صدقات ابن طولون
تنكر زكريا بلباس الفقراء المتسولين، ومشى إلى القطائع، واتفق وصولُهُ إلى قصر ابن طولون في ساعة تفريقِ الصدقات.
وكان لابن طولون في الإحسان يومٌ مشهورٌ، يعرف بيوم الصدقة تفتح فيه أبواب القصر كلها لا يمنع داخل ولا يرد سائل. وكانت صدقاتُهُ على أهل الستر والفقراء وأهل التجمُّل متواترة. وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفَي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أُقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس في القدور من الفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة، في اثنين منها فالوذج والاثنان الآخران على القدر.
وكانت تعمل في داره وينادى: «من أحب أن يحضر طعام الأمير فليحضر.» وتُفتح الأبواب فيدخل الناس الميدان وابن طولون في مجلسه الذي يشرف منه عليهم، فينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون أو يحملون فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرة إبراهيم بن قراطغان — وكان على صدقاته: «أيد الله الأمير إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشًا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم.» فقال: «يا هذا كل من مد يده إليك فأعطه؛ فهذه هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله — سبحانه وتعالى — في كتابه، فقال: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.» فاحذر أن ترد يدًا امتدت إليك، وأعط كل من يطلب منك.»
فلما وصل زكريا إلى القصر رأى ابن طولون جالسًا في مقعده وعليه قلنسوته وقباؤه وقد تهلل وجهه سرورًا بما يشاهد من آثار نعمته على الناس. وكان زكريا قد عزم أن يطلب مقابلته ليخاطبه رأسًا، فعلم ألا سبيل إلى ذلك في تلك الساعة، فأجل الأمر إلى الغد. وخوفًا من وقوع الشبهة عليه تقدم في جملة طلاب الصدقة، فمد يده فنال حَظَّهُ فأكل وهو كيفما تحرك يفتقد الأنبوبة، وكان قد عَلَّقَها بحبلٍ في عنقه ودَسَّهَا داخل أثوابه تحت ذراعه.
وفيما هو في ذلك رأى الناس يومئون إلى مجلس الوالي، ويشيرون إلى رجل دخل عليه، فعرف من لباسه وقيافته أنه المعلم حنا كاتب المارداني. ورأى بيده درجًا ملفوفًا بمنديل من الحرير. ورأى ابن طولون قد انصرف بكليته إليه، وأمره أن يقعد على وسادة بجانبه فقعد متأدبًا واستأذن في اطلاعه على ما في الدرج ثم حله وبسطه وأخذا يتحادثان ويتنافسان فيما يحويه الدرج. ولحظ زكريا أن المعلم يحاول إقناعَ ابن طولون بشيء محطوط في الدرج وهو لا يقتنع. وما لبث حتى حَوَّلَ وجهه عنه، وأخذ في مشاهدة الجماهير ولسان حاله يقول: «هذا لا يعجبني والسلام.»
ولم يعلم زكريا شيئًا عما في ذلك الدرج، ثم رأى الناس يوسعون لخارج من القصر فتَنَحَّى والتفت، فرأى المعلم حنا خارجًا وبجانبه ابنه إسطفانوس متأبطًا اللفافة، فسار خلفهما من حيث لا يشعران. لعله سمع شيئًا حتى إذا أتيا مفترَقًا من الطريق قال المعلم حنا لابنه: «ماذا تعمل له؟ ما أظن في الدنيا أحدًا يستطيع إجابة طلبه. جامعٌ بلا أعمدة؟ هذا أمر غريب؟»
فسأله إسطفانوس: «أتريد أن يبني جامعًا بلا أساطين؟»
قال: «نعم. قد استشرت أمهر المهندسين في الفسطاط، ومنهم من تعلم في القسطنطينية أو تخرج في بغداد. وقد شهد الناس لهم بالمهارة، وهذه الخريطة عليها رسمُ جامع من أجمل ما بلغ إليه إمكانهم. فلم يعجبه؛ لأنه يريد بلا أساطين.»
فقال إسطفانوس: «ولماذا لا يفعل كما فعل عمرو بن العاص في بناء جامعه؟»
فقطع حنا كلامه قائلًا: «إن أميرَنا عمد إلى هذا الطراز حتى يتجنب ما وقع فيه عمرو.»
فهز إسطفانوس رأسه وظل ماشيًا في طريقه. أما زكريا فبعد أن سمع ما سمعه من الرجلين عاد إلى موقفه وقد فُتح له باب الفرج ورأى الطريقَ الذي يمكنه من الوصول إلى إنقاذ سعيد وعاد إلى الأمر الذي جاء له. وتذكر دميانة ولهفتها على رجوعه فافتقد الأنبوب فوجده في مكانه فاطمأن؛ لعلمه أنه مهما يبلغ من قلق دميانة واضطرابها ففي هذا الأنبوب ما يخفف عنها.
حتى إذا انقضى وقتُ الصدقة وقد آذنت الشمس بالمغيب أغلقت الأبواب ونهض ابن طولون عن مجلسه فانصرف الناسُ وذهب زكريا إلى خانٍ بات فيه. وفي الصباح التالي تنكر بلباسِ نوبي قادم من سفر يشكو من فكه الأسفل فربطه رباطًا كالخمار يحجب معظم رأسه والتف بشملة من نسيج القطن الأبيض المعروف بالدمور ومشى حافيًا مشيةً غريبة يدهشه كل شيء مبالغة في التنكر حتى لا يعرفه إسطفانوس لو رآه، فلما أتى باب القصر سأل الحراس الواقفين به عن الوالي أين يكون فقال له أحدهم: «إنه ينظر اليوم في المظالم.»
ولم يكن زكريا يعرف تلك العادة؛ لأن ابن طولون أولُ من نظر في المظالم من أمراء مصر، ولم يكن يفهم المراد من المظالم والنظر فيها، فاستفهم الحرسي قائلًا: «وما معنى هذا عندكم؟»
فقال الحارسُ: «يظهر من لباسك وقيافتك أنك غريب عن الديار فاعلم يا صاحبي أن مولانا الأمير، لرغبته في راحة رعيته وخوفًا من أن يعتدي أحد من عماله أو كتابه أو رجال حكومته على أحد الناس فيظلمه أو يؤذيه، قد خصص — حفظه الله — يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين بنفسه وإنصافهم.»
فدهش زكريا لسماع ذلك ولم يكن سمع بمثله في مصر ولا غيرها، وكان الحارس يخاطبه وينظر إليه فلما رأى دهشته استطرد الكلام قائلًا: «أراك تستغرب هذه المنقبة في أميرنا ولا عجب؛ لأنكم لا تعرفون مثلها في بلادكم، فهذه من حسنات الإسلام حتى لا يُظلم أحد استظل به.»
ففطن زكريا لأن إسطفانوس وما أوقعه من الأذى بدميانة فقال في نفسه: «هل أشكوه لابن طولون؟». لكنه خاف وتردد ورجع إلى ما جاء له. فعزم على أن يدخل على الأمير في جملة المتظلمين ثم يحتال في مخاطبته في شأن سعيد وبناء الجامع.
فسأل الحرسي عن المكان الذي يجلس فيه الوالي للنظر في المظالم، فأومأ إلى باب عليه الحجاب، وقد تكأكأ الناس حولهم وهم يدخلونهم الواحد بعد الآخر، فتقدم زكريا ووقف في جملة الواقفين وصبر حتى انصرف أكثر الناس، فدخل وعليه قيافة أهل البادية فأطل على مجلس ابن طولون في قاعة مفروشة بالطنافس، وفي صدرها كرسي كبير جلس عليه ابن طولون وبجانبه قاضيه بكار بن قتيبة وبين يديه قصص المتظلمين (العرائض) وقد تصفحها ابن طولون ودفعها إلى قاضيه ليحكم فيها أو ينفذها.
فلما دخل زكريا سأله الحاجبُ عن قصته ليدفعها إلى الوالي لينظر فيها فقال: «لم أكتب شيئًا وإنما أُريد أن أرفع ظلامتي شفاهًا للوالي رأسًا بعد أن ينظر في قصص المتظلمين.»
فرفع الحاجب ذلك إلى ابن طولون فقال: «أجلسْه حتى نفرغ له.»
فقعد زكريا وهو ينظر ويعجب من إجراء العدل والإنصاف حتى إذا فرغ ابن طولون من تصفح القصص صاح بزكريا: «ما هي ظلامتك يا أخا النوبة؟»
فوقف زكريا وقال: «لا أقولها إلا في خلوة مع مولاي.»
وكان زكريا يتكلم كمن لا يعرف العربية إلا قليلًا ولو تكلمها جيدًا لما صدقوا أنه آتٍ من النوبة؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد انتشروا في النوبة ولا دخلها الإسلامُ فكان يحشر في كلامه بعض الألفاظ من لُغة النوبة، ولكنه كان يحسن التعبير بحيث يفهم ابن طولون مراده.
فلما سمعه ابن طولون أشار إلى القاضي فخرج ولبث وحده، فتقدم زكريا ووقف بين يديه متأدبًا، فأشار إليه أن يقعد، فقعد وأزاح الخمار عن رأسه فلم يظهر فيها عاهة كما يظن من يراه مخمرًا، وابن طولون ينظر إليه وينتظر ما يقوله، واستبطأه، فقال: «ممن تتظلم يا رجل؟»
فقال: «أقول ولا بأس علي؟»
قال: «قل، إنك على بساط الوالي ولي أمير المؤمنين، ومهما يكن من ظلامتك فإنك تُنصف. قل ممن تتظلم؟»
قال: «من أحمد ابن طولون ولي أمير المؤمنين ونائبه على مصر!»
فدهش ابن طولون وقال: «مني أنا؟»
قال: «نعم يا مولاي، فإذا كنت قد تجاوزت حدي بالتظلم منك فأنا بين يديك افعل بي ما تشاء.»
قال: «لك أن تتظلم ممن شئت فما هو ذنبي لديك؟»
قال: «رب ذنب لا يعرفه صاحبه.»
قال: «قل وأفصح، ما هي ظلامتك؛ فإني لا أعرفك ولا أذكر أني رأيتك قبل الآن.»
قال: «ولا أنا أتظلم لنفسي وإنما جئت لمولاي الأمير أرفع إليه ظلامة رجل لم يعهد إلي في أن أتظلم عنه، وإنما أقدمت رغبةً في خدمة صاحب هذا البلد.»
قال: «لا أفهم مرادك، فأفصح، من تعني؟»
قال: «أعني: الرجل الذي حكمت عليه بالجلد والحبس بعد أن بنى لك العين، وأجرى فيها الماء.»
قال: «الفرغاني؟ الذي أوشك أن يقتلني بجهالته؟»
قال: «وهل تعني أنه يجهل هندسة البناء؟»
قال: «لا ريب فإن سقوطي عن جوادي إنما كان من الخلل الذي سبَّبه جهله بالهندسة.»
قال: «ليس في هذا البلد من يقاربه في هذا الفن يا مولاي. وأما قصرية الجير التي وقع فيها جوادك فإنما تركت هناك لسوء حظه أو لعل لها سببًا آخر، فقد يكون بعضُ أعدائه وَشَوْا به إليك، فأغروك به وإنما أنا أتكلم الآن عن مهارته الهندسية، ليس في هذا البلد من يقاربه فيها حتى الروم الآتون من القسطنطينية والفرس وغيرهم.»
فاستغرب ابن طولون دفاع هذا النوبي عن ذلك القبطي ولم يعتد به.
فقال: «وما الذي حملك على التبرع برفع هذه الظلامة إلينا؟»
قال: «حملني على ذلك رغبتي في إنقاذ مولانا من مشكلة وقع فيها ولم يستطيع أحد أن ينقذه منها.»
فانتبه ابن طولون إلى أنه يعني الجامع الذي يريد بناءه، ولكنه تجاهل وقال: «وأي مشكلة تعني؟»
قال: «أعني البناء الذي أنت عازمٌ على إقامته ولم تجد من يستطيعه على الشكل الذي تريده.»
قال: «وهل يستطيع صاحبُك أن يفعل ذلك؟ إنه لا يستطيعه.»
قال: «لا أظنه يعجز عنه فما هو طلبك يا مولاي؟»
قال: «إني أُريد أن أبني جامعًا بلا أساطين. هل يستطيع ذلك؟»
قال: «لم أسألْه، ولكني أحسبه يستطيع.» واستدرك زكريا قوله مخافة ألا يكون سعيدٌ قادرًا فيعود الغضب على كليهما، فأراد أن يثني ابن طولون عن عزمه فاستأنف الكلام قائلًا: «وهل خلوه من الأساطين شرطٌ لازم. كأن مولاي لا يرى في الأساطين جمالًا، قياسًا على التي وضعوها في جامع عمرو. فإذا كان هذا فأنا أضمن أن سعيدًا يضعُها على شكل بديع.»
ليس هذا هو السبب في رغبتي عن الأساطين. وقد رأيت فيك فطنة وغيرة فأقول لك أن ما دفعني إلى ذلك هو رفقي بأهل الذمة من سكان هذا البلد؛ لأني لما عزمت على بنائه سألت المهندسين عما يحتاج إليه من الأعمدة، فقدروا له ثلاثمائة عمود، ولا سبيل إليها إلا بأخذها من الكنائس فأستنفد أعمدتها في الأرياف والضياع، وهذا ظلم لا أرضاه وأحسبه لا يرضي الله. وأنا أحب أن أبني مسجدًا لا يشوب بناءه ظلم، ولا وسيلة لذلك إلا بأن يكون الجامع بلا أعمدة فلم أجدْ في مصر من يستطيع هذا.
فتبسم زكريا وقال: «هل سألت سعيدًا السجين في المطبق؟»
قال: «كلا، إنه ذهب من فكري، هل تظنه يقدر على هذا الأمر؟»
قال: «أظنه يقدر. وما على مولاي إلا أن يأمر بإحضاره ويرى ما يقول.»
فصَفَّقَ ابن طولون، فدخل غلام فقال له: «قل لصاحب المطبق أن يأتيني بالمهندس النصراني من السجن وأدخلوه علي لساعته.»
•••
وقع زكريا في حيرة وقال في نفسه: «إذا أخلف سعيد ظني فلم أستطع إنقاذه من هذا السبيل أعود فأتهم إسطفانوس بأنه هو الذي وضع قصرية الجير وأن سجن سعيد ظلم.»
وكان ابن طولون أثناء الانتظار مطرقًا، يفكر فيما سمعه ويتمنى أن يصح قول النوبي في سعيد؛ لأنه كان شديدَ الحرص على تنفيذ مشروعه، وإذا بالحاجب يقول: «إن السجين النصراني بالباب.»
فقال الأمير: «أدخلوه.»
فدخل سعيد وقد تغيرت سحنته فطال شعره وتبعثر على وجهه وقد أضنتْه فرقة الشمس وملازمة السجن، فتأثر زكريا من حاله وصار يرتعش لشدة قلقه وخوفه أن يعجز عما يُندب إليه. أما سعيد فدخل ولم ينتبه لزكريا، وإنما كان هَمُّهُ أن يجيب الدعوة، فوقف متأدبًا فقال له ابن طولون: «كيف ترى نفسك؟»
قال: «أراني كما كنت.»
قال: «لا يسلم أحد من الخطأ.» فقال: «ولكنني لم أسأل عن خطأي لأتحققه أو أتبرأ منه، وإنما تعجل سيدي في عقابي بلا سؤال.»
قال: «ألا تعد قصرية الجير ووقوعي عن جوادي بسببها ذنبًا؟ على أني لم أدعك لهذا، وإنما أردت أن أسألك في أمر، فإذا كنت مهندسًا ماهرًا وأخرجته لي اغتفرت لك ما سلف.»
قال: «ما هو يا سيدي؟»
قال: «عزمت على بناء جامعٍ كبير على جبل يشكر في أطراف القطائع، وأشترط ألا يكون فيه أعمدةٌ، فهل تستطيع بناءه على هذا الشرط؟»
فأطرق سعيد وأخذ يفكر وتناول خيزرانة كانت ملقاة بجانب الحائط، وأخذ يمررها على البساط كأنه يرسم بها خطوطًا ومربعات وابن طولون يراعيه وقلب زكريا يخفق خوفًا من الفشل. وأخيرًا رفع سعيد رأسه وقال: «إني أفعل ما أمر به مولاي، ولكنني أستأذنه في أن يكون للجامع عمودان فقط هما عمودا القبلة.»
قال: «عمودان فقط؟»
قال: «نعم اثنان.»
فقال ابن طولون وقد بان البشرُ في محياه: وهل تقدر أن تبني الجامع على أن لا يكون فيه غير عمودَي القبلة؟
قال: «نعم.»
قال: «أخاف أن يكون شكلُهُ مشوهًا أو منظره قبيحًا.»
قال: «كلا، سيكون من أجمل الجوامع ليس مثله إلا المسجد الذي بناه أمير المؤمنين المعتصم في سامرا.»
قال: «قبل ذلك أرني صورتَه.»
قال: «ائتوني بالجلود، فأصوره لكم كما يكون بعد الفراغ من بنائه.»
فكاد قلبُ زكريا يطير من الفرح، ولكنه ظل ساكتًا ليتحقق الأمر بعد الرسم.
وأمر ابن طولون بالجلود فأتوه بها، فأخذ سعيد يصور عليها رسم الجامع بجدرانه وقبلته وصحنه ومئذنته وكل مرافقه. فلما فرغ من الرسم دفعه إلى ابن طولون ففرح به كثيرًا وأمر أن يطلق سراحه وأن يخلع عليه وقال له: «سأطلق يدك في النفقة على البناء ومتى انتهيت منه كافأتك أحسن مكافأة.»
فحنى سعيدٌ رأسه شاكرًا.
أما زكريا فلم يستطع كتمان فرحه، فتقدم حتى وقف إلى جانب سعيد، فلفت انتباه ابن طولون وظنه يتصدر لينال الجائزة، فقال: «والفضل فيما نلت من توفيق لهذا النوبي الشيخ — بارك الله فيه.»
فالتفت سعيدٌ إلى زكريا، فرآه ينظر إليه ويضحك، فعرفه وخفق قلبه لذكرى دميانة وبانت البغتة في محياه، وخاف أن يلحظها ابن طولون فاستأذنه في الخروج فقال له: «تخرج إلى دار الأضياف وسنأمر لك بقصر تُقيم به ولا يؤذن في خروجك من القطائع؛ لأن وُجُودك بها يهمنا كثيرًا وإذا شئت أن تأتي بأهلك فيقيمون معك فافعل.» والتفت إلى زكريا وقال: «إنك صاحبُ فضل يا عم. بُورك فيك. سل ما تشاء.»
قال: «لا أسأل إلا أن يكون مولاي موفقًا. وقد انشرح صدري لظهور الحق ويكفيني ذلك.»
فقال: «ولكنه لا يكفينا نحن.» وصفق، فجاء الغلام فأمر له بجائزة، فدعا له وخرج وهو يعلم أن سعيدًا يَوَدُّ مقابلته قبل الانصراف، فانتظره حتى خرج.
فلما رآه سعيد أسرع إليه وسأله عن حال دميانة، فقص عليه ما جرى لها وما قاستْه مِنْ عِنَاد أبيها وما كان من أمر إسطفانوس وأنها الآن في حلوان تنتظر رجوعه.
وكان سعيد يسمع حديثه وهو يكاد يتميز من الغيظ، فقال: «تبًا لذلك الخائن النذل كأنه يثأر لنفسه بعد اللطمة التي نالها ليلة عيد الشهيد، وكان يحسُنُ به أن يُظهر نفسه ولكنه لئيمٌ جبان، وقد واطأه مرقس على ابنته وهو جاهل لا يعرف ما ينفعه ولا ما يضره، فالحمد لله على رد كيدهم إلى نحورهم فاذهب إلى دميانة وبشرها بالفرج. وقل لها: إن ذلك الغر سينال جزاء فعلته قريبًا، وكم أود أن أذهب معك لأراها. ولكن ابن طولون لا يأذن في خُرُوجي مِنْ قصره كما سمعت على أنني سأسعى لزيارتها في وقت آخر وآتي بها تقيم معي بالقصر الذي وهبه لي الوالي بعد أن أعده لاستقبالها ونقيم فروض الإكليل.»
فودعه زكريا وهَمَّ بالذهاب فرأى غلام ابن طولون واقفًا ينتظره ليأخذه إلى الكاتب ليعطيه رفده، ولم يخطُ خطوتين نحو باب القصر حتى رأى إسطفانوس قد برز له من وراء الباب ووقف وجعل ينظر إلى زكريا ويتفرس فيه ولسان حاله يقول «قد عرفتك.» ولم يره مع سعيد بعد أن علم برضا ابن طولون عنه وإكرامه إياه لأسرع إلى القبض عليه يتهمه بالسرقة لكنه خاف سعيدًا وتذكر ليلة عيد الشهيد فكظم غيظه.
ونظر إليه زكريا نظرة المعتز بالفوز ومشى لا يُبالي، ولولا رغبته في الإسراع إلى دميانة لشكاه إلى ابن طولون رغم نفوذ أبيه. فاكتفى بأن نظر إليه شزرًا وتحول يقصد حلوان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة وهو يسرع تلهفًا لرؤية دميانة وتبشيرها بما ناله من الفوز والفرح.
ولم يكد يتوسط الطريق إلى «طره» حتى رأى الناس يهرعون ركضًا إلى القطائع وفيهم النساء والأطفال كأنهم فارُّون من قتال. فسأل بعضهم عن هذا الفرار فقالوا: «إن البجة سطَوا على حلوان ونهبوها.»
فقال: «ومتى كان ذلك؟»
قالوا: «نزلوا عليها في هذا الصباح، وفتكوا بأهلها ونهبوا بيوتها.»
فأجفل زكريا، وخفق قلبه ووقف لحظة وقد جمد الدم في عروقه خوفًا على دميانة، فرآه الراكضون واقفًا فقالوا له: «ارجع يا عماه وإلا فإنك تذهب فريسة البجة لعنهم الله، فهم كالأبالسة ووجههم كوجوه الشياطين.»
فلم يبال ما سمع، ولم يزده ذلك التحذيرُ إلا رغبة في المسير إلى حلوان ليرى ما جرى لدميانة، وتمنى لو ذهب إلى الفسطاط قبل مجيئه وركب جوادًا يسرع به، ولكنه وجد نفسه أقرب إلى حلوان منه إلى الفسطاط فظل مسرعًا يعدو والناس يركضون فرارًا من القتل والنهب وقد استقر في ذهنه أن دميانة في أمان؛ لأنها في جوار صديقه قعدان العربي.
فلما أطل على حلوان اتجه إلى منزل الرجل وما أشرف عليه من بعيد حتى رأى الخباء منصوبًا فاطمأن ولكنه لم ير أحدًا حوله، فلما دنا منه رأى الخراب مخيمًا عليه ولفت نظره وجودُ جثة ملقاة على الأرض بباب الحديقة عرف أنها جثة غلام صاحبه، فتقدم نحوها فرأى الدم ما زال يسيل منها، فاضطربت جوارحُهُ ولكن لهفته على دميانة أنستْه الخوف ومشى في الحديقة فرأى آثار حوافر الخيل بين الأغراس وقد تَكَسَّرَتْ وتهشمت، فأسرع حتى أقبل على الخباء فسمع أنينًا وتقدم فرأى رجلًا مطروحًا أرضًا فلما وقع نظره عليه عرف أنه صاحبه قعدان فأجفل وصاح: «قعدان! قعدان!» وأكب عليه وأمسك بيده ليجلسه ويفحصه.
فأدار قعدان وجهه إليه والدم يسيل مِن جرح عميق في كتفه ولم يستطع أن يتكلم. فقال له زكريا: «لا بأس عليك يا أخي ما الذي أصابك.»
فقال بصوت مرتعش متقطع من شدة الضعف: «عفوًا يا زكريا، إني لم أستطع الاحتفاظَ بدميانة؛ فقد أخذوها مني أخذها لصوصُ البجة. ويعلم الله أني بذلت جهدي في حمايتها حتى قُتل ولدي ورجالي وها أنا ذا كما ترى. فعفوُك يا أخي. إني لم أقم بحق الجوار.»
وكان ينطقُ بصعوبة وزكريا ينظر إليه ويكادُ قلبُهُ ينفطر لما رأى من آلامه ولما سمع اعتذاره وكيف أنه ضحى بأهله وبنفسه دفاعًا عن جاره أكبر أنفة العرب ونخوتهم وحزن لذهابه قتيلًا وفهم من خلال كلامه أنه لم يستطعْ حمايةَ دميانة فأحب أن يعرف ما جرى لها فقال: «لا بأس عليك يا أخا العرب إنك — والله — قد وفيت حق الجوار وأحييت سنة العرب وهل للإنسان من شيء يبذلُهُ في سبيل جارِهِ أعز من أهله ونفسه — شفاك الله وعافاك.» وكان لا يزال قابضًا على يده، فهَمَّ بإنهاضه وقال: «انهضْ، اجلسْ، هل آتيك بما تشربه؟ قُمْ لأغسل جراحك.»
فقال: «لا فائدة من هذا ولا ذاك؛ فإني ميتٌ لا محالة، واعلمْ يا أخا النوبة أن دميانة حية قد سباها البجة، وأظنهم أخذوا أيضًا ابنتي وسائر أهلي.» قال ذلك وتململ وبان التألمُ في وجهه وصرخ «آه لو كنت أستطيع القيام للحقت به.» واختلج وشهق وأسلم الروح.
فلم يتمالك زكريا عن البكاء رغم اشتغال خاطره بدميانة، وأسف لموت هذا الصديق الذي يندر مثاله، ولكنه لم يجد حيلةً ينفعه بها وقد قضى نحبه سوى أن يواريه التراب ولم يجد أحدًا يستعين به؛ لأن أهل حلوان كانوا قد هجروها كما هجرها البجة أيضًا بعد أن نهبوها خوفًا من رجال الحكومة. فاحتفر حفرة دفن قعدان فيها ورجع إلى نفسه وأخذ يفكر فيما يجب عمله للاهتداء إلى دميانة، واسترجع في ذهنه ما سمعه من قعدان، ففهم من مُجمله أن البجة سَطَوْا على حلوان، فنهبوها وسَبَوْا نساءها، وكان زكريا قد عرف البجة وعاشر بعضهم، وهم يقيمون بالصحراء الشرقية، يعيشون على الغزو والنهب، وكلهم أشداء أهل بادية وخشونة. فلما تصور دميانة معهم اقشعرَّ بدنُهُ؛ لعلمه أنهم لا يعرفون حرامًا ولا رادع لهم مِنْ دين؛ فقد كانوا لا يزالون في الوثنية.
•••
كان زكريا يفكر فيما حدث وهو يمشي على غير هُدًى نحو الجهة التي حسب البجة نزلوا منها أو عادوا إليها لعله يقف لهم على أثر يرى مَنْ يرشده إليهم. وصعد في طريقه أكمةً أشرف منها على الصحراء من بعيد، ونظر فلم ير أحدًا، ولكنه عرف من آثار الحوافر أن القوم كانوا هناك وذهبوا، فحدثتْه نفسُهُ أن يقصهم وحده متشوقًا للعثور على دميانة، ثم عاد إلى رشده فرأى أنه يجهل مقرهم وأنه يعجزُ عن إنقاذ دميانة منهم لو عرفه. فوقف محتارًا، ثم انتبه إلى الأُنبوب، فافتقده فإذا هو لا يزال تحت ذراعه، فتذكر دميانة وما قاستْه من البلاء والعذاب حتى إذا دنتْ منها ساعةُ الهناء ساقها سوءُ الطالع إلى السبي. فقال في نفسه: «ليكن اسم الله مباركًا كأن هذه الفتاة على تقواها وطيب عنصرها وما توافر لها من أسباب السعادة خلقت لتشقى! أين أنت الآن يا دميانة؟ ماذا أقول لخطيبك إذا سألني عنك؟ أأقول له سباها البجة؟ وهم قومٌ لا يرعون زمامًا ولا يوفرون عرضًا؟» وغلب عليه الحزن واليأس فبكى وأغرب في البكاء وهو وحده لا سميع له ولا مجيب.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلما رأى الظلال تستطيل انتبه واستوحش وعاد إلى صوابه فقال في نفسه: «لا يفيد البكاء في مثل هذه الحال. وعلي أن أعمل عملًا وأن أسعى في إنقاذ دميانة. ولكن كيف أنقذها؟ أأذهب إلى سعيد أخبره بما أصابها وأستنجده؟ وماذا ينفع استنجاده؟ إنه لا يستطيع شيئًا حتى ابن طولون نفسه لو أراد أن ينجدني وجرد جيشًا على البجة لَمَا جاءني بنفعٍ فإن هؤلاء الأفاقين خارجون على الحكومة من عهد بعيد ولم تَقْوَ دولةٌ على إخضاعهم؛ إذ اتخذوا من الصحراء مأوًى لا يستطيع أحد الوصول إليهم فيه!»
ومر في ذهنه ماضي أيامه إبان شبابه في بلدة النوبة، وتذكر ما لملك النوبة من السطوة المهابة في قلوب البجة فقال: «لا ينجدني في هذا الأمر إلا ملك النوبة، ولكن أين هو وأين أنا منه؟ إن بيننا مراحل عديدة، ثم هو يعرفني ولا ينجدني!»
وكان يناجي نفسه وهو راجع عن تلك الأكمة نحو حلوان، فلم يجد خيرًا من أن يعود إلى الفسطاط إلى الخان وفيه ثيابه وفرسه، ثم يرى ماذا يعمل. فمشى وهو لا يبالي التعب وقد أظلمت الدنيا، فجعل طريقه على ضفة النيل ولا شيء يلهيه عن التفكير في إنقاذ دميانة من مخالب أولئك اللصوص.
خرج من حلوان وهو في لباس بدو النوبة كما كان عند خُرُوجه من القطائع، ومشى مشتت الأفكار، فوقع بصرُهُ على أنوارٍ عند سفح المقطم على أنها في قبة الهواء. فتذكر موقفه مع دميانة وتذكر — للحال — صديقه في المسجد القائم هناك وكان قد مر به قبل ذهابه إلى حلوان وهو يعرف فيه الاطلاع على أحوال البجة وسائر أهل الصحراء، فخطر له أن يذهب إليه ويستشيره في الأمر لعل له وسيلة قريبة تنيله مراده. فعرج على المقطم. وما صعد حتى أتى المسجد، فلاقاه صديقه وأنكره لأول وهلة، ثم تعارفا فدعاه إلى الجلوس، فجلسا لدى باب المسجد، فسأله صاحبه عن حاله فأخبره أنه ترك دميانة عند صديقه العربي في حلوان، وجاء الفسطاط في مهمة ولما رجع رأى البجة قد سَطَوْا على البلد وقتلوا من قتلوه وفر الباقون، وأنهم أخذوا دميانة سبية إلى أن قال: «هل تعرف شيئًا عن هؤلاء البجة وأين يقيمون ومن هو زعيمهم؟»
قال: «إن زعيمهم اليوم رجل يُقال له أبو حرملة.»
فصرخ زكريا: «أبو حرملة؟ فرج النوبي ابن بلدنا؟»
قال: «كلا. ليس هو الرجل الذي تعنيه، ولكنه تسمى باسمه تشبهًا بالشجعان ولف حوله عصابة من قومه وجعل ديدنه السطو على أطراف مصر ينهب ويقتل، ولم يسبق له أن سطا على حلوان قبل الآن.»
فتنهد زكريا وقال: «لعله فعل ذلك لسوء طالع تلك الفتاة التقية. وأين تظنهم يقيمون الآن؟»
قال: «يقيمون؟ لا أعرف لهم مقامًا؛ لأنهم قومٌ رحلٌ يعيشون على الغزو والسطو.»
قال: «وما رأيك الآن. كيف العمل يا صاحبي؟ إني أراني في حيرة. كيف يمكنني إنقاذ هذه الفتاة، فقد اؤتمنت عليها وعاهدت نفسي أن أقوم بخدمتها ورعايتها. وقد أخذت أثناء غيابي ويا ليتني كنت حاضرًا ساعة السطو؛ فكنت أنقذها أو أُقتل في سبيل ذلك فأذهب مرتاح الضمير.» قال ذلك وغص بريقه وأجهش في البكاء.
فلما رآه صاحبُهُ يبكي وهو شيخ عطف عليه ودفعتْه الأريحية فقال «خفف عنك يا زكريا واشكر الله على أنك كنت غائبًا في تلك الساعة وإلا لكنت مقتولًا لا محالة ولا تبقِ حيلة لإنقاذ الفتاة أما وأنت حي فلا تعدم وسيلة لإنقاذها.»
قال: «ما هي الوسيلة؟ هل تعلم مقر هؤلاء فأذهب إليهم بنفسي وأكلم أبا حرملة وأستعطفه لعله يُشفق على الفتاة وأفتديها بما يريد من المال.»
قال: «أما مقر هؤلاء فلا سبيل إلى معرفته ولا فائدة تُرجى من الاستعطاف، وأما الفداء فلو كان الأسيرُ رجلًا أو غلامًا أو امرأة طاعنة في السن؛ فربما أفاد أما وهي فتاة جميلة فلا أظنهم يقبلون افتداءها، وأرجح أن أبا حرملة يجعلها في جملة نسائه فقد سمعت أنه رغاب في النساء!»
فقطع زكريا كلامه قائلًا: «تعني أنه يتزوجها؟»
قال: «يتزوجها أو يتسرَّاها لا أدري.»
فصاح زكريا: «أعوذ بالله.» وأطرق هنيهة ثم قال: «لا أخاف عليها منه ما دامت حية وإن كان جبارًا ولكن …» وبلع ريقه وأخذ ينكت بالأرض بإصبعه ويفكر.
فابتدره صاحبه قائلًا: «لا فائدة من التفكير إننا لا نعرف مقرهم وإذا عرفنا لا قدرة لنا على مناوأتهم.»
فعاد إلى ذكر سعيد ومنزلته عند ابن طولون فقال: «وما قولُك إذا استنجدنا أميرُ مصر؟»
فابتدره قائلًا: «لا تُرجى نجدة من الأمير؛ فإنه لا يعرض رجاله للموت في الصحراء ولو كان يستطيع إخضاعهم لَفعل ذلك من قبل. فإن البجاويين لم ينفكُّوا عن السطو على حُدُود البلاد من أزمان متطاولة والدولة عاجزةٌ عن ردهم، فكيف يتعقبهم إلى منازلهم ومنازلُهُم على ظهورهم؟»
فأيقن زكريا أَلَّا خير يُرجى من استنصاره سعيدًا، فعزم على كتمان هذا الأمر عنه، وقال له صاحبه: «ما بالك لا تفكرْ في مولانا ملك النوبة وأنت تعلم نفوذه على البجة؛ فإنهم لا يخافون أحدًا سواه؟»
قال: «أعلم ذلك وقد خطر لي أن أستنجده، ولكنه لا يعرفني، وبلده بعيد، وأخاف أن أضيع الوقت بالسفر إليه في أطراف النوبة ثم أفشل ويذهب سعيي عبثًا.»
فقال: «ألست نصرانيًّا؟»
قال: «بلى.»
قال: «ألا تعلم مقدار تمسك ملكنا بالنصرانية وغيرته عليها؟»
قال: «أعلم.» وتنبه لرأي أشرق له وجهه وقال: «فطنت لوسيلة تضمن النجاح. فطنت لما تريد أن تقوله. سأستنجد أحد أساقفتنا ليتوسط لي لدى ملك النوبة وإنني أقدر أن أوسط البطريرك نفسه.»
فصاح الرجل عند ذلك قائلًا: «بُورك فيك، هذا هو الرأيُ الصواب وإذا اتبعته نلت ما تريد. إذا استطعت أن تأخذ كتابًا، مر البطريرك إلى ملك النوبة يوصيه بك خيرًا؛ فإنه لا شك يقضي لك أمرك.»
فقام زكريا لساعته ومَدَّ يده، فودع صديقه، وقال: «لقد استصوبت رأيك وسأعمل به. والوقت ثمين.»
قال: «ألا تنام هنا وتسافر في الصباح؟»
قال: «دعني أذهب لإعداد ما يلزم.» قال ذلك وتوجه قاصدًا إلى الفسطاط من جهة الشاطئ.
ولَمَّا أطل على حصن بابل ووقع بصره على دير المعلقة عرفه من نور معلق بباب الحصن، فتذكر دميانة والأسقف ومرقس كما تذكر البطريرك ميخائيل يقيم بدير أبي مقار بالصحراء الغربية في وادي النطرون والطريق إليه شاق، ولا بد من التأهُّب للمسير فيه.
ووصل إلى الفسطاط وقد أُغلقت أبوابها، فباتَ في مكان خارجها، ولما فتحت الأبواب دخلها متنكرًا حتى أتى الخان، وأخذ يتأهب للسفر إلى دير أبي مقار عبر النيل والصحراء الغربية.
ورأى — لتمام الحيلة — أن يتنكر بلباس الرهبان وحدثته نفسه أن يركب جواد مرقس الذي أتى به من طاء النمل، ولكنه خاف أن ينم عليه فيذهب تنكره عبثًا، فباعه لصاحب الخان واشترى هجينًا خفيفًا وضع عليه رحلًا ونزل السوق فاشترى ثياب الرهبنة وأهمها الرداء الأسود الخاص بالرهبان والقبعة الخاصة برهبان دير أبي مقار، وقضى في ذلك يومًا كاملًا وفي المساء أعد كل شيء على أن يسافر في صباح الغد.
ولما عزم على السفر تذكر سعيدًا وقال في نفسه: «كيف أتركه وأسافر بدون أن يعلم مصيري وما حدث لدميانة، فقد يذهب إلى حلوان فلا يقف على خبرها، فيظنني خدعته، أو ربما تولاه اليأسُ أو غير ذلك.»
قضى ليلته يفكر في سعيد ولم ينم إلا قليلًا، وتعاظم الأمر عليه أثناء رقاده؛ لأن المرء إذا فكر في أمر يهمه وكان تفكيره في الظلام وهو راقد مغمض الأجفان تعاظم عليه الوهمُ، فرأى أن يطلع سعيدًا على ما جرى فلما أصبح تنكر بغير لباس البادية الذي جاء يوم مقابلة سعيد وخرج إلى القطائع، وأخذ يسأل عن المهندس النصراني؛ إذ كان معروفًا بهذا الاسم فلم يهتد إليه. ولكنه اهتدى إلى القصر الذي أعدوه له، وسأل حاجبه فقال له: «خرج مساء الأمس ولم يعد بعد.»
فأخذ يفكر فيما عسى أن يكون حاله، وكيف يخرج وإلى أين وابن طولون قد منعه من الخروج وخاف أن يُكثر من السؤال فيشتبه الحاجب فيه فرجع. وخطر له أثناء رجوعه أن سعيدًا قد يكون ذهب إلى حُلوان بعد أن بلغه سطوُ البجة عليها؛ لأن خبر تلك الغزوة ذاع في أنحاء المدينة. فتَرَجَّحَ لديه أنه ذهب إلى هناك، فاتجه إلى ذلك الطريق؛ لعله يلاقي سعيدًا، وما مشى طويلًا حتى شاهد فارسًا قادمًا من طريق حلوان، وعرف من قيافته أنه سعيد، وما عتم أن وصل الفارس فإذا به هو بعينه فناداه زكريا فوقف، ولما عرفه أسرع إليه وترجل وسأله: «أين دميانة؟ لقد ذهبت إلى حلوان فلم أجدها ولا وقفت لها على خبر، هل كنت تقول الصدق؟»
قال: «نعم يا سيدي قلت لك الصدق. ألم تسمع بما أصاب حلوان؟»
قال: «سمعت أن بعض البجة سَطَوْا عليها ونهبوها، فهل أخذوا دميانة في جملة السبي؟» قال ذلك وهو يتلعثم وقد جَفَّ حلقُهُ.
قال: «يظهر أنهم أخذوها وكنت ذاهبًا للتفتيش عنها دون أن أخبرك؛ لئلا أكدرك عبثًا فأنت مقيدٌ في منصبك، ولا سيما الآن، ولكني رجعت أمس، فرأيت الأفضل أن أراك قبل سفري.»
قال: «وماذا جرى؟»
فقص عليه حديثه منذ فارقه وسار إلى حلوان، ثم قال: «ولم أجدْ وسيلةً لإنقاذ دميانة غير توسيط البطريرك لدى ملك النوبة، وسأذهب في الغد إلى دير أبي مقار.»
وكان سعيد يسمع كلامه ويكاد يتميز من الغيظ، فقال له: «لماذا لا نذهب إلى البجة رأسًا ونحمل عليهم برجالنا ونأخذ دميانة قهرًا، إني لا أرجع عنهم حتى آخذها.» قال ذلك والغضب يقيمُهُ ويُقعده.
فقال زكريا: «لا يعلم أحد مقرًّا لهم بهذه الصحراء، ثم إنك إذا طلبت من ابن طولون أن ينجدك بالرجال لم يجب طلبك؛ خشية على رجاله.»
قال: «مالي ولابن طولون؟ سأذهب بنفسي.» قال ذلك مدفوعًا بالحماسة والغيرة.
فقال له زكريا: «إذا كنت ترى وسيلة لاسترداد دميانة بالقوة كما تقول؛ فافعل وأما أنا فلا أمل لي إلا في الطريق الذي ذكرته لك، دعني أذهب في هذه المهمة ولا أضيع الوقت سُدًى، هل تأذن في ذهابي؟»
فَتَنَهَّدَ سعيدٌ والدموع تكاد تترقرق في عينيه لتصوره حال دميانة في قبضة أُناس وثنيين لا آداب تردعهم ولا دين يردهم ولا شفقة في قلوبهم، وقال: «اذهب أنت وسأبحث أنا عن وسيلة قريبة، فإذا وُفقت إليها فبها ونعمت وإلا فأنا سائر في عملك. وإذا جد شيء فأخبرْني به وأنا مقيم بالقطائع، هل عرفت منزلي؟»
قال: «نعم عرفته، أستودعك الله؛ فأنا ذاهب لساعتي والاتكال على السيد المسيح وأرجو ببركة سيدتنا مريم العذراء أن تتوصل إلى الهدف المطلوب.»
فدعا له سعيد بالتوفيق وافترقا.