موكب ابن طولون
كانت دميانة تسمع ولا تعي ما يقوله زكريا؛ فإن ذهنها كان مشغولًا ولم تحول عينيها عن ميدان القصر عساها ترى الموكب يتأهب للخروج، أو عساها ترى سعيدًا واقفًا أو ماشيًا ثم رأت الأعلام تخفق والرجال يجتمعون فصاح زكريا: «هذا الموكب يتأهب.» وأشار إليها أن تنظر إلى باب السباع فرأت الناس يتزاحمون عنده والحرس يطردونهم لتخلو الأبواب لخروج ابن طولون وموكبه، فتطلعت إلى ما حولها فرأت الناس في الطرق وعلى أسطح المنازل يتدافعون لمشاهدة الموكب. أما هي فلم يكن يهمها من ذلك كله إلا أن ترى حبيبها راكبًا بجانب ابن طولون ليفرح قلبها، فثبتت نظرها بالباب وبعد برهة سمعت أصوات الطبول والأبواق تقترب حتى خرج أصحابها من باب السباع مشاة والناس يوسعون لهم الطريق. ثم أطلت أعلامُ ابن طولون وخرجت من البابين الجانبين يحملها رجال بألبسة خاصة. وظلت هي تحدق ببصرها في الباب الوسط الذي تنتظر أن يخرج ابن طولون منه.
ثم رأت طائفةً من الغلمان يخرجون من البابين الجانبيين صفوفًا وعليهم أفخر ما يكون من اللباس والعدة، وفيهم جمال باهر وقامات طويلة وبأس شديد وعليهم أقبية ومناطق ثقال وبأيديهم مقارعُ غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة ولهم هيبةٌ عظيمة. وكان زكريا يراقب ما يبدو من دميانة عند مشاهدة هؤلاء، فلما رأى دهشتها قال لها: «أتعرفين هؤلاء؟»
قالت: «هممت بأن أسألك. ولكنني خفت أن ألهو بسماع جوابك عن مرور الوالي.»
قال: «لا تخافي لم تأت ساعته بعد. وإذا خرج فإنه أمامنا. إن هؤلاء الغلمان كانوا لابن المدبر صاحب خراج مصر قبل مجيء ابن طولون، ولهم حكاية لطيفة تدل على علوِّ همة هذا الرجل. ذلك أن ابن طولون لَمَّا تولى إمارة مصر كان ابن المدبر صاحب الخراج عليها كما هو المارداني الآن. وكان ابن المدبر هذا شديدًا على الناس وفيه دهاءٌ، فأحب أن يكتسب ثقة ابن طولون أو يبتاع سكوته عن أعماله. فلما علم بقُدُومه خرج للقائه ثم بعث إليه هديةً قيمتها عشرة آلاف دينار فردها، وكان قد شاهد هؤلاء الغلمان في خدمة ابن المدبر، فطلب إليه أن يعوضه من الدنانير بهؤلاء الغلمان فلم يسعه إلا الامتثال فأرسلهم إليه، وأصبح من ذلك اليوم يخافه.»
وكانت دميانة تسمع لحديث زكريا وعيناها شاخصتان نحو الباب الأوسط، وإذا بالغلمان يتنافرون منه ثم أَطَلَّ ابن طولون على فرسه وعليه لباس الإمارة وقد تجلت الهيبة في محياه وبان التعقُّل في حركاته، وهو مع ذلك يلتفت إلى الناس ويبتسم وهم يتراكضون للتبرُّك بطلعته ولا سيما العامة وأهل الأسواق الذين يندر أن يُشاهدوه.
خرج ابن طولون من الباب وحده، فاختلج قلب دميانة تطلُّعًا إلى مَنْ يكون بعده. وإذا بفارس فتيٍّ عليه لباسٌ فاخرٌ وفي وجهه جمالٌ باهرٌ، تتجلى فيه دلائلُ الصحة والقوة، تحته فرسٌ من جياد الخيل وفي ركابه غلامان عليهما ألبسةٌ حمراء مزركشة قد شمرا سراويلهما عن ساقيهما، وكانت دميانة تتوقع أن ترى سعيدًا وراء ابن طولون فرأت هذا الفارس ولم تعرفه فسألت زكريا عنه فقال: «هذا خمارويه ابن الأمير وهو خير أبنائه وأعزهم ولا يغرنك صغرُهُ؛ فإنه شديد البأس ولُوعٌ بالصيد ولا سيما صيد السباع فلا يسمع بسبع إلا خرج إليه ومعه رجالٌ عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابة عنوة وهو سليمٌ، ثم يضعونه في أقفاص من خشب مُحكمة الصنع يسع الواحدُ منها السبع وهو قائمٌ، فإذا قدم خمارويه من الصيد سار إلى القفص وفيه السبع بين يديه وقد جمع في قصره كثيرًا من السباع.»
ولما بلغ زكريا إلى هنا لاحظ دميانة لا تعيره التفاتها؛ لأن عينيها شائعتان نحو الباب. ولا تسل عن لهفتها لَمَّا رأت سعيدًا مقبلًا على جوادٍ تعودتْ أن تراه مقبلًا عليه في طاء النمل وقد جاء بعد خمارويه بنحو مائتَي ذراع فلم تتمالك أن قالت: «سعيد؟ هذا هو سعيد!» ثم انتبهت لنفسها والتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدًا غير زكريا فاطمأن خاطرُها فقال لها زكريا: «هذا هو سيدي البطل.»
فقالتْ وعيناها تلمعان والفرح يطفح من قلبها: «زكريا هل تجد بين هؤلاء الفرسان أجمل من سعيد أو أقرب منه إلى القلب؟» ثم ندمتْ على هذه الخفة وتشاغلتْ بالمشاهدة وتتبعتْ مسيرَ الموكب نحو المغافر حيث بنيت العين ولحظت بعد أن خرج الموكب من الميدان وسار في الصحراء أن ابن طولون أشار إلى سعيدٍ، فأسرع إليه حتى حاذاه، وأخذا يتحدثان، فكاد قلبها يطير من الفرح، وأحست كأنها قبضتْ على السعادة بيدها.
وكان زكريا يُراقب ما يبدو منها ويفرح لفرحها وقلبه ينعطف إليها ويتمنى لها السعادة ولو بذل نفسه في سبيل ذلك. فلما رأى فرحها شاركها فيه لكنه لم يكن ممن يستسلمون لظواهر الأمور وقد علمته الأيامُ ألا يفرح بالآمال إلا بعد تحقيقها، ولكنه ساير دميانة ووجه التفاته إلى مسير الموكب نحو العين.
ولم تكن دميانة ترى من ذلك الجمع غير سعيد، تراعي حركاته وسكناته، وتحسب الذين حوله أشباحًا لا أجسام لها. ولَمَّا تباعد الموكبُ عنها وقفت ووقف زكريا، وأخذا يتطاولان لمشاهدة مسير القوم، فقالت دميانة: «إلى أين هم سائرون؟ إني أراهم بَعُدُوا كثيرًا.»
قال: «إلى العين يا سيدتي.»
قالت: «أين هي؟ إني لا أراها ولا أعرف محلها.»
قال: «ألا ترين المغافر هناك؟»
قالت: «أراها، لكنني لا أثبتها لبهرجة أشعة الشمس على صخورها.»
فتطاول بعُنُقه وتَفَرَّسَ في المكان، وقال: «ألا ترين تلك البقعة المرصفة بشكل مربع؟ إن الأشعةَ تتلاعبُ عليها، وتنعكس عنها.»
قالت: «نعم أرى البقعة وحولها الجماهيرُ من الناس.»
قال: «هؤلاء جماهير العامة ينتظرون وصول الموكب لِيَرَوُا الماء يجري ويفرحوا به، أو يشاهدوا الموكب وما معه من الأعلام أو لسماع الطبول والأبواق.»
وكان الموكب قد اقترب من المغافر حتى إذا دنا من المصطبة حول العين تراجع الناس وتقدم ابن طولون وحده وترجل عند ذلك سعيد ومشى بين يديه يريه هندسة البناء وكيف يجري فيه الماء فشاعت عينا دميانة لرؤيته وتعب بصرها من التحديق في أشعة الشمس ولكنها كانت ترى ابن طولون يجول بفرسه على المصطبة وسعيد يَظهر ويختفي وراء فرس ابن طولون.
وفيما هي في ذلك رأت ابن طولون هوى بجواده وسقط على الأرض، فسقط قلبها معه وصاحت بأعلى صوتها: «باسم المسيح باسم العذراء.» وخافتْ أن يقع الجوادُ على سعيد فيؤذيه على أنها ما لبثت أن رأت ابن طولون نهض وقد وقعت قلنسوته ثم أومأ إلى الجند فتسارعوا إلى سعيد وقبضوا عليه وشقوا ثيابه وتناول أحدهم سوطًا وأخذ يضربه ضربًا متواليًا. فأحست دميانة كأن الضرب واقع على رأسها، فلم تتمالك أن وقفت فجأة ولطمت وجهها بكفيها وهي تقول: «ويلاه ماذا يفعلون أيضربون سعيدًا آه. آه، ويلاه.» وأخذت فرائصُها ترتعد ونسيت موقفها.
وتحقق زكريا أنهم يضربون سعيدًا ولا فائدة من التكذيب، فأخذ يخفف عنها ويغالطها وهي تقول: «إني أراهم يضربونه وأشعر كأن ذلك الضرب واقعٌ على قلبي. ويلٌ لهم لماذا يضربونه؟ أهذا جزاء من أحسن عملًا؟»
فأمسك زكريا بيدها وأجلسها وقال: «تمهلي يا سيدتي ريثما نرى الحقيقة، ولا بد لذلك من سبب، كوني عاقلة صبورة مثل عهدي بك.»
ورأتهم بعد أن فرغوا من ضرب سعيد يشدون وثاقه ثم يسوقونه إلى المطبق، فكاد الدم يجمد في عروقها. على أنها لَمَّا رأته حيًّا يمشي هدأ روعها وكانت تخاف أن يموت من الضرب وتقدم زكريا إليها وطلب إليها أن تصبر حتى يبحث عن سببِ ما حدث. وأكد لها أن الأمل كبيرٌ في إنقاذ سعيد. ثم استأذنها في الذهاب فأذنت له ولكنها عادت فتراجعت وقالت: «لا. لا أبقى هنا وحدي فيأتي ذلك النذل. لا. لا. خذني معك. أرجعني إلى الدير. إنه أبقى لي من سائر المساكن.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فأحس زكريا كأن سهمًا اخترق أحشائه، ولكنه أراد تهدئة روعها فقال لها: «لا ينبغي أن يغلب عليك اليأس إلى هذا الحد.»
وفيما هو يهم بفتح الباب للخروج بدميانة سمعا وقع خطوات تقترب فاضطربت دميانة عند سماعها لعلمها أنها خطوات إسطفانوس، وأجفلت وتحولت وهي تود أن تلقي نفسها من نافذة الغرفة حتى لا تراه. ولكنها تجلدتْ ووقفت جامدة كالصنم وهي تُظهر أنها تنظر إلى السماء. وكان زكريا قد فتح الباب فدخل إسطفانوس وعلى وجهه دلائلُ السرعة والبغتة والبشر يتجلى فوقهما رغم ما حاول إظهاره من الأسف أو الاستغراب. وأحست دميانة عند رؤيته كأنها طُعنت في صدرها وقرأت الشماتة والانتقام بوضوح في عينيه وحول شفتيه فحولت وجهها نحو النافذة وأسندت رأسها إلى أحد الأساطين وجعلت تتلقى دموعها بمنديلها وتكتم البكاء.
استقبل زكريا إسطفانوس بالتحية وهو يريد أن يعلم منه شيئًا. فتقدم إسطفانوس إلى دميانة متلطفًا ودار حتى قابلها وجهًا لوجه، فلما رآها تبكي استغرب وقال: «ما بال دميانة تبكي؟ خيرًا إن شاء الله؟ هل تشعرين بألم؟ هل تشكين من شيء؟ قولي؛ فإني طوع أمرك.»
فلم تزدد إلا بكاء وحرقة؛ لأنها عدَّت تلطفه نكاية وتشفيًا، وظلت ساكتة فتحول إسطفانوس نحو زكريا وقال: «ما بالها؟ قل لي يا زكريا لأن أمرها يهمني — كما تعلم — أين المعلم مرقس؟ ما سبب بكائها؟»
فقال زكريا: «لا أعلم السبب وإنما أعلم أننا ونحن نشاهد الموكب وجماهير الناس رأيتها أطلقت دموعها وسألتها عن السبب فلم تُجبني. وكنا عازمين على الذهاب إلى الدير عسانا أن نرتاح من التعب.»
فالتفت إليها وهو يحك عثنونه وقال: «أخشى أن تكوني شاهدت ما أصاب جارك المسكين فتكدرت مراعاة لحق الجوار.»
فلما سمعت كلامه المملوء بالشماتة واللؤم همت بانتهاره وتوبيخه، ولكن رغبتها في الاطلاع على السبب حملها على السكوت فتظاهرت بأنها لم تسمع شيئًا. وقال زكريا: «أي مسكين تعني يا سيدي؟»
قال: «أعني جاركم سعيدًا المهندس، ألم تشاهدوا ما فعلوه به؟»
قال: «ماذا فعلوا؟»
فضحك وهو يختلس النظر إلى دميانة يراعي ما يبدو منها وهي تتشاغل بمسح دموعها وإصلاح ثوبها، فقال: «بعد أن كان الوالي عازمًا على مكافأته بالجوائز والهبات أمر بجلده خمسمائة سوط، وساقوه إلى المطبق مقيدًا بالأغلال.»
فأظهر زكريا أنه لم ير شيئًا من ذلك وقال: «ولماذا؟ ما سبب هذا الغضب.»
قال: «إنهم كشفوا مكيدة دبرها لقتل ابن طولون!»
قال زكريا: «مكيدة؟ وأي مكيدة؟»
قال: «بينما كان ابن طولون راكبًا لمشاهدة بناء العين وصل جوادُهُ إلى مكان يوهم الناظر إليه مرصوف، فأقبل إليه ووقف عليه فإذا هو قصرية جير فغاصت رِجْل الجواد فيه لرطوبة الجير، فكبا وسقط ابن طولون في الجير. فعلم أن سعيدًا تعمد ذلك لقتله. فأمر به فشقوا ثيابه وضربوه خمسمائة سوط، ثم ساقوه معلولًا إلى المطبق. ولا ندري ما يكون أمره في الغد.»
فلما سمعت قوله وعرفتْ شماتته نظرت إليه، وقالت: «إن سعيدًا لا يرتكب مثل هذه الخيانة ولا بد في الأمر من خطأ.»
فرفع إسطفانوس كتفيه وقال: «لا أدري أخطأٌ أم صواب، وإنما أعلم أن ذلك المسكين السيئ الحظ قد ضرب خمسمائة سوط وسيق إلى المطبق. أصبح الأمل في حياته ضعيفًا. حقًّا إن حالته تدمي القلب! وإذا كنت تبكين لحاله فلا ألومك. مسكين!» قال ذلك وهو يهز رأسه ويُظهر الأسف.
فرأت دميانة أنه يتعمد الحطَّ من قدر سعيد بوصفه بالبائس المسكين، فتحول حزنها عليه إلى تحمس له، وقالت: «لا أراه في حاجة إلى هذا التأسف؛ فإن براءته لا تلبث أن تظهر فيعود إلى الحظوة عند صاحب مصر. ولم يفعل ابن طولون ما فعله إلا في سورة غضب طارئ.»
قالت ذلك وهي ترتعد ولم تستطعْ صبرًا على الوقوف، فتحولت نحو الباب وتحول زكريا معها. فقال إسطفانوس: «هل أذهب معك إلى الدير؟ ألا ترين أن الأجدر أن تأتي معي إلى منزلي، وهو أقرب من الدير؟»
فلم تجبْه وظلت ماشية، ومشى زكريا في أثرها وإسطفانوس يتبعها قائلًا: «أظن دميانة تستطيل الطريق إلى بيتنا وإن كان قصيرًا. ولكني أرجو أن يقصر في عينيها وذلك خير لها من أن يكون طويلًا فتتعب في سلوكه؛ إذ لا بُدَّ لها من الذهاب إليه.» قال ذلك وضحك استخفافًا بغضبها ونفورها. فأدركت أنه يشير إلى قرب زواجه بها. فظلت ساكتة وهي تمشي وزكريا معها حتى خرجت من قبة الهواء فلقيت أباها عائدًا. فلما رآها تبكي علم سبب بكائها فاستوقفها فوقفت وسلمت عليه وهي تتظاهر بالصداع في رأسها وبأنها تحتاج إلى الراحة فقال: «لا بأس عليك. تعالي ننزل في بيت المعلم حنا إنه أقرب من دير المعلقة.»
فقال زكريا: «إنها ترتاح في الدير لاستئناسها بالراهبات.» فوافقهما مرقص فانصرفا ودخل هو لملاقاة إسطفانوس فقص هذا عليه ما دبره ودسه وأن قصرية الجير إنما وضعت هناك بمساعيه حتى قبض على مناظره وزَجَّ به في السجن. فهَنَّأَه مرقس بالفوز وأخذا يفكران في الإكليل على أمل أن دميانة لا بُدَّ لها من الإذعان لرأي أبيها بعد أن يئست من سعيد.
وحينما وصلت دميانة إلى الدير سارت إلى غرفتها لتبديل ثيابها. ومكث زكريا ينتظرُ خروجها ليخفف عنها ويفكر معها في وسيلة للنجاة من الفخ، فما إن خرجت حتى سارت توًّا إلى الكنيسة للصلاة ملجأ الحزانى وتعزية المنكوبين وإذا لم يكن في الصلاة غير التعزية لَكَفَى بها متسعًا لآمال المؤمن في ساعة ضِيقِهِ وحزنه. وقد صدق جمال الدين الأفغاني إذ قال: «إن الذين يسلبون العامة إيمانهم إنما يحرمونهم من أكبر أسباب سعادتهم.»
ودخلت دميانة الكنيسة وجثت أما أيقونة العذراء وقلبها يذوب أسًى مما حل بها من النوائب، وأخذت تصلي بإيمان وثيق وتتضرع إلى صاحبة الأيقونة أن تأخذ بيدها وتنجيها من الحبائل التي تصبو لها.
وكانت تصلي ودموعها تتساقط من مكائد الدساسين، وطلبت أن يلهم أباها الصواب؛ لعله يرجع عن إكراهها على الزواج بإسطفانوس إلى أن قالت: «اللهم إني ضعيفةٌ وهم أقوياء اللهمَّ ألهمني ما فيه مرضاتك، إني لا أُحب إسطفانوس فهل في ذلك معصية؟ إذا كنت تراني على خطأ فأرني خطئي. إن سعيدًا رجلٌ صالحٌ فإن كنت مخطئة فأرنيه كما هو وأبعده عن قلبي.» وكانت تقول ذلك بحرارة وهي تشرق بدموعها وليس في الكنيسة أحد يسمعها.
وسكتت هنيهة ثم قالت: «ربي وإلهي إني ما أزال أرى سعيدًا هو النصيب الذي أعددته لي فإن كان الأمر كذلك فأنقذه مما وقع فيه اللهم كما أنقذت مختاريك غَيِّرْ قلب ابن طولون حتى ينصفه، أتوسل إليك بدم السيد الفادي الذي تجسد من أجلنا، إني فتاةٌ مسكينةٌ مظلومةٌ مقصوصة الجناحين، خذ بيدي ألهمني ما أعمل وكيف أصرف أمري أَنِرْ طريقي إني لا أُريد معصيتك ولا أبتغي إلا رضاك.» وسكتتْ تمسح دموعها.
فشعرتْ بارتياحٍ عظيمٍ كأن هاتفًا قال لها: «لا تخافي يا دميانة إن الله لا يتركك.» فنهضتْ ومسحتْ دموعها وتحولتْ إلى باب الكنيسة، فرأت زكريا واقفًا وقد أطرق وبان الحزن في وجهه فلما وقع نظرها عليه ابتسمت وأشرق محياها وقد اطمأن بالها وذهبت أحزانها.
فأدرك زكريا أن ذلك كله من أثر الصلاة، فاقترب منها مبتسمًا وقال لها: «اتكلي على الله يا سيدتي؛ فإنه نصير المظلومين.»
فمشت وهي تقول: «ليس لي غيره فهو نعم الوكيل. إنه لا يتركني ولا يتخلى عني.»
فماشاها زكريا خطوتين وقال لها: «لي ما أسره إليك على انفراد.»
فمشت إلى غرفتها وأدخلت زكريا وقالت: «قل ما تريد.»
قال: «أريد منك أن تثقي بي وأن تعملي ما أقول.»
قالت: «أنت تعلم منزلتك عندي، فليس لي أحدٌ سواك يا زكريا. أنت في مقام الوالد والوالدة والأخ والأخت. إن ما أُشاهده من حنوك ومحبتك لي في ضعفي لَشاهدٌ صريحٌ على أن الله لم يَتَخَلَّ عني. قل ما تشاء.»
قال: «إن أباك لا يلبث أن يأتي. وأظنه سيستعجل الزواج، فإذا أظهرتِ له النفور والمقاومة …»
فقطعت كلامَه قائلة: «وهل تريد أن أُطيعه؟»
قال: «كلا. ليس هذا ما أريده، ولكنني أريد ألا تصديه بعنف وإنما حديثه باللين. وإذا أصر على موقفه منك فلا تخشي شيئًا. وثقي من النجاة بواسطة ما سأُشير به عليك.»
وهَمَّ بأنْ يتكلم، ثم أمسك نفسه كأنه تذكر شيئًا يمنعه بأن يبوح بضميره، فأدركت تردده وأحبت أن تعرف ما خطر له فقالت: «ما بالك توقفت عن الكلام؟»
قال: «لم أتوقفْ، ولكن لكل أمر وقتًا.»
قالت: «لا صبر لي على الانتظار أخبرني عما خطر لك لعله يخفف عني.»
قال: «نعم إني لم أطلب إليك الصبر إلا ريثما يصل إلينا النصير.»
قالت: «وأي نصير؟ من ينصرنا على هؤلاء؟»
قال: «ينصرنا عليهم أبونا البطريرك. أليس كذلك؟»
ففرحت بهذه الفكرة وقالت: «وأنى لنا الوصول إليه وهو بعيد؟»
قال: «لا نعدم رسولًا إليه وقد فعلت ولم أتلق الجواب بعد ولا بد من وصوله عما قريب. فلا ينبغي لك أن تيأسي.»
فأشرق وجهُها واطمأن بالها، وقالت: «سأفعل كل ما تشير علي به.»
قال: «هل تطيعيني، وتذهبين معي إلى حيث أريد؟»
قالت: «نعم.»
وفيما هما في ذلك سمعا وقع أقدام عرفت دميانة أنها خطواتُ أبيها ثم سمعا سعاله فتركها زكريا في الغرفة وحدها وانصرف.
جلست دميانة تنتظر أباها، فطال انتظارها ولم تعد تسمع صوته فهَمَّت بالنهوض وإذا بالرئيسة قادمة نحوها، فوقفت لها وحَيَّتْها فقالت الرئيسة: «إن المعلم مرقس وسيدنا الأسقف أتيا وسألاني عنك. هنيئًا لك ما أكبر حظك من سيدنا فإنه يحبك ويرعاك.»
فظهر الامتعاضُ في وجهها، وحدثتها نفسها بأن تتجنب المقابلة. ثم تذكرتْ نصيحة زكريا فسكتت ولم تجب. فعادت الرئيسة إلى الكلام قائلة: «أراك لم تسري بالبشرى كأن لا تريدين أن تكلمي أحدًا منهما، فهل تأذنين لي في كلمة أقولها؟»
قالت: «قولي.»
قالت: «لاحظت أمرًا فيك لم أكن أتوقعه من فتاة عاقلة تقية قد فهمت كتاب الله وعرفت واجبات المسيحيين.»
فاستغربت دميانة ما تسمعه منها ولم تفهم مرادها فقالت: «أرشديني يا أُمَّاه إلى الصواب.»
قالت: «الصوابُ يا دميانة في ألا تُغضبي أباك؛ لأن الله يوصينا بإكرام الوالدين.»
فكان لكلام الرئيسة وقعٌ شديدٌ في نفسها لعِظَم تقواها، فقالت: «إني لم أُغضب أبي، وبماذا أغضبه؟»
قالت: «علمت شيئًا من قرائن الأحوال. علمت أن أباك يريد زواجك بأحد أبناء الخاصة وأنت ترفضين.»
قالت: «أتحسبين الفتاة التي ترفض الزواج عاصية؟»
فقالت الرئيسة: «نعم، تكون عاصية إلا إذا كانت تريد أن تنذر العفة وتنقطع عن العالم.»
قالت: «وما أدراك أني لا أنوي ذلك؟ لا يبعد أن أنويه عن قريب.» ثم تذكرتْ قول زكريا فاستدركت وقالت: «ومع ذلك فإن هذه الأُمُور لا تكون إلا بإلهام من الله والسيد المسيح، فإذا أراد الله أمرًا فلا مفر من إرادته.»
فتوسمت الرئيسة من كلامها ميلًا إلى الخضوع، فأكبت عليها وقبلتها، وقالت: «بارك الله فيك هذا عهدي بتقواك وطيب عنصرك والآن قد أتى أبوك ومعه سيدنا الأسقف، وهما في انتظارك بغرفتي، فقومي معي لتقبلي يد الأسقف ويد أبيك.»
قالت ذلك وأمسكتها بيدها، فأطاعتها ومشت والرئيسة تحسب نفسها أقنعتها.
فلما دخلتْ عليهما تقدمت توًّا إلى يد الأسقف فقبلتها، ثم قبلت يد أبيها فقبلها مرقس ورحب بها وبالغ في إكرامها ودعاها إلى جانبه وقد اطمأن خاطره، وقال: «اقعدي هنا يا دميانة يا ولدي.»
فقعدت على الطنفسة بجانبه مطرقة وقد صبغ الحياء وجهها فضلًا عن احمرار عينيها من البكاء، ولذلك كانت تحجبهما بالإطراق. ولما جلست خاطبها الأسقف قائلًا: «لقد سرني يا ولدي ما عقدتم النية عليه، وفي صباح الغد نأتي — إن شاء الله — لعقد الإكليل.»
فأجفلت دميانة لهذه المفاجأة ولم تكن تتوقع أن تسمع هذه العبارة فبالغت في الإطراق وبان فيها الحياء ولم تجب، فاستأنف الكلام قائلًا: «إني تعودت هذا السكوت من العرائس فإنهم لا يُجبن عن كلامنا إلا بالصمت. على أني لا أنتظر منك غير القبول ولو بالسكوت؛ فإن من كانت في مثل ما أنت عليه من التقوى وحُسن التربية لا تُمانع في أمر يريده أبوها ويتوسط فيه رئيس كنيستها ولكني أُجِلُّ قدرك وأحب أن تكوني مسرورة بالنصيب الذي اخترناه لك ويكفي أن تُظهري رضاك بالسكوت.»
وكانت دميانة تسمع كلامه وهي تكاد تتميز من الغيظ، وأرادت أن تستمهل الإكليل كما أشار عليها زكريا، فلم تجرؤْ على الكلام حياءً وخوفًا، وحدثتها نفسها بأن ترفض بتاتًا وتكاشف أباها بذلك صراحةً، فغلب عليها الخوفُ والحياء؛ لأنه لم يكن يشجعها على أن تفضي إليه برأي أو رغبة، وشعرت بأن كلامها لا يُفيد شيئًا، فأمسكت وظلت ساكتة فاتخذ أبوها سكوتها دليلًا على القبول، وظن أن مصير سعيد وقطعها الأمل منه جعلاها ترضى بإسطفانوس، فقال مخاطبًا الأسقف: «لم أكن أشك في طاعة دميانة لأبيها ولحضرة الأسقف، ولكن بعض الناس كان يزين لها الباطل وهذه هي قد رجعت إلى الصواب، وكل ذلك بتدبير العناية.»
فقال الأسقف: «قد تفضل دميانة أن تُقام الأفراح في بيت أبيها، وستُقام لها هناك أيضًا وإنما أردنا عقد الإكليل في الكنيسة الآن؛ لما لها من الكرامة وأحب أن أتولى عقد ذلك بنفسي؛ تقديرًا لمقام العريس وأرجو أن يكون عملنا مباركًا.»
قال ذلك ووقف فوقف مرقس احتفاءً به ووقفت دميانة فقال لها أبوها: «قبلي يد الأسقف واشكريه على عنايته.»
فقبلت يده فقبل رأسها وخرج وخرجت الرئيسة لوداعه مع مرقس ثم عادت وهي تضحك ضحك الفوز بما كانت تتمناه وضمت دميانة إلى صدرها وقالت: «ويظهر أن كلامي أثمر فيك.»
وكان مرقس قد عاد من وداع الأسقف فقال لدميانة: «بورك فيك يا بنية ذلك عهدي بك من أول الأمر، وسأذهب لتجهيز معدات الاحتفال وفي صباح الغد أعود إليك ونفرح معًا.» قال ذلك وخرج.