فرار دميانة
أخذت دميانة تفكر فيما سمعته، وكانت تتوقع أن ترى زكريا لتقص عليه ما جرى، فلم تجده فقضت بقية يومها في انتظاره.
أما مرقس فسار توًّا إلى إسطفانوس وأخبره بقبول دميانة فقام في ذهنه أنها لم تقبله إلا بعد يأسها من سعيد فعَزَمَ على الانتقام منها لاستخفافها به، وهذا هينٌ عليه بعد أن تُصبح في عصمته وليس ما يثنيه عن إتيانه مروءة أو أريحية، فإن هذه السجايا لا معنى لها عنده. واشترك مع مرقس في إعداد معدات الفرح من الشموع والزهور وغيرها، وأرسلاها إلى الدير.
وأخذت رئيسة الدير في تهيئة ما يلزم لتزيين العروس في الصباح، وبات أهل الدير على أن يصبحوا في اليوم التالي فيحضروا الإكليل ويسمعوا الترانيم.
وكانت الرئيسة أكثر رغبة في ذلك؛ لأنها كانت تُحب دميانة خصوصًا بعد أن أسدت إليها نصحها، وظنت أنها أصغتْ لقولها فعدت ذلك احترامًا لها. فلما طلع النهار مشتْ إلى غرفة دميانة لتدعوها إلى الاستعداد وتريها ما حملوه إليها من مواد الزينة، فرأت باب الغرفة مغلقًا فقرعتْه فلم يجب أحد فظنتها نائمة، فرجعت مؤثرة تركها حتى تستيقظ، ثم رأت أن الوقت لا يسمح بذلك فعادت وقرعت الباب ثانية فلم يجبها أحد فوقفت تفكر وإذا بالمعلم مرقس قد جاء فسألها عن دميانة فقالت: «ما تزال نائمة.»
فتقدم إلى الباب وفتحه ودخل والرئيسة معه فلم يجدا في الغرفة أحدًا ولم يجدا في الفراش ما يدل على أن دميانة نامت فيه ليلتها.
فقال مرقس: «يظهر أنها لم تنم هنا فلعلها نامت في غرفة أخرى.»
فقالت الرئيسة: «هذه غرفتها تنام فيها منذ آنستنا. فهل غيرتها الليلة؟» قالت ذلك ومشت إلى غرفة أُخرى كانت تجلس فيها في بعض النهار فلم تجدها. فأخذت تسأل عنها الراهبات وهن يفتشن معها حتى أعياهن البحث دون الوقوف على أي أثر لها. وسألوا الخدم عن زكريا فذكروا أنهم لم يروه منذ مساء الأمس، فاستقدموا البواب وسألوه فقال: «إن السيدة دميانة خرجت مساء أمس إلى كنيسة أبي سرجة؛ لأن عليها نذرًا لها قد آن وفاؤُهُ وقد خرج معها خادمها.»
فصدقت الرئيسة ذلك لسلامة نيتها، وظنت النذر يتعلق بزواجها ولم تبق فرصة لتأجيل وفائه. أما مرقس فلما سمع ذلك رجع إلى الغرفة وفتش في ثياب ابنته وأشيائها، فرآها قد أخذت ما خف حمله وتركت ما تستغني عنه فقال: «لقد هربت مع النوبي اللعين. ولا شك في أنه عاد فأغراها بالفرار. ولكن إلى أين يَفِرَّان؟ إن الفسطاط وبابلون والقطائع في قبضة إسطفانوس وأبيه.»
فقالت الرئيسة: «لا تتعجلْ يا سيدي لعلها ذهبت إلى كنيسة أبي سرجة حقيقة. وهي على مسافة قصيرة من هنا.»
قال: «اسألي إذا شئت. ولكنني على يقين من فِرارها. فلو أنها ذهبت لزيارة أو نذر لَمَا أخذت معها ثيابها وحليها، وهل تبيت هناك وتبقى حتى الآن وقد دخلنا في الضحى؟ إن ذلك النوبي اللعين أغراها بالفرار. ولكن …» قال ذلك وهو يهز رأسه ويتوعد وخرج لساعته يقصد إسطفانوس. فألقاه لدى الباب وكان قادمًا للاشتراك في معدات العرس فقص عليه ما جرى وختم قوله متوعدًا زكريا؛ لأنه أغراها. فأجاب إسطفانوس: «لا تحمل الذنب ذلك النوبي. إنها كما أعهدها. وسأريها من هو إسطفانوس وخادمها الأسود معها أيضًا — دعني أذهب لأتدبر ذلك.»
وخرج مرقس معه فسارا توًا إلى القطائع واشتكيا إلى صاحب الشرطة من أن خادمًا سرق ابنة المعلم مرقس وفر بها وطلبا منه أن يرسل من يبحث عنها في الأديرة والكنائس وغيرها.
وخف صاحب الشرطة إلى إجابة الطلب مراعاة لمنزلة المعلم حنا، فبث الرجال في أنحاء الفسطاط ولا سيما في أحياء النصارى؛ لاعتقادهم أن دميانة وزكريا لا يجدان ملجأً في غير الأديرة أو الكنائس أو بعض مساكن القبط من الأهل أو الأصدقاء.
فأصبح الأقباطُ في ذلك اليوم وهم يرون الجند وغير الجند يدخلون منازلهم للتفتيش، وأكثرهم يتخذون تلك الحجة ذريعةً لدخول المنازل أو الكنائس أو الأديرة لينهبوا ما تصل إليه أيديهم من المال أو الأثاث، فضج الناس وعلا الصياح وأخذ القوم يتساءلون: «هل عاد زمن الظلم والاضطهاد والنهب والقتل.» وكانوا يحسبون أن ابن طولون قد كفاهم مئونة ذلك ونشر الراحة والطمأنينة في ربوعهم وأَمَّنَهم على أرواحهم وأموالهم ولم يقنعهم ما كان يقوله الشرطة من أنهم يفتشون عن سارق هرب واختبأ، فإنهم كثيرًا ما كانوا يُقاسون الاضطهاد والنهب بهذه الحجة.
وكان مرقس وإسطفانوس يرافقان الشرطة إلى بعض الأماكن القريبة التي يظنان أن دميانة لجأتْ إليها ويحرضان الجند على التفتيش وهؤلاء لا يبالون إلا النهب فقاسَى الأقباط في الفسطاط وبابلون وضواحيها من العذاب والاضطهاد والخوف ما لم يقاسوه من عهد بعيد. فوقع الرعب في قلوب الناس وركب بعض وجوههم إلى ابن طولون يشكون إليه ما أصابهم فغضب وبعث إلى صاحب الشرطة أن يرجع رجاله عن التعدي ففعل ولم يقفوا على أثر لدميانة وخادمها.
•••
كانت دميانة قد فرت مع زكريا إلى مكان أعده لها أثناء غيابه عنها في أصيل اليوم السابق؛ وذلك أنه لما رأى أباها والأسقف قد أخذا في مخاطبتها علم أنهما أتيا لإتمام الإكليل، فذهب إلى صديقٍ حميمٍ له من أهل بلدته كان قد اعتنق الإسلام وأقام بجوار المسجد الذي بناه ابن طولون على المقطم قبل بناء مسجده المشهور. وإنما اختار هذا المكان؛ لبُعده ولعلمه أن الشرطة لا تبحث عنهما في المسجد وعاد إلى دميانة في المساء وأخبرها أن لا بُدَّ من الفرار، فأخذت أعز ما لديها وخرجا في العشاء من الدير بحجة زيارة كنيسة أبي سرجة — كما تقدم — وكان زكريا قد أعد جوادًا لدميانة وركب هو حمارًا حتى إذا خرجا من المحلة ألبسها عباءة وجعل على رأسها غطاء يشبه العمامة مما جعلها تظهر بمظهر الرجال. وساق حماره أمامها حتى نزلا المكان المعهود، فتلقاهما صاحبه بالترحاب.
وباتا ليلتهما وفي الصباح لبثا ينتظران ما يكون فما لبثا أن سمعا بمجيء الجُند ودخولهم منازل النصارى لنهبها بحجة التفتيش عن ضائع أو هارب. وأطل زكريا على الطُّرُق فرأى الجند يدخلون البيوت بالقوة فخاف أن يصل أحدٌ إلى مقره، فرأى من الحكمة الانتقال إلى مكان آخر.
وكان له صديقٌ عربيٌّ في حلوان اسمه «قعدان» أصله من أهل البادية ويقيم بمنزل وهبه عبد العزيز بن مروان لأجداده منذ وجه عنايته إلى تعمير تلك البلدة في أثناء إمارته على مصر. وانتقل ذلك المنزل في أعقابه إلى رجل عرفه زكريا من سنين عديدة وله معه صداقة وثيقة العرى، فرأى أن يلجأ إليه؛ ولا سيما لأنه يقيم مع عائلة فيها أمه وامرأته فتستأنس دميانة بهما، فإذا غاب عنها في مهمة كان مطمئنًّا عليها، فودع صاحبه وركب مع دميانة إلى حلوان عبر الصحراء، وقالت له دميانة: «تراني يا زكريا قد سلمت قيادي إليك أذهب معك حيث تريد لا أسألك عن السبب.»
قال: «كوني على يقين يا سيدتي أني أتفانى في سبيل راحتك، ولا تجزعي؛ فأنا ساعٍ في كل ما يرضيك.»
قالت: «إلى أين نحن ذاهبون الآن؟»
قال: «إلى حلوان، وهو بلد طيبُ الهواء بعيدٌ عن مظان الباحثين، وسترين هناك عائلةً تستأنسين بها وترتاحين إليها؛ فإنها عربية بدوية.»
قالت: «وبعد ذلك؟»
قال: «بعد ذلك؟» وأطرق ثم قال: «إن الفرج سيأتينا ولا بد من انتظاره ولا بد لي — على كل حال — من الغياب عنك يومًا أو يومين لأمر لا بُدَّ لي من قضائه، ثم أعود إليك، وعسى أن أبشرك بالفرج بعد قليل.»
قالت: «تتركني وتغيب عني يومين؟»
قال: «لا مندوحة لي عن ذلك؛ لأني ذاهبٌ في مهمة يتوقف عليها نجاحُنا وبها نتغلب على أعدائنا، ولا بأس عليك عند أصحابنا في حلوان.»
فسكتتْ، وبعد قليل أطلوا على حلوان ولم يكن فيها إلا بيوتٌ قليلةٌ فيما مضربًا على أكمة وله حديقة، فترجل زكريا ومشى إلى الخيمة وقبل وصوله شعر صاحبُهُ بقدومه من نباح الكلاب، فخرج إليه ولما تبينه بَالَغَ في الترحيب به، فقال له: «نحن مسافرون إلى الصعيد وأحببنا التعريج عليكم؛ لشوقي إليك ومعي سيدة أنا ذاهب في خدمتها، فنبيت عندكم الليلة ثم ننصرف.»
فصاح الرجل بأولاده أن يُنزلوا الضيفين، وقال: «بل تقيمان عندنا أيامًا.»
ونزلت دميانة فرحبت بها امرأةُ الرجل وحَيَّتْها واستأنست بها، ولا تسل عن ضيافة العرب وحسن وفادتهم، وكانوا يكلمونها بالعربية وتكلمهم بها عن ضعف، وفي اليوم التالي قال زكريا لمضيفهما: «إني عازم على الذهاب في مهمة عاجلة.» وأوصاه بدميانة فأجابه: «نفديها بأرواحنا فهي الآن ربة المنزل ونحن أضيافها.»
وقبل ذهابه خلا بدميانة وأخبرها أنه ذاهبٌ في مهمة لا بُدَّ منها ويعود بعد يومين وسألها: «هل استأنست بأهل المنزل؟» فقالت: «لم أكن أظن العرب على هذه الأخلاق؛ إذ لم أكن أسمع إلا انتقادًا لأعمالهم فإذا بهم أهل كرم ولطف.»
فقال: «إن العربي يا مولاتي إذا نزلت بداره حق عليه — بحكم العادة المتبعة — أن يدافع عنك بنفسه وأهله ويفديك بروحه وهو ما يسمونه في اصطلاحهم حق الجوار. فإذا أتى جند ابن طولون كلهم لا يقدرون أن يأخذوك أو يأخذوني من عنده وهو حي؟ إنه يقاتل دوننا حتى يموت أو ينقذنا، أقول ذلك لأزيدك طمأنينة، فأنت في هذا الخباء آمن منك في حصن حصين، فاسمحي لي بالذهاب وسأعود قريبًا.»
وبرغم ما سمعته من بواعث الطمأنينة انقبضتْ نفسها عندما تحققت عزمه على الذهاب، فأخذ يشجعها ويعتذر من اضطراره إلى الذهاب إلى أن قال: «وعلى غيابي هذا تتوقف سعادتك في المستقبل وبه نغلب أعدائنا.»
فقالت: «إذا لم يكن بد من ذلك فافعل اطلب من الله أن يكون معك والسيد المسيح يحرسك ويوفقك.»
فوَدَّعَها وخرج. وأحست بعد خروجه بوحشة الوحدة وتذكرت أباها وبيتها وكيف أصبحت طريدة شريدة بعد أن كانت ربة منزلها في طاء النمل وحولها الخدم والحشم ولم تكن تعلم هل تعود إلى الدار أم لا؟ على أن «قعدان» وأهل بيته لم يتركوا لها فرصة للاستيحاش، فكانوا يبذلون وسعهم في سبيل راحتها — صغيرهم وكبيرهم.
أما زكريا فتنكر وركب حمارًا حتى إذا بعُد عن الفسطاط ركب زورقًا قصد به إلى «طاء النمل»، وإنما اختار الزورق لسُرعة جريه مع تيار النيل. فلما أشرف على القرية لبس ثيابه واتجه إلى بيت المعلم مرقس كأنه قادمٌ من قبله في مهمة خاصة. وكان إذا دخل المنزل لا يجسر أحد من أهله أن يسأله عما يريد لانطلاق يده في شئون البيت. فلقيه الخدم والنساء، فسألوه عن المعلم مرقس فأخبرهم بأنه مقيم بالفسطاط يقضي مع دميانة أيامًا، ثم دخل غرفةً يعرفها وأغلق بابها وفتح صندوقًا أخرج منه أنبوبًا من الفضة مختومًا هَزَّهُ حتى تحقق مما في داخله ثم خبأه في جيبه وخرج.
ومر بيت أبي الحسن، فوجده خارجًا من منزله ليتمشى في الحديقة على جاري عادته. وآنس في وجهه انقباضًا فعلم سبب انقباضه، ولم يكن يشك أنه كان في جملة الذين شهدوا الاحتفال بالأمس، وأنه شاهد ما أصاب سعيد وهو يعلم أنه بمنزلة ولده، فتقدم نحوه فلما رآه أبو الحسن تحول إليه، فتقدم زكريا وهَمَّ بتقبيل يده فمنعه ورحب به وسأله إذا كان مولاه قد أتى معه، فقال: «كلا يا سيدي إنه لا يزال في الفسطاط أظنك كنت هناك.»
فهز أبو الحسن رأسه بمرارة، وقال: «نعم كنت هناك وقد رجعت أمس.»
قال: «هل شاهدت ما أصاب سعيدًا؟»
قال: «نعم شاهدت ذلك المنظر المؤلم. ولكنهم سوف يندمون.»
ففرح زكريا بتلك البشرى؛ لعلمه أن أبا الحسن لا يلقي القول جزافًا فقال: «صحيح؟ بشرك الله بالخير.»
قال: «نعم إنهم سيندمون؛ لأنهم لا يجدون من يغنيهم عن سعيد؛ إذ ليس في هذه البلاد من يضارعه معرفة بالهندسة.»
قال: «ولكنهم ساقُوه إلى السجن.»
قال: «ليس السجن عارًا على الرجال إنهم لا يلبثون أن يخرجوه معززًا مكرمًا.»
قال: «وكيف ذلك، ومتى؟»
فتقدم نحوه وقال: «إن ابن طولون عازمٌ على بناء جامعٍ كبيرٍ في القطائع، ولن يجد من يحسن هندسته غير سعيد.»
فقال: «وهل يعرف ابن طولون ذلك؟»
قال: «لا يلبث أن يعرفه متى احتاج إليه.»
فأطرق زكريا كأنما فتح عليه باب الفرج، ثم ودع أبو الحسن وانصرف، فركب جوادًا من جياد مرقس وطلب الفسطاط. فلما أَطَلَّ عليها ترك الجواد في خان وحدثتْه نفسه بأن يسير توًّا إلى حلوان؛ لمشاهدة دميانة، لكنه أحب أن يتمم ما جال في خاطره أولًا، ثم يعود إليها بالبشارة.