إخلاص ترولوس
لما بلغ أمير كوندة والأميرال خبر استيلاء ملك النافار والدوق دي جيز على مدينة روان حسبا أن مدة نهب هذه المدينة تدوم أيامًا، وهو حساب لا خطأ فيه، فعزما على انتهاز تلك الفرصة ومحاولة الاستيلاء على باريس، وقد أنجدهما أنديلو بسبعة آلاف جندي من ألمانيا. إلا أن جيش الملك تلقى الخبر فعاد إلى باريس، أما كاترين فانتقلت إلى فنسان مع الحاشية، وبقي دي جيز على زعامة جيش الملك مع مونمورانسي. فلما رأى زعماء جيش البروتستانت أن الدوق تقدمهم، وعلموا أن المخاطرة ربما تسوق إلى ملاشاة مذهبهم، حاولوا القتال متقهقرين حتى يصلوا إلى نورماندي. فلما وصل أمير كوندة إلى قرية يقال لها «أرموي» لحق به الدوق دي جيز، وأظهر أنه عازم على مقاتلته.
ومع ذلك فقد كان الارتباك سائدًا بين جيز ومونمورانسي وسن أندري؛ لأنهم عز عليهم أن يهاجموا أميرًا من بيت الملك، وكان زعماء الجيشين من بيت الملك، وكلا الزعيمين عمٌّ لشارل التاسع ملك فرنسا، ولو لم يمت ملك النافار لكان الارتباك أشد؛ لأن ملك النافار وأمير كوندة أخوان، وكل منهما يقود جيشًا عدوًّا للآخر.
فلم يجد الدوق دي جيز ومونمورانسي وسن أندري بدًّا من إرسال رسول إلى الملكة الوالدة، اسمه ميشال دي كاستيلان، يطلبون منها أن تصدر أمرًا مطلقًا صريحًا يقرُّه مجلس الملك، ويكون مؤداه مباشرة القتال.
وكانت كاترين منذ وصلت إلى فنسان قلقة الخاطر، وقد عظم مجد الدوق دي جيز لاستيلائه على مدينة روان، فلو فاز فوزًا جديدًا لأصبح سيد فرنسا ومالكها، وهو منذ ذلك الحين قد أعاد أخاه الكردينال إلى مكانه في المحكمة المخصوصة، ورأت كاترين — وهي مرتعبة — إياب هذا الرجل، وأشفقت أن يفوقها دهاءً وقوةً، فلم يسترح فؤادها، ولا ارتاحت إلى شيء سوى حبها لترولوس، وقد استسلمت إليه شأن امرأة يئست من كل حب جديد. أما ترولوس فنسي الدنيا وما فيها بهوى كاترين، وكان يحبها حبًّا صادقًا طالما تمنَّت مثله في شبابها، وهو حبٌّ مجرد عن الأغراض؛ لأن ترولوس لم يكن يحفل بلقب أو ثروة أو مجد، وكان يقول لها: لا مطمع لي في غير ما أنا فيه، ولا أشتهي إلا أن أبقى قائد حراسك؛ أي أن أعيش بقربك، وأموت لأجلك عند الحاجة.
ولقد أرسلته كاترين مرتين إلى أمير كوندة في طلب بعض الإيضاحات، فتعرض له رجال راموا قتله ونجا منهم. فكتم ذلك عن كاترين، وكان يجهل أن الكردينال أدرك وجود علاقات سرية بين كاترين وكوندة، ورام الحصول على برهان يؤكد وجود تلك العلاقات الخفية، فأرسل إليه مرارًا من يفتك به، ويأخذ منه ما عسى أن يوجد معه من الرسائل، وكان يكفي أمير كوندة أن يحصل على إنذار يسير من كاترين؛ ليحبط مساعي الدوق دي جيز، وذلك ما أراد الكردينال منع وقوعه بأية وسيلة.
ووصل ميشال دي كاستيلان رسول الدوق إلى كاترين فسلمها رسائل زعماء الجيش الكاثوليكيين طالبًا صدور أمرها بمباشرة القتال. ولم يكن من عادات كاترين أن تصدر أمرًا جليًّا، أو تكتب رسالة واضحة المعنى خالية من كل إبهام وتورية. فبدأت تقول: إنه من العار أن ينشب قتال بين فرنسا وبين أبناء أمة واحدة، وإن مثل القائد مونمورانسي والدوق دي جيز والماريشال سن أندرة في غنًى عن رأي امرأة لم تجرِّبها حوادث الزمان، ورأي صبيٍّ قاصر، وإنها تأسف كثيرًا؛ لأنها ترى شئون المملكة قد صارت إلى ذلك الحال.
وكان الرسول قد دخل حجرة الملك شارل التاسع مع كاترين، وكانت مربية الملك تلاطفه وتداعبه. فقالت لها الملكة: ما رأيك أيتها المربية — فهذا هو الزمن الذي تُسأل فيه النساء، عن آرائهنَّ — في مباشرة القتال؟
فقبلت المربية الملك، وقالت: إذا لم يقنع البروتستانت، ولم يذعنوا لإحكام العقل، فلا بأس من مقاتلتهم.
وتفاوضوا وقتًا طويلًا، وكان ميشال دي كاستيلان رسولًا حاذقًا فطنًا، فاستخدم دهاءه في الحصول على أمر تكتبه الملكة لمباشرة القتال فلم يفلح. فاضطرَّ إلى العودة ناقلًا إلى الدوق دي جيز ومن معه كلمات كاترين، إذ قالت له: «قل لأبناء عمي آل جيز وآل مونمورانسي أنهم أسدُّ رأيًا، وأكثر خبرة مني!» فصاح الثلاثة: لعنة الله على الخائنة! فلا بدَّ من مباشرة القتال على رغم أنفها!
وكان الكردينال شقيق الدوق دي جيز، يعرف كذب كاترين ودهاءها فلم يتعجب من أنها أبت إصدار أمر جليٍّ صريح، ولم يشأ أن تلقى التبعة على عاتقه، فتجنب لقاء الملكة عندما كان الرسول ميشال دي كاستيلان عندها. إلا أنه عمد إلى مراقبتها حالما خرج ذلك الرسول من عندها، فأبصر ترولوس قد دخل مرارًا، وأحسَّ الكردينال بألَّا بدَّ للملكة في ذلك اليوم من مفاوضة أمير كوندة، فعوَّل على المكث في مخبئه حتى الغد مراقبًا، وكان مخبؤه حجرة مطلة على رواق يفضي منه إلى مساكن الملكة، ومعلوم أن الموقف حرج، وأن أقل خيانة من كاترين تحبط آمال الكاثوليكيين أجمعين. فلما أظلم الليل أقبلت وصيفة ففتحت باب حجرة الملكة، ونظرت إلى الرواق، ثم انثنت تقول: لا يوجد أحد يا مولاتي. فقالت كاترين: اذهبي وقولي له أن يتأهب للسفر على جواده.
فسار ترولوس بهذه الرسالة في طريق وعرة، وثلج ديسمبر يكاد يسدُّ الطرق، وكان الجو صافيًا والقمر طالعًا، وللأشجار على الطريق ظلال كثيفة، وجواد ترولوس ينهب الأرض، وفيما كان سائرًا أطلقت عليه ثلاث طلقات نارية، فأدرك أن وراءه من يتبعه ليقبض على رسالته، ولم يصبه الرصاص، وإنما أصاب جواده فعطف عليه ولاطفه، وكأن البهيم أدرك الغرض من تلك الملاطفة فأنَّ من شدة الألم، واحتدم ووثب وثبات متواليات، وسمع ترولوس وراءه وقع حوافر الخيل فعلم أن أخصامه عديدون، وقربت المسافة بينه وبين اللاحقين به، فتناول ترولوس رسالة الملكة، وجعلها في صدرته، وقال: إذا أدركوني ابتلعتها.
ومرَّ به وقتئذٍ فارس متَّجه نحو المدينة، فتأمله فإذا هو جاليو، فقال له: بحقك أنقذني وأنقذ الملكة؟
– من أي خطر؟
– إليك هذه الرسالة فأوصلها إلى الأمير.
– معي رسالة مثلها إلى الملكة من الأمير.
– لا فائدة من رسالتك، بل خذ رسالتي هذه وعجِّل.
– ألا تسير معي؟
– إن جوادي جريح، فانطلق.
– اركب جوادي.
– كلا، بل سافر أنتَ. إن الوقت ثمين جدًّا، وورائي فرسان يطاردونني. ألا تسمع وقع الحوافر؟
– بل خذ جوادي وأنا ألبث ها هنا.
قال ترولوس: أناشدك الصداقة وهوى مرسلين وإخلاصك للملكة يا جاليو أن تفعل ما أقوله لك. سافر، فالوقت لا يزال يتسع لرحيلك، وسلم هذه الرسالة إلى الأمير قبل طلوع النهار.
أجاب: إني أودعك، فبلغ تحياتي إلى من تحبها!
ورجع جاليو وهو مغموم، وكانت للطريق عطفة تتفرَّع في آخرها إلى طريقين: أحدهما يؤدي إلى النهر، والآخر يوصل إلى باريس. فتردد جاليو في اختيار الطريق الأقرب، وهي التي يجب أن يجتاز إليها النهر، إلا أنه فكر في أنه قد لا يجد قاربًا، فقال في نفسه: أسيرُ برًّا، وقد يطول الوقت، ولكنني أصل. واتجهَ إلى طريق باريس.
وأيقن ترولوس أنه لا ينجو من اللاحقين به، وأنهم ولا شك قد رأوه يكلم فارسًا آخر، فلم يرَ بدًّا من منعهم عن اللحاق بجاليو. وأدركه خصومه فهجموا عليه بحنق فوثب عن جواده وشهر غدارتيه، وجعل سيفه بين أسنانه، وقال: ماذا تريدون؟ قالوا: سلم نفسك!
قال: هيهات!
فأحاطوا به، ونشبَ بينه وبينهم قتال هائل؛ لأنهم كانوا عشرين فارسًا، إلا أنهم لم يتمكنوا من القبض عليه إلا بعد أن قتل ثمانية منهم، ولما دنا منه زعيمهم تفرس في وجهه فعرف أنه الكردينال، شقيق الدوق دي جيز. وقال في نفسه: ما أرى أن جاليو قد سبقهم السبق الكافي، واستعدَّ للمخادعة فقال بعظمةٍ: لماذا هجمتم عليَّ؟
قال الكردينال: معك رسالة، فهاتها.
– أي رسالة تعني؟
– هي التي تحملها إلى البروتستانتيين، وأنت بروتستانتي فيما أعلم. أجاب: ليس معي رسالة. قال: إذن تكون قد سلمتها إلى ذلك الفارس الذي التقيت به منذ هنيهة؟ أجاب: ربما.
فالتفت الكردينال إلى بعض رجاله، وقال: الحقوا بذلك الفارس. فابتعد الرجال إلا أن أحدهم رجع يقول: يوجد يا مولاي طريقان فأيهما نسلك؟
فقال الكردينال: في أي طريق سار صديقك؟
وكان ترولوس ينتظر هذا السؤال، فتظاهر بالحياء والسذاجة، وقال: أتطلق سراحي إذا أنبأتك؟
أجاب: إني أعدك بذلك.
قال: إنه سار في الطريق الأيسر بعدما ركب قاربًا إلى الشاطئ الآخر.
فقال الكردينال: هيا فانزلوا في السين، أما إذا كنت كاذبًا أيها الرجل فإنك هالك.
فقال ترولوس في نفسه: لا عجب إذا قتلني، ولكنني أكون قد أنقذت الملكة!
فوصل الرجال وضربوا باب كوخ نوتي هناك فانفتحت نافذة، وأشار رجل منها إلى بندقية معه، وقال: ماذا تريدون؟
قالوا: أعدَّ لنا زورقًا.
أجاب: لا زورق عندي في الليل، وإنما أعده في النهار فقط.
قالوا: ولكنك منذ هنيهة أنزلت في زورقك فارسًا وفرسه.
أجاب: كلا لم أنزل أحدًا.
فحملق الكردينال بصره إلى ترولوس، وقال له: تبًّا لك من خائن!
قال: بل أنت خائن.
قال: لقد تجرأت فكذبتني القول.
أجاب: ربما.
قال: لا شك أنه سلك الطريق الأيسر.
قال: إذن أكون واهمًا، وربما سلك الطريق الأيمن. على أنني أظن اللحاق به لا يفيدكم الآن فقد سبقكم سبقًا كافيًا.
تلفظ ترولوس بهذه الكلمات بلهجة المستهزئ. فهاج هائج الكردينال، وأمر رجاله بالإياب إلى القصر، وأن يساق الأسير إلى حجرة واطئة معدَّة لتعذيب المسجونين، وكان الجلاد فيلار حاضرًا، فقال له: خذ هذا الرجل وأوثقه وعذبه حتى يتكلم.
فألقوا ترولوس على لوح طويل، وأوثقت يداه ورجلاه إلى عجلات تدور على نفسها، ثم انتظر الجلادان الأمر، فطلب الكردينال كاتبًا؛ لأنه أبى أن يشهد العقوبة وحده، فقيل له: إن الكاتب قد سافر إلى باريس، ولا يرجع إلَّا غدًا.
قال: إنما أحتاج إلى موظف في المحاكم؛ ليكتب إقرار السجين. فهاتوا لي المحامي أفنيل.
وكان أفنيل يودُّ ألَّا يشهد مثل هذه العقوبة، لكنه لم يكن قادرًا على عصيان الكردينال، فنزل إلى الحجرة الواطئة، ولم يلاحظ امرأة كانت تتبعه سرًّا. فلما رأى السجين صرخ مدهوشًا، فقال له الكردينال: ماذا دهاك؟ أجاب: لا شيء. قال: أتعرف هذا الرجل؟ أتعرف أسراره؟ فتردد أفنيل هنيهة، ثم قال: هل قُضي عليه بأن يموت؟ أجاب الكردينال: بلا شك. قال: إذن أكاشفك بأمر يتعلق به، لكنني أخاف انتقامه. وخفض صوته، وقال: وأخاف انتقام الملكة.
قال: هات ما عندك يا أفنيل.
أجاب: لا أتكلم أمام هؤلاء الحضور.
واجتذبه ناحية، ثم قال: أتذكر يا مولاي ليلة مرت بنا في فونتنبلو؟
أجاب: أتعني الليلة التي دخل القصر فيها رجلان من إحدى النوافذ؟
– نعم يا مولاي، وقد عرفت الرجلين.
– ولماذا لم تنبئني عنهما؟
أجاب: لخوفي من الملكة كاترين، فإنها كانت تنتظر الرجلين قرب النافذة، وهي التي أمرت بأن يلقى إليهما سلم الحبال.
قال الكردينال: لقد حزرت ذلك، وماذا جرى بعده؟
أجاب: إن الملكة أمرتني بتناسي ما رأيت.
قال: ومن الرجلان؟
أجاب: أحدهما سيموت بيدي عندما ألقاه.
وقال الكردينال: والآخر؟
أجاب: هو سجينك الليلة. فإن الملكة اقتادتهما في تلك الليلة معًا إلى دهليز خفي، وتذكر أن المسيو دي مزغونة كان من حراس الملكة في اليوم التالي.
وكان الكردينال قد خامره ارتياب في كل ذلك، لكنه لم يجد أقل برهان عليه، فقال للمحامي: أصغِ إليَّ إن كان يهمك الانتقام من الرجل الآخر، فنحن وأخي نساعدك، وأنا أعرف من تعني، فهو شجاع باسل، وأنت وحدك لا تقوى عليه، ولا يمكن أن تظفر به، ولكن إذا ساعدناك فإنما نفعل بشرط واحد.
– ما هو؟
– إن الملكة ألدُّ أعداء مذهبنا فلا بدَّ لنا من إضعافها. فعليك أن تدوِّن ما قلته لي.
– إنك تعرضني لانتقام الملكة.
– لا بدَّ من ذلك، وهي لا تجسر على الانتقام منك ما دمت من أتباعنا وذوينا.
– إني أعدك بما تروم.
– والآن عليك أن تكتب إقرار هذا الخائن. ولما رجع الرجلان إلى الحجرة الواطئة كانت المرأة التي تبعت المحامي تزفر زفرات حرَّى وهي مختبئة في ساحة السلم، وقد سمعت المحادثة، وكانت هذه المرأة — وهي الملكة كاترين — تبكي غرامها الضائع، وحبيبها الوحيد، ومطامعها الذاهبة. ثم تجلدت تجلدًا غريبًا، ودخلت الحجرة وقصدت إلى الكردينال، فقالت له: ما معنى هذا؟
أجاب: معناه أيتها السيدة أن بيننا جاسوسًا يحمل الرسائل إلى الأمير.
قالت: وممن تلك الرسائل؟
قال: لعلك أدرى بها منا؟
قالت: وأي برهان لديك على أن هذا الرجل جاسوس؟
أجاب: إن الشريف المخلص أيتها السيدة لا يفر، ولا يرتحل عن القصر ليلًا قبيل معركة. فالمسيو دي مزغونة إذن خائن.
وقد بدأ الجلاد بتعذيب ترولوس، وكان ينظر إلى الملكة في أثناء ذلك التعذيب نظرة وكأنه يقول لها: «أنا هالك أيتها الملكة، ولا طاقة لك على إنقاذي من الردى، ولكن لا تخافي فقد بذلت نفسي فداءك» فتقدمت إليه كاترين، وقد خطر لها وجوب تنجيته، ولكنها لم تهتد إلى طريقة؛ لأن تصرُّفه لم يكن مما يُعذر عليه. فقد ترك خدمة القصر ليلًا دون أن يتلقى أمرًا، ولم يكن في وسع كاترين أن تقول إنها هي التي أمرته بالذهاب لئلَّا تفضح نفسها. فلم يكن بدٌّ من تركه يموت، وهو الضابط الكريم الذي أحبته حبًّا كالجنون، وأصبحت عاجزة عن إنقاذه، وفيما هي تنظر إليه انفتحت شفتاه وهمس بهذه الكلمات، قال: إن الرسالة مع جاليو، ولم أقرَّ بشيء، وأنا أهواك، فوداعًا!
فدنا الكردينال، وقال: ماذا يقول الشقي؟
فأجابته: لست أدري.
ومضت رافعة الرأس كبرًا، فلما خلت إلى نفسها في مخدعها ترامت على مقعد وبكت أحرَّ بكاء، وهي تغمغم اسم ترولوس، وتقول: لقد كنت تهواني أيها الحبيب هوًى ذهب بحياتك؛ لأني عجزتُ عن إنقاذك، ويلاه! لقد تسلط عليَّ هذا الكردينال الذي يخيفني، وأصبح يعرف سري. يعرف أنني أنقذتك في فونتنبلو، وغدًا يكتب أفنيل المحامي اللئيم قصته! فويل للشقي!
ونهضت لساعتها فاجتازت الرواق حتى وصلت إلى حجرة المحامي فدخلتها خفيةً، وأخرجت زجاجة صغيرة فسكبت منها سائلًا أسودَ على الفراش، وصبت قطرات منه في قدح، وعلى المقاعد، ورجعت إلى غرفتها. فسمعت أنَّات الألم من الحجرة الواطئة، وكان الجلاد فيها يسحق عظام ترولوس المسكين. إلا أنه ظل صامتًا لا يتكلم.
والكردينال يقول له: كانت معك رسالة، فيجيبه ربما. فيقول له: ماذا فعلت بها؟ فيجيبه ذلك لا يعنيك. فيقول: هل أعطيتها للفارس الذي التقى بك؟ فيجيبه: نعم، ولا. فيقول: من سلمك الرسالة؟ فيجيب: لم يسلمني إياها أحد. فيقول: إلى أين كنت ذاهبًا؟ فيجيب: إلى حيث لا تدري، فدعني أموت، إني خائن كما تدَّعي والسلام، فيأمر الجلاد بتشديد عذابه. فلما فقد ترولوس رشده انثنى الكردينال إلى المحامي أفنيل، فقال له: اذهب واكتب القصة التي تعرفها، ووقِّع عليها باسمك وغدًا أطلبها منك.
ثم قصد الكردينال حجرة الملكة فألفاها جاثية تصلي، فقال لها بحنق: أتصلِّين لأجل الخائن؟ فأجابته: إن المؤمن يصلي لأجل كل شيء.
وكفكفت كاترين عبراتها وعاودتها السكينة؛ لأن ترولوس قد مات، فلا ينبغي أن يدري أحد بما أصابها من ألم يمزق حشاشتها؛ خصوصًا لأنها كانت ترتاع من الكردينال. إلا أن الكردينال كان شقيق الدوق دي جيز، وهو القائد الذي يمكن أن ينتصر غدًا فيصبح صاحب الكلمة العليا والنفوذ الأسمى كما وقع له مرة، فرأت الأجدر بها ألَّا تبدي شيئًا مما يخامر نفسها. فقال الكردينال: إن الرجل الذي كنت تظللينه بحمايتك كان خائنًا، ولقي عذاب الخائنين، وقد أنبأت الناس بأنه إنما هلك بخيانته للملك وإخلاله بما يوجبه عليه منصبه. أما أنتِ فإني أنبئك بأنه لم يلقَ العذاب والردى إلا لأنه كان يهواك، وقد سلمته رسالة إلى أمير كوندة.
فأتت كاترين بحركة تدل على نفي وإنكار. فقال: لا تخادعيني أيتها السيدة، فلولا اطلاعي على الحقيقة لما تجرأت على مخاطبتك بهذا الكلام، والآن يجب عليك أن تنضمي إلى حزب الكاثوليكيين بإخلاص قلب ونزاهة فكر، وإلا أكرهتك على ما لا تحبين.
قالت: أإهانة يا كردينال؟
أجاب: يحق لي أن أتهمك وأنشر على رءوس الملأ تصرفك، وأعلن أنك اتخذت عشاقًا.
فقالت بحدة: مهلًا يا كردينال، واعلم أن والدة الملك لم يكن لها، ولا يكون لها إلا عاشق واحد.
قال: ما اسمه؟
أجابت: اسمه عرش فرنسا، فاخرجْ من هنا!
وكأنما سُحر بعظمتها فخرج وقصد إلى حجرة المحامي أفنيل.
•••
وانقضى نهار، وقد ساد على قصر فنسان سكوت وحزن شديد، وعلم الكل أن الجيشين يتقاتلان، ولكن لم يصل نبأ جديد إلى القصر. أما الكردينال فلم يكن قد رأى الملكة مرة ثانية فأخذ يتنزه في مسكنه رائحًا جائيًا، ناظرًا إلى نافذته، مصغيًا إلى كل صوت، وقد أعلن أنه يهب مائة دينار لأول ساعٍ يبشره بهزيمة البروتستانتيين. وأما كاترين فإنها لم تفارق مصَّلاها وهي تضرع إلى الله أن يمكنها من آل جيز، ويسلطها عليهم حتى ترغم أنوفهم، واتجه فكرها كذلك إلى ذلك الحبيب الذي يعالج سكرة الموت في تلك الحجرة المظلمة، وهو لم يشتهِ إلا شيئًا واحدًا قبيل انصرام أجله، هو رؤية الملكة. لكنه لم يجهل أن أعين الرقباء مبثوثة حولها، وأنها تشفق على عرضها أن يلمَّ به كل طويل اللسان، وقدم بعض أشراف من باريس، وقالوا: إن الناس يجتمعون في الكنائس مبتهلين إلى الله، داعين للدوق دي جيز بالنصر.
وعند منتصف الليل قدم فارس، ووقف بأبواب القصر ونادى: إني جئت بالأنباء فافتحوا لي الباب، وكان ذلك الفارس جميل المنظر، على ثيابه آثار الدماء وغدارتاه مسودَّتان من البارود، وكل ظواهره تدل على أنه كان من أبطال المعركة. فتواثب الخدم في البلاط إليه، وهم يقولون: لمن النصر؟ أللبروتستانتيين أم للكاثوليكيين؟ فأجابهم: لقد انتصر الأمير!
وسمع الكردينال هذه الكلمات فوثب غضوبًا، وإذ ذاك دخل الفارس على الملكة، وطفق يحدثها بتفاصيل المعركة ووصائفها يسمعن، وأنها كانت معركة هائلة فاز فيها الأمير فوزًا مبينًا فسحق جيش أعدائه، واستأسر مونمورانسي، وكان «سن أندرة» من قتلى المعركة.
ثم قال الرسول: إن رحى القتال لا تزال دائرة، إلا أن الأمير رغب إليَّ في نقل البُشرى إليكِ، فأجبته إلى طلبه، وتخطيت صفوف الأعداء إليك.
فصاح الجميع: كيف تخطيت صفوف الأعداء؟ ومن هم الأعداء؟
قال: هم جنود الكاثوليك!
قالوا: أبروتستانتيٌّ أنت؟
أجاب: كلا، ولكنني من رجال الأمير، واسمي جاليو دي نرساك.
ولقد تمنى الكاثوليكيون أن يهجموا عليه، ويمزقوه إربًا إربًا، ولكنهم لم يروا من الحكمة الاعتداء على ظافر، فتركوه يتمَّ كلامه، فقال: «لما رأى الأمير أنه الفائز في هذه الحرب، قال لي: تقدم ودُس بحوافر فرسك جماجم القتلى، واذهب إلى فنسان فقُل لابنة عمي الكريمة: إن الله وهب لي النصر لخير المملكة.»
فصاح الرجال: ويلاه كيف يكون مصيرنا؟
فأجابتهم الملكة بلطف قائلة: أي ضرر يصيبنا إذا سمعنا الوعظ بدلًا من أن نسمع القداس، وأي بأس نخشاه إذا صلينا إلى الله بلغتنا المفهومة، بدلًا من أن نصلي إليه باللغة اللاتينية القديمة المجهولة؟
فانصرف الرجال، واهتمَّ بعضهم بالتأهب للسفر خيفة أن يفاجئهم الأمير. فبقي جاليو مع الملكة، ثم قال لها وهو يتردد: ماذا جرى لترولوس؟ قالت: وا أسفاه عليه!
وتبادرت الدموع على وجنتيها، فقال جاليو: هل مات؟
أجابت: بل يوشك أن يموت، إن لم يكن قد مات فِعلًا. فتعالَ معي.
وتناولت مصباحًا وسبقت جاليو إلى الحجرة الواطئة التي كان فيها ترولوس يعالج سكرات الموت، فنظر إليهما نظرة مملوءة حبًّا وولاءً، فقال جاليو: وا حسرتاه عليك أيها الصديق! وقالت كاترين: وا حسرتاه عليك أيها الحبيب!
وفيما كان نَفسُ ترولوس يتردد في حلقه، صاحَ جاليو: أما من سبيل إلى الانتقام؟ قالت: إن القتلة أقوياء.
قال: لعلهم آل جيز.
أجابت: نعم.
قال: قاتلهم الله!
•••
ولكن ما طلع النهار حتى أقبل فرسان كاثوليكيون على فنسان ينقلون إليها بشرى هزيمة البروتستانتيين. فقيل لهم: لقد جاء رسول قبلكم فأنبأنا بموت سن أندري وأسر مونمورانسي، ونقل إلينا خبر انهزامكم.
وكان كل ذلك صحيحًا؛ لأن الأمير دي كوندة فاز في الأول، ثم هجم الدوق دي جيز عليه بجيشه فتغير وجه المعركة، وتقهقر البروتستانتيون وفرَّ الأميرال، ووقع أمير دي كوندة أسيرًا، وقال الفرسان: إن الدوق أسره وأضجعه عنده في غرفته حتى يكون في مأمن من فراره. فعلا هتاف الهاتفين للدوق دي جيز.
فسار الكردينال إلى مخدع كاترين ليتلقى منها الأوامر، فلما وافاها بذلك النبأ بُهتت، إلا أنها تماسكت، وقالت له: دع المصلين يصلون في كنيسة نوتردام، ويشكرون الله على النصر، ولسوف أشهد الصلاة.
وسافر البلاط إلى باريس مسترسلًا في فرح عظيم، وقد تناسى القوم جاليو، وكان منصرفًا إلى الاهتمام بدفن صديقه «ترولوس كونت دي مزغونة»، ولما وصل إلى المقبرة لقي حفار القبور يحفر قبرًا لميت لم يسِر في جنازته أحد، فقال له: من الذي تدفنه ها هنا؟ فأجابه: لست أدري.
فقال لحفار آخر: وأنت ألا تدري كذلك؟
أجاب: كلا، ولكنني أحسبه محاميًا. فارتعد جاليو. فقال الرجل: ويقال إنه مات موتًا فجائيًا في الليلة البارحة.
قال: ألا تذكر اسمه؟
المحامي برنار أفنيل، محام لدى مجلس نواب باريس.
فقال جاليو: وهل عُرف سبب وفاته؟ أجاب الحفار: إن الطبيب لم يتمكن من ذكر السبب، وإنما كانت الجثة سوداء، فرجع جاليو إلى القصر وهو يقول: وا رحمتاه لك يا ترولوس فقد قضيت فداءً عن الملكة، وإنما أنت أيها المحامي المرذول فقد قضت عليك الملكة!
لقد برح الخفاء الآن، وما أحسب أستاذي برنابا إلَّا على صواب؛ لأن ظاهر هذه الدسائس سارٌّ، وخافيها محزن مظلم. وبكى بكاءً شديدًا.