القتال
في ذلك الوقت نشب القتال، وعلا دويُّ الرصاص الذي نبَّه جاليو دي نرساك، ومرسلين، وبرنابا، وللحال غصت شرف الأسوار بالمقاتلين، وتساقط الرصاص مطرًا على لارنودي ورجاله، وخرَّ القتلى ركامًا. إلا أن ذلك الموت الزؤام لم يثن المتآمرين، بل زحفوا إلى الأمام حتى وصلت كتائبهم الثلاث إلى خنادق المدينة، وإذا بالأبواب قد انفتحت فجأة، وخرج منها الفرسان جماعات كثيرة فهجموا على المحاصرين، وكان هؤلاء قد نهكتهم مشقات السفر، ورقودهم ليلة ملتحفين السماء، وقلما توقعوا لقاء عدو حازم فتفرقوا في الحال، وكان الدوق دي جيز في مقدمة أولئك الفرسان الذين هاجموا لارنودي ورجاله. فعزم لارنودي على أن يقاتل متقهقرًا مع رجاله، فلم يلقِ السلاح، ولم تتمكن الكتيبتان الأخريان اللتان يقودهما بلترو ودي رشيان من الثبات أمام جنود مستريحين، فتقهقروا كذلك، ووقف جنود الدوق متعجبين من سرعة انتصارهم، غير عالمين أن معظم المتآمرين إنما توافدوا لرفع مُلتمس إلى الملك، وكان وقوف جنود الدوق دي جيز سببًا في اتحاد المتآمرين والتفافهم حول لارنودي فقال لهم: لا شكَّ أنه كان بيننا خائن سوف نحاكمه فيما بعد، أما اليوم فليس أمامنا إلا القتال متراجعين، فليصرف كل منكم جنوده مجتنبًا لقاء جنود الملك، وسوف نلتقي الليلة في ضواحي بلوا، وسيظن الدوق دي جيز أننا انهزمنا، وإذ ذاك نتدبَّر.
وكان لارنودي يتكلم بلهجة تبعث الطمأنينة في النفوس، إلا أنه أحسَّ بأن الهزيمة تامة فلم يتجرأ على التلفظ باسم أمير كوندة، وهو لا يدري إذا كان قد تخلى عنه أو قبض عليه فهو سجين، وأقبل فرسان الملك، ووصل بعضهم شاهرين سيوفهم، وكانوا عشرين فارسًا.
فتواثب بعض السكارى إلى لارنودي، واصطفوا حوله لعلمهم ألَّا بدَّ من وقوعهم أسرى، ففضلوا السقوط في القتال على عذاب الاستنطاق. فودع لارنودي أصدقاءه، وألجأ بلترو ودي رشيان إلى الرجوع، مبينًا لهم أن وجودهما مع الجند مما لا بد منه خوفًا من الهزيمة، وكان الفرسان العشرون لا يزالون على بعد خمسين خطوة من لارنودي.
وإذا به قد أبصر الدوق، فصاح الرجال: أطلقوا النار على الدوق!
أما الدوق دي جيز فنادى فرسانه قائلًا: إلى الأمام! اقتلوا البروتستانتيين!
ولم يصب الرصاص الدوق، فقال لارنودي: قتله الله ألا يصيب اللعين الرصاص! ألا أطلقوا النار يا قوم مرة ثانية.
ثم تقهقروا شيئًا فشيئًا حتى وصلوا إلى الفندق.
فصدعوا بالأمر، ولما انقشع الدخان ظنَّ الفرسان أن جنود لارنودي قد أخلوا لهم الطريق، فقال أحدهم — وهو البارون دي برداليان من رجال الدوق: تبًّا للجبناء فقد هربوا.
فأجابه الدوق: كلا، لم يهربوا فقد أبصرت لارنودي في طليعتهم، ولارنودي لا يهرب دون أن يقاتل بسيفه.
وقبل أن يصل الفرسان إلى مقربة من الفندق اعترضتهم مركبة يجرها جنود لارنودي.
وكان المقيمون في الفندق يراقبون المعركة بقلق، وقد وقفت مرسلين إلى كوة تنظر منها إلى القتال، والفتى جاليو دي نرساك بقربها يتلظى شوقًا إلى مساعدة لارنودي. أما صاحب الفندق فقد أوى إلى زاوية يبكي ويلعن رجال الحرب، وكذلك الأستاذ برنابا فقد توسل إلى تلميذه طالبًا إليه أن يرافقه إلى الطبقة السفلى من الفندق ظنًّا منه أن رصاص المتقاتلين لا يصل إلى تلك الطبقة، وقعد هناك يطالع أشعارًا من نظم سنيكا موضوعها احتقار الخطر.
وأمر الدوق دي جيز برداليان بأن يدور حول الفندق ويهاجم مؤخرة لارنودي، ولحق بالفرسان بعض حملة البنادق من جنود الملك فمروا بين الخيل، وبات هكذا لارنودي بهذه الحركة التي أتاها برداليان محاطًا بالسيوف والبنادق.
وشاهد جاليو دي نرساك كل ذلك، فقال: لا شك أن هذا الشريف شجاع، وحرام أن يقتله الجنود دون أن يساعده أحد. فتشبَّثت مرسلين به تقول له: بحقك يا حبيبي جاليو لا تذهب.
قال: لا تحاولي أن تمنعيني، بل البثي ها هنا، ولا خطر عليك. إني عزمت على القتال.
وفيما كان جاليو نازلًا سمع طلق البنادق، وقد خر رفاق لارنودي قتلى إلا أنه هو بقي واقفًا مستلًّا سيفه منتظرًا من يهجم عليه. فناداه جاليو، صبرًا أيها الرجل الشجاع فإني آتٍ لنصرتك!
ووثب وثبة صار بها إلى جانبه، واختطف سيفًا من يد رجل بروتستانتي كان مع لارنودي، وصرخ في وجوه فرسان الدوق قائلًا: ويحكم يا لئام ألا تخجلون وأنتم عشرون من مهاجمة شريف واحد؟
فاستضحك الفرسان إلا أنهم لم يأتوا بحركة، وكانت الطريق ضيقة، ومن يتقدم يخاطر بجواده ونفسه، وصاح الدوق: بادروا إلى قتل هؤلاء البروتستانتيين!
فأجابه جاليو: أما أنا فلست منهم أيها المولى.
قال: إذن ما شأنك معهم؟
أجاب: إني أقاتل مع الأضعف، وهو من تروم اغتياله.
ثم خفض صوته، وقال للارنودي: إن جوادي في فناء الفندق فخذه واهرب من الباب الخلفي؛ إذ ليس عنده أحد فتنجو، أما أنا فإنني فتًى ولا يفتكون بي.
إلا أن لارنودي لم يتمكن من الجواب على هذه الكلمات؛ لأن البارون برداليان حمل بندقيته وأقبل، فأطلق النار على صدره فسقط صريعًا على جثة لافين صاحب سره، وكان قد جرح قبل ذلك وأغمي عليه. أما جاليو فما برح مجردًا سيفه شاتمًا الفرسان، فقال الدوق دي جيز: هاتوا هذا الغلام إلى أمبواز.
ولكن لم يكن إنجاز ذلك الأمر من الهنات الهينات. ففيما كان الدوق دي جيز يطارد الهاربين هجم البارون برداليان على جاليو، فما لبث البارون أن أصيب بجرح في كتفه من سيف جاليو. فأمر رجاله بإطلاق النار على خصمه، إلا أن جاليو كان مغرمًا بضرب السيف كارهًا للطلقات النارية، فدخل الفندق، وأقفل بابه، فوجد مرسلين أمامه تتوسل إليه وهي تكاد تموت رعبًا. فسار بها إلى بستان الفندق، وكان جواده هناك فركبه وأرْكب مرسلين أمامه. وفيما كان برداليان يقتلع باب الفندق مع رجاله فرَّ جاليو من باب البستان.
•••
وهكذا كان هلاك المتآمرين على يد الدوق دي جيز، فامتزجت دماؤهم بمياه نهر اللوار، ودام الذبح والتقتيل حتى امتد ستر الظلام، وكان الجنود يسوقون الأسْرى إلى المدينة أفواجًا.
أما أمير كوندة فلم يفارق الموضع الذي أقامه فيه الدوق دي جيز بأمر الملك، ولم يتجرأ على مخاطبة أولئك الأسرى؛ لأنه كان يتوق إلى معرفة ما جرى للارنودي، ولا يدري هل قتل وضاع كل أمل؟ وفيما هو يفكر أبصر جاليو دي نرساك مقبلًا وأمامه مرسلين على الجواد منقبة الوجه. فلما اقترب جاليو سدد إليه أحد الحراس بندقيته، وقال له: أأنت من أنصار القداس أم من أنصار الوعظ؟
والمراد بأنصار القداس الكاثوليكيون، وبأنصار الوعظ البروتستانتيون.
فارتبك جاليو من هذا السؤال، لكنه وقف وصاح: ليحي الملك!
وإذ ذاك رأى فارسًا أعرج يأمر الفرسان وينهاهم وهو لابس أفخر اللباس، فعلم أنه أمير كوندة، فصاح أيضًا: ليحي الأمير!
فرفع رأسه، وقال: دعوه يدخل.
فقال الحارس: لعله يا مولاي أحد المتآمرين.
وهكذا دخل جاليو المدينة مع مرسلين زوجة المحامي أفنيل، ولم يكد يسير قليلًا حتى سمع وقع خطًى وراءه، فانثنى فرأى الأمير يشير إلى زقاق فدخله فتبعه إليه، وقال له: أتدري ماذا جرى في الطريق؟
أجاب: لقد قدمت البلد، ونزلت في أول فندق إلى يسار المدينة، وأيقظني في الصباح دويُّ رصاص البنادق، فأبصرت جنودًا وقرويين مسلحين، وهم قاصدون إلى المدينة، وما لبثوا أن دحرهم فرسان طلعوا عليهم فجأةً.
– هل رأيت قائد أولئك القرويين والجنود؟
– رأيت شريفًا باسلًا قد سقط وقت تقهقرهم، ولا أدري إذا كان رئيسهم.
– صفه لي.
– إنه طويل القامة، على وجهه أمارات العزم، أسود الشعر يخالطه بياض.
فخفض كوندة صوته، وقال: لعله هو، فهل مات؟
– نعم عند قدمي.
– هل كنت في جملة المقاتلين؟
– لا، ولكنني رأيت ذلك الشريف الباسل وحيدًا يقاتل عصبة، فنزلت من الفندق لمساعدته عليهم.
– وكيف نجوت منهم؟
فضحك جاليو، وقال: لقد كانت نجاتي بأعجوبة.
– مع صاحبتك هذه؟
– نعم.
– ما اسمك؟
– جاليو دي نرساك طالب في كلية السربون.
– إذن تعال غدًا يا مسيو دي نرساك إلى القصر، واطلب مقابلتي فيه، فقد أكون محتاجًا إليك.
– ليت لي نصيبًا في خدمتك يا مولاي؛ لأن نفسي لا تميل إلى تلقي العلوم ودرس اللاهوت كما يروم أهلي.
– أتفضل تقلد السيف؟
– نعم يا مولاي.
– إذن إلى الغد.
– إلى الغد يا مولاي.
وأوصل مرسلين إلى زوجها في القصر، أما هو فاتجه إلى فندق ودخله، فأكل وشرب وقعد يفكر، فخطر في باله أستاذه برنابا، فقال: ماذا جرى له يا ترى؟ وكان جاليو يحب برنابا فلم يتمالك أن فارق الفندق ومضى يبحث عنه.
قلنا إن ذلك الأستاذ اختبأ وقت المعركة في الطبقة السفلى. فلما سمع الجنود يقولون: «أين ذهب الطالب اللعين؟ فلا بدَّ من قتله!» قال برنابا في نفسه: لقد أمنت عليه الآن، وصبر حتى خلا الفندق من الجند فصعد إليه، ولما رآه صاحبه قال له: أأنت هنا؟
فأجابه: إني أجتنب كل فرصة تسنح لسفك دماءِ الناس، فأين الطالب الفتى؟
قال: لقد مضى دون أن يدفع إليَّ مالًا فلا بدَّ من أن تدفع أنت، بل تدفع عن سائر الناس. فإن مركبتي تحطمت، وبابي اقتلع، وجملة ما أطلبه منك عشرة ريالات، فلا تخرج من هنا إلا بعد أداء هذا المبلغ.
وكان القدْر كبيرًا، والأجرة كثيرة بالقياس إلى مبيت ليلة على كرسيٍّ في بدروم الفندق، إلا أن برنابا دفع المبلغ لشدة مسالمته، وقال: هل تدري إلى أين اتجه صديقي الفتى؟
أجاب: أظنه مضى إلى أمبواز.
قال: شكرًا لك.
وسار برنابا فالتقى بجاليو عند أبواب المدينة فهنأه بالسلامة، ثم قال له: ما هذا الجنون الذي دهاك؟ أتلقي بنفسك إلى التهلكة؟
أجاب: سوف تلومني فيما بعد يا أستاذي، أما الآن فأنت جائع عطشان، إلا إذا كنت قد تناولت شيئًا من المخزون في الطبقة السفلى التي كنت فيها.
قال: لم أذق طعامًا منذ صباح اليوم، فهل تعرف فندقًا صالحًا؟
وبعد نصف ساعة كان برنابا يلتهم دجاجة، وينظر مليًّا إلى زجاجة أمامه من خمر بورجونيا. فقال لتلميذه: هل عقدت النية على ترك المدرسة؟ فأجابه: نعم، يا أستاذي. قال: لم ذاك! أجاب: لأنني أريد أن أكون من رجال الأمير كوندة. قال: أتعني ذلك الأحدب?! وأي نفع لك من خدمته؟ أجاب: نعم، إنه أحدب، ولكنه أشجع من الدوق دي جيز عم الملك، ومحبوب من نساء البلاط جميعًا.
وقال برنابا: إن المرأة مخلوق بديع يوجد في أبخرة الخمر المعتقة كما يوجد في أروقة قصر اللوفر. ألم تفدك مني القدوة الصالحة؟ ألم تنفعك آرائي السديدة حتى أردت الرجوع عن العيش الرغيد، عيش العلماء؟ أتقرُّ عيناك بالاضطجاع على الثرى البارد حينما أكون متمددًا على سرير جيد وفراش لين؟ أيطيب لك القتال وتلقِّي ضربات السيوف حينما أكون مستلقيًا على كرسيٍّ واسع مريح من خشب السنديان أطالع قصائد ونزار؟ أنت تعلم أن التعرض للحرب والنضال يقضي عليك أحيانًا بالامتناع عن الأكل أو باتخاذ خبز القرويِّ قوتًا، في حين أن مائدتي مغطَّاة على الدوام بغطاء أبيض كالثلج، عليه قناني الخمر المعتقة والثمار الناضجة واللحوم الطيبة وغيرها من المآكل الشهية، فهل تستطيع يا جاليو أن تهجر ذلك كله، وتقاسي شظف العيش؟
قال جاليو: أصغِ إليَّ يا أستاذي؛ لأني أريد أن أسترشد برأيك. قال: تكلم. قال: إني أهوى امرأة حسناء منذ بضعة شهور. قال الأستاذ: قد عرفتها فهي زوجة المحامي! قال: لقد سمعت كلامك يا أستاذي دون أن أسبقك بالكلام، فاسمع كلامي إلى آخره. إني أهوى امرأة حسناء كتب إليها زوجها وهو في أمبواز يستقدمها إليه فصحبتها إلى هنا، ونزلنا في فندق، واستيقظنا عند الصباح على وقع الرصاص، فبادرت أنت إلى القبو مختبئًا فيه، ولبثت أنا عند النافذة، فشهدت قتالًا بين جماعة من الفرسان، ورجل واحد، فأسرعت إليه لأسعفه.
فقال برنابا: وأخطأت يا جاليو؛ إذ إن الأقوى يستحق الاحترام.
قال جاليو: إن الرجل قتل أمامي، وأراد قاتله الفتك بي فضربته بسيفي واحتجبت عنه. قال الأستاذ: وأحسنت باحتجابك فقط، قال جاليو: ولما وصلت إلى أمبواز أمر أمير كوندة بدخولي البلد، وطلب مني أن أذهب إلى القصر فألقاه فيه. فوعدته بما شاء، وتوسلت إليه أن يستخدم سيفي. قال: ومتى تمضي إلى القصر? أجاب: غدًا، وإن طالبًا صغيرًا مثلي لا يقوى على مقاومة مثل ذلك الشريف الذي جرحته اليوم. أما إذا كنت من رجال أمير كوندة فلا يصعب عليَّ الدفاع عن نفسي. قال برنابا: هذا كلام يقارنه الصواب يا بنيَّ، ولكن بقي أمر لم تفكر فيه، هو أن والدتك لا توافق أبدًا على احترافك حمل السلاح.
قال: ولكنك ستكتب إليها يا أستاذي.
قال: أأكتب إليها أنك تروم استبدال طيلسان الراهب بتقلد السلاح؟!
أجاب: نعم يا أستاذي الحبيب. نعم، تكتب إليها ذلك حبًّا بي، وتؤكد لها أنني أحسنت عملًا.
قال: كيف ذلك، وأنا لست على رأيك؟
أجاب: دعني أيها العزيز أملي عليك الرسالة التي ستكتبها إلى والدتي، وأما أنت فما عليك إلا أن تذيلها بتوقيعك.
قال: وأنا فماذا أصنع عندما تصير واحدًا من رجال البلاط؟
أجاب: أزورك مرة في كل أسبوع، وكلما زرتك تعد طعامًا فاخرًا، وشرابًا طيبًا في أقداح من أفخر البلور.