جيز وكوندة
وفي اليوم التالي كان البارون دي برداليان — من رجال الدوق دي جيز — وهو الذي ضربه جاليو بسيفه، طريحًا على مقعد أمام نافذته في القصر يلعن سوء حظه، فأبصر شابًّا قد دخل القصر وهو متهلل الوجه، وفيما كان يسأل نفسه: أين لقي ذلك الشابَّ؟ رآه قد مال إليه، وحيَّاه تحيةً حسنة، وقال له: عفوًا يا سيدي، هل لك في أن تدلني على مسكن أمير كوندة؟ فأجابه: اصعد في السلم الكبير الذي تراه هناك، فإن منازل الأمير في الطبقة الأولى.
قال: إني خادمك يا سيدي، وأشكرك كثيرًا.
– ليس في الأمر ما يوجب الشكر، ولكن هل لك في أن تشرفني بمعرفة اسمك الكريم؟ أجاب: اسمي جاليو دي نرساك يا سيدي.
قال: وأنا اسمي البارون دي برداليان.
قال: أرجو أن تعدَّني في جملة أصدقائك أيها البارون.
وبعد هنيهة صاح البارون، يالله هذا هو الطالب الذي ضربني بالأمس، وألجأني اليوم إلى ملازمة هذا الكرسي. إلا أنه كان بالأمس لابسًا ثوب طالب من مدرسة السوربون، أما اليوم فهو يلبس لباس ظرفاء البلاط، ويذهب ليلقى أمير كوندة. فالمسألة غامضة.
وكان جاليو قد وصل إلى منازل الأمير وهو لا يدري ماذا يفعل، وكان الأمير يروح ويجيء في غرفته، وقد علم أن لارنودي مات، وأن المتآمرين تفرقوا، فكان ينتظر بذاهب الصبر أن يرى الملك، ليتحقق أنهم لا يتهمونه بالاشتراك مع المتآمرين. فلما وقع بصره على جاليو قال له: ادخل أيها الطالب، أجاب: إني أتيت عملًا بأمر مولاي. قال: هل تعرف اسم الرجل الشريف الذي سقط قتيلًا أمامك أمس؟ أجاب: لقد بلغني اليوم أنه يُدعى المسيو دي لارنودي. قال: ولماذا دافعت عنه؟ أجاب: لأنه كان واحدًا يقاتل عشرين.
فنظر الأمير إلى جاليو مدهوشًا فقال له: إذن أنت فتى شجاع كريم.
أجاب: إني من الأشراف يا مولاي، وكل الذين دعوا باسمي شرفوه بأعمالهم. قال: إن البارون دي برداليان حانق عليك. أجاب: لست أعرفه. قال: هو الذي جرحته أمس.
فضحك جاليو. فقال الأمير: أراك راغبًا في دخول البلاط، وقد استبدلت ثوب الطالب بثوب آخر. أجاب: لولاك يا مولاي لربما تم قتلي على يد جنود الدوق دي جيز، فدعني أصير من رجالك!
أجاب: لقد سرني ذلك منك يا دي نرساك، ولكنك تدري أنني لست ذا سلطة كبيرة، وإنك ربما اضطررت إلى القتال لأجلي.
– إنما أردت الانضمام إليك يا مولاي لرغبتي في القتال.
فقال الأمير: إني ذاهب للتسليم على الملك، فإذا صحبتني ربما التقيت بالبارون دي برداليان، فلا أرى لك أن تفارق مسكني، وسأرجع لألقي إليك بعض الإيضاحات.
ومضى الأمير إلى الرواق الأكبر، وقد اجتمع فيه البلاط. فلاحظ لساعته إعراض رجال الحاشية عنه كأنهم خافوا الافتضاح إذا أقبلوا عليه، وإذ ذاك نادى الحاجب بقدوم الملك.
فتقدم فرنسوا الثاني تتبعه الملكة الوالدة وعمَّاهُ الدوق دي جيز والكردينال دي لورين، وهما على بعد قليل عنه، فقال الملك: لقد رأيتم العصاة أيها السادة يرفعون علم الثورة، ويمشون إلى أمبواز، وإنما تفرقوا وانهزموا بحسن فراسة عمنا العزيز الدوق دي جيز، وبالتدابير التي اتخذها، وقد أسرنا منهم عددًا كبيرًا، ولسوف يستنطقون حتى نعرف منهم اسم زعيم الثورة؛ لأنهم إذا ثبت أن قائدهم كان يدعى المسيو دي لارنودي، وهو الرجل الذي كان ابن عمنا كوندة نصيرهُ في كل زمانٍ ومكان، فمما لا ريب فيه أيضًا أن ذلك الرجل لم يتجرأ على مباشرة مشروعه لو لم يجد عضدًا أعظم منه.
وهنا رشق الملك أمير كوندة بنظرة بغضاء، وكان الأمير يسمع وكأَن الحديث لا يعنيه، وتحولت إليه الأنظار، واتسع نطاق الفراغ بينه وبين بطانة الملك، فقال الملك: إن خادمنا الأمين البارون دي برداليان قد تمكن من قتل الثائر لارنودي، وإلحاقه بأخيه جسبار، ولما رأينا جرأة بعض رعايانا قد تعاظمت، لم نجد بدًّا من توسيع سلطة عمنا دي جيز، وهو الذي دافع عنا ببسالته المشهورة. وقد كتبنا له براءة في هذا اليوم، وخولناه بها النيابة العامة على مملكتنا فرنسا، وأمرنا رعايانا الأمناء المخلصين بأن يساعدوه على أعدائنا وأعداء ديننا.
وأقبل الملك يتحدث مع عمه دي جيز عاطفًا عليه، ثم دخل حجرته بعدما أعلن أنه ذاهب للتنزه في البرية بعد ظهر ذلك اليوم.
فلما ارتفعت الشمس في قبة الفلك خرج الملك، وتبعه بلاطه فاجتاز الموكب ساحة البلد، وارتفعت أصوات المرتاعين؛ لأنهم أبصروا في تلك الساحة آلات الإعدام، والحراس يقودون إليها الأسرى، ويقتلونهم دون محاكمة. فقال الملك: إن الجلاد قد عاني اليوم تعبًا فمر بإعطائه خمسين دينارًا مكافأةً له.
وقيل للجلاد إن قتل الناس من غير محاكمة خارج عن القانون. فأجاب: إنهم لصوص، ونحن نقتلهم بقطع رءوسهم كما نفعل بالأشراف فلا يحق لهم أن يشكوا.
وقال الدوق دي جيز للملك فرنسوا الثاني: كذلك يهلك أعداء مذهبنا وأعداء الملك!
وتجرأ أمير كوندة وحده على الكلام، فصاح: إن هذه المذبحة فظيعة جدًّا!
وكان بلاط الشوارع مصبوغًا بالدم، والجثث مطروحة في كل مكان، وقد انتهزوا من ظلام الليل فرصة فذبحوا عددًا وفيرًا من الأسرى. ولما خرج الموكب من المدينة، وأمكن أن يروا قسمًا من أسوارها دنت كاترين من ابنها، وقالت له: انظر أيها الملك!
وأرته الأسوار، وقد اتخذ الجلادون شرفاتها لحبال الشنق، فأبصر جثثًا قد جرِّدت من الملابس تتأرجح في الفضاء.
وحجبت الملكة الوالدة وجهها براحتيها، وهي تكرر قولها: انظر أيها الملك!
فقال لها: ألا ينبغي أن نعاقب الثائرين يا أماه؟
فأجابته: ولكنهم على كل حال رعاياك، ولسوف تحتاج إلى سواعدهم في يوم نضال.
قال: إن أشرار الرعايا لا يصلحون للجندية.
ولقد توسلت الملكتان إلى الملك كثيرًا طالبتين إليه أن يأمر بالكفِّ عن ذبح الناس، فلم تفلحا إلا في اليوم التالي. فلم ينج من القتل إلا عدد قليل من هؤلاء التعساء.