مكتبة لوم
كان «مخزن يعقوب لوم» عبارة عن مكتبة كبيرة عامرة بالمؤلفات الشعرية والفلسفية والأدبية، يتردد إليها رجال البلاط، فيطلبون منها مؤلفات كليمان ماروت ورونزار في الموسيقى، ومؤلفات رابليه وإتيان دولي في الفلسفة، وغيرها من الكتب التي كانت متداولة في ذلك العهد، والمكتبة ليست بعيدة عن الكنيسة الكبرى، لها باب فخم، وقد نضدت في إحدى شرفاتها الكتب النفيسة تنضيدًا محكمًا يرى منه المارة أسماءها على جلودها.
ومن حسن حظ يعقوب هذا أن كاترين دي مدسيس، الملكة الوالدة، كانت تحب الشعر والشعراء، وأن بلاط الملك كان حافلًا بالأدباء؛ ولذلك أثرى يعقوب وجمع مالًا كثيرًا، وكان رجال البلاط يعاملونه غير معاملة التجار؛ لأنه من أهل العلم، ويكرمونه إكرامهم لكل شاعر وكاتب في ذلك الزمن، وصدق فيهم قول من قال: «إن الناس على دين ملوكهم.»
إلا أن ألسِنَة الأشرار تناولت الكتبي المسكين، فزعموا أن لجمال ابنته مادلين يدًا في ثروته، وقال أحد الوعاظ إن يعقوب لوم إنما اغتنى؛ لأنه الكتبي الوحيد الذي رضي بأن يبيع نسخًا من التوراة لأهل المذهب البروتستانتي. ومما لا ريب فيه أن حانوت يعقوب كان حاويًا كتبًا كثيرة، وأن ابنته كانت كذلك ذات حسن باهر.
وبعد انقضاء ثلاثة أيام على الحوادث التي جرت في فندق حملة السلاح كان يعقوب لوم جالسًا إلى مكتبه ينظر في مسوَّدات طبعة جديدة لديوان الشاعر بونسار (المتوفى سنة ١٥٨٥) فسمع وقع حوافر جواد، فرفع رأسه وأبصر مسافرًا يترجل عن فرسه أمام باب الحانوت، ويقول له: حياك الله يا لوم!
فصاح يعقوب لوم طربًا: أهلًا وسهلًا بك يا بلترو!
وبلترو هذا من الذين كانوا في فندق حملة السلاح، كما مر بك.
وتصافح الرجلان، ولبثا صامتين، وكل منهما لذ له التأمل في وجه صديقه، وكان بلترو يحب يعقوب لوم، وقد اقتنى قبلًا من مكتبته تلك الكتب التي تبحث في أحوال مذهبه الجديد، وكان يعرف في يعقوب إخلاصًا للمذهب البروتستانتي، وأنه لا يذهب لحضور الصلاة عند الكاثوليك إلا ليستميل إليه أبناء المذهب الكاثوليكي، وقد رآه ينصت إلى وعظ البروتستانتيين، ويبدي غيرة حقيقية شهد له بها أهل مذهبهم، وفضلًا عن ذلك فإن جان بلترو هذا كان يحمرُّ وجهه كلما نظرت إليه مادلين لوم بعينيها الزرقاوين. فهو لا يمر بأورليان إلا وينزل ضيفًا على الكتبي، وطالما جاءه بكتب من تخوم البلاد الفرنساوية عملًا بأمر أمير كوندة أو دي كوليني، وهي كتب كلها طعن على الدوق دي جيز، وبعد أن طال الصمت قال يعقوب لوم: هل حدث كل ما كنا نأمل؟
فأجابه: نعم.
– أي موعد موعدكم؟
– أوائل شهر مارس (آذار).
– من تسلم القيادة؟
– لارنودي.
– هل كان الأمير في جملة الحضور؟
– كأنه كان، ولكنه لم يظهر للناس.
– ماذا يكون إذا تمَّ النجاح؟
– سيتمُّ النجاح بلا شك.
– وماذا يفعلون بآل جيز؟
– وهل من وسيلة غير قتلهم؟
– إن قتل إنسان أمر فظيع.
– نعم إلا إذا كان عدوًّا مضرًّا.
– سوف يثور الشعب في باريس.
– لذلك يجب إخبار الشعب وإثارته على آل جيز.
– ذلك أمر عسير.
– لا ينبغي أن توجد صعوبات عندما يراد تعضيد الديانة الحقيقية. على أن الأمير يثق بك ويعتمد عليك.
– فماذا أفعل؟
– عليك أن تطبع من هذا الكتاب بضعة آلاف نسخة. وأخرج من صدرته كتابًا مخطوطًا، وسلمه إلى يعقوب، فقرأ في أوله هذه الكلمة «النمر».
فقال: يوجد نمران لا نمر واحد، وكلٌّ منهما سفَّاح فتاك؛ لأنني أظن المراد بكلمة النمر أسرة لورين.
أجاب: نعم.
ونظر نظرة في الكتاب، وقال: أأنت واضعه؟
أجاب: نعم، أنا وضعته بأمر الأمير.
قال: إذن سوف أنشره.
فأجابه بلترو: أشكرك بالنيابة عن ديانتنا المقدسة.
وإذ ذاك فُتح باب في داخل الحانوت، وظهرت فتاة أقبلت على أبيها يعقوب فقبلته، ثم انثنت إلى بلترو فحيته دون أن ترفع بصرها إليه. فحياها بقوله: سلام على مادلين البديعة الجمال!
فقالت: أنت يا دي ميرة لا تفتأ تتملِّق وتطري.
أجاب: كلا أيتها الآنسة، وأنت تعلمين أن يومًا أراك فيه لهو عندي من أيام السعادة.
وكأن مادلين لم تسمع كلماته، ولا ندري هل ساءتها تلك المباسطة أم كانت تود أن تسمع مثلها من غير ذلك الرجل؟ وكانت مادلين معتدلة القامة، نجلاء العينين، لابسة ثوبًا أبيضَ يُظهر اندماج أعضائها، وحسن تركيب بدنها الغض، وكانت جميلة المنظر لطيفة الحركة، ما رآها بلترو مرة إلا ظلَّ كالأبكم أمامها غير متجرئ على مطارحتها الحبَّ خوفًا من أن يلقى صدًّا ونفورًا، فيفقد آماله وأوهامهُ السارَّة.
وصرف بلترو نهاره وقد طابت له فيه محادثة يعقوب لوم عند خلو الحانوت من العملاء، كما لذَّ له النظر إلى مادلين عندما تكون أمامه. فلما كان المساء قال الرجل لضيفه — وقد جلسا إلى المائدة: لقد طالعت كتابك. قال: ما رأيك فيه؟ أجاب: إنه مهيِّج مثير. فقال: ذلك خير وأبقى؛ لأن النتيجة تكون كبيرة.
وسمعتْ مادلين هذا الكلام، فقالت: رحماكَ يا أبتِ، إنك في غنًى عن نشر هجاءٍ يسوقك إلى مواقف الخطر.
فأجاب: إن الدفاع عن مذهبنا يقضي علينا بركوب المخاطر.
قالت: لا أنكر ذلك، ولكنك تقدم أكثر من سواك. فما هذا الكتاب؟ ومن المقصود به؟
أجاب: إنه الدوق دي جيز.
قالت: بحقك يا أبي لا تطبعه؛ لأن الدوق دي جيز ذو بطشٍ وسلطة، ولا يمكن أن ينجم عما تفعله إلا الضرر الذي سيقع علينا.
فارتعد بلترو وقال: ما كنت أحسب أن ابنة يعقوب لوم تتشيع للدوق دي جيز.
أجابت: مهلًا يا مسيو بلترو، ولا تتسرع في الحكم، فإنني لا أتشيع للدوق دي جيز، ولم أره قط، ولا أحبه، ولا أحتقره، وإنما غرضي أن أدفع عن والدي خطرًا محيقًا به، ونفسي تحدثني أن في هذا الكتاب المهيِّج ضررًا كبيرًا يلحق به.
فقال يعقوب: اطمئني يا بنية فلن يدري أحد بأن هذا الكتاب صدر من عندي، ومتى تمَّ طبعه أسلمه إلى المسيو بلترو، فيأخذهُ ولا يبقى عندي منه إلَّا نسختان أخفيهما عن كل إنسان.
فصمتت الفتاة، وتناولوا العشاء وهم سكوت. فلما كان الليل استأذن بلترو من يعقوب وابنته، وركب جواده بعدما رنا إلى مادلين رنوَّ عاشق، ثم اتجه إلى باب المدينة ليسافر إلى باريس. فقال له يعقوب: متى تعود إلينا؟
أجاب: ليلة مباشرة المشروع.
وسمعت مادلين هذا الجواب. فلما رجعت إلى الحانوت قالت لأبيها: عن أي مشروع تكلم المسيو بلترو؟
أجاب: عن أمر ليس بذي بال. عن كتيبةٍ يجمعها ويعدُّها للنضال.
قالت: حذار يا أبتِ فإننا قوم صغار، وأراك تتعرض لأمور هي من شأن رجال بلاط الملك كأنك سيد عظيم. فأنت تطبع كتب القوم وتبيعها، مع أن كل ما تمتلكه من مال إنما جاء من كتابات الكاثوليكيين، لا من تلك الكتب البروتستانتية.
أجاب: أصبت يا بنية، ولا أنكر أنَّ ثروتي جاءت من نشر الكتب الكاثوليكية، غير أنها مصدر متاجرة، ولكن لا يحقُّ لي أن أعرض عن اعتقادي الحديث، ولئن وجب عليَّ أن أقضي في سبيل الانتصار له، أو أفقد ثروتي ومكتبتي فإني مستعد. فلم تحر مادلين جوابًا؛ لأنها هي نفسها كانت متعصِّبة للمذهب البروتستانتي.
ثم إن يعقوب لوم اشتغل قليلًا في مكتبته، ثم صعد مع ابنته إلى الطبقة العليا من البيت وفيها غرفهما، وبعد هنيهة أطفئ نور المصابيح، وساد السكون التام على المنزل.
•••
أما جان بلترو فمضى يسير راكبًا غير مسرع، وفيما هو خارج من مدينة أورليان ليسلك طريق باريس أبصر فارسين قد وصلا إلى باب المدينة وطلبا الدخول، فقال لهما الحارس: إن الدخول ممنوع إلَّا بجوازٍ.
فاستاء أحد الفارسين، وقال: لقد تأخرنا.
فأجابه رفيقه: مهلًا يا مولاي، فالأمر يسير، وما علينا إلا أن أستأذن من ضابط الحراس بالمرور.
– لست أود أن يدري أحد بوصولي إلى مدينة أورليان.
– ولكن ما من وسيلة لنا يا مولاي غير هذه الوسيلة، وما إخالك تود أن تقضي ليلتك تحت السماء.
– افعل يا جيلو ما تراه مناسبًا، وإنما استوثق من الضابط بالكتمان.
ولم يسمع بلترو محادثة الرجلين، لكنه أدرك مرادهما، ودُهش لما رأى الضابط يخرج من مكتبه مبادرًا إلى خدمة الرجل، آمرًا الحارس بفتح الباب.
فقال في نفسه: يا للعجب من فارسين يأتيان إلى أورليان ليلًا، وتُفتح لهما أبوابها بغير جواز، وبمجرد أن يعرفهما الضابط المتولي الحراسة.
وأطرق بلترو يفكر. فلما مرَّ الفارسان به عاد فلحق بهما. وسار الفارسان في الطريق الذي سار فيه قبلًا عندما فارق بيت الكتبي، فقال في نفسه: أراهما ذاهبين إلى الشارع الذي كنت فيه، ولا ريب عندي في أن هذين الفارسين من رجال البلاط، ويشبه أحدهما، ولكن لا! فذلك غير ممكن. فإنه لا يرحل عن بلوا، ولا بدَّ للملك من وجوده هناك.
وإذا به قد اضطرب؛ لأن الفارسين وقفا بباب مخزن الكتبي يعقوب لوم، فترجل أكبرهما عن جواده وساق رفيقه الجوادين إلى زقاق قريب، وكذلك ترجل بلترو وربط جواده عند عطفة شارع، وتمشَّى ملاصقًا جدران البيوت حتى دنا من حانوت الكتبي، فاختبأ عند باب هناك وانتظر.
وأحسَّ بحركة خفيفة كأنها إشارة، ثم أضاء نور على شرفة نافذة مادلين لوم، وسقط سُلَّم من حبال إلى الشارع، فقبض الرجل على السلم، ووثب إلى غرفة الفتاة مسرعًا، إلا أن ضياء المصباح أنار وجهه فعرفه بلترو، فجعل يده على الجدار كي لا يسقط مُغْمًى عليه، ثم قال بصوتٍ خافت: يا للداهية هذا فرنسوا دي جيز!
وثار الدم في وجه بلترو فجرد سيفه، وركض إلى البيت، فتعلق بالسلم حتى وصل إلى الشرفة، وهمَّ بدخول الغرفة أيضًا، وإذا بالدوق قد خرج منها وقتئذٍ، وضربه ضربة شديدة على رأسه، ثم طرحه إلى الشارع.