤلاء الأنذال إهانتك!
قالت: كلا يا ترولوس، فلا بدَّ من ذهابك! فعد إلى الأمير، وقل له إنني سجينة مع الملك، وقل له أن يبذل جهده لإنقاذي، ثم تسعى لملاقاتي في الموضع الذي أُساق إليه، ولقد خانني الكل، وإني محتاجة إليك، فاذهب أيها الحبيب!
فأجابها: إني طوع أمرك أيتها الملكة! وبعد هنيهة سار في طريق «مو» آملًا أن يلحق بأمير كوندة، وكان الأمير قد ترك ذلك الموضع ليقترب إلى أورليان، ويشرع في الاتفاق على العمل مع الأميرال دي كوليني، وهناك علم أن الكاثوليك قبضوا على الملكة والملك. فكان ذلك فاتحة حرب، ولم يبق بدٌّ من الدفاع. فوثب ترولوس إلى طريق أورليان، وكانت يومئذٍ المدينة الثانية في المملكة، فوصل إليها يوم استولى عليها دنديلو، نجل الأميرال، ولقد استولى عليها من غير أن يسفك قطرة دم؛ إذ أقنع الأورليانيين بأنه إنما لجأ إلى أورليان ليخدم الملك فيها، وبعد أيام أقبل أمير كوندة على المدينة فحاصرها، وأعلن بعدما تلقى رسالة ترولوس أنه لا يجرد السلاح إلا لمصلحة البلاد وإنقاذ الملكة الوالدة والملك. وفي يوم ١١ أبريل (نيسان) اجتمع أهل أورليان واعترفوا بأمير كوندة زعيمًا لهم؛ لأن أكثر سكان المدينة كانوا على مذهب البروتستانتيين. فوقعوا على عقد تعهدوا فيه بالانقياد إلى أمير كوندة لإنقاذ الملكة الوالدة وابنها الملك، وإعادة الطمأنينة إلى المملكة تحت حكم الملكة الوالدة، وكان جاليو في جملة الموقعين على ذلك العقد، شافعًا توقيعه بأنه يظل كاثوليكي المذهب؛ لأنه لا يريد أن يرتد عن مذهب والديه، ولكنه يقاتل دفاعًا عن الأمير، والملك، والوطن، وعن الضعيف، ولقد رأى نفسه في أشد حاجة إلى سيد عظيم يقيه شرَّ المحامي أفنيل بعد حادثة فاسي؛ لأن جاليو أبقى مرسلين عنده مخبوءة في أورليان، وكان ينفق عندها وقته عندما يخلو من خدمة الأمير.
فلما كان يوم ١١ أبريل أقرَّ مجلس باريس الأمر المشهور «بأمر يناير (كانون الثاني)» وهو الذي يخول البروتستانتيين حرية العبادة والقيام بشئونها. ثم إن الدوق دي جيز أكره الملكة على أن تسعى لإخضاع أمير كوندة، فانضمت إلى الكاثوليكيين؛ لأنهم صاروا الحزب الأقوى، دون أن تقطع مفاوضتها مع زعماء البروتستانتيين، ولقد كتبت رسائل عديدة، جمعها الكونت هكتور دي لافريير في كتاب عنوانه: «مراسلات كاترين دي مدسيس» وكلها مرسلة إلى زعماء البروتستانتيين.
ولم تعلن الحرب بين الطائفتين، إلا أن المشاجرات كانت متوالية، وفي ذات يوم خرج مونمورانسي من باريس بجيوشه وتبعه جمهور من الناس فقصد موضعين لاجتماعات البروتستانت؛ أحدهما: خارج باب سن جاك، والآخر: في موضع يقال له بانبكور؛ فأضرم النار فيهما، وأهلك كل المجتمعين للعبادة هناك من غير دعوى ولا مرافعة، ثم عاد إلى المدينة بين هتاف المتعصبين وصياح المتحمسين كأنه قادم من نصر مبين. وكذلك وقعت مذبحة كبيرة في «سانس» سقط فيها من البروتستانت قتلى لم يُحصر عددهم، واستمرت المذبحة (أو بالأحرى المجزرة الوحشية) أسبوعًا كاملًا.
وبعد أيام قلائل كان شارل التاسع يتنزه قرب قصر اللوفر عند ضفاف السين مع والدته وآل جيز، فأبصروا جثة طافية على الماء، وكان وجه الجثة متجهًا إلى شارل التاسع، فقال مرتعدًا: ما هذا؟
فأجابه ترولوس، وكان مع الملكة: هذه جثة رجل مقتول في «سانس» ينظر إليك أيها الملك ويسألك عَدْلًا.