بين قبائل البجة
البجة جيلٌ من الناس كانوا يقيمون بالصحراء بين النيل والبحر الأحمر، تبدأ بلادهم من الشمال بقريةٍ يُقال لها «معدن الزمرد» في صحراء قوص وبينها وبين قوص نحو ثلاث مراحل. وكان لذلك المعدن شأنٌ في التاريخ القديم؛ إذ كانوا يستخرجونه من مغاورَ بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال ويحفر عليه بالمعاول. وآخر بلاد البجة أول بلاد الحبشة، وأبعد بلادهم قريةٌ يقال لها «هجر».
وهم أول أهل بادية يتبعون الكلأ للرعي حيثما يكون، ويقيمون بأخبية من الجلد. وكانت أنسابُهُم من جهة النساء؛ أي أَنَّ الرجل منهم ينتسب إلى والدته على عادة الأجناس المتوحشة.
وهم قبائلُ كثيرةٌ لكل منها رئيس. وكانوا من عهد الفراعنة يهاجمون ضفاف النيل في الصعيد، فينهبوها ويعودون إلى البادية فلا تقوى الدولة على اللحاق بهم، بل كانت تجاريهم؛ لأنها تحتاج إليهم في استخراج المعادن وحراسة المناجم أو ليكفوا أذاهم عنها.
وكذلك الروم لما ملكوا مصر. ولما فتح المسلمون مصر لم يحاربوهم حتى كانت أيام «ابن الحبحاب» في أوائل القرن الثاني للهجرة، فهادنهم على مال يؤدونه إلى بيت المال، وتوالت المراسلات والمكاتبات والغزوات بينه وبينهم ولَمَّا اختل شأن مصر في أوائل الدولة العباسية تمادى البجة في تعديهم حتى صاروا يسطون على ضواحي الفسطاط. فلما تولى ابن طولون صار يتقي غزواتهم بحاميةٍ يُقيمها وراء المقطم.
فاتفق أثناء قيام دميانة في حلوان أن شرذمة منهم سطت عليها ونهبتها وقتلت كثيرين من أهلها ومنهم «قعدان العربي» وحملوا ابنته ودميانة سبيتين ونقلوهما على جمالهم السريعة الجري الصبورة على العطش. وكانوا يسابقون بها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون ويقطعون علها الفيافي والقفار ويتطاردون عليها في الحرب فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل فأخذها صاحبها وإن وقعت على الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.
فلما رأت دميانة نفسها على ظهر الجمل وقد أدير رأسها نحو البادية انتبهت لهول المصاب، وأخذت تبكي وتستغيث وتتضرع إلى الله أن ينقذها من شر هؤلاء القوم؛ فقد دهشت لخشونتهم إذ رأت وجوهًا صفرًا وأجسامًا رقاقًا وبطونًا خماصًا وأكثرهم عراة الصدور يدهنون جلودهم بالشحم وشعورهم متلبدة متكاثفة بما عليها من آثاره ويحمل كل منهم رمحًا طوله سبعة أذرع: عُودُهُ أربعة وحديدُهُ ثلاثة، كما يحمل درقًا من جلود البقر المشعرة أو جلود الجواميس المقلوبة، وبعضهم يحملون قسيًّا عربية غلاظًا من السدر والشواحط وإذا عدا أحدهم تحسبه من الجن لدقة ساقيه وسرعة جَرْيِهِ. فكان خوفها عظيمًا، ولم تعلم بأمر رفيقتها إذ كانت على جمل آخر.
ولم يمسها أحد بسوء وإنما حملوها في جملة السبي وتبطنوا الصحراء وهم يتراطنون بلغة ليست بالقبطية ولا النوبية ولا العربية فلم تفهما ما يقولون. ولما أقبل المساء حطوا الرحال ونصبوا خيمةً نزل فيها رئيسُهُم وهو يمتاز عنهم بلباسه الملوَّن المزركش وقد تقلد سيفه مغمضًا. وكان راكبًا جوادًا أَصْهَبَ. وأنزلوا السبايا في خيمة أُخرى. فلما اجتمعتْ دميانةُ بابنة قعدان واسمها علية استأنست بها وجلستا تتباكيان وكلٌّ منهما تعزي الأخرى. ولا يعزي دميانة غير الأمل في النجاة بأعجوبة من الله.
ولما غربت الشمس وساد الظلام أوقدوا نارًا بين الخيام للاستضاءة، وأتى رجلٌ يتكلم القبطيةَ وتَقَدَّمَ إلى دميانة ورفيقتها وأخذ يطمئنهما، وحَبَّبَ إليهما الصحراء. ثم أتاهما بالطعام، وهو اللحمُ واللبن فعافت نفس دميانة الطعام، ولكنها اضطرت من العطش إلى شرب اللبن. ولما سمعت كلام الرجل سكن روعها؛ لأنها آنستْ منه تشجيعًا ورأت فيه أريحية، فقالت له: «إلى أين سائرون بنا؟»
قال: «إننا سائرون إلى مولانا الأمير أبي حرملة كبير أمراء البجة.»
قالت: «أين هو؟»
قال: «على مسافة بضعة أيام من هذا المكان، لا تخافي؛ فلا يستطيع أحد منا أن يمسك بسوء ومثلك يا جميلة لا ينالها إلا الأمير.»
لما سمعت قوله ذعرت واضطربت، ولكنها تجلدت والتفتت إلى علية فرأتْها مطرقة ولم تكن في مثل ذعرها؛ لأنها تعودت عيشة البادية وعرفت بعض طبائع البدو. أما الرجل فلما رآها تلتفت إلى رفيقتها ضحك فبانت أسنانه بلا قواطع مع صغر سنه فكان له منظرٌ غريبٌ، ثم قال: «أما هذه العربية فربما اختار الأمير أن تكون عنده، أو لعله يهبها إلى أحد أمرائه، أو يستخير الآلهة في شأنها.» ثم تفرس في فم دميانة وقال: «ما أجمل فاك لولا القواطع فيه؛ فإن الأسنان الأمامية تشوه منظر الفم، فليست بلازمة إلا للبهائم.» وأشار إلى فمه وقال لها: «انظري إلى أسناني، فإني من قبيلة تقلع هذه القواطع؛ لئلا تتشبه بالحمير، وليس كل البجة يفعلون ذلك أما أميرنا فإنه يحب الأسنان البيضاء ولولا هذا لَقلع أسنان نسائه.»
فاستغربت دميانة حديثه واستخفت روحه، ولكنها بقيت في اضطراب وقلق وأَحَسَّ الرجل بخطواتٍ خارج الخيمة فتوقف عن الكلام وتململ وتَحَفَّزَ للخروج وإذا برجلٍ آخرَ دخل وظهر من لباسه أنه رئيسُ تلك العصابة وله عينان بَرَّاقَتان ووجه نحيف ودلائل الصحة والقوة باديةٌ فيه. ولَمَّا رأى ذلك الرجل هناك نظر إليه مؤنبًا وقال بلسانهم كلامًا لم تفهمْه دميانة ولا علية، ولكنهما أدركتا أنه يوبخه. ثم قال له قولًا وأومأ إليه أن يقوله لهما، فقال: «إن مولانا القائد يلومني؛ لأني أُحدثكما، وهذا محظورٌ علينا، وهو يطلب أن تَطْمَئِنَّا ولا تخافا.»
فأومأت دميانة برأسها شاكرة وقد احمرت عيناها من أثر البكاء أثناء الطريق. فأوعز إليهما ان ترتاحا وتناما على جلد فرشوه لهما وخرج.
فنامت دميانة بعد أن صلت وتضرعت إلى السيد المسيح أن يرعاها ويحرسها.
وفي صباح اليوم التالي جاءهم الخادم باللحم واللبن فأكلت علية حتى شبعت أما دميانة فلم تأكل إلا قليلًا، ونظرت إلى ما حولها فرأت أنها في صحراء رملية قاحلة وأن العصابة مؤلفة من بضعة وعشرون رجلًا معهم الجمال والخيول. ولما أشرقت الشمس ركبوا يطوون البيداء. وبالغ البجة في إكرامهما والتخفيف عنهما؛ شأن أهل البادية في المحافظة على العِرض إلا ما يُحلُّونه لأنفسهم من الغنائم.
•••
قضى رجال البجة يومين يضربون في الصحراء، وفي اليوم الثالث عند الظهيرة أشرفوا على مناجم الزمرد، فرأوا عمالًا من البجة ومن بعض أهل النوبة يحفرون في الأرض وهم عراة إلا ما يستر العورة. فلم تكترثْ دميانة بالقوم وبحفرياتهم. ولم يقف الركب إلا ريثما ساقوا معهم بعض الماشية مما كانوا قد أعدوه هناك طعامًا لما بقي من الطريق وما زالوا سائرين على هذه الحال حتى وصلوا إلى نجعٍ كبيرٍ عرفت دميانة وعليه أنه نجعُ الأمير وهو مؤلفٌ من خيامٍ كثيرة من الجلد في وسطها خيمةٌ واسعةٌ مزخرفةٌ، وبجانبها خيمةٌ أخرى كالقبة — من الجلد أيضًا. وبجانب النجع مسارحُ للماشية من الضأن والبقر ولحظت دميانة أن «أبقارهم» تمتاز بقرونها الطويلة مما لم تر له مثيلًا في مصر. على أن كل اهتمامها كان منصرفًا إلى ما عساه أن يكون شأنها مع الأمير الذي ذكروا أنها ستكون عنده.
وأخذ الركب في النزول، وأتى بعض الخدم وأناخوا جَمَل دميانة وانزلوها عنه، فمشت وفرائصها ترتعد وقلبها يخفق خوفًا، ووقفت مطرقة لا تدري ما تعمل فإذا بالرجل الترجمان أتى وقال لها: «تعالَي معنا إلى المعبد لنتبرك بالكاهن ونستخير الآلهة على يده في قسمة الغنائم.» ثم قال بصوت ضعيف سمعته هي وحدها: «عسى أن تكوني من نصيب الأمير؛ فإنك أهل له.»
فوقعت كلماته في أذنيها وقوع الصاعقة، ولكنها أطرقت وجعلت تصلي في قلبها وتطلب إلى الله أن يشجعها ويأخذ بيدها؛ لتستطيع النجاة من هذه التجارب، وأحست بعد الصلاة أنها في حرز حريز لا خوف عليها، كأن جُندًا من الملائكة يحرسها.
أما بقية الركب فترجلوا وسار زعيمُهُم أمامهم إلى القبة بجانب الخيمة الكُبرى. ولَمَّا اقتربوا منها فتح بابها وأطل منه كاهنٌ بلباسٍ مزخرف على رأسه شبه تاج من الريش وعلى كتفه شملةٌ مطرزةٌ وحول وسطه حزامٌ من جلد مرصع بالزمرد والياقوت تحته قباء من القباطي الأبيض وبيده صولجان من خشب الأبنوس في أعلاه شبه فرس من الذهب وقد تصاعدت رائحة البخور. ولما أَطَلَّ الكاهنُ على الناس سجدوا جميعًا، وكانت دميانة وراءهم تُجاريهم في سيرهم إلى جهة القبة. فلما رأتهم يسجدون وقفت وأَبَتْ أن تسجد معهم، ولم ينتبه لها الكاهن.
ثم دخلوا القبة وفي صدرها تمثالٌ من نحاس — لعله مأخوذ من أصنام قدماء المصريين — أقاموه على دكة من الحجر، وزينوه بالحلي فاتجه الكاهن إليه وسجد له فسجدوا جميعًا مُؤْتَمِّين به، ثم تمتم قليلًا وتمتموا ودميانة واقفةٌ تستغفر لهذه المشاهد.
وبعد الفراغ من الصلاة أشار الكاهن إلى الوقوف فخرجوا جميعًا، وخرجت دميانة ورفيقتها وهما مطرقتان حياءً؛ لغرابة موقفهما من هؤلاء البدو. ثم تقدم الترجمان فاستوقفهما فوقفتا ووقف الكاهن بباب القبة ثم دخلها مستديرًا وأقفلها وراءه وأشار القائد إلى دميانة وصاحبتها أن تبقيا واقفتين. وبعد قليل سمعتا جرسًا في القبة ثم رأتا الباب وقد فتح وخرج الكاهن عاريًا، وظهر الوشي على صدره وذراعيه، وقد تغيرت سحنته وجحظت عيناه فيخيل إلى الناظر أنه مجنونٌ أو مصروع.
فأجفلت دميانة عند رؤيته وغطت وجهها بكفيها وكادت تصيح من الخجل. ثم سمعته يتكلم بصوت عالٍ مختنق كأن شخصًا آخر يتكلم في جوفه، وكانوا يعتقدون أن إلهًا يتكلم في داخله، ولَمَّا أتم كلامه أجابوه بكلمتين كأنهم يؤمِّنون على أقواله. ثم عاد إلى القبة وأشار القائد إلى الترجمان بأن يقول لدميانة ما يقوله الكاهن، فوجه كلامه إليها قائلًا: «اعلمي يا جميلة أن الكاهن قد استخار الآلهة، فأشارتْ بأن تكوني من نساء أبي حرملة أميرنا الأكبر وهذا قائدنا يهنئك بهذه النعمة.» والتفت إلى علية وقال لها: «وأنت من نصيب هذا القائد الباسل.» وأشار إليه.
وكانت دميانة وهم يصلون لآلهتهم تصلي لربها وتتوسل إليه أن يشجعها ويقويها، فلما سمعت ما تلاه عليها الترجمان لم يجفلها وإن كان قد وقع عليها وقعًا شديدًا؛ فإن الإيمان الصحيح يقوِّي القلوبَ. وهو أكبر تعزيةٍ لبني الإنسان في الشدائد.
وبعد أن قال الترجمان ما قاله ذهب ثم عاد ومعه رجلٌ نوبيٌّ. فلما وقع نظر دميانة عليه استخفت روحه واستأنست به؛ لأنه يشبه خادمها زكريا فتقدم وأشار إليها أن تتبعه إلى خيمة الأمير. وذهب الترجمان الآخر مع علية إلى خيمة القائد. ولم يكن الأمرُ عظيمًا على عليه ولا غريبًا عنها؛ لأنها اعتادت البادية وأهلها.
•••
مشت دميانة في أثر النوبي وهي تقدم رِجْلًا وتؤخر أُخرى وتستعين الله ومريم العذراء والقديسين على ما يصفون، وسمعها النوبيُّ تستغيث بالعذراء فشعر بانعطاف إليها؛ لأنه رُبِّيَ تربيةً نصرانية في بلاده، والنوبيون يومئذٍ كلهم مسيحيون. فتباطأ في مشيه حتى حاذاها وقال لها: «يظهرُ أنك نصرانيةٌ فهل أنت قبطية؟»
فلما سمعت استفهامه استبشرتْ وقالت: «نعم إني قبطية ووالدي من وجهاء القبط؟»
قال: «يظهر عليك ذلك، فلا تنزعجي، هل أنت متزوجةٌ هناك؟»
فظهر الخجلُ في وجهها وسكتتْ ودَلَّ سكوتُها على أنها عذراء، فقال: «إذا كنت متزوجةً فلا أجد سببًا لاضطرابك، فإنك ذاهبة إلى أمير البجة، وهو أكبر أمرائهم وأشجع قوادهم، ومن حسن طالعك أن قسمت له، وسيكون لك مقامٌ رفيعٌ عنده؛ فليس في نسائه واحدةٌ على مثل ما أنت فيه من الجمال والكياسة، وهو يفهم القبطية قليلًا، فسلمي أمرك إلى الله واقنعي بهذا النصيب.»
وكانا قد اقتربا من باب الخيمة، فتقدمها النوبي وأشار إلى الحاجب أن ينبئ الأمير بقدومه، فلما أذن له دخل ودميانة في أثره وقد صبغ وجهها الحياء وتولاها الخوف واصطكت ركبتاها ورأت النوبي انحنى كأنه يسجد لأيقونة. ووقع نظرها على الأمير جالسًا في صدر الفسطاط وهو خفيف العضل والشعر أسود اللون حاد العينين ذو مهابة ولباس حسن. وكان جالسًا الأربعاء على بساط من السجاد الثمين فوق مقعد سوداني (عنقريب). وارتدى بكساء من الحرير الملون وعلى رأسه عمامة تُشبه التاج وبين يديه سيفٌ قَبْضَتُهُ من الذهب وحول عنقه عقد من الحجارة الكريمة بينها قطع من الذهب على هيئة تماثيل صغيرة لبعض الآلهة، وفي أصابعه الخواتم.
وسلَّم النوبي على أبي حرملة بلسان البجة، فأجابه هذا باللسان نفسه، ولم تفهم دميانة شيئًا ولا هي استطاعت أن تسجد كما فعل الترجمان، لكنها سمعت أبا حرملة ينادي النوبي: «سمعان.» وهو اسمٌ نصرانيٌّ، فاطمأنت لاعتقادها أنه نصرانيٌّ مثلها.
ووجه أبو حرملة نظره إلى دميانة، وتَفَرَّسَ فيها فأطرقت، ثم سمعته يخاطب سمعان فالتفت هذا إليها يترجم كلامه فقال: «إن مولانا الأمير أعجب بما شاهده فيك من الجمال والهيبة، ويقول لك: إنه سيبذل جهده فيما يُرضيك، فلا ينبغي أن تعدي نفسك سبية أو غريبة؛ فإنه يعدك من خير نسائه.»
فارتجفت اضطرابًا إذ أصبحت داخل العرين، ولا يلبث الأسد أن ينشب أظافره فيها، فاستعاذت بالله وظلت ساكنة. فأشار أبو حرملة إلى سمعان وخاطبه فاتجه هذا إلى دميانة وقال لها: «تعالي معي يا جميلة إلى الخباء؛ فقد أوصاني الأمير بأن أخصك بخيمة تقيمين بها على الرحب والسعة.»
وخرج فخرجتْ معه تتعثر بأذيالها، ثم قالت له: «يظهرُ يا سمعان أنك نصرانيٌّ مثلي، فأستحلفك بالسيد المسيح أن تنقذني من هذه المصيبة.»
فابتسم سمعان وخاطبها وهو ينظر إلى الأرض؛ لئلا يلحظ أحدٌ أنه يكلمها خوفًا من الأمير، وقال: «إن لم أكن نصرانيًّا كما ظننت فقد وُلدت في بلد النصارى، فسَمَّوْني باسم من أسمائهم وأنا أعرف كثيرين منهم في مصر والصعيد والنوبة. وقد رأيتك شديدةَ الخوف، وثقي بأني سأكون لك أخًا أبذل جهدي في راحتك.»
فاستأنست بوعده وقالت: «إذا كنت تعدُّني أختًا لك فأرجو منك أن تساعدني على الخلاص. هذا غاية ما أرجوه منك. فإذا أنقذتني كان لك فضلٌ كبيرٌ لا يضيع أجره عندي ولا عند أهلي.»
قال: «يا حبذا، ولكن الخلاص لا يُستطاع، ونحن بين رجال كالنمور يختطفون بسرعتهم الأبصار، فاصبري، ولا ريب أنك ستكونين راضيةً بعد قليل.»
وكان كلام سمعان عن الخلاص، فإنه لم يكن يدرك ما في خاطر دميانة وما الذي يثقل على طبعها. فقد كان يجهلُ أنها حريصةٌ على عفافها، تأنف أن تبتذل وأنها عالقةٌ بسعيد، وكِلا الأمرَين ما يضحي لأجله بالحياة. فلما يئستْ من نصرة سمعان وتحققت من وقوعها في الفخ علمت أنها لم يبق لها ملجأٌ إلا الإيمان، وأخذت تُراجع في ذهنِها مواعيدَ الكتاب للمؤمنين في أيامِ الشدة بقوة الله، وهي ماشية ساكتة وسمعان لا يتكلم، فتجاوزا فساطيط الرجال حتى أشرفا على الأخبية وقد دنت الشمس من الغروب، وكانت الأخبية عديدةً، بينها خباء فخمٌ اتجه إليه سمعانُ، وأشار إلى دميانة أَنْ تتبعه، فتبعته حتى أطل على باب الخباء ونادى، فخرجت له عجوز طويلة القامة شديدة العضل ملامحها أقرب إلى الرجال منها إلى النساء وعليها الدمالج والأساور والعقود، وقد فاحت منها رائحةُ الطيب وأبرقت عيناها واحمرَّتا. فأثر منظرها في دميانة أكثر من تأثير منظر أبي حرملة ووقفت مبهوتةً، فابتدرها سمعانُ قائلًا: «نحن الآن عند خباء الأمير، وهذه قهرمانة بيته قامت على تربيته منذ صغره، وتعد نفسها أمه وقد عهد إليها في أمر نسائه، وكأني بك قد أخافك منظرها، فلا تخافي وأنا أوصيها بك خيرًا.»
ثم التفت إلى القهرمانة وكلمها بلسان البجة كلامًا بهذا المعنى، فنظرت إلى دميانة وابتسمت ابتسامة تُطمئنُها بها ولكن دميانة لم تجد بدًّا من السكوت، وأشارت إليها القهرمانة أن تدخل، فدخلت وهي تنظر إلى سمعان والدمع ملء عينيها كأنها تستغيث به، وقد أثر منظرها فيه، لكنه كان يعتقد أنها لا تلبث أن تمكث بضعة أيام مع الأمير حتى تعتاده وتألف البقاء معه.
ودخلت دميانة الخباء، ومَرَّت بعدة غرف من الجلد، رأت في كل منها امرأة أو نساء وبينهن النوبية والبجاوية والحبشية والقبطية. بين سرية وخادمة وجارية. فوقفن جميعًا احترامًا للقهرمانة حتى وصلت بها إلى غرفة ليس فيها أحد وفي بعض جوانبها بساط ووسادة من جلد محشوة بالقش، وبجانب البساط وعاء كالجراب مفتوح وفيه آنية «التواليت»: السواك والمشط وحق الطيب وقد علقت بجدار الغرفة ركوة من جلد وبجانبها قربة ماء فلما توسطت دميانة الغرفة شعرت بانقباض شديد لم تعد تملك معه نفسها، فجعلت دموعُها تنحدر على خديها ونفسها تطلب البكاء وهي تحاول أن تمسكها. وإذا بالقهرمانة تقول لها بلغة قبطية ركيكة: «اجلسي يا بنية على هذه الوسادة.» وربتت كتفها تحببًا، فلم تعد دميانة تتمالك فألقت نفسها على الوسادة وأخذت في البكاء بصوت عالٍ كالأطفال ونسيت موقفها.
فاستغربت القهرمانة بكاءها بغتة، فقالت لها: «هل تحتاجين إلى شيء؟»
ولما لم تجبها قالت: «هل أنت خائفة؟ لا تخافي يا بنية؛ إن الأمير يحبك كثيرًا وبعد قليل يأتي إليك. قومي أصلحي شأنك. وهذه هي الأطياب والسواك والمشط وأنا أساعدك.» قالت ذلك ومدت يدها إلى الجراب وهي تنظر إلى دميانة فإذا بها تجهش بالبكاء ولا تعيرها التفاتًا. فعادت إلى تطييب خاطرها وملاطفتها وما زالت بها تارة تُلاعبها وطورًا تمازحها وآونة تهددها أو تمنيها أو تطمئنها حتى سكن روعها، ولم يطمئن بالها ولكنها تجلدت وودت لو بقيت وحدها، فتركتها القهرمانة ومضت وقد خيم الظلام، فازدادت دميانة انقباضًا ووحشة. ثم ركعت على البساط ركعة مؤمن صادق الإيمان، وبسطت يديها إلى السماء ورفعت بصرها وأخذت تصلي كأنها تخاطب شخصًا تراه بعينيها وتثق بأنه يجيب طلبها، وجعلت تتضرع إلى الله وتستجير بالمسيح وبالعذراء وسائر القديسين؛ تطلب الخلاص من هذه التجربة التي أوشكت أن تقع فيها. وكانت تصلي بحرارة ودموعها تتساقط على خديها بصوت خافت تتخلله نبراتُ التوسل والإلحاح في الرجاء. وقد حلت شعرها وكشفت عن صدرها واستغرقت في تضرعاتها ومناجاتها حتى نسيتْ موقفها فصارت تطلب وتتضرع بصوت عالٍ تعترضه غصة أو بحة وتقرع صدرها وتعيد الطلب والدعاء كأنها تجردت عما يُحيط بها.
وكانت القهرمانة قد تركتها ولم تبتعد عن غرفتها، فسمعت صلاتها، فاسترقت الخطى إليها حتى وقفت بجانب الباب بحيث ترى موقف دميانة وتسمع تضرعاتها، ومع غلظ قلبها لم تتمالك عند رؤية دموعها تتساقط وسماع صوتها المخنوق من الانعطاف إليها انعطافًا مقرونًا بالاستغراب، وكانت على موعد من قدوم أبي حرملة تلك الساعة وعليها أن تهيئ العروس وتصلح من شأنها قبل قدومه، فهمت أنها تدخل وتوقفها عن الصلاة وإذا بها تسمع وقع خطواتٍ عرفت أنها خطوات الأمير، فتحولت نحوه وأشارت إليه بإصبعها أن يمشي الهوينى ليرى دميانة بعينيه.
فمشى حتى أطل على الفتاة بحيث يراها ولا تراه؛ فرآها جاثية وشعرها محلول وقد استرسل حتى غطى كتفيها وأعلى صدرها. ووقع نظره على جانب وجهها فرأى الاحمرار قد جَلَّلَه والدمع بلله. وهي تبسط يديها نحو السماء تارة وترقع بهما صدرها أخرى، فنظر أبو حرملة إلى القهرمانة مستغربًا، فبادلتْه مثل نظره، وحمل ذلك من دميانة محمل الوحشة لبُعدها عن أهلها، وأراد أن يجاملها حتى تستأنس به وقد زاده منظرها رغبة فيها، فتراجع وأوصى القهرمانة بتطييبها وبإعدادها له على أن يعود بعد قليل.
وطالت صلاة دميانة دون أن تمل، ثم شعرت بعد حين بتعب يديها فانتبهت وقد سري عنها وذهب ما كان أحدق بها من الهموم والمخاوف، وشعرت بشجاعة واطمئنان، وتحققت ألا خوف عليها من حبائلِ الشيطان.
وفيما هي تتحفز للوقوف دخلت القهرمانة ضاحكة وهمت بدميانة فقبلتها، فاشتمت منها رائحة كانت تشتمها في المعسكر على الجمال ولكنها أحست بها قوية في وجه القهرمانة، فأمسكت دميانة بيدها وأجلستها على الوسادة بجانبها وقالت لها: «قد آن لك أن تتطيبي للقاء عريسك، وهذه شمعة قد اختصك بنورها وكان قد حفظها لأعز أوقاته وأمرني أن أضيئها في هذه الغرفة ليرى وجهك الجميل عليها، وهذا إكرامٌ اختصك به؛ فإنه لم يفعل مثله مع سواك من نسائه.» قالت ذلك وأخرجت قضيبًا غليظًا من الشمع مغروسًا في شبه قاعدة، وقدحت بالزناد وأضاءت الشمعة، وأخرجت منه المشط والسواك والأطياب، وأخذت تُصلح لها شعرها وتمشطها وتطيبها، ودميانة ساكتة لا تتكلم ولا تمانع وقلبها مطمئن هادئ.
•••
انتهت القهرمانة من تمشيط دميانة وتطييبها، ثم أتتها بثوب من الحرير الملون كان أبو حرملة قد بعث به إليها مبالغة في إكرامها، فلبسته، فظنتها القهرمانة راضيةً مسرورة، فخرجت إلى أبي حرملة وجاءت به وكان قد خَفَّفَ ملابسه واتشح بثوب من الحرير يشبه ثوبها وتطيب. ولما دخل الغرفة أشار إلى القهرمانة فخرجت وعادت وبيدها ركوة من جلد وقدح من خشب وضعتها بين يديه وخرجت، وبقي هو ودميانة ليس في الغرفة سواهما. فاختلج قلبُها في صدرها خوفًا برغم اتكالها على الله بعد الصلاة واستأنفت الاستغاثة بالعذراء في سرها.
أما هو فقعد على البساط، وتناول الركوة فصب منها في القدح وقدمه إلى دميانة وهو يقول بلغة قبطية مكسرة: «اشربي يا عروسة، اشربي من هذه المريسة فإنها تنعش القلب وتذهب الحزن!»
فظلت ساكتة مطرقة لا تعلم ماذا تقول فقال لها: «أنا أشرب هذه الكأس عنك.» ثم شربها وصب قدحًا آخر وقَدَّمَه لها وقال: «خذي اشربي.» وأدنى القدح من فِيها فنفرت، وظهر الاشمئزازُ في وجهها فقال: «يلوح لي أنك لم تتعودي هذا الشراب.» ووضع القدح من يده وزحف على البساط حتى دنا منها ووضع يده على ركبتها، فاقشعر بدنها ونهضت فجأة ونفرت فأخذ يضاحكها، فقال: «ما بالك؟ لماذا تخافين وأنا أحبك كثيرًا؟» ومد يده ليمسك يدها ويجذبها إليه، فتباعدت، فتطاول حتى أمسك يدها فإذا هي باردة كالثلج، وشعر بجاذبية زادته رغبة فيها. وأما هي فلما لمسها اقشعرت وكاد الدم يجمد في عروقها، ولم تَجِدْ فائدةً من النفور، فأطاعته وقعدت وهي تتجنب أن تلمسه وخاطبته والدمع في عينيها قائلة: «أتوسل إليك يا سيدي أن تتركني وشأني.»
قال: «ولماذا؟ ألا ترضين أن تكوني من نسائي؟»
فلما سمعتْ سؤالَه خافتْ أن تُجيبه بالرفض فيغضب، فقالت: «إني جاريةٌ حقيرةٌ، لا أستحقُّ هذا الإكرام، وأنت في غنًى عني بمن عندك من النساء الكثيرات، فاتخذْني جارية أخدم في مطبخك، أو أرعى الماشية، أو أي شيء آخر.»
قال: «لا، لا، بل أنتِ أحبُّ النساء إلي، وسأجعلك في المقام الأول، فلا تجزعي؛ فما أنا بالوحش الذي تخشين وإن لم أكن من أهل المدن نظيرك.»
فقالت: «يظهر لي من كلامك ومِن علو منزلتك أنك طيب السريرة، فلا يبلغ مقام الإمارة والزعامة أسافل الناس، فاسمح لي برجاءٍ أتقدم به إليك.»
قال: «قولي.»
قالت: «إن الحظوة عندك شرف يتمناه الكثيرون، وأنا أسيرة، استخدمني كيفما تشاء للطبخ أو الغسل أو الحرث وارفع عني حظوة الزواج. أستحلفك بمن تعبد أو بمن تحب أن تتركني وشأني.»
قال: «كيف أتركك وشأنك وقد وقعت لي من الغنيمة بعد استخارة الآلهة، ورأيت فيك جمالًا لم أشاهده في سواك؟ إني أنصح لك أن ترجعي عن عنادك وتقبلي مودتي طائعة مختارة، فأبو حرملة زعيم هذه القبيلة لا يعجزه أن يُكرهك على ما يريد.»
فشعرت بتهديده وأنه إذا عزم على أمر لا يردعه رادعٌ، فأطرقت ولم تجب، فاستبطأ جوابها فقال: «هل رجعت عن غيك يا قبطية؟ هل علمت بأني أدعوك إلى السعادة؟»
فرفعت عينيها إليه — وقد تكسرت أهدابُها من البكاء وذبلتا من الحزن والقنوط — وقالت: «قلت لك إن كثيرات من أمثالي يتمنين الحصول على هذه السعادة، ومع ذلك فإني أستعفيك منها … واطلب مني ما شئت غير ذلك، قلت لك إني أكون خادمةً، جاريةً، راعية، أكون أي شيء تريده غير الزواج.»
فقطع كلامها قائلًا: «راعية خادمة؟ إن الخدم كثير عندنا؛ فإننا نبيع الأرقاء بالمئات.» فرفعت بصرها إليه وقد قنطت من الحياة. وكأن إلهامًا هبط عليها فجأة فتغيرت سيماؤها وبان البشر والجد في محياها، فقالت له: «أأنت أميرٌ تقود رجالك إلى القتال كثيرًا؟»
قال: «نعم. وأي شيء في هذا؟»
قالت: «وأظنك تخسر كثيرًا منهم أثناء الحرب؟»
قال: «كثير جدًّا.»
قالت: «وأنت أيضًا لست في مأمن من الموت.»
قال: «إني لا أخاف الموت.»
قالت: «لم أقل إنك تخاف الموت، ولكنك تعرِّض نفسك للقتل.»
قال: «طبعًا، ولكن ما معنى هذا الكلام، وما علاقته بما نحن فيه؟»
قالت: «تمهلْ أيها الأمير حتى النهاية. ألم يبلغك خبر العلوم السرية التي ورثناها عن أجدادنا الفراعنة علمًا وصناعة.»
قال: «اسمع بشيء كثير من هذا. ولكن ماذا يهمني من العلم؟»
قالت: «أَلَا يهمك أن تنجو أنت ورجالك من القتل إذا تساقطتْ عليكم الحراب كالأمطار، أو وقعت عليكم السيوفُ كالجنادل؟»
فضحك حتى بانت أسنانه البيضاء، وهز رأسه وقال: «يهمني وهل في علم المصريين ما يمنع الموت؟»
قالت: «نعم أيها الأمير، وذلك سر لا يعرفه إلا القليلون.»
فشخص ببصره استغرابًا وقال: «وهل تعرفينه أنت؟»
قالت: «أعرفه.»
قال: «إنك تحتالين علي للنجاة.»
قالت: «اسمع لي. أنا لا أُلقي كلامي جزافًا، ولا أطلب منك التسليم به إلا بعد تجربة، إن سِرَّ هذا الدواء مودَعٌ في بطن الأديار بمصر، وقد عرفته وتعلمته.»
قال: «وما هو؟»
قالت: «دهن أصطنعه وأقرأ عليه. فإذا دهن امرؤٌ جلده به أمن القتل، فلا يقطع فيه سيفٌ ولا رمح ولا سكين.»
فقال: «دعينا من هذا الكلام الهراء، إن هذه الأكاذيب لا نُخدع بها.»
قالت: «ليست أكاذيبَ يا سيدي، هذا سِرٌّ في يدي، لا أبوح به إلا إذا أقسمت لَتَكْتُمَنَّه.»
قال والجد يتجلى في جبهته وعينيه: «أتقولين الحق؟»
قالت: «نعم.»
قال: «إذا صدقت في أمر هذا الدهن فإني أعطيك ما تطلبين.»
قالت: «لا أطلب إلا إطلاق سراحي وإيصالي إلى بلدي وأهلي.»
قال: «لك ذلك وأقسم بإلهي، لَأَبَرَّنَّ بقولي. وكيف السبيل إلى معرفة صحة هذا الدواء؟»
قالت: «تجربه في رجل تدهن به جسمه وتضرب عنقه فإذا قُطع كان الدواء كاذبًا. وإذا نبا السيف ولم يصَب الرجل بسوء كنتُ من الصادقين، فتفي لي بوعدك.»
قال: «وهو كذلك، لكن من يقبل أن يجرب هذا فيه ويعرض نفسه للخطر؟»
قالت: «إذا لم تجد أحدًا أجربه أنا بنفسي.»
فأطرق أبو حرملة عجبًا، ثم قال: «حسنًا، ومتى تصنعين هذا الدهان؟ ومتى نجربه؟»
قالت: «غدًا — إن شاء الله.»
فنهض وهو لا يصدق ما يسمعه، وقال: «لنصبرن إلى الغد، إني منصرفٌ الساعة، فاصنعي العقار وفي الغد نجربه، فإذا صَحَّ قولك فلك ما تريدين.»
قالت: «لا أُريد غيرَ إخلاء سبيلي، وإرجاعي إلى أهلي.»
قال: «حسنًا.» وخرج توًّا إلى فُسطاطه.
فلَمَّا خرج من عندها تنفست الصعداءَ، وأخذت في إعداد العقار، فجعلته مزيجًا من الأطياب التي بين يديها وأضافت إليها أشياء أخرى حتى صار كالشحم ووضعته في قدح وباتت ليلها مضطربة لهول ما هي مقدمةٌ عليه، ولكن إيمانها كان قويًّا.
وفي اليوم التالي جاءتها القهرمانة، فرأتها تصلي، فأتتها بالطعام فأكلت قليلًا. ثم جاء سمعان النوبي الترجمان موفدًا من أبي حرملة في طلب دميانة. فأرسلتها القهرمانة معه، فلما رأتْه ارتاحت إلى رؤيته وابتسمت ابتسامة حزين يائس، فأثر منظرُها في نفسه، وقال لها: «أرجو أن تكوني قد غيرت رأيك في أميرنا.»
فتنهدت وأرسلتْ دمعتين انحدرتا على خديها وهي مطرقة تمشي وراءه، حتى بلغت خيمةَ الأمير وقد خبأت قدح الدهان في جيبها، فأمر أبو حرملة بإدخالها عليه وحدها، فدخلت وأراد سمعان أن يدخل معها فأشار إليه الحاجبُ أن يبقى خارجًا، فمكث وهو يتعجبُ من تلك الخلوة مع حاجة الأمير إليه.
•••
كان أبو حرملة حينما دخلت عليه دميانة جالسًا على متكأ وقد مَدَّ رجليه، وهما حافيتان، ووضع على رأسه عمامةً صغيرة وبيده خيزرانة يلهى بها، فمشت حتى توسطت الخيمةَ ووقفتْ، فأشار إليها أن تتقدم، فتقدمت حتى اقتربت منه، فأومأ إليها أن تقعد، فقعدت، فقال لها: «ذهبت بالأمس إلى خبائك، فأطمعك ذلك فيَّ وبعث على نفورك، فأردت أن آتي بك إلى فسطاطي، لعلك تثوبين إلى رشدك، ألا تزالين خائفة؟»
فقالت: «لست خائفة يا سيدي، ولكننا اتفقنا مساء أمس على أمر أراك نسيته؟»
قال متجاهلًا: «وما هو؟»
قالت: «ألم تعدني بإطلاق سبيلي إذا أحضرت لك العقار الذي يمنع القتل؟»
فضحك وقال لها: «لا أحسبك تجدين، دعينا من الأدهان وارجعي إلى رشدك.»
قالت: «بل أجد، ووَعْدُ الأمير دين.»
فاعتدل في مجلسه وقال: «أتصنعين دهنًا يمنع القتل؟ ما هو؟»
قالت: «نعم يا مولاي.» ومدت يدها وأخرجت القدح من جيبها ودفعته إليه، فتناوله ونظر في ذلك الدواء، فإذا هو خثر كالشحم وله رائحة الطيب، فقال: «أهذا عقار يقي من القتل؟»
قالت: «نعم، إذا دهنت به عنق رجل لا يقطعه سيفٌ ولا خنجر.»
فهز رأسه وهو يتأمل ما في القدح تارة، وينظر إليها تارة أُخرى وهي مطرقةٌ. فقال: «ينبغي أن نجرب.»
قالت: «جَرِّبْهُ.»
فقال مهددًا: «سأجربه فيك أنت!»
قالت: «جربه يا سيدي فيمن شئت، فأنا على يقين من النجاح.»
فرد القدح إليها وقال: «خذي ادهني المكان الذي تريدين، وأنا أضربه بسيفي هذا.» ووضع يده على سيفٍ إلى جانبه.
فأخذت القدح من يده وهي تقول: «جرد سيفك.» ورفعت شعرها إلى أعلى رأسها وكشفت عن عنقها وأخذت من الدهن قليلًا بطرف سبابتها وجعلت تمسح عنقها وأعلى صدرها. فلما فرغت جثت بين يديه وقالت: «اضرب بسيفك.»
فنهض واستل الحسام وقال: «أأضرب؟»
فأجابته وهي مطرقة: «اضرب.»
فراعه بياضُ عنقها، ورأى انكسارها وجرأتها، فأبت رجولتُهُ أن يضرب بكف لم يخنها الحسام قط عُنُقَ امرأة عزلاء، فتراجع وقال: «ارجعي إلى رشدك أرى رأسك مقطوعًا لا محالة.»
قالت: «لا تخف اضرب. إن السيف سينبو بكفك …»
فغضب وقال: «ينبو بكفي؟» ورفع يده وهَمَّ بها وإذا بصوت يناديه من الخارج: «لا تفعلْ يا مولاي.» وسمع وَقْعَ أقدامٍ، فالتفت، فرأى سمعان داخلًا مسرعًا حتى حال بينه وبين دميانة، فقال أبو حرملة: «ما بالك؟»
قال: «ماذا تفعل يا مولاي؟»
قال: «أجرب عقارًا اصطنعتْه هذه القبطية، تقول إنه يمنع أثر وَقْعِ السيف، وأكدت لي ذلك حتى طلبتْ أن أُجربه في عُنُقها.»
قال: «وهل صدقتَ قولها؟»
قال: «لم أصدق، فأردت أن أجرب ذلك فيها.»
قال: «وتقتلها!»
قال: «إنها تدعي أن الدواء مجرَّب، لا ريب في فعله، ولولا ذلك لم تعرضْ نفسها للقتل، فقد ألحت علي على أن أضرب بقوة.»
فلما سمع الترجمان قوله ابتسم وأدار وجهه حتى استقبل دميانة وهي لا تزال جاثية مطرقة وتتمتم كمن يصلي، فلما اقترب سمعان منها رفعت بصرها إليه وعيناها تتلألآن بالدمع فقال لها: «هل تعتقدين ما ذكرت عن هذا الدواء؟»
قالت: «كيف لا وأنا أطلب تجربتُهُ في نفسي؟ دَعْه يضرب ثم يرى ما يكون.»
فضحك سمعان وقال: «هذا لا يجوز علي يا دميانة؛ فقد عرفت قصدك.» وتحول نحو الأمير وقال: «لا تصدقْها يا سيدي، ولا تطلق المهند من يمينك، إلا إذا كنت تُريد قتلها؛ إنها تعلم يقينًا أن العقار لا ينفع، وأن الضربة من يدك تقضي عليها.»
فأجاب والدهشة ظاهرةٌ في عينيه: «تعرف ذلك وتعرِّض نفسها للقتل؟ لا، لا، هذا لا يكون. دعني أجرب.»
فصاحت دميانة: «دعه يجرب وسترى صِدْق قولي، فأستريح من هذا الأسر ويرجعني إلى أهلي.»
قال: «لا تفعل يا سيدي؛ إنها تبغي الموت.»
قال: «كيف تسعى بنفسها إلى القتل؟»
قال: «تفعل ذلك فرارًا من أمر يحرمه دينُها عليها، وأنت تطلبه منها، فلما لم تجد وسيلةً للنجاة آثرت الموت على العار.»
فجعل أبو حرملة ينتقل بنظره من سمعان إلى دميانة ومن دميانة إلى سمعان كأنه يتفحص ما يضمرانه، ثم قال: «وكيف عرفت ذلك؟»
قال: «عرفته؛ لأنه حدث قبل هذه المرة بصعيدِ مصر منذ أكثر من مائة سنة، في دير من أديرة الراهبات.»
فلما سمعت دميانةُ قوله نظرتْ إليه ولسان حالِها يُعاتبُهُ ويقول: «لقد وقفت في سبيل نجاتي من العار.»
فقال أبو حرملة: «وكيف ذلك؟»
قال: «لَمَّا قام العباسيون على بني أُمية وأرسلوا جيوشَ خراسان لمحاربتهم هرب كبير بني أُمية إلى مصر، وجعل يهاجم أديار الراهبات والرهبان، فاتفق أن وجد رجالُهُ في بعض الأديرة فتاةً جميلة الصورة، فأحضروها إليه، فأعجبه جمالها، فأرادها لنفسه وهي تأبى؛ لأن بنات النصارى يحرصن كل الحرص على صيانة عرضهن، ولا سيما الراهبات؛ فإن الواحدة تفتدي عفتها بنفسها. فلما أرادها الأمير الأموي وعلمت أنها مغلوبة على أمرها احتالت عليه وزعمت مثل زَعْم صاحبتنا هذه، أن لديها عقارًا إذا دهن به الجسم ارتدَّت عنه السيوف القواطع، وأنه إذا لم يمسها وأطلق سبيلَها كشفتْ له عن سر ذلك الدهن. فرضي واشترط أن يجرب ذلك فيها، فقبلت ودهنت عنقها، وأمر الجلاد فضربها فأطاح رأسها عن بدنها، فعلم أنها أقدمت على الموت إنقاذًا لعفتها. وتحدث أهل مصر بهذا الحادث زمنًا طويلًا.»
فلما سمع أبو حرملة هذا الكلام رد سيفه إلى غمده، وأطرق حينًا ثم رمى السيف على البساط، وتقدم إلى دميانة وقال لها: «قومي أخية، قومي، هل تسعين إلى الموت؟»
فقالت: «وهي واقفةٌ وقوف المستعطف والدمع يتلألأ في عينيها: نعم أفضل الموت على العار.»
فأظهر الغضب وقال: «تؤْثرين الموت على أن تكوني عندي؟»
قالت: «كلا يا سيدي، لا أشكو من شخصك؛ فأنت أميرٌ على خَلْقٍ عظيم، ولكنني أتجنب …» وأطرقت حياء.
فتصدى سمعان للكلام، وقال: «إنها تبغي صيانةَ عفافها.»
فأَحَسَّ أبو حرملة كأن في هذه الفتاة الضعيفة السبية قوةً لم ير مثلها في الرجال غلبته على أمره، ولم يدر أن سر هذه القوة هو ثباتها على مبدأها، وإيثارها الموت على ما تظنه عارًا، فلم يتمالكْ عن النظر إليها نظر الاحترام، وقال: «كيف تفضلين الموت؟»
قالت: «أفضله؛ لأنه يُنجيني من ارتكاب ما أعتقده مخالفًا لمشيئة الله وتعاليم السيد المسيح.»
فالتفت أبو حرملة إلى سمعان، وقال: «فهي إذن نصرانيةٌ على مذهب سيدك صاحب النوبة؟»
قال: «نعم يا مولاي، والنصارى يعدون المحافظة على العفة من أكبر الفضائل.»
قال: «فملِك النوبة إذن أولى بها مِنَّا، وإكرامًا لهذا الثبات قد عفوت عنها، لكنني لا أتكلف إرجاعها إلى مصر ونحن قائمون بعد أيام إلى النوبة فنسلمها إلى ملكها.»
فلما سمعت دميانة كلامه أشرق وجهها وذهب انقباضها، وتناثرت دموع الفرح من عينيها وهمت بيد الأمير لتقبلها فزاده هذا الشعور شفقة عليها وإعجابًا بها؛ لأنه لم يكن يتصور أنه يوجد في الدنيا امرأة تأبى أن تكون له، فكيف وقد رآها تفضل الموت على ذلك، فقال لها: «أتركك وشأنك ونحن ذاهبون بعد أيام قليلة إلى النوبة، فنكون على مقربة من دنقلة عاصمة ملكها، فأدفعك إليه. هل يرضيك هذا؟»
فأشارت برأسها وعينيها شاكرة وهي لا تعرف كم تبعد دنقلة عن ذلك المكان، ولكنها كانت تَوَدُّ التخلُّص من محنتها بأية وسيلة. أما سمعان فكان يعرف المكانين وما بينهما من البُعد، فقال: «وإذا كان الأمير لا يرى بقاءَها في معسكره فأنا نوبيٌّ وقد اشتقت إلى بلادي، فيأذن لي في السفر إليها، وآخذ الفتاة معي وأوصلها إلى النوبة.»
فضحك الأمير وقال: «لقد طالما لحظت رغبتك في فراقنا وها قد سنحت لك الفرصة، فامض وأهد سلامي إلى ملك النوبة، وقل له: إننا باقون على العهد، وقل لغلامي أن يهيئ لكما الركائب، وخذ من الخدم من شئتما.» والتفت إلى دميانة وقال لها: «اسبلي ذيلَ المعذرة على ما حملناك من الهم يا جميلة، واذكرينا عند أهلك بالخير متى بلغت بلدك.»
فتذكرت رفيقتها علية، فأرادت أن تسأل عنها لعلها تستصحبها، وتكافئها على جميل أبيها فقالت: «أشكرك أيها الأمير، وسأنشر في الملأ ما لقيته من نجدتك وكرم أخلاقك، ولي رفيقةٌ كانت معي منذ أخذنا من حلوان.»
فنظر أبو حرملة إلى سمعان كأنه يستفهمه فقال: «أظنك تعني علية، لقد تزوجت من ذاك الأمير وهي راضيةٌ، فقد تحققت موت أبيها وسائر أهلها، وهي من بنات البادية.»
قالت: «لعلها تُحب أن ترافقني.»
قال: «سافرت هذا الصباح مع زوجها.»
فسكتت دميانة وخرجت مع سمعان، واتكلت عليه في إعداد معدات السفر، وحدثتها نفسُها أن تطلب إليه أَنْ يحملها إلى مصر بدل بلاد النوبة، فتصل إلى أهلها، فلما خرجت نظرتْ إليه وهي لا تصدق أنها نجتْ بعد أن كادتْ تُقتل، وشعرت بفضله عليها، أما هو فلعله كان أكثر سرورًا إذ أنقذها من الموت. فلما رآها تنظرُ إليه ضحك، وقال لها: «هل أنت مسرورة يا سيدتي؟»
قالت: «الفضلُ إليك يا سمعان في إنقاذِ حياتي.»
قال: «لا فضل لي؛ فإني قمت بما يفرضه علي الواجب.»
فقالت: «إني حالما وقع نظري عليك شعرت بارتياح لرؤيتك، ثم تحقق ظني بما آنسته من طيب عنصرك، كأنك مسيحي مثلي.»
فضحك وقال: «نعم أنا كذلك، فقد رُبِّيت تربية مسيحية.»
وكانا يمشيان وأهل المعسكر ينظرون إليهما، وقد بلغهم أن الأمير عفا عن الفتاة وأمر بتسريحها، فظل سمعانُ ماشيًا حتى أتى خيمة وأمر الخادم أن يهيئ الأحمال، ودعا دميانة إلى الجُلُوس، وأمر لها بطعامٍ يعرف أنها تأكله، فاستأنست به وسألته: «إلى أين نحن ذاهبون؟»
قال: «إلى دنقلة يا سيدتي.» وضحك.
قالت: «وأين هي من هنا؟»
قال: «تبعُدُ بضعةَ عشر يومًا على الجمال.»
قالت: «هل هي من جهة مصر. فإذا وصلنا إليها نقرب من الفسطاط؟»
فضحك وقال: «إن مصر إلى يميننا ودنقلة إلى يسارِنا، فإذا كُنَّا الآن على بُعد عشرين يومًا من مصر فمتى صرنا في دنقلة نصبح على مسافة أربعين يومًا عنها!»
فبغتت وانقبضت نفسها وأطرقت، فابتدرها سمعان قائلًا: «لا تجزعي إننا لا نذهب إلى دنقلة، ولكنني سأذهب بك إلى أسوان وهي على يوم وبعض اليوم من هنا.» وخفض صوته وقال: «لأني عرفتُ من بعض المارين بنا أن ملك النوبة قدم إلى جوار أسوان متنكرًا، ومتى بلغناها لا نكون بعيدين من مصر كثيرًا.»
فأشرق وجهها وقالت: «بُورك فيك، وهل لي أن أرجو بعد وصولنا إلى أسوان أن ترافقني إلى مصر لأكافئك على صنيعك؟»
قال: «سأكون في خدمتك حتى تصلي إلى مأمنك.»
فشكرته، وفي نيتها أن تكافئه إذا هو رافقها إلى مصر، ثم ذكرت ما كان من أمرها في الفسطاط واضطهاد أبيها، فكيف يكون مصيرها وهي تجهل ما دار بين زكريا وبين سعيد؟ وكان زكريا قد تركها في حلوان وذهب إلى بيت أبيها ليأتي بالأسطوانة ولقي سعيدًا، ولما رجع ليخبرها بما حدث وجد أنها سبيت، فلم تكن تعرف شيئًا عن حال أهل مصر، ولكنها توسمتْ في سمعانَ الرغبة في خدمتها، فأرادت أن يصحبها إلى مصر لتستخدمه في التفتيش عن زكريا أو سعيد. فأخذت تتأهبُ للرحيل معه إلى أسوان.