بلاط فرنسوا الثاني
لما رجع المحامي برنار أفنيل إلى بيته لم يجد فيه زوجته فتعجَّب وصاح قائلًا: كيف تركَت البيت الساعة وأنا في أشد الاحتياج إلى رأيها؟ وبعد قليل عادت زوجته مرسلين، وقالت: لقد كنت في الكنيسة يا صديقي، أسأل الله لك النجاح في سعيك. فما الذي قاله لك الكردينال؟
أجاب: إنه رحلَ اليوم.
قالت: رحل إلى أين؟
– لقد لحق ببلاط الملك، فكيف العمل؟
ولاحَ لمرسلين الهناء والحرية من خلال ستور هذا الحادث، فلم تتردد، بل قالت: لا بد من سفرك إلى بلوا فتلقى الكردينال هناك.
وفي اليوم التالي سافر أفنيل فوصل إلى بلوا في يوم أحد، وكان الكردينال وسائر رجال البلاط في الكنيسة. فشاور أفنيل قائد الحراس في أمره فأشار عليه بالانتظار عند باب الكنيسة لعله يرى الكردينال وقت خروجه منها.
وما عتَّم أن انفتح بابها فانبعث من داخلها عطر البخور والطيوب، وطرقت أذنيه نغمات الأرغن في آخر القداس، وقد علمنا أنه كان بروتستانتيًّا فغمغم يقول: قبحًا لهذا المذهب الذي يشبه مذهب الوثنيين عبَّاد الأصنام.
إلا أنه لم يتمكن من الاسترسال في تأملاته بشأن المذهب الكاثوليكي؛ لأن القداس كان قد انتهى وخرج أهل البلاط من الكنيسة، فأبصر أفنيل شابًّا لابسًا صدرة بيضاء عليها صليب، يتقدم وهو معجب بنفسه. وكان ذلك الشاب فرنسوا الثاني الابن البكر لكاترين دي مدسيس، ولم يبلغ العشرين بعد، ومما يسهل تحققه أنه كان ألعوبة بين أيدي رجلين حازمين هما فرنسوا دي جيز وأخوه الكردينال دي لورين. وكان الملك متهلل الوجه في ذلك اليوم؛ لأنه قد مضى أسبوع كامل لم ير فيه ابن عمه أمير كوندة، ولم يكن فرنسوا الثاني يحب ذلك الأمير، ولسروره سبب آخر، هو أنه أمر باتخاذ الأهبة للصيد، وكان الصيد من ملذات الملك؛ لأنه يستريح في أثنائه من سماع الطعن على البروتستانتيين والكاثوليكيين والثائرين والناقمين، ثم إنه يتمتع وهو في الصيد بصحبة زوجته الملكة ماري.
وكانت زوجته ماري ستوارت ملكة اسكتلندا وفرنسا تمشي وراءه، وقد بهر حسنها الأبصار، وأزرى بحسن كل فتانة من غادات البلاط، وكان شارل نسيبها يمشي إلى جانبها ناظرًا إليها نظرات ملؤها الإعجاب.
وكاترين دي مدسيس تمشي وراء كنتها مرتدية السواد، وكأن سواد ثيابها وصمة في ذلك السناء والبهاء اللذين حولها، وما من أحد يستطيع أن يحزر عمر كاترين. فقد كانت ذات حسن بقي فتانًا؛ لأنها رشيقة القوام، لها جيد ناصع البياض، ويدان طالما حسدتها كنتها ماري ستوارت على بياضهما وصغرهما. ثم إنها كانت متأنقة في لبسها الأسود، تنخفض أبصار عظماء المملكة أمام بصرها، ولم تكن تدعى أم الملك، بل الملكة الوالدة. فتقدمت تمشي بين أجمل حاشية من حواشي الملكات في العالم، وبين نسائها «ديانا دي بواتيه» و«أميرة كوندة» و«دوقة دي جيز» و«مدام ديانا» ابنة هنري الثاني غير الشرعية، وغيرهنَّ من السيدات. أما الرجال فكانوا يمشون وراء كاترين ونسائها، وفي مقدمتهم أمراء لورين، والغطرسة والكبرياء ظاهرة على وجوههم، وحركاتهم شاهدة بعظم سلطتهم. فلما رأى «أفنيل» موكب السيدات والحاشية ضاع رشده فلم يتجرأ على مخاطبة الكردينال دي لورين، ولم يفق من ذهوله وخجله حتى أبصر بين الجمهور صديقًا له اسمه للمان دوزي، وكان سكرتير الكردينال، فكلمه، وبعد هنيهة أدخله ذلك الصديق مكتب الكردينال، وكان عنده أخوه فرنسوا. فقال أفنيل: أرجو عفوًا من مولاي الكردينال، فما أقدمت على مقابلته إلا لأمر خطير يتعلق بحياته.
– بحياتي أنا؟
– نعم، وحياة مولاي الدوق.
فقال الدوق: وهل يوجد من يتجرأ على مؤامرة ضدي، بل ضدنا؟ فأجابه أفنيل: نعم يا مولاي.
قال: إذن سأصدر أمرًا إلى ملازمي بإعداد بعض المشانق للمتآمرين.
– وا أسفاه، إن بعض المشانق غير كافية.
– ما معنى هذا الكلام يا أفنيل؟
– ليست المؤامرة المدبرة مكيدة يسيرة يُراد بها اغتيال، وإنما هي مؤامرة كبيرة.
– أظن أن القائمين بها من طائفة البروتستانت، تلك الطائفة اللعينة التي تحاول رفع رأسها. ألا فلتحذر! إن رءوس الرعايا إذا ارتفعت كثيرًا أمر الملوك خدمهم المخلصين بقطعها.
وقال الكردينال: لا تنس يا أخي أن المحامي أفنيل بروتستانتي.
أجاب: أعرف ذلك حق المعرفة، فهو الذي رافعَ في قضية جسبار ديهو عديل لارنودي المخلص لأمير كوندة.
وهنا تفرس في وجه أفنيل وقال: لعل أمير كوندة في جملة أولئك المتآمرين؟
أجاب: أجهل ذلك يا مولاي.
قال: عجبًا لك يا أفنيل وأنت البروتستانتي التقيُّ الذي هاجمني بلسانه مرارًا كيف جئت اليوم تكشف لي سرَّ تلك المؤامرة الموجهة ضدي أكثر مما هي ضد الملك؟
أجاب: لا أنكر يا مولاي أنني بروتستانتي. إلا أنني — قبل كل اعتبارٍ آخر — من رعايا جلالة الملك الأمناء، ومن طباعي أنني أكره العنف، ولذلك أنبأتك آسفًا بما علمته، فلا تسألني عن أكثر من هذا البيان، فقد فعلتُ ما يجب عليَّ والسلام.
وهمَّ بالانصراف فقال له الدوق: بل البث ها هنا. إن في وجودك في باريس خطرًا يقع عليك، ثم إنك لم تطلعنا على كل شيء. فمتى يكون موعد هجوم المتآمرين؟
– في أوائل شهر مارس القادم، يا مولاي.
– إذن بعد أيام قلائل؟
– نعم يا مولاي، وسوف يأتي المتآمرون إلى بلوا ليقدموا ملتَمسًا إلى الملك.
قال: ويومئذٍ يفتكون بي أو يطلبون إلى فرنسوا الثاني إبعادي. لعمر الحق! إن الخطة حسنة، والآن سيذهبون بك يا أفنيل إلى منزل تقيم فيه، وتتلقى أوامرنا.
ففكر أفنيل في أن مرسلين لا بدَّ أن تنتظره، لكنه قال في نفسه: إن أسوار بلوا خير لها من الأسواق الكبيرة، ولئن طال زمن إقامته في بلوا فلا يصعب عليه أن يبعث برسالة إلى زوجته فيستحضرها، فانقاد إلى المسكن الذي أمر له به الدوق دي جيز، ولما فارق الأخوين لبثا هنيهة وهما صامتان.
وكان فرنسوا دي جيز وأخوه الكردينال دي لورين يومئذٍ في أول شبابهما، تلقيا العلم، وأولعا بالمذهب الكاثوليكي، وكانا باسلين حازمين محبوبين من سكان باريس، مكروهين في بلاط الملك. أما الملكة الوالدة فلم تكن تجرأ على مناوأتهما، وأما الملك فكان أمامهما خلوًّا من كل إرادة وعزيمة، وهما متحدان اتحادًا عجيبًا، ساعيان على مهل إلى غرض واحد، ولا يكادان يجسران على أن يبوح أحدهما به للآخر، وقد صارت إليهما شئون المملكة يأمران فيها وينهيان، ويتناولان من خزائنها المال، ويحكمان باسم ابن أخيهما الملك، ومما يزيد نفوذهما وعظمتهما اتحادهما، فإن أباهما كلود دي لورين أوصاهما بالاتحاد، وقال لهما: إن الأسرة التي يتحد أعضاؤها وهم عديدون، قد تدرك أبعد شأو، ولذلك كان غرض كل واحد أو واحدة من أسرة لورين واحدًا، هو تعظيم بيت لورين.
فقال الكردينال: علامَ عوَّلت يا أخي؟
– على اجتذاب أعدائنا هؤلاء إلى معركة طاحنة.
– لست أعني بكلامي لارنودي، وإن كان على ما أرى زعيم العصابات وكبير المتآمرين، ولكن وراءه ابن عمنا أمير كوندة.
قال: لنضرب المتآمرين أولًا، ثم نرى كيف نتخلص من الأمير، ولعلنا نجد من الأسرى من يخونه.
– وإذا لم نجد فيهم خائنًا أو لم نجد بينهم متهمًا للأمير؟
– ألا تحسب حسابًا للاستنطاق يا أخي، على أننا سوف نحصل من الملك على ما نبتغي، والفضل يعود إلى ماري، فهل رأيت الملك لمَّا كان يحملق إليها بصره اليوم في الكنيسة؟
– نعم، ولا خوف علينا من هذا الهوى، فإن الطبيب (فرتل) أكد لي أن فرنسوا لا يعقب وارثين.
وفيما كان أميرا لورين يتكلمان بهذا الكلام عن بكر هنري الثاني وهو المحسن إليهما، انفتح باب الحجرة التي كانا فيها، وقال أحد الحراس: الملك!
ودخل الملك فخاطب الدوق قائلًا: عجبًا منك يا ابن العم، ما أراك مستعدًّا للذهاب إلى الصيد والقنص؟
– إننا لا نذهب إلى الصيد والقنص في هذا النهار أيها الملك.
– ولكنني أشعر بضجر وسأم إذا لم تكن معي، ولئن لم تصحبني فإن ماري تكتئب وتقطب وجهها.
– لا شك أنني لم أحسن الإيضاح أيها الملك، إذ قلت لك إننا لا نذهب إلى الصيد والقنص في هذا النهار، وإنما أردت أن أقول: إن البلاط بأسره لا يذهب.
– ما معنى هذا الكلام؟ ألم أصدر أمرًا في هذا الصباح باتخاذ الأهبة؟ ألم يتلقَّ ناظر الصيد ذلك الأمر أيضًا؟
أجاب الدوق: لا قدرة لنا على الصيد اليوم.
– ولماذا يا ابن العم المحترم؟
– لأن البرِية لا أمن فيها.
– أليس عندي حراسي؟ وفضلًا عن ذلك فمن يجترئ على مهاجمة ملك فرنسا؟
– إن أعداءنا لا يرهبون أحدًا أيها الملك.
– أوضح أيها الدوق معنى كلامك، فإنني لا أفهمه.
وقد هاج الحنق الملك لحرمانه لذة الصيد في ذلك النهار، وأخذه ارتعاد، وأظلم وجهه إلى أن قال الكردينال مستمهلًا متأنيًا في تلفظه: لقد اكتشفنا اليوم مؤامرة.
– قال الملك: ومن يدبرها ويديرها؟
أجاب: لم ندر حتى الآن. فإن للمتآمرين زعيمًا نجهله، وهم خاضعون الآن لواحد من أشراف بلاط الملك.
– من هو؟
– هو لارنودي على الغالب.
– إن لارنودي روح ابن عمي كوندة ويده اليمنى!
– لسنا نتهم أمير كوندة أيها الملك.
– وإنك لمخطئ يا عماه؛ لأن ابن عمي كوندة مدبر تلك المؤامرة، ولا يخفي عليَّ ذلك، ولكن على أي أمر عزمتما، وماذا تصنع؟ إني أراكما مطمئنين كأنه لا خطر عليَّ! ألا جرَّدْ سيفك يا عماه وهجومًا على العدو!
ولقد احتدم الملك فأثر فيه احتدامه، فترامى على كرسي وهو يلهث تعبًا، ثم أصيب بحمى مفاجئة، فظهرت على وجهه بقع صفراء، وانسكب العرق من جبينه، ولمعت عيناه وتاه بصره، وجعل يده على سيفه وهو لا يقوى على تجريده. فنظر الدوق وأخوه إلى ذلك الفتى العليل البدن، ثم همس الدوق في أذن أخيه يقول: إذا أشبه بنو «فالوي» هذا الشابَّ الضعيف فإن سلالتهم تنقرض في القريب العاجل.
وقال الملك فرنسوا الثاني: ماذا نفعل أيها الدوق؟
– نرتحل عن بلوا.
– أنتقهقر أمام أعدائنا؟
– كلا أيها الملك، ولكن نخادعهم، والحرب خدعة، ولا بدَّ أن يصلوا بعد أيام إلى أسوار بلوا، فلا يجدون فيها أحدًا منا فيفسد قِسم من تدبيرهم، وإذ ذاك يلحقون بنا إلى أمبواز؛ لأننا سائرون إليها، ومعلوم أن أمبواز محصنةٌ، وفيها يسهل علينا الهجوم فنسحق المتآمرين سحقًا قبل أن يتمكنوا من الوصول إلينا.
– أنقبض على الأمير؟
– إنا لا نزال نجهل أيها الملك توليته رئاسة القوم.
وإذ ذاك سمعوا وقع حوافر خيول في إيوان القصر تحت نوافذ الكردينال، فأطلَّ الملك من النافذة، ورفع صوته مناديًا ابن عمه أمير كوندة؛ لأنه رآه تحت النافذة وقد وصل ساعتئذٍ من باريس، وقد نهكه التعب. فدخل وانحنى أمام الملك، فقال له بلهجة تشفُّ عن تهكم: لماذا تركتنا؟ ألا تجد الآنسة دي ليمول كافية لمكثك في بلاطنا؟
أجاب: لقد كنت في الصيد أيها الملك مع بعض رجالي، وفكرت في أن وجودي عندك لا يفيد.
قال: أنت واهم يا ابن العم، ومنذ الآن لا تفارقنا.
فخفض كوندة رأسه، ونظر إلى وجه الدوق فرأى فيه شيئًا من السخر، وقال في نفسه: لعل الملك وعميه عارفون بقدومي الساعة من باريس.
وانثنى الملك إلى فرنسوا دي جيز، وقال له: مر بالتأهب للسفر، فصاح كوندة: أنرتحل عن بلوا!
أجاب: نعم يا ابن العم، فهل في ذلك ما يحبط مقاصدك؟ إنَّا مسافرون في هذا المساء.
– إلى أين؟
– لست أدري حتى الآن يا ابن عمي أي جهة نقصد، ولكن سوف تصحبنا فترى، ومضى الملك وهو محتدم حانق.