غرام وسياسة
وفيما كان برنار أفنيل يرتعد من مجره تفكره في إغضاب آل جيز ومعاداته إياهم، أبصرت زوجته مرسلين الفتى جاليو دي نرساك يتمشى تحت نافذة غرفتها وهو لابس أفخر ملابسه، متقلد خنجرًا، يختال عجبًا كأنه قائد الحراس، فاحمر وجه مرسلين، وأشارت إليه تحييه. ثم نزلت إلى غرفة المائدة فألفت زوجها حائرًا لا يدري كيف يفعل، واستشار امرأته كعادته فصاحت، أيزور بيتك أحد المتآمرين، وتدع القوم يتفاوضون عندك في أمر يضرُّ بالدولة؟ ألا إن في ذلك إضرارًا بك من كل وجه، وقد يودي بحياتنا معًا، فحذارِ!
فقال بصوت الخاضع الذليل: إذن ما رأيك؟
قالت: أين الكردينال دي لورين اليوم، أفي باريس؟
أجاب: نعم، وأظنه لم يرجع إلى البلاط.
قالت: اذهب واجتمع به؛ لأنه يريد لك الخير برغم مذهبك السيئ، وأطلعه على المؤامرة، فتنقذ أملاكنا من الخراب، وتنقذ نفسك من القتل والإفلاس إذا لم يفلح لارنودي.
– ولكن كيف أصنع إذا درى لارنودي؟
– ومن ذا الذي يخبره؟
– أصبتِ أيتها الحبيبة، فسوف أذهب غدًا فألقى الكردينال دي لورين.
– قد يفوت الوقت غدًا.
– إذن أنتِ ترين أن أذهب الليلة إلى قصر دي جيز؟
– لا رأي لي، وإنما أبديت فكري لك.
– أصبتِ يا مرسلين، فأنت حكيمة في كل حال، والآن عليَّ بعصاي وردائي، وفضلًا عن ذلك، أليس من واجبات رعايا الملك أن يطلعوه على كل مؤامرة مضرة بالدولة؟ ألا عفوًا يا مرسلين، فإنني أتركك الآن مرغمًا؛ لأنني ذاهب إلى قصر دي جيز.
واستصحب خادمه، وخرج من البيت، فاصطدم عند العتبة بجاليو، وكان ينظر إلى النوافذ غير مكترث لمن في الشارع. فقال المحامي: لا شك أن هذا الطالب سكران. فأجابه جاليو بقوله له: أنت أحمق، وجعل يحرك خنجره في غمده.
ولم يتجاوز برنار طرف الشارع حتى كانت مرسلين عند الباب يطفح وجهها بشرًا. فتناولت يد الطالب، وقالت له: يا لك من غبيٍّ مغفل! قال: لماذا؟
– لأنك أتيت إلى بيتي!
– أمِنَ الغباوة والغفلة أن أجيء لأراك؟
– لقد خاطرت بملاقاة زوجي!
– إن خنجري معي أيتها السيدة، وهو طويل ماضٍ، وفيه من المضاء ما يكفي لِشكِّ رجلين معًا.
– لا تكلمني عن الخناجر والسيوف يا حبيبي جاليو، فأنت باسل كسائر رجال البلاط. هذا أمر أعرفه، ولكن ليس من شأنك القتال واستخدام السلاح.
– ومن يدري؟ فإنني كلما رأيت رجال السلاح مارِّين أشعر بالدمع يجري على خدي، فما الكتُب وعلم الحقوق من شأن أمثالي، بل هي من شأن الجبناء الرعاديد، وهل من حرفة يا مرسلين أفضل من الحب والنضال، أو من النضال والحب؟
– أنت تخيفني بهذا الكلام يا عزيزي جاليو، فلا تعدْهُ على سمعي؛ لأنني أخشى عليك الردى. فماذا فعلت اليوم؟
– لقد تغديت عند أستاذي، وتركته ثملًا بالخمرة التي أرسلَتْ بها إليه والدتي.
قالت: ثم ماذا؟
قال: ثمَّ شهدت مبارزة اثنين من أصدقائي.
– أرجو ألَّا يكون قد مات أحدهما!
– بل أحدهما (بارانس) مشرف على التلف.
– وا رحمتاه للمسكين!
– الذنب ذنبه. فقد أصرَّ على قوله أن ليس في الوجود امرأة شعرها أشدُّ شقرةً من شعر الحسناء مارجو، وأن شعر الفتَّانة «ليزة» ليس بشديد السواد، وكل الناس يعلمون أن شعر ليزة أشد سوادًا من ظلام الليل.
– ومن تكون مارجو وليزة أيها الخبير بالجمال؟
– لا تسألي عنهما فإنهما من بنات الهوى. إلا أنهما ملكتان بين بنات طبقتهنَّ، كما أن كاترين وماري ملكتان بين نسوة البلاط.
قالت: أتعرف بنات الهوى يا جاليو؟
أجاب: أليس على المرءِ أن يعرف كل شيء في الدنيا؟ وذلك قسم من أقسام دروسنا، بل لعله أهمُّ فصلٍ منها برعتُ فيه.
– ثم ماذا؟
– ثم عدت إلى الفندق فألفيت صاحبه غير من عهدت؛ لأن المالك القديم أثرى وارتحل. أما المالك الجديد فقد أتانا من مدينة نانت.
– أتراه يكتم السرَّ كسلفه؟
– إنه أصم كحجارة القبور.
– الخوف لا يفارقني يا عزيزي جاليو، وأخشى على الدوام أن يشتهر حبي لك، ويبلغ الأمر زوجي فيقتلني، ويقضي على هنائنا وسرورنا.
– ومن ذا الذي يجيءُ باحثًا عنكِ في منزل طالب علم؟ لأنك لا تخرجين من البيت إلا للصلاة والاعتراف. فاحسبيني كاهنًا، فإن السيدات ينتظرنَ عند الكاهن وقتًا طويلًا ريثما يجيء دور اعتراف كل واحدة منهنَّ.
– لا تجدِّف؛ لأنني أتطير من هذا الكلام.
وسار الاثنان إلى حجرة الطالب، وكانت على بعد خطوتين من كلية السوربون، وكان صاحب النزل ينتظرهما على الباب وقبعته بيده، فقالت: مرسلين لعشيقها ممازحة: ما باله قد كشف اليوم رأسه؟ ترى هل شعره جميل كشعر الحسناء مارجو؟
– يا لكِ من خبيثة فهل أنت غَيْرى عليَّ منها؟
ثم مال إلى صاحب النزل، فقال: ما اسمك يا صاح؟
أجاب: خادمك نيكول بوصَّه.
قال: هات لحمًا باردًا وفاكهة وخمرًا جيدة إلى غرفتي.
– سوف يرى سيدي رأيه في الخمرة التي وردت عليَّ من غاسقونيا منذ ثلاثة أيام.
وكان نيكول كاذبًا؛ لأنه لم يكد يصل إلى باريس، ولم يرد عليه شيء من غاسقونيا كما زعم.
فقال جاليو: أنت تدري يا نيكول أنني رجل محب للوحدة، وأن ما من امرأة دخلت قبلًا غرفتي.
أجاب: إني أقسم على ذلك يا عزيزي جاليو.
– لست بحاجة إلى القسم، وإنما تذكر فقط!
وجعل جاليو يده على خنجره، ثم لحق بمرسلين، وقد سبقته إلى السلم.
•••
ولنعد إلى لارنودي. فقد ترك بيت المحامي بعد أن ثبت لديه أنه ما من رقيب في جوار البيت، ولا من عين ترى رفيقه القادم، فاتجه إلى شارع «سَن أنطوان» فوصل إلى باب عند منتهاه، وكانت هناك شرذمة من الفرسان ينتظرونه. فلما وقعت أبصارهم عليه تقدم إليه أحدهم فحياه. فقال له لارنودي: رعاك الله يا روبر دلاهاي، أين الأمير؟
أجاب: إنه هنا، ولكننا لا نودُّ أن ندعه يذهب وحده معك. إن الكردينال دي لورين لا يزال في باريس، ونخشى أن تصادف أحد الأشراف من أعوانه.
قال: إن الكردينال قد سافر في صباح اليوم يا مسيو روبر، فما من خطر يُخشى على الأمير إذا أتى معي، وعندي منزل أمنٍ في البلد، أما هذه المواضع الخالية فليست موضع أمن.
– إذن أنا ذاهب لأنبئ الأمير بوصولك، وبعد بضع دقائق سار الأمير مع لارنودي، فسارا إلى بيت برنار أفنيل. فلما وصلا إلى عتبة الدار قال الأمير: ألا يرانا أحد؟
فأجابه لارنودي: لا!
قال: ألا يرانا أهل بيت أفنيل؟
أجاب: لقد طلبت منه إخلاء البيت، ولست أسمع صوتًا، فلا شك أنه صَرفَ من عنده.
ودخل الرجلان وصعدا إلى المنزل المعد للارنودي، وخلع الأمير رداءه وارتمى على مقعده وهو يقول: ألا تَعسًا لأمير مثلي، دمه من دم الملوك، ولكنه يضطر إلى الاختباء كأنه مجرم. قاتلك الله يا مسيو دي جيز فإنك تضطرني كل يوم إلى ما لا يجمل بي.
فقال لارنودي: لا يمضي زمن قصير حتى يغدو المسيو دي جيز أسيرًا عند مولاي أمير كوندة. ثم خفض صوته وقال: إلا إذا مات دي جيز قبل ذلك: وكان لويس دي بوربون أمير كوندة يومئذٍ في الثلاثين من عمره، ومن يراه لأول مرة ويتأمل قصر قامته، ودمامة خلقته لا يحسب أنه بطل الحروب التي شهرها هنري الثاني، والزعيم الحقيقي لأتباع مذهب كلفين، والنبيل الظريف المحبوب من سيدات البلاط، والرجل الذي يُهاب لحدَّة فهمه كما يُهاب لمضاء سيفه، بل الرجل الذي كان أعداء الدوق دي جيز يعدُّونه خلفًا لذلك الدوق. إلا أن أمارات العظمة والكبر كانت بادية على وجه الأمير، وهو برغم انحناء كتفيه أول فارس في الأقطار الفرنساوية إذا ركب فرسًا.
وقال للارنودي: أما الآن وقد صرنا إلى هذه الخلوة، أفلا تحدثني بما جرى لك في سفرك؟
أجاب: لقد وصلت يا مولاي إلى مدينة نانت منذ أيام، وفي وسعي أن أقول لك: إن كل شيء قد تهيأ وتدبر.
– هل وصل نواب الولايات؟
– نعم كلهم.
– ما عدد جنودنا؟
– ثمانية آلاف أو عشرة آلاف، وحدِّث ولا حرج عن حماسة زعمائهم وكرههم للدوق دي جيز.
– مما لا ريب فيه أن ذلك الدوق المختال لا يعرف للوقاحة حدًّا، ويكاد يوهم الناس أن منزلة قومه أشرف من منزلة الملوك نسبًا. ألا مهلًا يا ابن عمي، فقد يمكن أن تمتدَّ إلى السلطة أيدي النساء والأولاد، ولكن لا يزال يوجد في أسرة سن لويس رجال، وأنت يا لارنودي فاعلم أنني لا أحب الشدة والعنف.
– نحن آتون لنقدم مُلتَمسًا إلى الملك.
– في أي يوم؟
– في يوم ١٠ مارس (آذار) أو ما يقاربه، ولكن هل يبقى البلاط في مدينة بلوا؟
– الأمر يسير على ما أرى. فإنكم تصلون ليلًا، ولا يشرق الصباح بنوره حتى تقبضوا على ابن عمي دي جيز، فتحسنون معاملته كما يليق، وإذ ذاك أتولى قيادتكم، ثم نرى في إرشاد الملك إلى الصواب. أما كاترين والدة الملك فسوف تكون معي. نعم، إن الملك لا يحبني، إلا أنه يحب زوجته، فلا يعصاني طويلًا، ثم إن أخي أنطوان لا عزيمة له، فسوف أبقي على أمين الختم وأبعد سن «أندري»، ولكن ما رأيك يا لارنودي، هل تظن أن أشراف البلاط يخفضون رءوسهم أمام رجل أحدب (يعني نفسه)؟
فأجاب لارنودي: يعلم أشراف البلاط يا مولاي أنك سيد نبيل كريم باسل مخلص للملك.
قال: أنت تحب الإطراء يا لارنودي، فإنه لا يكفي لإخضاع بلاط فرنسا أن يكون المرء كريمًا باسلًا، وقسْ عليه بلاط الوالدة فلورنتين. وثق أن لحسن صورة ابن عمي تأثيرًا في القوم، يفوق تأثير بسالته وكرمه، وكاترين لم تحبه؛ لأنه جندي باسل، بل أحبته؛ لأنه ظريف الهيئة حسن الرواء. والنساء يا لارنودي في بلاط كاترين أعظم سلطة من الملك نفسه.
وأجاب لارنودي: نعم، ولكن سلطتهن مقصورة على من يستسلمون إليهن، فلم يجب أمير كوندة.
فقال لارنودي بعد سكوت قصير المدة: أي شأن في الجيش يكون لبلترو؟
قال: أتعني دي ميرة؟
أجاب: نعم، فهو الذي أرسلته إليَّ إلى نانت ليخبرني بأنك ستكون في باريس في هذه الأيام.
قال: دعه يفعل ما يحلو له.
قال: ألم يكن فيما مضى جاسوسًا؟
أجاب: أعرف ذلك، وأهل البلاط يحتقرون الرجل. على أنه أسدى أيادي بيضاء في حصار متْس. فهو من كرام الناس وشجعانهم.
قال لارنودي: وهو يبغض الدوق دي جيز بغضًا لا يساويه فيه أحد من المتآمرين.
أجاب: ذلك غريزيٌّ فيه، وأظنه يقتله إذا تمكن من قتله. فراقبه عند القبض على الدوق، فإنني لا أروم سفك دمه. أما الآن وقد اتفقنا على كل أمر فإني مفارقك يا لارنودي.
– دعني أسير معك، وأتولى حراستك يا سيدي.
– بل البث عند صديقك أفنيل، فلست بمسافرٍ إلى بلوا غدًا صباحًا، ولي في باريس شغل خاصٌّ.
– ألا تنتهي من عشرة النساء يا مولاي.
– اسكت، واسأل الله لي توفيقًا.
فشيَّع لارنودي الأمير إلى باب البيت، ونظر إليه وهو يبتعد، فلما غاب عن نظره قال: إن هذا الأمير ما برح شجاعًا يصفح عن أعدائه ويهزأ بالأخطار! ألا كُنْ مطمئن القلب يا لويس دي بوربون فإن أصدقاءك ساهرون عليك، ولسوف يفتكون بالدوق دي جيز قبل أن يتمكن من قتلك.