زواج الحبيبين
كان مرقس يسمع ما يقولون، ويترقب فرصة تُخَوِّله الكلام؛ ليغطي خجله، فلما رأى التهمة تثبت على إسطفانوس وجه كلامه إليه، وقال: «اسكت يا إسطفانوس؛ فإنك حقًّا لئيمُ الطبع، قد خدعتني كما خدعت سواي، فأنا أشهد أنك تعمدت أذى جارنا وولدنا سعيد. أردت أن تتخلص منه لتبقي دميانة لك. هذا هو الصحيح.»
فلما سمع إسطفانوس هذه الشهادة عليه من زميله وصديقه وشريكه في سيئاته حمي غضبُهُ، وقال له: «أتقول هذا وأنت الذي أغريتني به؟ وكم حببت إلي الزواج بابنتك وأنا أجيبك أنها لا تحبني، فأبيت وأصررت على أن أتزوجها لا لسبب غير طمعك في مالها؟»
فقال مرقس: «هذا غير صحيح …» وضحك ضحكة استخفاف. وقال: «طمعًا في مالها؟ أليس مالها ومالي سواء؟»
قال: «أَوَتضحك أيضًا، وتقول إن مالك ومالها سواء؟ ألم تخبرني بهذه الوصية وتتفق معي على أن نكون شركاء في إرث الفتاة وهي لا تعلم؟ أنت أغريتني وغششتني، فأنت وحدك سبب هذا الشقاء. لتتمتع بالملذات والشهوات.» قال ذلك وقد بُحَّ صوتُهُ وخرج عن طور العقل لشدة الغضب.
فانتهره ابنُ طولون قائلًا: «يكفي، قد عرفناكما وعرفنا فَضْلَ مهندسنا الحكيم، وسنرفع منزلتَه ونعوضُهُ عما لحقه من الأذى بسبب تلك الوشاية، وسنزف إليه عروسه على نفقتنا باحتفال ينسيها ما قاسياه ويتولى عقد الإكليل غبطة البطريرك الجليل.» قال ذلك ونظر إلى دميانة وكانت جالسة على مقعد بالقرب من زكريا تسمع ما يدور من الأحاديث ولا تفهم إلا نتفًا قليلة لجهلها اللغة العربية. فكان زكريا يترجم لها باختصار. على أن اشتغال قلبها بسعيد وتتبعها حركاته وسكناته كانا يشغلانها عن سماع كل شيء. إذ مضت عليها مدة وهي لم تره. واتفق أنها رأته للمرة الأولى في تلك الجلسة فاضطرت إلى أن تغالب عواطفها وتصبر على نفسها إلى آخر الجلسة. وقد أهمها من الجهة الأخرى الاطلاع على ما كان محدقًا بها من الأسرار ولا سيما مسألة الأسطوانة وما فيها. فلما اطلعت على فحواها طار قلبها من الفرح ولا سيما حين سمعت ما قاله ابن طولون لخطيبها وأنه سيرفع قدره وينفق على العرس من ماله. فإن ذلك فوق ما كانت تتمناه.
إني لا أستطيع التعبير عن أفكاري بالعربية، فأقولها بالقبطية وأتقدم إلى أبينا البطريرك أن ينقلها إليكم بالعربية، لقد غمرتنا أيها الأمير بفضلك وأنا شاهدت العصي تتساقط على سعيد — وأشارت إليه — شاهدتها بعيني ولم يخطر لي أن أضع الحق عليك، وقد علمت من ذلك اليوم أنها دسيسة، إنك أيها الأمير أتيت نعمة لبلادنا كما قال أبونا البطريرك وأحمد الله؛ لأنه أظهر الحق على يد العم زكريا، فإن لهذا العم الطيب القلب فضلًا كبيرًا في كشف هذه الأسرار، وقد فعل ذلك لا لمطمع غير القيام بوعده ونصرة الحق.
وظهرت دمعتان في عينيها، وأشارت بيدها إلى أبيها وقالت: «نعم إن أبي قد أساء إلي، ولا أدري أكان ذلك من تلقاء نفسه أو بإغراءٍ مِنْ سواه، فمهما يكن فإني أتقدم إلى مولاي الأمير بأن يعفو عنه؛ فإني لا أكون سعيدة إن لم يكن والدي أيضًا سعيدًا.»
فترجم البطريرك كلامها. أما والدُها فلما سمع قولها غلب عليه البكاءُ لفرط ندمه، وقال لها: «لقد جمعت نارًا على رأسي، إني قد أسأت إليك من كل وجه، ولا شك أن عنصرك أطيب من عنصري؛ فقد كنت أريد أن أكون سعيدًا ولو شقيت أنت، أما أنت فتقولين إنك لا تسعدين إن لم يكن أبوك سعيدًا، فاصفحي عن ذنوبي، وها أنا ذا أشهد الأمير وسائر الحاضرين على أني سأرجع عن كل ما يغضبك في سلوكي، وأكون طوع إرادتك؛ لأنك أقرب مني إلى الرشاد وأدنى إلى الصواب.»
فلما رأى إسطفانوس ما جرى صاح: «وأنا يا دميانة، وأنا؟»
قالت: «إني أترك أمرك إلى سعيد؛ فإنه صاحب الشأن معك.»
فتقدم سعيد وقال: «إذا جاز لي يا مولاي أن أتكلم فإني ألتمس من مولاي أن يصفح عن إسطفانوس؛ فإنه فعل ما فعل بدافع الضعف الإنساني، ولا يجديني أن أراه يذوق العذاب ولا سيما وقد ظهر عليه الندم.»
فقال إسطفانوس: «نعم ندمت ومن ذا الذي يرى هذه الأخلاق العالية وهذه الصدور الرحبة ولا يندم؟ إني أحب أن أكون من أحقر أصدقائك.»
فقال: «دعنا من الصداقة، فقد صفحت عنك والسلام.»
فأشار ابن طولون إشارة سكت لها الجميع وأصغوا لما يقول فقال: «يسرني أنكم تصالحتم وسأؤيد هذا الصلح لاحتفال العرس الذي سأُقيمه بعد قليل بحضور الأب البطريرك.»
وفهم الحضورُ أنه يُريد الانصرافَ فنهضوا وإذا بصوتٍ خرج من طرف القاعة، فالتفت الجميعُ فرأوا سمعان النوبي، وكان واقفًا يسمع ما يقال، فلما سمع ما قاله زكريا عن أصله وأنه كان من جملة هدية ملك النوبة للمأمون؛ علم أنه أخوه الضائع وأحب أن يتصدى للكرم فلم يسعفه المقام، فظل صابرًا حتى فرغ القوم من المحاكمة، فتقدم وقال: «يأذن لي الأمير في كلمة، إني رسول ملك النوبة إلى البطريرك؛ لأحضه على ما حَضَّهُ عليه سواي من قبل، أما بعد أن شاهدت مِنْ عدلك وعظيم خلقك ما شاهدت؛ فإني أرى غير رأي ملك النوبة، وأنا عائد إليه لِأُثنيه عن عزمه، وأعيد العلاقة بينه وبين المسلمين إلى خير ما تكون.»
فقال ابنُ طولون غير مكترث: «لك ذلك.» وتحول، وخرج من بابٍ خاصٍّ في تلك القاعة، وبقي الحضور يتصافحون ويتصالحون والبطريرك يباركهم ويخفف عنهم فقَبَّلَت دميانةُ يد أبيها، فقبلها هو وبكى، ووعدها بأن يخرج من في منزله من السراري والجواري وأن يعيش لله ولها ويكون طوع إرادتها، وتقدم إسطفانوس إلى سعيد يستغفر ذنبه ويصالحه، فقال له: «ليس في نفسي شيءٌ منك، وقد صفحت عما فعلته، لكنني لا أميل إلى مصادقتك؛ لأن من كان لا يغضب لنفسه ولا يحفظ كرامتها لا يليق بالصداقة.»
فلما سمع إسطفانوس قوله كاد يذوب من الخجل، وتحول، وخرج وهو يبكي، فأشفق سعيد عليه وقال له: «إذا شئت أن نكون أصدقاء فأصغ لما يقوله أبوك؛ فإنه أطيب الناس قلبًا وأحسنهم خلقًا، فإذا عملت برأيه كنت من أصدقائنا.»
وأما سمعان فأكب على زكريا، وجعل يقبله ويقول له: «أخي إبراهيم! إبراهيم»
فبغت زكريا والتفت إلى سمعان وتفرس فيه وقال: «أخي سمعان، أخي حقيقة!» وتعانقا.
وكان أجمل منظر بين أولئك المجتمعين وأوقعه في النفس هو اجتماع سعيد بدميانة، فقد تخاطبا وتشاكيا طويلًا بلسان لا يفهمه سواهما، أعني: لسان العيون فضلًا عن الكلام، وطال وقوفهما وفرغ الآخرون من أحاديثهم وهما غارقان في حديث المحبين، فتقدم زكريا أخيرًا وقال «هل تريد مولاتي أن تخرج، وإلى أين؟»
فانتبهت لنفسها، وسألت سعيدًا فقال: «هل تأتون إلى قصري هنا؟» فخجلت دميانة من هذه الدعوة وأدرك زكريا خجلها فقال: «نذهب الآن إلى دير المعلقة؛ لأن سيدتي تحب الأديار، وأظن أبانا البطريرك نازلًا هناك؟» فأشار البطريرك أن نعم، فقال: «فنذهب إذن إلى هناك للتبرك، وريثما يأمر الأمير بعقد الزواج فنجتمع ونقيم بقصر المهندس الفرغاني.»
فصاح أبوها: «بل نُقيم بقريتها طاء النمل حيث تأمر وتنهى.»
ففرحت بكلام أبيها، ومشت هي وزكريا والبطريرك إلى دير المعلقة ومعهم سمعان، وذهب سعيدٌ إلى قصره ومضى إسطفانوس كاسف البال إلى أبيه يستغفره ويرجو عفوه، وبقي مرقس، فقال لابنته: «هل أرافقك إلى الدير؟»
فضحكت وقالت: «إن لهذا الدير فضلًا عليَّ؛ فقد بدأتْ متاعبي فيه، ولكن قد مضى ما مضى، فتعال معنا؛ فأنت أبي وسيدي.» فمشى معهم واحتفلت رئيسة الدير بقدومهم.
وبعد أيام أمر ابن طولون بإعداد معدات العرس لزفاف دميانة إلى سعيد، فبعث سعيد إلى صديقه أبي الحسن البغدادي، فأتى وقد فرح بما جرى، وبعثت دميانة إلى الأب منقريوس قسيس قريتها ليفرح معها فأتى، فزينوا القطائع كُلَّها بالأنوار والرياحين، وكان احتفالًا مثل احتفالات الملوك، وظَلَّ أهل الفسطاط يتحدثون به أعوامًا، وسكنت دميانةُ مع سعيد في قصره أيامًا، ثم انتقلا إلى طاء النمل، وسكنا في قصر أبيها أو قصر مارية القبطية، وكان أبوها قد أخلاه من السراري والجواري وجعله لائقًا بذينك العروسين الطاهرين.
وقضى مرقس بقية عمره يبذل وسعه في إرضاء ابنته وزوجها، وكان زكريا من أعظمهم سرورًا بذلك، وعاش بقية عمره معززًا مكرمًا، وأما أخوه سمعان فإنه رجع إلى بلاد النوبة؛ ليثني ملكها عن مناوأة المسلمين، فأفلح وعاد وأقام بطاء النمل، وأما الأب منقريوس — قسيس تلك القرية — فقد فرح بظهور الحق؛ لأنه كان من الذين شهدوا وصية مارية.