الاستيلاء على روان
لم يكن الذل الذي أصاب الملكة الوالدة إلا وقتيًّا، فإنها بعد بضعة أسابيع استعادت شيئًا من السلطة، وأخذت تفاوض سرًّا وجهرًا معلنة أنها كاثوليكية المذهب، إلا أنها متجنبة معاداة زعماء البروتستانت، ومؤكدة لأمير دي كوندة ولاءها، وكانت تزعم أنها بهذه السياسة توفق بين جميع أبناء المذاهب، والحقيقة أن الشقاق كان يشتد بين أبناء الوطن الواحد، بتحريض رؤساء الدين الكاثوليكي، حتى طلب كوندة وكوليني مساعدة الألمانيين، واستنجد البروتستانت في نورمانديا بالإنكليز على أن يسلموهم مدينة الهافر.
أما الدوق دي جيز وملك النافار فإنهما طردا من «مدينة بورج» البروتستانتي مونغوميري، فلجأ إلى روان فحاصراها بجيش كبير، وافتتحا قلعة فيها فاستبشرا بالنجح والفوز، إلا أن مونغوميري أعدَّ في البلدة كل خطَّة للدفاع، فحصَّن سائر مواقعها، ولكن حدثت حادثة غير منتظرة ساعدت الدوق دي جيز على فتح تلك المدينة بالسيف.
وكان بين الأعداء الذين يرصدون حركات الدوق وسكناته، بلترو دي ميرة، ومادلين بنت «يعقوب لوم» الكتبيِّ.
فإن هذين المنحوسين ما برحا يتبعانه والحنق يوليهما هياجًا شديدًا، ولا سيما مادلين، فقد كانت تتلظى من ظمئها إلى الانتقام، ولقد خطر مرارًا لبلترو أن يطارحها الحب، فقالت له بصوتٍ خشن: لا غرض لي الآن من دنياي إلا الانتقام العادل.
فجعل بلترو يده على غدارته، وقال: إنني أبذل حياتي في سبيل قتل فرنسوا دي جيز.
إلا أن الدوق كان يحدق به جماعة من الأشراف الذين لا يدعون بلترو وأمثاله يَصِلُون إليه، فلم يخطر له إلا أن يرقب الفرص، ويداهم الدوق مداهمة. فلما تمشَّى جيش الدوق إلى روان جاء ومادلين يستعلمان، وكان يقول لمادلين: إن الدوق يخاطر بنفسه كثيرًا، وقد رأيته يتقدم إلى أسوار المدينة، ويمكن تسديد المرمى إليه من وراء السور، فإن لم نتمكن من قتله على هذه الطريقة راقبناه حتى يستولي على المدينة، وذلك أمر لا تطول مدته، ولا بد أن يترك الحذر وقت الظفر. ألا ويل لك يا فرنسوا دي جيز، إني سأبقى ألصق لك من ظلك إلى أن أراك ممددًا عند قدميَّ مخضبًا بدمك، ولئن قتلوني بعد ذلك فما أبالي؛ لأنني أكون قد انتقمت لنفسي، ولأبي مادلين، وأنفذت إرادة الله، وأنجزت وعدي للارنودي. ثم خفض صوته، وقال: وأكون قاتل الرجل الذي اختطف مني حبيبتي.
وفي ذات صباح كان بلترو ومادلين يرصدان الدوق قرب الأسوار، ويشهدان مصارع الرجال، فشهدا حركة وسمعا قول قائل يقول: لقد جُرح جرحًا بالغًا. فقال آخر: من الجريح؟ قال: هو ملك النافار!
وانتشر الخبر في المدينة المحصورة، فأقبل جمهور نحو الأسوار، وحمل الجنود الكاثوليكيون «أنطوان دي بوربون» على محفة معدَّة للجرحى، وبادر الدوق دي جيز ليساعد الرجال على نقل الجريح، فأبصره البروتستانتيون من أعلى الأسوار، وللحال انهال عليه رصاصهم.
فقالت مادلين لبلترو: ما بالك لا تطلق أنت النار عليه؟
أجاب: لا فائدة من ذلك، فإنه بعيد عن مرمى رصاصنا.
وكان فرنسوا دي جيز قد ابتعد فالتفت ونظر إلى ناحية الأسوار، فحانت منه التفاتة جعلته يرتعد؛ لأنه أبصر وجه مادلين وقد زادها لبس السواد حُسنًا. فأوصل ملك النافار إلى خيمته، ثم عقد مجلسًا وأقرَّ وجوب الاستيلاء على البلد بالهجوم المباشر دون اكتفاء بالحصار.
فقالت الملكة الوالدة: مهلًا يا مسيو دي جيز، فإن الاستيلاء على المدينة بالهجوم عليها قد يكون السبب في تسليمها إلى الجند يحرقونها، ويذبحون سكانها.
فأجابها: ثقي أيتها السيدة أنه لا جندي من جنودي يحرق ويسلب، وإني أقسم لك على ذلك.
وأخذ يبسط الكلام في أفضلية رأيه، إلا أنه قبل إصدار الأوامر بالهجوم دعا إليه خادمه روسو، وهو الرجل الذي كان رسوله في كل مراسلة غرامية، وقد كافأه بأن قلده زمام الحكومة في مدينة «بايو» فقال له: ألم تطلب إليَّ بالأمس أن أسمح لك بزيادة الضرائب في مدينة بايو؟
فأجابه: لست أنتظر غير صدور أمرك الكريم لأعود إلى حكومتي!
– لقد قيل لي إنك تذبح البروتستانتيين ذبحًا كثيرًا.
– ذلك خير من تركهم ينغمسون في عبادتهم الخاطئة (؟).
فضحك الدوق وقال: إني أخوِّلك الزيادة التي تطلبها، ولكن بشرط واحد.
– تكلم يا مولاي.
– ألم تر أحدًا على الأسوار في هذا المساء؟
– نعم رأيت مادلين لوم!
– إنَّا هاجمون غدًا على مدينة روان، وليس من العدل أن يتمتع الجنود بمن يشتهون ويُحرم قائدهم الأكبر.
– فهمت يا مولاي.
قال الدوق: وهل أعتمد عليك؟
أجاب: يعلم مولاي أنني لا أضنُّ بحياتي في خدمته. وفي اليوم التالي، بعد هجوم هائل، استولى الكاثوليكيون على مدينة «روان» ولم يبقَ لها قلعة أو وسيلة للدفاع إلا حصونها المتداعية، فتخطاها المهاجمون بعد أن أتموا تهديمها، ويومئذٍ حدثت المذابح التي تقشعر منها الأبدان، وسُفكت الدماء حتى سالت في كل مكان؛ لأن البروتستانتيين كانوا قد عقدوا النية على الدفاع في داخل المدينة، وعلى ألَّا يدعوا للمهاجمين زقاقًا أو شارعًا أو بيتًا إلا بعد أن ينازعوهم عليه كل المنازعة، ويقاتلوهم كل المقاتلة. فكانت النوافذ مملوءة بفوهات البنادق تطلق نيرانها على الجند، والسطوح عبارة عن مناجم حجارة يرشقون بها المهاجمين، وكانوا يسمعون في بعض الأحيان دويًّا هائلًا يدل على أن بعض البروتستانتيين قد نسفوا بيتًا ليدفنوا تحت أنقاضه المهاجمين من الكاثوليكيين، وانقضت ثلاثة أيام في قتل ونهب. أما مونغوميري فقد لجأ إلى الفرار على قارب، وكانت الملكة تبكي غيظًا وقهرًا وحزنًا على مدينة غنية كانت من أكبر المدن التجارية، وقد أصبحت خرابًا. فبادرت إلى الدوق دي جيز، وقالت له: أين اليمين التي حلفتها؟ فأجابها: لستُ أذكر يمينًا أيتها السيدة، وهل تظنين أنه يمكن ضبْط جيش منتصر؟ إن هؤلاء الجنود الذين تلومينهم؛ لأنهم يسلبون وينهبون معذورون؛ لأنهم لم يتناولوا مرتباتهم منذ استيلائهم على مدينة بورج!
فأدركت كاترين أن كل وسيلة صالحة لا تجدي، فانطلقت وزارت ملك النافار، وقد أراد دخول المدينة محمولًا على محفته، ولكنه مات وهو ينظر إلى الآنسة «دي رويا» وهي فتاة كان يهواها هوًى شديدًا.
وفي ذلك المساء طاف الدوق دي جيز في المدينة التي استولى عليها، ولم ير خادمه، فقلق خوفًا أن تكون مادلين قد فرَّت منه، ورأى رجاله يسلبون ويفتكون ويغتصبون، وقد أسكرهم النصر فكانوا يتغنون بأنشودة مؤداها: «إن دماء البروتستانت وأعراضهم حلال للكاثوليك»، وألفاهم يحتفلون في كل مكان بذلك الظفر، إلا هو فإنه لم يحتفل، إلى أن صادف خادمه، فقال له: ماذا فعلت منذ ثلاثة أيام؟ قال: إني كنت أبحث عن مادلين. قال: ألم تجدها؟ أجاب: بلى، ولكنها كانت تهرب مني على الدوام.
قال: هل رأيتها وحدها؟ أجاب: لا، ولكن معها رجل كأنه يتبعك، ولا يترك مكانك إلا عند خروجك، ثم لا يمر إلا في الشوارع التي تمر بها.
قال: ولماذا لم تقبض عليهما؟ أجاب: أظن أن ليس الغرض قتلهما، فلو كان ذلك غرضنا لقتلناهما من عهد بعيد، ولكنك تروم القبض على الفتاة حية لا ميتة؛ ولذلك لم أتجرأ على إطلاق الرصاص على الرجل الذي معها خوفًا من أن أصيبها هي.
قال الدوق وهو منزعج: تقول إنها تتبعني، فهل هي تعرف من أنا؟ سوف أتحقق الأمر.
قال: لنختبئ يا مولاي، فإنهما مقبلان.
أجاب: لا فإنني سألقاهما!
وكان بلترو ومادلين منزويين في شارع ضيق، وهما تائقان إلى الانتقام، وقد هاجهما منظر الدماء المهراقة منذ ثلاثة أيام، واتفق مرة أن الدوق كان على مرمى رصاصة منهما، فهمَّ بلترو بقتله، لكنه أحسَّ بارتجاف يده فخاف أن يخطئ المرمى؛ لشدة ارتجاف يديه بسبب احتدام نار بغضائه. أما في ذلك المساء فقد تماسك وتجلد وظنَّ أن انتقامه قريب؛ لأنه لم يرَ مع الدوق إلا رجلًا واحدًا. أما الدوق فتقدم إليهما وسيفه مجرد في يده، شأن من تعود ملاقاة الأهوال والأخطار. فسدد إليه بلترو بندقيته عازمًا على أن يطلقها عندما يصير الدوق قريبًا، وفيما هو يهمُّ بذلك سمع صرخة وراءه، فانثنى مرتاعًا ورأى مادلين يحملها الرجال، فحول الطلق إلى أولئك الرجال فقتل واحدًا منهم، واختفى الباقون في زقاق مظلم ومعهم مادلين محمولة على الأيدي، فبادر إليهم، إلا أن الدوق أدركه وضربه بسيفه ضربةً صرعته فارتمى على الأرض.
وبعد هنيهة كانت مادلين سجينة في بيت خالٍ والدوق أمامها. فقال لها: أبلغَ منك الجفاء هذا الحدَّ فلم يعد الوصول إليك ممكنًا إلَّا بعد إطلاق النار واستخدام الجنود، ولولا أن الدوق دي جيز استولى على روان لما استطعت أن أراكِ.
وهو قد حاول مخادعتها بزعمه أنه من ضباط الدوق دي جيز. ولم يتعشق قط امرأة تعشُّقه لمادلين على كثرة مفاخرته باتخاذه عشيقات في كل مدينة فرنساوية، وقد أنسته الدسائس والحروب أن والد تلك المنحوسة مات مقتولًا بأمره، وكأنما نسيت مادلين ذلك أيضًا؛ لأنها أصغت إلى الدوق كل الإصغاء، وكان يطارحها عبارات الهوى والوجد، وطفق يذكر لها علاقته السابقة، وكيف كان يزورها صاعدًا إلى شرفة منزلها في ساحة أورليان، ومضى في كلامه إلى أن مرَّ سكير يغني بصوت عالٍ، فنبهها ذلك إلى ما هي فيه، فدفعت الدوق وأبعدته عنها وهددته بخنجر، فقال لها: ويكِ هل جُننت؟
فأجابته: كلا ما جننتُ يا دوق، ولكنني تذكرت تلك الأقسام والقبلات الكاذبة، وكل ما فعله الضابط فرنسوا، ثم تذكرت مصرع أبي! فاصفرَّ وجه الدوق، فقالت أيضًا: ألا تدري «يا دوق فرنسوا» أن قد كان لي والد، وكان من أهل الفضل والصلاح، وأنني كنت أحبه؟
قال: لماذا تدعينني «الدوق»؟ إن أنا إلا ضابط شريف.
قالت: تبًا لك من كاذب مخادع، أمَا تفتأ تخدعني؟ إن جلَّادك يا دوق قد فتك بأبي ظلمًا، ثم دخلتَ أورليان في اليوم التالي، ورجالك يحدقون بك، وكنت تجتاز الساحة التي مات فيها والدي ظلمًا، فلم ترفع رأسك لتراني، إلا أنني رأيتك وقتئذٍ، وعلمت أن الضابط فرنسوا الذي هويته ما كان إلا الدوق دي جيز، قاتل أبي، فأقسمتُ في ذلك اليوم على الانتقام منك. فعيناي اليوم لا تذرفان دمعًا، ولكنك ترى أثر الدمع على وجنتيَّ، وما عشت حتى الساعة إلا لأنتقم منك. إذن فأنت هالك! وقد ابتعد عنك رجالك فلا يوجد ها هنا أحد سوانا، وإني قاتلتك بعدما نزعت سيفك، وجعلته بعيدًا عنك، فاركع يا دوق، واسأل الله لذنوبك غفرانًا!
وفيما كانت مادلين تتكلم كان بصرها يطفح بغضًا، والجفاء ظاهر في صوتها، فلما فرغت من كلامها همت بالهجوم على الدوق، إلا أنها أصيبت وقتئذٍ برعشة عصبية فاضطرب بصرها، ونظرت إلى فرنسوا نظرة تائهة، وأفلت خنجرها من يدها. أما الدوق فلم يشعر بأقل خوف؛ لأن خادمه بقي في ذلك البيت، وكانت أمامه مائدة عليها الصحون والشموع فلو هاجمته مادلين لاستطاع دفاعًا عن نفسه. إلا أنه استشعر أسَفًا حقيقيًّا، ورأى نفسه صَغيرًا أمام تلك الفتاة، ولكن ذلك لم يدم إلا وقتًا قصيرًا فرشق مادلين بنظرة شرسة روَّعتها وقهقرتها، ثم سقطت على الأرض مغمًى عليها، فحملها فرنسوا ووضعها على كرسيٍّ، ونادى خادمه وصب على صدغيها ماء باردًا، ثم قال للخادم: لقد تركت لك هذه المرأة التعسة، فمتى أفاقت أعطها هذا الكيس وأطلق سراحها. وانطلق سريعًا وهو يقول: ما عادت تطيب لي عشرة هذه الحسناء!
أما خادم الدوق، وكان يدعى جويليو، فإنه تأمل مادلين وأعجبه حسنها، ثم تأمل كيس النقود، وآثر أن يجعله في جيبه بدلًا من أن يضعه في جيب مادلين، وهكذا فعل. ثم حمل مادلين على كتفه، وخرج من البيت، فلقي بعض جنوده، فقالوا له: إلى أين نمضي؟ فأجابهم: إنا مرتحلون عن روان، وإذ ذاك عاود بلترو رشده، لكنه لبث وقتًا طويلًا غير قادر على النهوض، ونادى مادلين غير ذاكر لأول وهلة ما جرى. ثم صاح: آه، ويل لك يا فرنسوا دي جيز، فقد كان في وسعك قتلي إلا أنك لم تفعل، إذن فقد كتب لك الهلاك على يدي أنا!