الفصل الثاني
(المنظر: غرفة تطل على الحديقة وبابها في الوسط يؤدي إليها بابان آخران؛ أحدهما في
اليمين والآخر في الشمال، ثلاثة كراسي في اليمين، كنبة وكرسيان في الشمال، منضدة في
الوسط إلى جانبها كرسيان.)
(ترفع الستار عن زينب وهي ترتب الأثاث. الفتى فؤاد جالس على
الكنبة في الشمال يتظاهر بالمطالعة في كتاب في يده وهو في الواقع يراقب زينب.)
زينب
(على حِدَة)
:
يتظاهر بالمطالعة وهو في الحقيقة يختلس النظرات إليَّ.
(يدخل الشيخ خورشِد من الوسط.)
خورشد
:
يا زينب! هل صديقي العزيز حسن بك هنا؟
زينب
:
نعم يا شيخ خورشِد، ولكنه لم يستيقظ بعد.
خورشِد
:
لا توقظيه؛ لأني أريد فقط أن أدخل المكتبة.
زينب
:
هل تحتاج إلى شيء منها فأُحضره لك؟
خورشد
:
لا داعي لأن تُتعبي نفسك يا ابنتي والمفتاح في الباب بالطبع (يدخل يمينًا).
زينب
:
تلك عادته فإنه يدخل إلى المكتبة بغير تكليف ويخرج منها مُحمَّلًا بنفائس
الكتب؛ وذلك على سبيل الاستعارة ولكنه لا يردها.
فؤاد
:
ومن يكون الشيخ خورشِد هذا؟
زينب
:
مأذون الناحية وخطيب وإمام في الجامع يزورنا كثيرًا؛ ليحمل من منزلنا كل ما
تصل إليه يده لأنه من أصدقاء سيدي البك.
فؤاد
:
وهل هو صديقه حقيقة؟
زينب
:
كل الناس أصدقاء لسيدي.
(يدخل الشيخ خورشِد من اليمين يحمل حِمْلًا من الكتب.)
خورشد
:
قولي لحسن بك إني قد استعرت من مكتبته كتابين أو ثلاثة.
زينب
:
ولكني أرى يا شيخ خورشد …
خورشد
:
لا بأس لا بأس ما دمت سأردها مع الكتب الأخرى.
زينب
:
ومتى هذا الوعد؟
خورشِد
(متممًا)
:
إن كنتم صادقين؟ (ضاحكًا) آه يا خبيثة!
إننا جيران وحسن بك رجل طيب (يخرج من
الوسط).
زينب
:
يتخذ من الجوار والطيبة مبررًا لنقل المكتبة إلى داره. (إلى فؤاد) ما هذا الذي تقرؤه؟
فؤاد
:
هذا كتاب اسمه (يلتفت حوله) «صناعة الحب»
يحوي أرق وأظرف الأشعار الغرامية التي كُتبت في اللغة العربية.
زينب
:
وهل يعطون في المدارس كتبًا كهذا؟
فؤاد
:
المدارس؟ إني ولله الحمد لم أذهب إلى مدرسة قط.
زينب
:
إذن فكيف تعلَّمت القراءة والكتابة؟
فؤاد
:
أبي هو الذي علمني؛ لأنه يقول إن المدارس تفسد الأخلاق! مبدأ غريب أليس
كذلك؟
زينب
:
جدًّا.
فؤاد
:
إنما لاحظي ألا يرانا معًا.
زينب
:
ولماذا؟
فؤاد
:
لأنه يحرم عليَّ النظر إلى الفتيات الجميلات أو التكلم مع النساء على
العموم.
زينب
:
وأيضًا لا تكلم النساء على العموم؟
فؤاد
:
نعم … إلا عمتي.
زينب
:
إذن فَعَمَّتُكَ ليستِ امرأةً.
فؤاد
(ضاحكًا)
:
غالبًا، ولكني أحب التحدث معك.
زينب
(ضاحكة بدلال)
:
ولكني من النساء!
فؤاد
(ضاحكًا)
:
وأحب الضحك معك.
زينب
:
وإذا رآنا والدك؟
فؤاد
:
أوه! دعينا من أبي فإني لا أخبره، وأنت بالطبع أليس كذلك؟
زينب
:
من غير شك.
فؤاد
:
وأقول لك فيما بيننا (يتلفت حوله).
زينب
:
ماذا؟
فؤاد
:
كلمة في أذنك (يقترب منها ويضع يده حول رقبتها
ويقبِّلها. في هذه اللحظة يدخل الدكتور من الوسط فيقع الكتاب من يد فؤاد
وهو يجري بسرعة خارجًا من الشمال وزينب تجري من اليمين).
الدكتور
:
أطهر من زهرة وأودع من حَمَل! (يتناول الكتاب ويقرأ
عنوانه «صناعة الحب») إذن فقد كان يطبِّق العلم على العمل (يفكر قليلًا) ولكنهما فتًى وفتاة وربما كان
لهما من الشباب وسوء التربية عذر يُلتمس، آه! ها قد أقبل اثنان من الأصدقاء!
(بلهجة تهكم وازدراء … يذهب يمينًا ويراقب دخول
شعبان أفندي ورمضان أفندي من الوسط).
شعبان
(بضحكة متكلفة دون أن يريا الدكتور)
:
هاها! لقد أصبحت لا أكترث لهذا المنزل كثيرًا.
رمضان
:
كذلك أنا.
الدكتور
(على حِدَة)
:
نِعْمَ الأصدقاءُ!
شعبان
:
والبستان يا أخي (بازدراء) أقبح ما رأيت
في حياتي … لا تنسيق ولا نظام.
رمضان
:
وهل نسيت الدجاج والحمام؟
شعبان
(هازئًا)
:
أكوام من العظام!
رمضان
:
عناية فائقة جدًّا في تربية الطيور هاهاها (الدكتور
يسعل فيستلفت نظرهما).
شعبان
:
الدكتور؟! (مرتبكًا) صباح الخير يا
دكتور.
الدكتور
:
أسعد الله صباحك يا شعبان أفندي، إنك تستيقظ مبكرًا حتى لأخشى أنك لا تحتاج
إلى طبي في يوم ما.
شعبان
:
حقًّا لقد استيقظت أنا وأخي مبكرَين؛ رغبةً منا في مشاهدة المزرعة.
رمضان
:
المزرعة! بل المملكة يا أخي! هاها!
الدكتور
:
ثروة طيبة أليس كذلك؟
شعبان
(يقلب بعض أوراق على المنضدة)
:
يجب أن تكون كذلك بناءً على الجعجعة التي سمعنا عنها من حسن بك.
رمضان
:
ولطالما ألحَّ علينا لنرى قصره ومزارعه.
الدكتور
:
ذلك لطيبة قلبه؛ فإنها تأبى عليه إلا أن يشاركه أصدقاؤه في سعادته.
شعبان
:
ولكن هذا لا يصح أن يدعوه للترنم دائمًا بثروته.
الدكتور
:
لأن هذا قد يكدِّر من يكون بلا ثروة.
رمضان
:
إنه لا يكدِّر فقط، بل يؤلم جدًّا وهذه شيمة كل ذوي نعمة حديثة.
شعبان
:
نعم، ولو لم يكن صديقي لما كنت أكترث للأمر، ولكن الذي يكدرني هو أن يكون
صديقي …
الدكتور
:
غنيًّا سعيدًا؟
رمضان
:
بل تحدُّثه بثروته وسعادته.
شعبان
:
وإنه يعلم أننا فقراء؛ ولذلك ليس من حسن الذوق أو الأدب ألا يدور حديثه معنا
إلا على ثروته وعظمته.
الدكتور
:
ولكنه لا يتأخر مطلقًا عن إعطاء أصدقائه كل ما يطلبون.
شعبان
:
وهذا مؤلم أيضًا وينافي ما يقتضيه الذوق؛ لأنه دائمًا يعطي حتى بدون أن
يُسأل!
الدكتور
(متهكمًا)
:
صدقت!
رمضان
:
كما أنه يدل على فساد القلب وسوء النية.
الدكتور
(متهكمًا)
:
بلا شك!
شعبان
:
ولا سيما إذا كان المرء فقيرًا فإنه ليس من المستحسن أن …
الدكتور
:
يُسدَى إليه معروف؟ بالطبع لا؛ لأن هذا يُعتبر حنانًا قاتلًا.
شعبان
:
لا لا، إنك لم تفهم قصدي.
الدكتور
:
بل أفهمه جيدًا جدًّا (إلى مرسي أفندي وقد دخل من
الوسط) أسعد الله صباحك يا سيدي العزيز!
مرسي
(بغضب)
:
أسعد الله صباحك!
الدكتور
:
لعلك استمتعت بنومك في هذا الهواء النقي.
مرسي
(بغضب)
:
نومي؟! لم يغمض لي جفن قط! ولا لحظة!
رمضان
:
أخشى أن أقول إننا أيضًا لم ننم؛ لأن الفِراش في الريف غير ناعم ولا
وثير.
مرسي
(غاضبًا)
:
آه من السرير في الريف! إنه آلة التعذيب! وتالله لقد كانت ليلتي بالأمس ليلة
مشهودة! فإننا عندما جلسنا في كشك الحديقة لتناول الشاي فإذا بالناموس وقد
تناولنا لدغًا وعضًّا! فضلًا عن قذارة الفناجيل وما في السكَّر من النمل وقد
نسجت العناكب خيامها على الزبدة والبسكوت (يهز كتفه
اشمئزازًا) فهذه الحال تناسب من كان مشتغلًا بعلم الحشرات!
رمضان
:
ولكن كيف نمت؟
مرسي
:
عندما دخلت قالوا لي إنها غرفة النوم لم أجد إلى النوم سبيلًا، وبعد إجهاد
ومحاولة ابتدأ النوم يعبث بأجفاني، وعندها ما أشعر إلا بشيء وقد زنَّ في أذني —
ولعله نحلة — ثم استقر على طرف أنفي ولدغني لدغة أفاقتني فإذا بي وقد هشَّمت
أنفي بكفي!
شعبان
:
وقتلتها بالطبع؟
مرسي
:
كلَّا يا سيدي لم أقتلها، بل أفضت الدم من منخري!
الجميع
:
هاهاها!
مرسي
:
وبعد أن أوقفت النزيف واسترحت قليلًا وابتدأ النعاس يداعبني فإذا بتلك الحشرة
وقد عادت إليَّ، فانتفضت من فراشي مدة وفي يدي طاقية نومي ولا يستر جسمي إلا
قميصي وسروالي فجعلت أجري في الغرفة نحو الساعتين وأنا كما وصفت أقتفي أثر
الحشرة الملعونة من السرير إلى الشماعة ومن الشماعة إلى الدولاب ومن الدولاب
إلى المنضدة ثم إلى السرير مرة أخرى … وهكذا إلى أن قبضت عليها وفقعتها!
شعبان
:
لقد خدمك التوفيق أخيرًا.
مرسي
:
التوفيق! أي توفيق يا سيدي وقد جرحت كفي وكسرت المرآة؟! وتالله إن هذه الليلة
ستمنع عني سعود الحظ سبع سنين!
رمضان
:
إنما نمت بعد ذلك؟
مرسي
:
كلَّا يا سيدي فإني ما شرعت أستريح حتى أخذ كلب ينبح فسمعه كلب آخر فاستنسب
أن يرد عليه، وهكذا جعل الكلبان ينبحان طول الليل وما إن أغمضت الطبيعة جفنيها
طلبًا للراحة قبيل الفجر حتى ابتدأ كوكوكو يصيح مؤذنًا بطلوع النهار، فقمت من
فراشي يائسًا!
رمضان
:
شيء مكدِّر جدًّا!
مرسي
:
جدًّا جدًّا! ولكن ما حيلتي وقد ألحَّ عليَّ حسن بك أن أزوره وأَبَتْ عليَّ
مروءتي إلا أن أجيب دعوته (يتناول كرسيًّا
فيجلس) وهو مسكين مثلي أفقه طيبة قلبه، آه فيا ليتني كنت أنانيًّا
(صوت عيار ناري من الخارج).
حسن
(في الخارج)
:
دَعْ هذا الحَمام بربك ففي الغيطان حمام بريٌّ كثير (يدخل من الوسط وهو يدق يدًا بيد) لعنة الله على هذه الحال! إنها
تجعلني أكره الدنيا والحياة!
الجميع
:
ما الذي جرى؟
حسن
:
لا شيء غير أن صديقي الصاغ قد وجد في طيور الحديقة خصومًا له وأعداءً فهو
دائمًا يطاردها ويصطادها؛ فأتلف المزروعات وأهلك الداجنات. والأدهى من ذلك كله
أني لم أعرف اسمه!
الدكتور
:
ألم يقل لك اسمه بعد؟
حسن
:
كلَّا، وليس من الأدب بالمرة أن أسأله عن اسمه، وعندما أقول له يا عزيزي …
آه؟ فإنه لا ينطق باسمه قط! ومما زاد نكدي اليوم أن ثعلبًا خبيثًا انسلَّ إلى
غرفة الدجاج الهندي وعاث فيها فسادًا.
مرسي
:
أسأل الله ألا يكون قد نسي الديوك!
حسن
:
لا لا يا مرسي أفندي؛ فإني لا أحب أن أسمع كلمة ضدها، ولكن من ذا الذي يكره
أن يستقبل الصباح بصياح الديك؟!
مرسي
(بازدراء)
:
مزاح ريفي ولا شك!
حسن
(ضاحكًا ببساطة ونية سليمة)
:
هاها! ألم تستنشق نسمات الصبح في البستان؟ المكان جميل ويروقك جدًّا، ألا ترى
ذلك يا شعبان أفندي؟!
شعبان
(يقلب صفحات كتاب أمامه)
:
على العموم لا بأس، ولكن المناظر ليست كما يجب.
رمضان
:
والجهة رطبة.
حسن
:
رطبة؟!
مرسي
:
بالتأكيد ألا تشعر بالهواء؟! إنه مشبع بالرطوبة.
حسن
:
تالله إننا لم نعرف الرطوبة هنا من قبل!
شعبان
:
ولكنك ستشعر بها عندما يقيد الروماتزم يديك ورجليك.
حسن
:
الروماتزم!
رمضان
:
هذه هي حال كل المساكين المجاورة للماء.
مرسي
:
والموقع منخفض جدًّا.
شعبان
:
وهذا الانخفاض يسبب شرَّ أنواع الحميات.
حسن
(مبهوتًا وهو شائع العينين من واحد لآخر)
:
والحميات أيضًا!
مرسي
:
وإني لأذكر أن صديقًا لي كان قد استأجر منزلًا على شاطئ النيل في هذه الجهة
كما أظن، فأصيب المسكين بالحمَّى ولم يلبث قليلًا حتى مات ودفن.
حسن
:
يا حفيظ يا حفيظ! إنك تزعجني.
رمضان
:
والقصر غير مناسب.
شعبان
:
لأنه يليق لأمير.
مرسي
:
أو وزير خطير.
رمضان
:
أو على الأقل شخص ذي هِمَّة ووجاهة وحيثية.
شعبان
:
وحرام على المرء أن يخدع نفسه.
مرسي
:
وحسن بك رجل عاقل يفهم.
رمضان
:
وصديقنا أيضًا.
مرسي
(إلى حسن بك في وجهه)
:
ولو لم أكن صديقك لما كلمتك بهذا الإخلاص.
شعبان
:
والصديق مكلَّف بأداء ما يقتضيه واجب الصداقة.
رمضان
:
واسمح لي يا حسن بك أن أقول لك بكل حرية إنك هنا موضع للعجب!
حسن
(وقد غُصَّ بريقه)
:
أترى ذلك؟
شعبان
:
أنت بالطبع أدرى بنفسك.
مرسي
:
أمر بديهي فإن من يراه قد يظنه بوابًا!
رمضان
:
وهذا مظهر قبيح.
شعبان
:
ويجعل للناس مجالًا للتقولات.
مرسي
:
ولقد سمعت بعضهم يقول: «ما الذي عمله حسن بك في حياته ليستحق ما هو فيه من
النعمة في حين أن كثيرين ممن هم أفضل منه لا يملكون شيئًا؟!»
رمضان
:
لا ذكاء ولا نبوغ! الناس معذورون بحكم الضرورة.
حسن
(بجهد وألم)
:
بحكم الضرورة!
شعبان
:
ولا حزم ولا بصيرة.
مرسي
:
حتى يصل إلى هذه الثروة من طريق شريف.
حسن
(مُحتدًّا)
:
طريق شريف! إني أقسم بحياتي!
شعبان
:
هذا ما يقوله الناس.
حسن
(غاضبًا)
:
كذب وبهتان! محض اختلاق!
رمضان
:
ربما، ولكن هكذا يقول الناس.
حسن
(بِحِدَّة وألم)
:
ناس! أي ناس! ألا لعنة الله على هذا كله! أشعر كأن الأرض تميد تحت قدميَّ
وأكاد أسقط من الدوار!
مرسي
:
لقد أبدينا لك آراءنا بكل صراحة وإخلاص (يمدُّ له
يده فيتناولها).
شعبان
:
وبطريقة أخوية محضة (يطلع مع
مرسي).
رمضان
:
ولم نلجأ للمحاباة أو المجاملة لأننا أصدقاؤك ويهمنا شأنك (يخرج يمينًا).
حسن
:
شكرًا لكم (على حدة) ربما كان ذلك بدافع
الصداقة، ولكني لا أحب هذا الأسلوب.
الدكتور
(ينزل)
:
ليت فريدًا كان معنا لعلنا نسمع منه أيضًا رأيًا في الموضوع!
حسن
:
لقد خرج للنزهة مع زوجتي (يذهب إلى المنضدة
ويكتب).
الدكتور
:
إذن يجب عليَّ أن أراه؛ لأني لم أَرَه هذا الصباح (يتناول طربوشه وعصاه).
مرسي
(إلى شعبان)
:
إن هذا الدكتور خبيث ولا يعتقد في الصداقة.
الدكتور
(ينزل إليهما وقد سمعهما ويحملق فيهما)
:
أصحيح هذا؟ وهل تعرفان الصداقة؟!
شعبان
:
ربما كنت أنا يا دكتور أصوب منك نظرًا في الأمور ومن رأيي أن الصداقة ليست
طلسمًا مُعْجِزًا ولا شرًّا لا يُدرك كنهه، بل شيء عادي محض.
الدكتور
:
بالطبع … وشائع أيضًا؛ فإن مجرد التعارف يعتبر صداقة. وهذه الصداقة يقاس
معيارها بكيفية التحية؛ فإنه عندما يتقابل الصديقان ويظهر كل منهما بيد صديقه
يتباريان في هزِّ الأيدي بعنف وشدة حتى ليكاد أحدهم أن ينزع ذراع صديقه من
كتفه، بينما يكاد الآخر يوقع زميله على الأرض من شدة التحية! وبعد ذلك يتجلَّى
الحقد والنميمة والحسد والتطفُّل، كل هذا يتجلَّى بدافع تلك الصداقة أيضًا،
أليس كذلك؟ (شعبان أفندي ومرسي يهزان رأسيهما
بامتعاض).
حسن
:
ما هذا يا دكتور؟ إنك لقاسٍ جدًّا، فليس كل الأصدقاء سواء!
الدكتور
:
حقًّا إنهم ليسوا سواء فمنهم من يُسخِّر أصدقاءه لخدمته، ومنهم من يتخذ من
أصدقائه موضوع هزء وسخرية، ومنهم من يفضح عيوب أصدقائه أمام الناس، ومنهم من
يضايق أصدقاءه بمسكنه، ومنهم من يتَّجر بأصدقائه، ومنهم من يستعير كتبك ولا
يردها، ومن يسلبك زوجتك ويفسدها عليك … وغير هؤلاء كثير.
مرسي
:
ولكن الصديق المخلص …
شعبان
(متممًا)
:
هو الذي يكرس حياته لأجل صديقه.
مرسي
(بزهو)
:
ألم يقع نظرك قط على صديق كهذا؟!
الدكتور
:
أعرف اثنين كما وصفتما.
مرسي وشعبان
(باستفهام مشوب بالسرور)
:
آه؟
الدكتور
:
إنهما ليسا هنا.
مرسي وشعبان
(باستياء وكآبة)
:
أوه!
الدكتور
:
نعم، فقد عرفت صديقين بمعنى الصداقة الحقة التي أعرفها، فإنهما عندما كانا
غلامين قذف أحدهما بنفسه إلى النيل مخاطرًا بحياته لينقذ حياة رفيقه، وعندما
كانا رجلين حاربا جنبًا في فتح السودان، وبينما القتال محتدم وإذا بِحَرْبَة
كادت تخترق صدر أحدهما فما كان من الآخر إلا أن ذكر في هذه اللحظة الهائلة أنه
مدين بحياته لصديقه فرمى بنفسه على تلك الحربة المصوبة وتلقَّى بصدره طعنتها
القاتلة؛ فَخَرَّ مضرجًا بدمائه الطاهرة. أما المسكين الذي قُتل فقد كان أبي
أيها السادة! فكفلني مِن بعده صديقه الذي نجا. ولما كانت هذه الحادثة قد انطبعت
على صفحات قلبي منذ طفولتي؛ فلذلك ترونني معذورًا إذا تطلبت الصداقة ما يُعد
خارقًا للمألوف!
مرسي
:
ولكن في حياتنا العادية البسيطة — وأقصد حياتنا الواقعية — أظن أنه لا يمكن
لأي إنسان أن يتلقى بصدره طعنة من حربة حتى لو حدَّثته نفسه بإتيان هذا العمل
الجنوني!
شعبان
(هازئًا)
:
أو يلقي نفسه إلى الماء لينقذ آخر، اللهم إلا إذا وقع في الماء رغم
إرادته!
مرسي
:
هذا ما يسمونه تضحية النفس، ولكن في الواقع … (لا
يدري ماذا يقول فيهز رأسه بامتعاض).
الدكتور
:
نعم نعم، إنكم لتشعرون بشدةِ وَقْعِ ما أقول، وحقًّا إن المعارف والزملاء
ليسوا أصدقاء بالمعنى الذي يدل عليه معنى الصداقة السامي، فالصداقة الحقة أصبحت
اسمًا على غير مسمًّى، فهي كالفروسية القديمة التي تُتلمس أخبارها في بطون
التواريخ!
حسن
:
لا فُضَّ فوك يا دكتور، ولكني لا أرى بأسًا من أن يتغاضى المرء عن
كثير.
مرسي
:
إنك بالطبع ما دمت تتكلم عن الدموع وتضحية النفس …
شعبان
(مقاطعًا)
:
وأين تجد أصدقاء كما تصف؟
الدكتور
(ينزل)
:
من يدري؟ ربما أجد صديقي حيث لا أتوقع وفيمن لا أنتظر، وقد أكون في غفلة عن
شأني وعينه ترعاني بدون أن أدري وبدون أن يُعلِن عن نفسه، لا ابتغاء أجر ولا
طمعًا في كلمة شكر؛ ولكن قيامًا بواجب الإخلاص النقي والصداقة المطهرة … أسعد
الله صباحكم أيها السادة (ينحني ويخرج من
الوسط).
شعبان
:
مُدَّعٍ ولا شك!
مرسي
:
نعم ولا قلب له، آه! كم أتمنى لو كنت أنانيًّا!
(يدخل الصاغ بيومي وهو يدخن سجارًا وينفخ الدخان في وجه حسن بك، وبيده رأس
كرنبة يهزها.)
الصاغ
:
ما هذه؟ (يناولها إلى مرسي فيقلِّبها):
هذا! (ويهز رأسه ويناولها إلى شعبان
فيأخذها): هذا! (ويعطيها إلى الصاغ فيرمي
بها إلى حسن بك).
حسن
(يسعل)
:
هذه … هذه … شيء مكدر للغاية … مكدر جدًّا …
الصاغ
:
بصفتك بحَّاثة في علم النبات قل لي ما هذه؟
حسن
(بأسف وحيرة)
:
هذه رأس كرنبة، والكرنب والكرنبيت يرجعان إلى أصل واحد.
الصاغ
:
ومن يكون صاحبها؟ لأني بينما كنت أتنزه في البستان مفكِّرًا مطمئنًا وإذا
برأس الكرنبة هذه وقد لطمتني على أذني فأطارت صوابي، وتبع ذلك أعواد قذرة
وأوراق شجر جافة وقشر خرشوف انهالت على رأسي كالمطر!
الجميع
:
أعواد قذرة؟ وممن؟
الصاغ
:
لست أدري ممن، ولكني عرفت من أين نزلت عليَّ.
حسن
:
نعم نعم، من حديقة جاري أسعد بك بلا ريب؛ فإنه لا يجاورنا غيره، وعنده بستاني
لا يرعى حرمة الجوار.
الصاغ
:
لا تهمني مسألة الحرمة بقدر ما يهمني أني عرفت اسم جارك وهو المسئول أمامي
شخصيًّا، وتالله لأؤدبنَّه أدبًا شديدًا! ولا أظنك تسكت قط عن هذه المسألة.
أوَيرضيك أن يُضرب ضيوفك بما تُنبته حديقة جارك؟!
حسن
(مرتبكًا حائرًا)
:
… المسألة … قضاء وقدر بلا ريب …
الصاغ
:
ولكنه سَبَّكَ ولعنك وقال إنك نذل جبان، فهل هذا أيضًا بالقضاء
والقدر؟
الجميع
:
نذل وجبان؟!
حسن
:
ولكنه لم يقصدني أنا بهذه الشتائم.
الصاغ
:
أما من هذه الوجهة فاطمئن جدًّا؛ لأني سألته قائلًا: أتعي ما تقول أيها
الوقح؟ فأجابني بقوله: نعم أيها اللص المتشرد! وقد كلمته بالنيابة عنك بالطبع،
فهل كلُّ هذا قضاء وقدر أيضًا؟
حسن
:
تالله إنه لحادث عادي بالمرة!
مرسي
:
وإنه لَغير عادي أيضًا أن تسكت عن هذه المسألة.
شعبان
:
لا لا، هذه المسألة لا يمكن أبدًا أن تنتهي على هذه الصورة.
حسن
:
إذن فسأرمي إليه برأس الكرنبة (يدخل خليل من الوسط
مسرعًا).
خليل
:
سيدي البك سيدي البك! أظن أننا قد عرفنا مخبأه أخيرًا.
حسن
:
مخبأ الثعلب؟ حسن جدًّا ها أنا آتٍ حالًا، اسمحوا لي برهة يا سادة ريثما أمزق
لحمه وأعود (يخرج مسرعًا).
الصاغ
:
هذا واجب عليه أؤيده فيه كل التأييد، ولا إخالكما إلا فاعلين مثلي يا
سيديَّ!
شعبان
:
بكل تأكيد!
مرسي
:
إننا لا نتخلى عن صديق لنا.
الصاغ
:
ويجب أن نجعل جاره يعتذر اعتذارًا صريحًا واضحًا عن تلك الإهانة.
شعبان
:
وعن رأس الكرنبة أيضًا.
مرسي
:
إنما ماذا تكون الحال إذا رفض الاعتذار؟
الصاغ
:
إذا رفض الاعتذار؟ فليجرأ على الرفض! ألا تريان أن الإهانة كبرى وأنها موجهة
ضد الشرف مباشرة؟ وكل الإهانات الموجهة ضد الشرف لا يغسلها إلا الدم، فإذا رفض
الاعتذار فإننا ندعوه إلى مبارزة حسن بك في الحال. هذا رأيي بصفتي رجلًا
عسكريًّا متقاعدًا، فماذا تقولان؟
شعبان
:
حقًّا إنها إهانة كبرى ولا يغسلها إلا الدم، ونحن موافقان على رأيك.
الصاغ
:
إذن هلموا بنا نقوم بواجب الصداقة نحو حسن بك (يظهر
الدكتور في الخارج ثم يختفي في الخارج أيضًا بجوار الباب المؤدي إلى
الحديقة للمراقبة).
مرسي
:
اذهب معه يا شعبان أفندي ولا تتردد إنما أوصيك بالحزم!
شعبان
:
نعم، وسنعلِّم ذلك اللعين كيف يهين صديقًا لنا (يخرج مع الصاغ).
مرسي
:
لولا حدة طباعي وأني لا أستطيع أن أملك زمام غضبي إذا أُهين صديق لي لكنت
خرجت معهما (يجلس على المنضدة يقلب
الأوراق).
الدكتور
(يدخل وينزل متمهلًا على حدة)
:
ما الخبر يا تُرى؟
مرسي
(يراه ويقول لنفسه)
:
صاحبنا الفيلسوف. (له) فليقل غيري ما يشاء
إنما لِحُسن حظ حسن بك أني هنا معه لأني أدافع عن شرف صديقي، ولو أنني لا أتلقى
طعنة حربة بصدري ولا ألقي بنفسي إلى النيل.
الدكتور
:
وهذا لمما يزيد الأسف!
مرسي
:
سيدي! إني … آه! رجل لا قلب! كم أتمنى لو كنت أنانيًّا (يخرج من اليمين).
الدكتور
:
أمكيدة أخرى بدافع الصداقة أيضًا؟ ولكن ما أقرب هزيمتهم وما أسهلها (صوت فريد يغني من الخارج وصوته يقترب بالتدريج)
ذلك هو الخصم العنيد.
فريد
(يدخل)
:
خذ بيدي فقد ذبت اصطبارا
وفي قلبي أثارَ الوجد نارا
وما وعدت فأحيا بالتأسي
كأن لم تتقي فيَّ البوارا
حياة المرء آمال ترجَّى
فنحن لما نؤمِّله أسارى
الدكتور
:
أتعرف يا فريد ماذا يجب عليك الآن فعله؟
فريد
:
ماذا؟
الدكتور
:
يجب أن ترحل عن هذا البيت في الحال.
فريد
:
أرحل في الحال!
الدكتور
:
نعم إلى العاصمة، وقطار الإكسبريس سيقوم بعد ساعة.
فريد
:
أراك تتعجل في ترحيلي من بيت ابن عمي!
الدكتور
:
صحتك في أشد الحاجة إلى تبديل هواء هذا البيت.
فريد
:
صحتي؟!
الدكتور
:
نعم، صحتك النفسانية إن لم تكن صحتك الجسمانية. وإني ما زلت أقدِّرك كصديق
حتى لأتمنى لو كنت مريضًا حقيقة وأن أقف بجانب فراش موتك عن أن أراك تَنْصِب
حبالتك لإيقاع زوجة من هو ابن عمك وصديقك وولي نعمتك ومن أنت مدين له بحياتك
وشرفك.
فريد
(متأثرًا)
:
سيدي!
الدكتور
:
هيا هيا يا فريد اتبع نصحي واعمل به؛ فإن في فؤادك بذور مرض خبيث وداء قتَّال
فأسرع باستئصال الداء قبل استفحاله، والرجل الشريف يلبي خالص النصح.
فريد
(متأثرًا)
:
ما أسهل إسداء النصيحة! إنك لا تعرف آلام القلوب.
الدكتور
:
إني لأعرف كل شيء وأعرف أنك فتًى في الخامسة والعشرين من عمرك خالٍ من كل ما
يلهيك وفي حاجة إلى حادث كبير يملأ فراغ وقتك ويُشبع مطامعك، هذا هو كل ما في
الأمر وليس هنالك ما هو أكثر من ذلك.
فريد
:
كلَّا، وأصرِّح لك بأن ما أشعر به وقد ملأ كل ناحية من قلبي ونفسي ليس إلا
الحب، الحب الخالص ولا شيء سواه.
الدكتور
:
يا للهول! الحب! بل قل السفالة، قل النذالة، قل الوحشية! إن لها زوجًا يا رجل
وهذا الزوج صديقك وابن عمك!
فريد
:
بل عدوِّي ومزاحمي! وليكن ما يكون!
الدكتور
(مقاطعًا)
:
وبعد هذا لا ترحل؟
فريد
:
أبدًا فَبُحْ بسري إن استطعت (يخرج من الوسط إلى
الشمال).
الدكتور
:
أبوح بسره! كلَّا وإني لأكثر من ذلك حكمة وَأَسَدُّ رأيًا، بل أنقذه رغمًا
عنه (يفكر) لقد اكتشفت الداء فماذا عسى أن
يكون الدواء؟ (تظهر أمينة هانم في الباب اليمين تنظر
فيلمحها خلسة ويقول لنفسه) ها هي منبع الداء ومستودع
الدواء.
أمينة
:
دكتور! دكتور!
الدكتور
(يلتفت إليها)
:
عفوًا يا هانم فإني لم أرك إذ كنت منهمكًا في الكتابة.
أمينة
:
تذكرة طبية؟
الدكتور
:
نعم يا سيدتي.
أمينة
:
لعزيزي … (مستدركة) لفريد أفندي؟
الدكتور
:
نعم يا هانم لفريد أفندي.
أمينة
:
لقد تقدمت صحته كثيرًا أليس كذلك؟
الدكتور
:
هذا ما يلوح عليه.
أمينة
:
إذن فقد زال الخطر؟
الدكتور
:
أُراني … أظن … على كل حال يظهر أن …
أمينة
:
أراك مرتابًا!
الدكتور
:
كلَّا، ولكني أفكر بدقة وعناية واهتمام بشأن عظيم وأظن أنه لو اتبع ما في هذه
التذكرة …
أمينة
(تأخذها منه بلهف)
:
نعم يا دكتور؟
الدكتور
:
فإننا نحصل على نتيجة باهرة، ولكنه لسوء الحظ شاب في ريعان الصِّبا وبلا أم
أو أخت فهو مرغم على أن يعيش وحيدًا ولكن إذا أسعده الحظ وأقام تحت كنفك وفي
رعايتك مدة كافية واستمتع بما هنا من الدعة والطمأنينة وحياة السكون
والراحة!
أمينة
:
إننا لا نسمح له بمفارقتنا حتى يشفى تمامًا.
الدكتور
:
أؤكد لك يا سيدتي أنك بقولك هذا قد رفعت عن عاتقي عبئًا ثقيلًا؛ لأني كلما
أفكر في أن هذا الشاب المسكين سيعود إلى العاصمة ويعيش عيشة الشبان أمثاله يخفق
قلبي إشفاقًا عليه، وعندما أفكِّر في أنه ربما يستهدف لعاطفة قاتلة تصطك ركبتاي
من الفزع.
أمينة
(برعب)
:
عاطفة قاتلة؟!
الدكتور
:
نعم يا سيدتي، وأقول لك فيما بيننا وأوصيك بالكتمان إن أشد ما أخافه عليه هو
… (يلتفت حوله).
أمينة
(خائفة وجلة)
:
هو … ماذا؟
الدكتور
(متصنعًا الحذر)
:
اضطراب الفكر وحمَّى الأرواح؛ ذلك الذي يسمونه الحب.
أمينة
:
الحب؟!
الدكتور
:
نعم يا هانم؛ فإن الحب في حالته الحاضرة (يهز رأسه
يائسًا) آه!
أمينة
:
في حالته الحاضرة! إنك تفزعني يا دكتور! إذن فما حالته؟
الدكتور
:
قلبه يا سيدتي، قلبه عليل سقيم.
أمينة
:
هذا مخيف!
الدكتور
:
وهذه الحالة مرتبطة بالحياة أشد ارتباط، ولكن لا تخافي فقد يعمِّر طويلًا إلى
الستين أو الثمانين، ومن يدري فقد يصل إلى المائة!
أمينة
:
ليته يعيش مائة سنة!
الدكتور
:
هذا تحت شرط أن يتجنَّب كل ما من شأنه إثارة العواطف كالمجاهرة بالحب مثلًا،
وتالله إن الدماء لتجمد في عروقي عندما أفكر في ذلك، وإذا لفَّ ذراعه حول عنق
فتاة أو استعطفها بحرارة وَجْدٍ فإنه يتعرض لخطر عظيم، أما إذا ركع على ركبتيه
فإني ضعيف الأمل في أنه يستطيع النهوض.
أمينة
:
هذا مزعج مخيف!
الدكتور
:
وا أسفاه يا سيدتي! فإن لكل منا تكوينًا عجيبًا خاصًّا به، فسبحان الخلَّاق
العظيم!
أمينة
:
إذن فالمسكين عرضة لخطر داهم؛ لأن الحب يأتي عفوًا، والميل الاختياري شيء
والانعطاف القهري شيء آخر، والممنوع مرغوب فيه كما تعلم وربما كان تحريم الحب
عليه سببًا لتعلقه بالحب.
الدكتور
:
لا أخفي عليك يا سيدتي أن ثقتي فيه ضعيفة؛ ولهذا السبب أتركه في رعايتك
فتكونين له صديقة أو أختًا.
أمينة
:
ولكن يا دكتور …
الدكتور
:
كفى يا سيدتي فقد اقتنعت تمامًا وأستأذنك في الانصراف (يخرج من الوسط).
أمينة
(وحدها)
:
يا لتعاسة هذا الشاب! جميل وظريف ومهذب ولكنه غير سعيد (تلمح فريدًا مقبلًا) ها هو قد أتى فكيف أحذره
مما يتهدده من الخطر (يدخل فريد فتتشاغل أمينة بما
على المنضدة من الورق وظهرها إلى الباب).
فريد
(على حِدَة)
:
راقبته حتى انصرف فماذا عساه يكون قد قال لها؟
أمينة
(لنفسها)
:
يا له من نفس! (تلتفت إليه) ها قد أتيت
أخيرًا يا كسول!
فريد
(على حِدَة)
:
لم يقل لها شيئًا. (لها) ظننتك في الحديقة
فبحثت عنك هناك.
أمينة
:
وأنا كنت هنا مع الدكتور.
فريد
(يجعل المنضدة بينه وبينها ويواجهها)
:
ماذا قال لك بشأني؟
أمينة
:
أمرني بتمريضك ومراقبتك مراقبة دقيقة شديدة.
فريد
(على حِدَة)
:
لا ريب أنه لم يقل لها شيئًا.
أمينة
:
وعلى ذلك (تجلس في اليمين) لا يجوز لك
مطلقًا أن تغادرنا حتى تصدر إليك أوامري.
فريد
:
إذن لا يجوز لي السفر حتى ولو أردت؟
أمينة
:
نعم، وثانيًا لا يجوز لك مطلقًا أن تبرح هذا البيت.
فريد
(مندهشًا)
:
وهل هذه هي أوامر الطبيب؟
أمينة
:
أوامره كما هي، فلا تتنزَّه إلا معي ولا تتحدث إلا معي ولا تطالع إلا معي،
وبالاختصار فإني لا أفارقك قط.
فريد
:
تالله إن هذا الطبيب لنابغة الأطباء؛ لأن هذا العلاج سيعيد إليَّ الحياة ولو
كنت ميتًا (يقبِّل يدها).
أمينة
(تخطف يدها بسرعة … على حِدَة)
:
يا لله! لقد ابتدأ يتهيج.
فريد
:
ويجب عليَّ أن أقدِّم إليه مزيد شكري الخارج من أعماق قلبي (يقف ويدفع الكرسي إلى الخلف).
أمينة
(على حِدَة)
:
أعماق قلبه، أدهى وأَمَر! هدئ روعك يا فريد!
فريد
(مندهشًا)
:
عفوًا!
أمينة
(بقلق)
:
لا تهيِّج عواطفك؛ لأن هذا محرَّم عليك تحريمًا باتًّا.
فريد
:
وكيف الوسيلة يا سيدتي وبين جنبي قلب يتجاذبه عاملان؛ عامل الحب وآخر من
الوَجَل؟!
أمينة
(على حدة مضطربة)
:
يا لله!
فريد
:
وقد استقر في سويدائه حب …
أمينة
(مقاطعة مضطربة)
:
حب؟!
فريد
:
نعم حبٌّ سرى في دمي وملك عليَّ نفسي.
أمينة
(لنفسها مضطربة)
:
إن هذا سيكلفه حياته. (له) كفى كفى يا
فريد فقد خالفت أوامر الطبيب، فاحذر وإلا فإنك تنتكس لا محالة!
فريد
:
حبذا الموت في سبيلك؛ فإني أحبك يا أمينة (متأثرًا) أحبك بحرارة وجنون (منفعلًا).
أمينة
:
وجنون (تبتعد خطوة) يظهر ذلك!
فريد
(يقترب منها)
:
فاستمعي لي!
(يمسك يدها ويركع مستعطفًا، فتصرخ
مستغيثةً، فيدخل مرسي أفندي من الوسط ومعه ولده فؤاد ويحملق في أمينة وفريد
وقد وضع يده على عيني ولده حتى لا يرى هذا المشهد وهو واقف عند الباب بشكل
مضحك متظاهرًا بالتأوب، فتجري أمينة مسرعةً صارخةً من اليمين، وتنزل الستار
بسرعة.)