الفصل الرابع
(المنظر: كما في الفصل الثالث تمامًا غير أن المنضدة التي في الوسط عليها أوراق
وأدوات للكتابة …)
(ترفع الستار عن أمينة هانم جالسة في كرسي في اليمين وهي صفراء اللون
تائهة الفكر وأمامها زينب.)
أمينة
(ترفع رأسها قليلًا)
:
ألم تَرَي سيدك البك هذا الصباح يا زينب؟
زينب
:
كلَّا يا سيدتي ولست أدري أين ذهب، وكذلك لم أرَ فريد أفندي.
أمينة
(باستياء وفتور)
:
لم أسألك عن هذا (يدخل الدكتور من
الشمال).
الدكتور
:
صباح الخير يا هانم.
أمينة
(تقف)
:
صباح الخير يا دكتور (تنظر إلى زينب فتخرج من
اليمين) كيف أستطيع أن أشكرك على ما فعلت بالأمس؟! (الدكتور يطأطئ رأسه).
الدكتور
:
لم أفعل يا سيدتي إلا ما يقتضيه الواجب في مثل ذلك الموقف الحرج.
أمينة
:
حقًّا لقد كان موقفي بالأمس أسوأ موقف تَقِفُه سيدة أمام زوجها وأمام صديق
مثلك، إنما كيف ساقتك العناية إليَّ في تلك اللحظة؟
الدكتور
:
الحقيقة يا سيدتي أني كنت أبحث عن فريد، ولمَّا لم أجده في غرفته رجَّحت
وجوده هنا، غير أني وجدت ذلك الباب موصدًا (يشير إلى
الباب الأول اليمين) فنزلت إلى الحديقة من الناحية الأخرى وأتيت
من هذا الباب (يشير إلى الباب الشمال)
وتالله ما كان أشد خجلي عندما وجدتك هنا مع حسن بك! إنما كيف انتهت ليلة
أمس؟
أمينة
:
آه يا دكتور! لقد أمضيت بالأمس ليلة هي أسود الليالي.
الدكتور
:
هل قال لك شيئًا آلم عواطفك؟
أمينة
:
كلَّا، ولم نتحادث بالأمس؛ لأنه بعد أن خرج من هنا مسرعًا كما رأيت لم يعد
إلا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وعندما سمعت وقع أقدامه تولَّاني رعب
شديد وفزع أكبر فارتميت على المقعد الطويل وتظاهرت بالنوم.
الدكتور
:
فتركك ونام؟
أمينة
:
بل ظل واقفًا إلى جانبي يتفرَّس فيَّ فَعَلَتْ دقات قلبي حتى لا أشك في أنه
سمعها ولم أجسر على أن أختلس النظر إلى عينيه، ولكني شعرت بما يتجلَّى فيها، ثم
جعل يتمشَّى في الغرفة وهو يفكر تفكيرًا عميقًا، وما لبث أن اندفع نحو النافذة
وفتحها وظل يسرح ناظره حتى تنفس الصباح، فانسلَّ خارجًا وخلَّفني أكاد أموت من
الفزع.
الدكتور
:
ولم تريه إلى الآن؟
أمينة
:
لم أَرَه حتى إني شديدة الرغبة في رؤيته، ومع ذلك أخشى أن أرفع عيني في
عينيه.
الدكتور
:
تشجعي تشجعي.
أمينة
:
إن أفكار الليل كادت تذهب بصوابي وكان يجب عليَّ أن أخبره بكل شيء، أما وقد
أضعت الفرصة فمن ذا الذي يصدقني الآن؟!
الدكتور
:
أرجو أن تُهدِّئي روعك؛ لأنك ربما تكونين قد أقلقت بالك أكثر مما يجب.
أمينة
:
لا لا، ولقد هممت أن أقول له إن هذا كله محض افتراء، ولكني لم أقوَ على
القول.
الدكتور
:
أنصفتِ أما إذا كان قد رأى فريدًا هنا …
أمينة
:
ماذا؟ أنت أيضًا يا دكتور تعتقد أن …
الدكتور
:
معاذ الله يا سيدتي! فإني لا أعتقد في شيء يَمسَّك وإلا لما كنت أطأ أرض هذا
البيت، ولكن كيف يعلل وجود فريد في البلكون في تلك الساعة من الليل؟
أمينة
(بشيء من الأنفة)
:
إذن لا بد أن أخبر زوجي بالأمر كله في الحال؛ لأن كرامتي تأبى عليَّ قبول
الاتهام.
الدكتور
:
تبصَّري يا سيدتي؛ لأن هذا سيؤدي إلى أوخم العواقب وقد ينتهي بسفك
الدماء!
أمينة
:
لا لا، سأخبر زوجي بكل شيء وسيصدقني بل يجب أن يصدقني (ذاهبة نحو الباب اليمين الأول).
الدكتور
:
ولكن أين البرهان؟
أمينة
:
البرهان؟ لديَّ البراهين؛ فإني أستطيع أن أثبت له … لا لا … لا أستطيع وكل
شيء يتهمني وكل شيء يمكن اتخاذه دليلًا ضدي، وقد وقعت في أحبولة من الإفك
والبهتان ولا أملك تبرئة نفسي (تقع على كرسي خائرة
القوى وتغطي وجهها بيديها).
الدكتور
(ينظر ناحية الباب الشمال)
:
هُسْ! فقد أتى فريد.
أمينة
:
أيزال هنا! وكيف يجسر على البقاء؟ إني لا أحب أن أراه (ذاهبة إلى الباب).
الدكتور
:
ولكن يجب أن نعرف ما إذا كان قد قابل حسن بك أو لم يقابله.
أمينة
:
إذن فاسأله أنت ما شئت؛ لأن رؤية هذا الرجل تخيفني وتملؤني رعبًا (تخرج من الشمال).
الدكتور
(وحده)
:
يا لها من امرأة مسكينة! ولكن لا غرابة في الأمر؛ لأن إطلاق الحرية للنساء في
مخالطة الرجال يجرُّ إلى ما هو أشر من ذلك وأوخم عاقبة (يدخل فريد من الشمال متباطئًا).
فريد
(وقد أخفى ذراعه اليمنى في صدره)
:
صباح الخير يا دكتور، لقد كنت أبحث عنك.
الدكتور
:
كذلك أنا، هل رآك أحد بالأمس؟
فريد
:
لا أظن ذلك، وقد عملت بنصيحتك الثمينة فقفزت من البلكون ولكن السقطة آلمتني
لحظة وما كدت أنهض وأتسلل خلال الأشجار حتى لمحت شخصًا في البلكون ينظر ناحيتي
وما لبث أن نزل إلى الحديقة يبحث في كل مكان فاختفيت وكتمت أنفاسي حتى إذا
تجاوز ناحيتي تسللت بخفة وجريت من البستان، وقضيت ليلتي في الحقل المجاور بين
أشجار القطن أفكر فيما جرَّه عليَّ هذا الطيش.
الدكتور
:
الطيش … بل قل …
فريد
:
جريمة؟ سمِّها ما شئت، ولكن ثِقْ يا صديقي العزيز أني أسفت أشد الأسف وندمت
جِدَّ الندم وسأبذل كل جهدي لعلي أستطيع إصلاح ما جرى.
الدكتور
:
الآن فقط تكلمت كما يتكلم رجل شريف، فهات يدك (يصافحه).
فريد
(متألمًا من المصافحة)
:
آه!
الدكتور
:
ماذا؟
فريد
:
عندما قفزت من البلكون وقعت على معصمي فانثنى كما ترى.
الدكتور
:
رضوض … جزاء عادل، لقد كوفئت على ما اقترفت. (تدخل
أمينة هانم من الباب الأول اليمين وهي متألمة مضطربة) هل عاد حسن
بك يا هانم؟
أمينة
:
كلَّا يا دكتور ولكني أرسلت زينب لتبحث عنه فوجدته في آخر البستان يتمشَّى
مفكرًا فانتهرها؛ لأنها عكرت عليه صفاء خلوته.
الدكتور
:
كان يحسن أن تدعيه وحده وألا ترسلي إليه أحدًا.
أمينة
:
تلك غلطتي ولذلك جئت أقصها عليك (ينظر ناحية الباب
الشمال) وها هو آتٍ هناك (فريد عندما
يسمع ذلك يهمُّ بالخروج من الباب الأول اليمين).
الدكتور
(إلى فريد)
:
ابْقَ يا فريد هنا (ينظر إليه فريد نظرة المتردد
ويجلس في أعلى المسرح متشاغلًا بكتاب أو غيره مما على المنضدة)
وأنت يا هانم أرجوك البقاء معنا (تجلس على كرسي في
اليمين مفكرة بائسة. الدكتور كأنه يتمم حديثًا معها) وأنا معك في
هذا الرأي؛ إذ يجب حقيقة أن يكون تعليم البنات أكثر انطباقًا على العوائد
والتقاليد الشرقية، وإلا ضاعت قوميتنا وأصبحت الأسرة المصرية لا شرقية ولا
غربية (خلال هذا الحديث يدخل حسن بك من الشمال
متمهلًا وهو يقرأ جريدة في يده وتحت ذراعه جرائد أخرى. ينزل
بِتُؤَدَة).
أمينة
:
بلا ريب (على حدة) هذا عذاب وجحيم!
حسن
(يقرأ في الجريدة)
:
وليس ببعيد على هذه الأمة العريقة في المجد أن تتبوأ مركزها اللائق بها بين
الأمم وتصبح من أكبر عوامل الرقي والحضارة في العالم.
الدكتور
(إلى حسن بك)
:
يظهر أن شئون البلاد قد شغلتك يا حسن بك وأَلْهَتْكَ عن كل ما عداها.
حسن
:
معذرة يا عزيزي الدكتور صباح الخير كيف حالك؟
الدكتور
:
بخير ولله الحمد.
أمينة
(على حدة)
:
إنه مصفرُّ اللون.
حسن
(لزوجته)
:
أنت هنا؟ تالله لم أَرَكِ، لقد تركتك ليلة الأمس بغتةً وعندما عدت وجدتك
نائمة نومًا عميقًا فلم أشأ أن أقلق راحتك، أما أنا فلم يغمض لي جفن طول الليل؛
لأن الصداع الشديد تولَّاني حتى الصباح. (يلمح
فريدًا) فريد؟ أين كنت هذا الصباح لأني لم أجدك في غرفتك؟
فريد
:
آه، لقد خرجت اليوم مبكرًا جدًّا لأستنشق نسمات الصباح المنعشة في المزارع
والحقول.
حسن
:
هذا يفيدك جدًّا، أليس كذلك يا دكتور؟
الدكتور
:
بالطبع، ولقد عمل ذلك بناءً على نصيحتي.
حسن
(إلى فريد)
:
ولكن ما بالك رافع يدك كما لو كانت مصابةً بشيء؟!
فريد
(متجلدًا ومخفيًا شعوره)
:
أوه، لا شيء بها.
حسن
:
يجب أن تحرص على يدك أشد الحرص؛ لأنك ستحتاج إليها قريبًا. (للدكتور) ألم تقرأ الجرائد اليوم يا
دكتور؟
الدكتور
:
كلَّا، وهل فيها شيء جديد؟
حسن
:
لقد وقع نظري في أحدها على حادث عظيم (الكل
يُصغون) ذلك أن زوجًا اتضح له أن زوجته سلكت مسلكًا صعيبًا شائنًا
فتغلَّب اليأس على المسكين وانتحر (اندهاش
عام) والحادث طبيعي جدًّا، والجريدة فصَّلته أحسن تفصيل.
الدكتور
:
ولكني لا أظن الحادث طبيعيًّا بل إنه نادر الوقوع على هذه الصورة، لا سيما
وأن الانتحار أمر محزن جدًّا.
حسن
:
أوَكنت تنتظر أن ينظر الزوج إلى خيانة زوجته نظرته إلى شيء مضحك مفرح؟
الدكتور
:
أنا لم أنتظر ذلك ولم أقل ذلك، ولكني أقول إن مسألة الانتحار …
حسن
(مقاطعًا)
:
آه يا صديقي العزيز! لو كنت متزوجًا لاستطعت أن تدرك مقدار العذاب الذي يشعر
به المرء لمجرد الغَيرة وحدها، فما بالك بالزوج عندما يرتاب في زوجته ثم يتضح
له أن هذه الريبة أمر حقيقي! ماذا عساك تظنه يفعل؟ أيقتل العشيق؟ أم يقتل
الخائنة؟ أم يقتلهما معًا؟ أم يقتل نفسه؟ أم يتركهما ويعيش تحت نِير العار
والفضيحة؟ أم تظنه يعفو ويصفح؟ ربما كان في وسع البعض أن يصفح ويغتفر ولكن ليس
في وسعه أن ينسى؛ فيظل شبح الجريمة ماثلًا أمامه ما دام حيًّا. ومن رأيي أن هذا
الزوج الذي نحن بصدده قد أنصف بانتحاره؛ أَعَذَابُ لحظة أم عذاب الأيام يبقى ما
بقيت الحياة؟ إن بين العذابين لفرق كبير، ولا يسعني إلا أن أقول إني أفضل
الانتحار.
أمينة
(مرتبكة مضطربة)
:
الانتحار!
حسن
(مسترسلًا ولم يسمعها)
:
وعلى رأس الشريكين في الجريمة يقع دم المنتحر. فماذا ترى يا دكتور؟
الدكتور
(مرتبكًا)
:
إني أرى … إني من رأيك.
حسن
:
بالطبع لأنك رجل يعرف قيمة الشرف (لزوجته)
خذي واقرئي يا أمينة، وإني واثق من أنك توافقين على رأيي.
فريد
(ينهض ويقترب من الباب الشمال، على حدة)
:
ما عدتُ لأطيق على هذا صبرًا.
حسن
:
إلى أين يا فريد؟
فريد
:
مسافر الليلة إلى العاصمة لأمر هام، فهل تأمر بخدمة؟
حسن
:
كلَّا، شكرًا لك. ولكن هل ستعود في المساء؟
فريد
:
يحتمل.
حسن
:
لا لا، بل عدني وعدًا قاطعًا بأنك ستعود؛ لأني أتوقع أمرًا يَخصُّك.
فريد
(يتبادل النظرات إلى الدكتور)
:
ما دام الأمر كذلك فإني أعدك بالعودة (ذاهبًا) ألست بخارج يا دكتور (يقع
نظره على نظر أمينة فتنظر إليه نظرة ملؤها الاحتقار).
حسن
:
ماذا؟ أتسافر بدون أن تودعني (يصافحه) سر
في حراسة الله يا بني!
فريد
(يغالب نفسه المتأثرة)
:
شكرًا لك يا بِك (يتعثر حتى يكاد يسقط فيسنده
الدكتور. للدكتور على حدة) خذ بيدي وإلا خانتني قواي (يخرج من الباب الشمال متكئًا على الدكتور).
(حسن بك يجلس
إلى يمين المنضدة مفكرًا قليلًا ثم يبحث في جيوبه ويخرج سيجارة يشعلها وهو
تائه. أمينة هانم تنهض وتذهب خلفه قاصدة الباب اليمين، ثم تقف لحظة تنظر
إليه بقلق واضطراب، وبعد أن تخطو بضع خطوات نحو الباب تعود
إليه.)
أمينة
:
هل أنت في حاجة إليَّ يا عزيزي؟
حسن
(بلا اهتمام)
:
كلَّا.
أمينة
(مترددة)
:
أوَلا تريد أن تقول لي شيئًا؟
حسن
:
كلَّا … بل ناوليني ما ورد لي من الرسائل، ولكن لا ها هي (يراها على المنضدة).
أمينة
(على حدة)
:
يخيفني من عدم اكتراثه لي وليتني أستطيع أن … ليتني (بعزم) لا بد أن أقول له (تكاد تفتح
فمها بالقول فتسمع صوت أصدقائه يتكلمون في الخارج ناحية الباب
الشمال) أضعت فرصتي الوحيدة مرة أخرى.
حسن
(وهو يقرأ في رسائله)
:
ماذا تقولين؟
أمينة
:
لا شيء (تخرج من الباب الشمال متمهلة وهي تحدِّق في
زوجها بكآبة وحزن).
(يدخل من الباب اليمين شعبان بهدوء وسكينة ثم يشير إلى
مرسي بالدخول فيدخل هذا ووراءه رمضان ثم الصاغ وينزلون خلف
بعضهم.)
شعبان
:
صباح الخير يا حسن بك (يمد يده).
حسن
(بدون أن ينظر إليه أو يرى يده لانهماكه في أوراقه)
:
صباح الخير (يرى يد شعبان فيصافحه بغير
انتباه) لا تؤاخذني (يحتاطون جميعًا
بحسن بك).
رمضان
(متنهدًا)
:
كيف حالك يا عزيزي البك؟
الجميع
(يهزون رءوسهم بأسف)
:
نعم كيف حالك؟
حسن
(يضع رسالة في ظرفها ويضع الظرف في جيبه)
:
كيف قضيتم ليلتكم؟ (الجميع يندهشون
لسكونه).
شعبان
:
ليلتنا!
حسن
:
نعم، فهل استمتعتم بنومكم؟
مرسي
:
أوه! أما من جهتنا فقد نمنا نومًا هنيئًا ملء الجفون، ولكن كيف أنت؟
حسن
:
أنا (يقف) الحقيقة أنه لم يغمض لي جفن طول
الليل.
مرسي
:
معذور!
شعبان
:
لا سيما في ليلة كتلك … آه!
الجميع
(يهزون رءوسهم بأسف)
:
آه!
حسن
:
أتسمحون لي حتى أُتِمَّ كتابة رسائلي؟
(يجلس إلى
المنضدة ويظل يكتب خلال الحديث الآتي. أما الأصدقاء فينزلون جميعًا إلى
أسفل المسرح ويتحادثون بصوت منخفض.)
الصاغ
:
ما هذه الحكاية التي أخبرتموني بها عن زوجته؟
شعبان
:
حكاية غريبة!
مرسي
:
ولا نفهم سرها!
رمضان
:
لا بد أنها اختلقت له قصة ملفقة وأدخلت عليه الغفلة.
الصاغ
(بأسف)
:
إذن فقد انتهت المسألة بسلام.
شعبان
:
بالطبع، ما دام الزوج قد قبل معاشرة زوجته.
مرسي
(متهكمًا)
:
ويا له من قبول حسن!
رمضان
:
إن الموضوع شائن جدًّا ولكنه درس لنا في المستقبل.
شعبان
:
لقد ضحينا عواطفنا على مذبح الصداقة.
مرسي
:
من سعادة المرء أن يكون أنانيًّا فكم أتمنى لو كنت أنانيًّا! (يدخل خليل بسرعة ويهمس في أُذن سيده حسن بك
همسًا) سيدي البك، سيدي البك (يهمس في
أذنه كلامًا غير مسموع).
حسن
(يقف منتفضًا)
:
ها أنا آتٍ (يخرج مسرعًا من الشمال وخلفه
خليل).
مرسي
:
يظهر أنه لم يصطلح بعد؛ لأن الغضب ما زال ينجلي في وجهه.
الصاغ
:
وكيف لا يغضب والمسألة تتعلق بشرفه؟!
شعبان
:
لقد فهمت الآن أن جموده ليس إلا تظاهرًا فقط، وأخشى أنه سيحدث شيء
مخيف!
مرسي
:
يلوح ذلك ويحسن أننا لا نتداخل في الموضوع، وحسبنا ما فعلت إلى الآن.
رمضان
:
نعم نعم، والعاقل الحازم من لا يتداخل في مثل هذه المشاكل.
مرسي
:
ولا بد أن سيكون في المسألة قضية تنظر في المحاكم ويدخلوننا فيها بصفة
شهود.
شعبان
:
وهذا يمس كرامتنا.
رمضان
:
يكفينا على كل حال أننا قمنا إلى هذا الحد بواجبنا نحوه بصفتنا
أصدقاء.
مرسي
:
بلا شك، وأحسن ما نفعله الآن هو أن نقول إننا لا نعرف شيئًا ولم نسمع
شيئًا.
شعبان
:
والحقيقة أننا لا نعرف شيئًا.
رمضان
:
بالمرة، ويحسن أننا نخرج من الطريق.
مرسي
:
وبكل ما يمكن من السكون.
شعبان
:
هلمُّوا بنا (يتجمعون أعلى المسرح ثم يخرج شعبان
ورمضان ومرسي من الشمال).
الصاغ
(وحده)
:
يا لهم من جبناء! يتخلون عن صديقهم وقت الشدة!
مرسي
(راجعًا)
:
جبناء! هذا واجب المرء نحو نفسه، ولو كنت أعرف أن المسألة ستنتهي على هذه
الصورة لكنت سافرت من الصباح فكم أتمنى لو كنت أنانيًّا (يخرج).
الصاغ
:
جبناء ولا شك! ولكني لا أتخلى عن صديقي العزيز حسن بك وسأظل إلى جانبه حتى
يحصل على الترضية الكافية (يخرج من
الشمال).
أمينة
(تدخل من اليمين قلقة)
:
رباه! رباه! إنه يعدو في الحديقة مسرعًا ويبحث تحت البلكون ولا شيء هناك غير
ما تركه فريد من الأثر عندما قفز! كل شيء يتهددني بالفضيحة والعار فكيف أتقي
هذا الخطر؟! (يظهر فريد من اليمين في الباب بملابس
السفر).
فريد
(لنفسه)
:
لقد صدقت ولو تركتها الآن أكون جبانًا (يرمي بالطو
السفر على كرسي فتلتفت إليه).
أمينة
(بكبرياء وغضب)
:
أنت لا تزال هنا؟!
فريد
:
سمعتك يا سيدتي تتكلمين عن الخطر، وإذا كان ثمة خطر فأنا سببه ويقضي عليَّ
الواجب بالبقاء حتى أدفع عنك ما يتهددك وأثبت براءتك للملأ وأتحمل على نفسي
تَبعة طيشي وجنوني.
أمينة
(بأنفة وكبرياء)
:
لست في حاجة لأن تبرئني ولا أقبل دفاعك عني (تخطو
يمينًا).
فريد
:
سيدتي أتوسل إليك أن …
أمينة
(مقاطعة)
:
أرجو أن تتركني يا سيدي فإني أستطيع الدفاع عن نفسي.
فريد
:
ولكنك نسيت يا هانم …
أمينة
:
نسيت؟ كلَّا لم أنسَ شيئًا فإنك أنت الذي كدت أن تلقي بي في هاوية العار
والفضيحة والخراب، وهذا ما لا أنساه وما لا يمكن أن أغفره لنفسي، أما أنت فشأنك
مع نفسك إذا شئت اغتفرت لها أو لم تغتفر.
فريد
:
اسمحي لي على الأقل …
أمينة
:
أستحلفك يا سيدي بحق من بسط الأرض ورفع السماء ألا تضيف شرًّا جديدًا إلى ما
عملت! فاتركني في الحال؛ إذ لو رآك أحد هنا الآن …
فريد
:
إذن فطوعًا لأمرك يا سيدتي أخرج من هنا (ذاهبًا نحو
الباب الشمال، فيلمح حسن بك داخلًا فيختفي خلف الباب
الشمال).
أمينة
(وقد دخل زوجها)
:
زوجي (تسقط جالسة على كرسي مختفية فيه. حسن بك
يدخل بدون أن يرى أحدًا ويقصد إلى الباب الأول اليمين حيث
يدخل).
أمينة
:
ماذا عساه يريد يا ترى؟ إنه مشغول الفكر جدًّا!
(يدخل حسن بك من الباب الأول اليمين ومعه علبة بها مسدس، يضع العلبة على
المنضدة ويتناول المسدس ويخرج مسرعًا من الشمال. عقب خروج حسن بك يظهر
فريد.)
أمينة
(مسرعة إلى المنضدة)
:
ما الذي عمله؟ (ترى علبة المسدس) رباه!
المسدس!
فريد
(متقدمًا)
:
المسدس! وإلى أين ذهب؟
أمينة
:
لست أدري فلا تقف تنظر إليَّ هكذا، أسرع إليه! ولكن لا … قف فأنا التي أذهب
إليه بنفسي، آه! لا أستطيع المشي، أكاد أسقط على الأرض (يحاول فريد أن يأخذ بيدها فتنفر منه) لا لا، لا
تقترب مني ولا تلمسني (يتعثر إلى حبل الجرس)
النجدة النجدة! (صوت طلق ناري بعيد. تضرب جبتها
بيدها وتسقط على كرسي في الشمال الوسط) ويلاه! لقد مات وأنا
قاتلته!
(تسمع وقع أقدام فتنهض متثاقلة شاحبة اللون
متجهة نحو اليمين وهي تكاد لا تستطيع المشي، فيدخل الدكتور من
الشمال.)
الدكتور
:
ما الذي جرى يا هانم؟
فريد
(يشير إلى علبة المسدس على المنضدة)
:
انظر … إن حسن بك …
الدكتور
(مصعوقًا)
:
قتل نفسه؟!
أمينة
:
مات زوجي يا دكتور! انتحر المسكين! بل قُتل وأنا قاتلته (تسقط على كرسي وقد انعقد لسانها. أما الدكتور وفريد
فإنهما في ذهول).
حسن
(يدخل من الباب الشمال وبيده ثعلب قتيل قد أمسكه من ذيله،
وبيده الأخرى مسدس. ضاحكًا ملء شدقيه)
:
هاهاها! قتلته قتلًا (اندهاش عام) من أول
رصاصة!
الجميع
:
الثعلب!
أمينة
(مسرعة إليه بلهف)
:
آه يا عزيزي! لقد خشيت أن … (تتغلب على
عواطفها).
حسن
:
لا تخافي يا عزيزتي لا تخافي، فإنه ميت الآن (يدلي
الثعلب من ذيله) أنت الذي أَطَرْتَ النوم من أجفاني طول ليلة
الأمس.
الدكتور
:
طول ليلة الأمس؟
حسن
:
بالطبع، وإنك لتذكرين يا أمينة أني تركتك بالأمس بغتة؛ وذلك لأني سمعت حركة
تحت البلكون فأيقنت أنه لا بد أن يكون هذا الملعون هو صاحب الحركة، فإذا به وقد
أتلف الأزهار. ولكني أحمد الله إذ لم يَفْتِكْ بفرختي الجميلة. ولقد أمضيت
ليلتي في النافذة أراقب عودته ولكنه لم يعد فتيقظت جدًّا، وأظنك لاحظتِ عليَّ
يا عزيزتي أني كنت مضطربًا وشارد الفكر هذا الصباح!
أمينة
:
نعم نعم.
حسن
:
وهذا هو اللعين صاحب القصة (يرمي الثعلب من
يده) أما الآن فقد ارتاح ضميري ولو أن الخبيث قد كلفني كثيرًا.
وتالله إن ليلة الأمس مما لا يُنسى مدى الحياة.
أمينة
:
تالله لن أنساها ما حييت! عن إذنك يا دكتور؛ لأني تَعِبة جدًّا وفي أشد
الحاجة إلى الراحة.
الدكتور
:
تفضلي يا سيدتي (تخرج من الباب الثاني اليمين.
يدخل خليل من الشمال ومعه جواب).
خليل
(يقدم الجواب لسيده)
:
تفضل يا سيدي (يخرج خليل).
حسن
(يتناول الجواب)
:
جواب رسمي. (يفتحه ويقرؤه) برافو برافو
(إلى فريد) فريد، مبروك أهنئك! (للدكتور) هَنِّئه يا دكتور!
الدكتور
:
مبارك.
فريد
(متثاقلًا)
:
وعلامَ التهنئة؟
حسن
:
خذ واقرأ (يناوله الرسالة) لقد عيَّنوك
معاون إدارة بمديرية أسيوط، الحمد لله الذي كلَّل مساعيَّ بالنجاح.
الدكتور
:
الآن أهنئك من صميم قلبي يا فريد أفندي.
فريد
:
شكرًا لك يا دكتور … حسن بك يا ابن عمي العزيز، إن طهارة قلبك وصفاء نفسك
وعزيز فضلك عليَّ وكرمك قد عقدت لساني عن أن يفيك حق شكرك! فالوداع لأتمكن من
السفر الآن، وأسأل الله ألا ترى في المستقبل … إني ما كنت لأستحق منك هذه
العناية وهذا الفضل.
حسن
(يقبِّله بحنان وعطف)
:
أستغفر الله يا بني أستغفر الله! إنك لست ابن عمي فقط بل تكاد تكون ولدي يا
فريد، وإني دائمًا مستعد لمساعدتك في كل شيء، فاذهب الآن وسلِّم على أمينة
وودِّعها قبل رحيلك.
فريد
(ينظر في ساعته متأثرًا)
:
لم يبقَ على قيام القطار غير ربع ساعة (ينظر إلى
الدكتور نظرة خاصة).
الدكتور
:
لا بأس إذا أعفيته يا بك من هذه التحية؛ لضيق وقته من جهة ولأن الهانم قد
تركتنا تَعِبة وفي حاجة إلى الراحة … اذهب يا فريد في حراسة الله!
فريد
(متأثرًا متألمًا)
:
الوداع يا ابن عمي (يقبل يد حسن بك وهو منفعل
مغرورق العينين ويخرج من الشمال فيلتقي بالأصدقاء داخلين فيحييهم بيده
ويخرج فيدخل الأصدقاء).
حسن
(إلى الدكتور)
:
مسكين هذا الفتى يا دكتور! رقيق العواطف جدًّا. (يرى
شعبان فيوجِّه إليه الحديث) شعبان أفندي! كيف أنت الآن؟
شعبان
(متأففًا)
:
كيف أنا الآن؟ نغمة جديدة لم أسمعها من قبل!
حسن
(ببساطة وسلامة نية)
:
نغمة جديدة! المسألة بسيطة جدًّا؛ وهي أن فريدًا ابن عمي قد عُين معاون إدارة
في أسيوط والحمد لله، فهل نسيت أنك رفضت أن تساعده في توظيفه؟
شعبان
:
إهانة أخرى يا حسن بك، وإنك لتعرفني رجلًا لا أفرط في ذرة من كرامتي. (لرمضان) هَلُمَّ بنا يا أخي وحسبنا إهانة
وتحقيرًا!
رمضان
(بشيء من الغضب)
:
ألم أقل لك ذلك من قبل؟ لو كنت عملت برأيي ورفضت الحضور إلى هنا لكنت كفيتنا
ما تحملناه من المنِّ والتجريح وألم العواطف!
شعبان
:
صدقت يا أخي. (لحسن بك) إننا يا سيدي نترك
بيتك وننفض غباره عنَّا (يخرجان
شمالًا).
حسن
:
تالله لم أفهم مما قالاه حرفًا! فهل تُراني كدَّرتهما بشيء دون أن
أشعر؟
مرسي
:
لا تتكدَّر يا صديقي العزيز؛ لأن أخلاقهما جافة حقيقة وأنا وولدي فؤاد لا
نهجرك (متلفتًا حوله) ولكن أين الغلام
الطاهر؟
الصاغ
:
لقد رأيته منذ نحو الساعتين ذاهبًا إلى المحطة.
مرسي
:
ولدي؟!
الصاغ
:
نعم ولدك خيبة الله عليه! وكانت تسير إلى جانبه فتاة قروية يغازلها
وتغازله.
مرسي
(مندهشًا مبهوتًا)
:
ولدي أنا! ولدي الذي هو أطهر من زهرة وأودع من حَمَل!
الصاغ
:
نعم، وقد كلفني أن أخبرك بأنه مسافر إلى العاصمة لحضور حفلة سباق الخيل التي
ستقام في الجزيرة غدًا.
مرسي
(نادبًا)
:
هذه هي نتيجة اهتمامي بمصلحة غيري وإهمالي شئون ولدي. (لحسن بك) هذا كله بسببك!
حسن
:
بسببي!
مرسي
:
نعم، وقد كنت له أسوة وقدوة.
حسن
:
قدوة! إني لا أغازل فتاة ولا أحضر حفلة سباق.
مرسي
(محتدًّا)
:
إن هذا لكثير! بل كثير جدًّا! لا يكفيك أنك أتلفت الطفل الصغير حتى تهزأ
بعواطف أبيه! يا لضياعي وخيبة آمالي! حسبي الله فيك يا حسن بك يا رضوان!
حسن
:
ولكن …
مرسي
:
كفى يا سيدي كفى! ولتُصَبُّ على رأسك لعنات أب كليم الفؤاد!
حسن
:
ولكن ما دخلي وما ذنبي؟
مرسي
:
ذنبك؟ ألم تَدْعُني لزيارتك؟ ألم تَدْعُ طفلي معي؟ ألم تَدْعُنَا إلى هذه
البؤرة؟ ولكن كفى! ولأبحث الآن عن الغلام التعس. لقد اتخذت من صداقتي سُلَّمًا
لشقائي وتعاستي فيا ليتني كنت أنانيًّا (يخرج من
الشمال).
الصاغ
:
إنه يدعوك حسن بك رضوان!
حسن
:
نعم، لأن اسمي حسن رضوان.
الصاغ
:
إذن، فأنت لست حسن بك شكري الذي كان مفتِّشًا في الدائرة السنية؟
حسن
:
كلَّا.
الصاغ
:
هل أنت متأكد؟
حسن
:
جدًّا.
الصاغ
:
إذن فيا لك! ماذا عساني أعمل هنا؟!
حسن
:
لقد تحيرت وقتًا طويلًا في البحث عن جواب لهذا السؤال.
الصاغ
:
إذن فلم يكن بيني وبينك معرفة من قبل؟
حسن
:
أبدًا.
الصاغ
:
ولكن كيف أمضيت هذين اليومين هنا، آكلًا شاربًا نائمًا لاهيًا كأني في منزل
صديق عزيز! هذا مكدِّر للغاية!
حسن
:
بالطبع مكدِّر للغاية.
الصاغ
:
إذن فلماذا لم تقل لي من قبلُ أنك … (يصافحه) ولكن ما باليد حيلة وهذه غلطة بالطبع، ولكنك رجل طيب.
وعلى كل حال فالمسألة بسيطة جدًّا وإذا خطر لك في المستقبل أن تدعو صديقًا
فاكتب لي بمركز كفر الشيخ غربية تجدني عندك في الحال، والآن وداعًا يا سيدي
(ينحني ويخرج من الشمال).
حسن
:
ولكنه لم يقل لنا اسمه!
الدكتور
:
لأنه واثق من أننا لن نحتاج إليه.
(تدخل أمينة هانم
من الباب الثاني اليمين.)
أمينة
(تطل من الباب)
:
وحدكما؟
الدكتور
:
كما ترين (تدخل).
أمينة
:
وأين الأصدقاء؟
حسن
:
هجروني يا عزيزتي بعد أن أوسعوني ما أوسعوني مما لا داعي لذكره، وعفا الله
عما سلف … أما أنت يا دكتور فإنك الصديق الوفيُّ حقًّا؛ لأنك أخلصت حين ندر
الإخلاص ووفيت حين غاض الوفاء حتى لا أدري بماذا أكافئك اعترافًا مني بطهر
صداقتك.
الدكتور
:
تالله ما كنت لِأَقْبَلَ على الوفاء أجرًا.
حسن
:
وتالله لن أكون أقل منك فضلًا، ولك نصف ثروتي هديةً أرجوك أن تقبلها!
الدكتور
:
ليس الإخلاص يا سيدي مرتزقًا.
أمينة
:
إنها هدية يا دكتور فبربك إلا ما قبلتها!
الدكتور
:
قبلتها يا سيدتي لأجعلها وقفًا على تعليم أبناء الفقراء، وبذلك تكون يا حسن
بك أول من وضع حجرًا أساسيًّا في سبيل نهضة مصر.
(ستار)