الصبي بائع الزهور!
كانت الطائرة الكونكورد التي تقف في مطار البحرين الدولي، أصغر من الطائرات البوينج ٧٤٧ العملاقة … ولكن الميزة التي تتوفر في الكونكورد أنها أسرع من الصوت، فهي تقطع المسافة أسرع من الجامبو بنسبة الضعف … ولهذا اختارها الشياطين للسفر إلى «مانيلا» …
وفي الموعد المحدد كانت الطائرة القوية تغادر المطار، وقد ارتفع صوتها عاليًا، ثم طارت في الجو … كانت المقاعد ضيقة بالنسبة للطائرات العادية، ولكن السرعة كانت رائعة. وأكثر الطائرات العادية ترتفع إلى ما بين ٢٨ إلى ٣٥ ألف قدم فوق سطح البحر … أما الكونكورد فترتفع إلى ٦٥ ألف قدم.
جلس الشياطين الثلاثة يفكرون في المغامرة القادمة … ومرت الساعات، ثم أعلن كابتن الطائرة عن قرب هبوطها في مطار «مانيلا» …
استعد الشياطين كبقية الركاب … ثم نزلت الطائرة على أرض المطار … لم يكن في انتظارهم أحد … فاستقلوا تاكسيًا، وطلبوا من السائق أن يذهب بهم إلى أقرب فندق من مقهى «المحيط».
فقال السائق: إن مقهى المحيط «أوشن» يقع تحت فندق المحيط!
كانت مفاجأة لا بأس بها للشياطين، فطلبوا منه التوجُّه إلى هناك.
ولم تكن هناك مشكلة في حجز الأمكنة اللازمة … وكان فندق المحيط فندقًا متوسط الحجم على الطراز القديم، وتحته كانت تلمع أضواء مقهى المحيط الملونة …
لم يضيِّع الشياطين وقتًا … وضعوا حقائبهم … وارتاحوا لحظات بعد أن اغتسلوا، ثم نزلوا إلى المقهى … عندما دخلوا، لم يُفاجَئوا بالموسيقى العالية، والصخب الذي كان يسود المكان … فهم يعرفون أن أمثال هذه المقاهي يتردد عليها صعاليك «مانيلا» عاصمة الفلبين … وأهم وأكثر المدن ازدحامًا بها … لم يكن هناك موضع لقدم …
وأخذ الشياطين يشقون طريقهم بين الزحام والموسيقى … وهم يتلفتون حولهم للبحث عن «ليو» حسب الصورة التي شاهدوها قبل مغادرة المقر السري … ولكن وجه «ليو» لم يظهر خلال الزحام، خاصة وأن سكان هذه المناطق في جنوب شرقي آسيا يتشابهون.
وشاهد «أحمد» بين الوجوه وجه صبي صغير باسم … يشق طريقه وهو يحمل كمية من عقود الزهور يحاول بيعها للزبائن … ولكنَّ أحدًا لم يلتفت إليه … وكان «أحمد» يعرف بخبرته أن أمثال هذا الصبي الذين يترددون على المقاهي يعرفون الكثير عن روادها.
وهكذا اتجه إليه بعد أن طلب من «رشيد» و«عثمان» أن يبقيا بجوار كابينة التليفون، وبعد محاولات استطاع أن يصل إلى الولد … ومد يده يطلب شراء بعض الزهور. وابتسم الولد مزهوًّا وهو يقول: إنك ستسعد كثيرًا كثيرًا يا سيدي … إن مَن يشتري زهورًا من «أوزي» يصيبه الحظ.
ابتسم «أحمد» لذكاء الصبي وقال: اسمك «أوزي»؟
ردَّ الولد بابتسامة واسعة: نعم يا سيدي … إذا شئت شقة مفروشة، أو استئجار سيارة، أو الذهاب إلى أي مكان، فإن «أوزي» يمكن أن يساعدك!
أحمد: إن «أوزي» في لغتنا الشعبية تعني الخروف الصغير!
ضحك «أوزي» وقال: لولا الذبح … لأحببت أن أكون خروفًا.
وضع «أحمد» في يد «أوزي» مبلغًا طيبًا، وأخذ عقدًا من الزهور البيضاء وقال: إنني أريد مساعدتك يا «أوزي»!
رد أوزي: إنني في خدمتك يا سيدي.
أحمد: وسأثق بأنك لن تتحدث مع أحد عن المعلومات التي أطلبها منك!
أوزي: ثق بي يا سيدي … لقد كنت كريمًا معي، وسأكون مخلصًا لك.
أحمد: هل تعرف شخصًا يعمل هنا اسمه «ليو»؟
رد «أوزي» على الفور: «ليو» … إنه صديقي يا سيدي، وكثيرًا ما قدم لي الطعام، وقدمت له بعض المعلومات.
أحمد: إذن فنحن أصدقاء … فأنا صديق «ليو» أيضًا.
أوزي: مرحبًا بك يا سيدي … وأنا رهن إشارتك!
أحمد: أين «ليو»؟ إنني أبحث عنه!
أوزي: لقد اختفى منذ يومين يا سيدي، وقد سألت عنه زملاءه فقالوا لي إنه في إجازة، وقد غادر «مانيلا» إلى بلدته.
أحمد: وأين هذه البلدة؟
أوزي: لا أعرف يا سيدي … ولكن من الممكن السؤال!
وسط ضجيج الموسيقى أحس «أحمد» بأنه حائر … لقد اختفى «ليو» الذي كان بداية الخيط … ولم يعد أمامهم إلَّا السفر إلى «باتنجاس»، حيث قُتل «كوان يو» …
ولكن قبل أن ينطق بحرف آخر … ارتفع ضجيج مشاجرة … ونظر «أحمد» إلى حيث وقعت المشاجرة، فشاهد شابًّا رفيعًا يحاول الهرب، يتبعه رجلان تبدو عليهما الشراسة … واتجه الشاب إلى باب المقهى، ولكن ظهر رجل ثالث عند الباب، ووجه للشاب ضربة قوية أطاحت به أرضًا … واشتدَّ الضجيج، وأخذ بعض الزبائن يحاولون الخروج … بينما حاول الشاب القيام والهرب … ولكن الرجال الثلاثة أحاطوا به … وكان واضحًا أنهم قادرون على الفتك به في ثوانٍ قليلة … ولم يتدخل أحد لإنقاذ الشاب … ووجد «أحمد» نفسه مندفعًا إلى حيث وقع الشاب محاولًا النهوض، وصاح بالرجال الثلاثة: قفوا … ماذا فعل؟
ردَّ أحد الرجال بصوت غليظ: هذا ليس من شأنك … ابتعد وإلَّا …
ثم وجَّه إلى «أحمد» ضربة قوية بكل قوته … ولكن «أحمد» مال برأسه جانبًا، فطاشت الضربة ثم ضربه «أحمد» ضربة قوية جعلت الرجل يترنح، ثم مدَّ «أحمد» قدمه في طريقه، فسقط على الأرض … ووقف «أحمد» أمام الشاب النحيف يحميه، واندفع الرجلان الآخران ناحية «أحمد»، ولكن قبل أن يقتربا منه، شاهد الحاضرون لدهشتهم الشديدة شابين يتقدمان بسرعة، ثم يهاجمان الرجلين، لم يكن الشابان إلا «عثمان» و«رشيد» وطارت المقاعد وتحطم الزجاج … وعمَّت الفوضى المكان …
ارتفعت صفارة البوليس … وأمسك الشاب النحيف بذراع «أحمد» وصاح: هيَّا نهرب!
ودفع «أحمد» إلى باب جانبي، خرجا منه إلى دهليز طويل يؤدي إلى جراج … وكان الشاب يجري كالمجنون، و«أحمد» خلفه … وهو يفكر في «عثمان» و«رشيد» … ويتمنى ألا يقعا في أيدي البوليس … فهم لا يريدون أي شيء يعطلهم عن مهمتهم …
وتوقف الشاب أمام سيارة صفراء من طراز «مازدا» أدار محركها، وقفز «أحمد» بجواره، ثم قادها ببراعة عبر الجراج المزدحم إلى الخارج …
عندما وصلا إلى أول الشارع، شاهدوا «عثمان» و«رشيد» والولد الصغير «أوزي» يجرون في اتجاه البحر … صاح «أحمد» بالشاب طالبًا منه اللحاق بالثلاثة …
أسرع الشاب إلى حيث كان «رشيد» و«عثمان» و«أوزي» يجرون بسرعة … وأطلق بوق سيارته فتوقفوا ونظروا إليهم، وسرعان ما اتجهوا إلى السيارة عندما شاهدوا «أحمد» يشير إليهم.
ازدحمت «المازدا» الصغيرة بالخمسة، ولكنها انطلقت تجري عبر شوارع «مانيلا» المزدحمة حتى وصلت إلى الميناء، ثم قادها الشاب بهدوءٍ إلى مكانٍ منعزلٍ … يبدو كأحد مباني الميناء المهجورة.