الفصل الثاني
(في الجبال السِّفين L Cevenne، غابة كثيفة الأشجار
وإلى ناحية منها حيث تقل الأشجار تُرى الصخور الجبلية. إلى خلف المسرح نار بين متقدة
ومنطفئة، وجمع من المتوحشين لابسين جلودًا ونائمين حول النار، وعلى مقربة منهم دروع
منثورة وخوذات وحراب … إلخ، ووراء هؤلاء بعض خيام من الجلد.)
(على مقربة من المتفرجين
وإلى يمين المسرح يجلس أمبيفار ونوفيو وترينوبانتيس ومعهم نرد يلعبون به وبجوارهم صخرة
ضخمة. أنجومار يُرَى نائمًا تحت ظل شجرة أسند إليها سيفه ودرعه.)
أمبيفار
:
رميةً أخرى.
ترينوبانتيس
:
تبًّا لك! هذا هو الحظ بعينه.
نوفيو
:
دوري الآن.
أمبيفار
:
وعلامَ تلعب؟
نوفيو
:
عندي مُهْر أسود عمره سنتان، يسابق الريح عدوًا، فأضعه في الرهان.
أمبيفار
:
فليكن! وأنا أضع كبشين في هذا الرهان.
(بينما هم
يقامرون، يدخل أحد المتوحشين يسوق أمامه ميرون حاملًا حملًا ثقيلًا من
الأحطاب والأخشاب، وذلك من الشمال.)
المتوحِّش
(إلى مَيرون)
:
ضع الحِمْل أيها العبد الرقيق، وكَسِّر الخشب قطعًا صغيرة لنوقده في المساء،
خذِ البلطة (يناوله البلطة) أَسْرِعْ
(يخرج المتوحِّش من الشمال ويجلس ميرون يكسر
الخشب).
مَيرون
(لنفسه)
:
يخيَّل لي أن كل ما حدث لم يكن إلَّا حلمًا! فيا لشقائك يا ميرون! يا
للتعاسة! أنا، أنا! يا للآلهة! أأصبح عبدًا رقيقًا لهؤلاء البرابرة المتوحشين!
وبالأمس فقط كنت ابن ماسِّيليا الحرَّ الطليق! كنت زوجًا وأبًا، وها أنا الآن
تَعِسٌ أسير!
نوفيو
(إلى ميرون)
:
أريد أن أشرب أيها العبد الزنيم!
أمبيفار
:
انتهى الدور، وكسبت الرهان!
ترينوبانتيس
:
عشرة!
نوفيو
:
قسمًا بالرعود والبروق!
ميرون
(على حدة)
:
وا أسفاه! إن كل سلعتي وبضاعتي لا يكفي لدفع الفدية وإطلاقي من الأسر، ولو
كنت شابًّا قويَّ العضلات لحاولت الهرب، ولكني ذلك الشيخ الهرم، الذي أَحْنَتِ
السنون ظهره، وأنهكت قوته، فلا أملَ لي في النجاة، ولا أمل في الهرب!
نوفيو
(إلى ميرون وهو يهدده بقبضة يده)
:
أيها العبد! ألا تسمع؟ قلت لك أريد أن أشرب! وإلا استخلصت أذنيك من جمجمتك!
هاتِ الشراب!
ميرون
(يذهب بها إليه)
:
ها هو الشراب يا سيدي.
أمبيفار
:
مرةً أخرى! ما هذا يا ترينوبانتيس؟
ترينوبانتيس
:
هذا درعي في الرهان.
أمبيفار
:
وأنا أضع سيفي وحزامي! هل رضيت؟
ترينوبانتيس
:
نعم رضيت.
ميرون
(على حِده)
:
ألا يدفعون فديتي! ارحميني أيتها الآلهة، وَرُدِّيني إلى بيتي مرة أخرى،
وليكن موتي في وطني، وبين ذراعَي ابنتي العزيزة!
أنجومار
(وهو نائم)
:
اقتفوا أَثَرَهم! أسرعوا خلفهم! اقتلوهم (يصحو من
نومه) ما هذا! لَعَلِّي كنت أحلم؛ إذ رأيت كأني جريح، والقتال
محتدم، ثم انتصرنا أخيرًا، فولَّى العدو لا يلوي على شيء، وغنمنا الغنائم، أما
الأسرى فلا يُحصى عددهم! كل ذلك رأيته في نومي، إذن فَلأنَمْ!
ترينوبانتيس
:
لقد خسرت! وحسبي ما خسرته اليوم.
أمبيفار
:
ألا تلعب مرة أخرى؟
سامو
:
لقد حان وقت الغداء.
أمبيفار
:
هَلُمَّ إلى اللعب، فالدور لي.
نوفيو
(ينهض)
:
كلَّا، بل لي أنا.
أمبيفار
(ينهض)
:
أنت كاذب!
نوفيو
(يقبض عليه من عنقه)
:
غَشَشْتني أيها الكلب!
أمبيفار
(يرفع بلطة فوق رأس نوفيو)
:
كلب! إن الكلاب تعض يا نوفيو (يحاول أن يضربه
بالبلطة فيدفع نوفيو الضربة ويمسكان ببعضهما، يحاول نوفيو أخذ البلطة من
أمبيفار وهذا يحاول الاحتفاظ بها).
أنجومار
(ينهض بعزم)
:
ما الذي أرى؟!
نوفيو
(إلى أمبيفار)
:
أيها السفَّاح!
أنجومار
(يفرق بينهما)
:
اتركه يا وغد!
نوفيو
:
مَن ذا الذي يجسر (يفترقان).
أنجومار
:
أنا! أتجرأ على مخالفتي؟ هل أنت الزعيم! افترقا بأمري!
نوفيو
:
صبرًا صبرًا!
أمبيفار
(وهو يهز بلطته في بيده)
:
فلا بد أن أخضبها بدمك.
أنجومار
(يخطف البلطة من يده)
:
قف قلت لك! وإلا قتلتك شر قتلة! انصرفوا الآن، اذهب يا نوفيو وأبحث عن
أَلستور. وأنت يا أمبيفار (إلى أمبيفار) خذْ
بلطتك، وكَسِّر لنا خشبًا لوقود المساء! هلمُّوا الآن!
أمبيفار
(لنفسه)
:
لا بأس! وستأتي ساعة الأخذ بالثأر.
أنجومار
:
أمبيفار، جهِّز لنا الطعام! وأنت يا سامو، هاتِ الأغنام من المرعى! اخرجوا
جميعا (يخرجون من أبواب متفرقة) أيعصونني
أنا! زعيمهم وابن زعيمهم! قسمًا بالبروق والرعود لأعلمنهن الأدب أجمعين (إلى ميرون) مَن هذا؟ تعالَ هنا أيها الرقيق،
ناولني الشراب (يذهب إليه ميرون حاملًا آنية الشراب
فيأخذها أنجومار ويشرب) حقًّا إنه لشراب منعش! سَلِّني الآن أيها
الرقيق (يرتمي على الصخور).
ميرون
:
أنا؟
أنجومار
:
ما اسمك يا رجل؟
ميرون
:
اسمي ميرون يا سيدي!
أنجومار
(هادئًا)
:
«اسمي ميرون يا سيدي» هاها! ليس هذا بصوت رجل! تكلم، من أنت؟
ميرون
:
وا أسفاه وا أسفاه (يبكي).
أنجومار
:
ما الذي يبكيك أيها الغبي؟ ماذا يؤلمك؟ وما الذي ينقصك؟ فأنت هنا تأكل وتشرب،
وتنام على الأعشاب الناعمة؟ وسنجعلك تشتغل لنا هنا كما كنت تشتغل في بلدك،
فماذا ينقصك من أسباب الهناء؟
ميرون
:
أَوَلا ترى أن فقد الحرية، يستدعي البكاء؟
أنجومار
:
أية حرية أيها الغبي الجاهل؟ إنك تضحكني! وهل كنت حرًّا حتى تدعي أننا سلبنا
حريتك؟ ألا ترى أنك في أسر الشيخوخة والهرم من قبلُ؟ إنما الحرية هي القوة،
والقوة هي الشباب، فالشباب إذن هو الحرية!
ميرون
:
إني هنا أسير، مسلوب الحرية.
أنجومار
:
غبيٌّ! ما الذي يعرف عن الحرية؟ إنما الحرية هنا في الهواء الطلق، في الغابات
مقرها، وفي الصخور مستقرها. هي الصيد والقنص، هي القتال والنزال، هي الأخطار
والأهوال. هذه هي الحرية التي تجعل الدماء تجري في العروق كالأنهار الملتهبة،
وتجعل القلوب تشتعل نارًا، هذه هي الحرية وهي السعادة، وهي لذة الحياة. أما
مدينتكم، تلك المدينة المحصورة بأسوارها، فليست إلا غارًا مظلمًا وسجنًا
دامسًا، وليست الحياة فيها إلَّا نكدًا وغمًّا!
ميرون
:
ولكني هناك وُلِدْتُ وفيها نشأت! هنالك العدل يا سيدي، والقانون والنظام.
هنالك زوجتي وابنتي، وهما أعز ما أمتلك على ظهر الأرض. فيا لزوجتي ويا
لابنتي!
أنجومار
:
إنك لشيخ جاهل! ماذا؟ أتبكي أيضًا! أتبكي لأجل النساء؟! إنك لَامْرَأَةٌ! ما النساء إلا
ألاعيب لا عقل لها، خُلِقت لتحملَ وتضعَ وتخدم؛ خُلقت لتأكل وتشرب؛
خُلقت لترعى الماشية، وتُرضعَ الأطفال؛ خُلقت لتزيِّنَ شعرها، وترى وجهها في
مياه الغدران الصافية! ولو كنت من الآلهة، لَمَا خلقتُ امرأة! وها أنت تبكي
كالنساء، فاغرب عن عينيَّ! اذهب من أمامي أيها الشيخ الطفل!
ميرون
:
أراك غاضبًا يا سيدي، ولكنك لو كنتَ أسيرًا مثلي …
أنجومار
:
أنا؟ أنا أكون أسيرًا! إن أنجومار لا يؤسَر، حتى يُرفَعَ إلى مصافِّ الآلهة
(يسمع صوت بوق) صهٍ! فإني أسمع بوقَ
أَلَسْتور (يذهب ميرون إلى ناحية) ها هم
أقبلوا (يدخل نوفيو من الشمال) هل وصلوا؟
تكلم!
نوفيو
:
نعم، وقد تركتهم في بطن الوادي، يقودهم أَلَسْتور، وهو يتسلق الصخور، ها هو
قد أقبل (يدخل أَلَسْتور من الخلف ويدخل المتوحشون من
أبواب متفرقة ويلتفُّون حول أنجومار).
أنجومار
:
كيف الحال يا أَلَسْتور؟ ما وراءك من الأخبار، وأين الغنائم؟
أَلَسْتور
:
لا شيء. وقد عدت صفر اليدين.
أنجومار
:
أتقول حقًّا؟ إن أهالي مدينة أَفِنَّا يرسلون قطعانهم إلى المراعي كل عام،
فهل لم تلتقوا بهم؟
أَلَسْتور
:
لم نلتقِ بحافرٍ قط.
أنجومار
:
أخبارك سيئة كعادتك!
أَلَسْتور
:
لا شيء (بعضهم يضحك وبعضهم يزمجر) ومع ذلك
فقد غنمت شيئًا، وهو فتاة جميلة.
نوفيو
:
ماذا؟ امرأة! وهل نحن في حاجة إلى النساء؟
أنجومار
:
فتاة؟
أَلَسْتور
:
نعم، وقد سَلَّمَتْ نفسها إلينا، بينما كنا مختفين في الغابة خلف الأشجار
نرتقب قطعان الأغنام، فتقدَّمت إلينا بقدم ثابتة عندما سمعت صوتنا غير مكترثة
لوعورة المسالك ولا للشمس المحرقة، فخرجنا عليها وقد هرب الغلام الذي كان
يرشدها، فدفعت حرابنا بيدها العادية وهي تصيح فينا: «إني أبحث عنكم!»
أنجومار
:
إنها لفتاة شجاعة باسلة!
نوفيو
:
وماذا عملتم أنتم؟
أَلَسْتور
:
ضحكنا، وقلنا لها: ها نحن الذين تبحثين عنَّا، فأَنتِ الآن غنيمتنا. فتخلصت
من قبضتنا وهي تصيح فينا: كلَّا كلَّا! لست غنيمتكم، بل أتيت لأدفع فدية
أسيركم، فسيروا بي إلى حيث يوجد زعيمكم.
ميرون
(لنفسه وهو يتقدم)
:
إذن فقد أَتَت لتدفع فديتي!
أنجومار
:
ما دام الأمر كما تقول، فهي إذن صادقة، ولَعَمْرِي إنها لقوية القلب.
أَلَسْتور
:
وعندما قالت ذَلك أطلقنا سراحها لنأتي بها إليك يا أنجومار، فتقدمتنا بأقدام
ثابتة سريعة، فكأنها الزعيم ونحن الأتباع.
ترينوبانتيس
:
إنها لجريئة حقًّا.
أنجومار
:
ولأي الأسرى أتت تحمل الفدية؟
أَلَسْتور
:
لميرون من ماسيليا.
أنجومار
:
لذلك الشيخ الذي يبكي بكاء النساء!
ميرون
:
لقد افْتَدَتْنِي وردَّت عليَّ حريتي (إلى
أَلَسْتور) أوَليست لامعة الشعر، برَّاقة العينين، كأنها الظبية
في رشاقتها، وكلامها يكاد يكون غريدًا؟ قُل لي يا سيدي: أليست هي ابنتي؟!
(تدخل بارتينيا من الشمال وحولها جملة من
المتوحشين.)
أَلَسْتور
:
ها هي قد أقبلت.
ميرون
(مندفعًا نحوها)
:
بارتينيا، ابنتي، عزيزتي بارتينيا! يا للآلهة! أكاد أُجَنُّ من شدة
الفرح.
بارتينيا
(تضمه إلى صدرها)
:
أبي العزيز!
أنجومار
(ضاحكًا)
:
ها هو يبكي أيضًا!
أَلَسْتور
:
تقدمي يا فتاة، ها هو أنجومار الذي تبحثين عنه.
أنجومار
:
قيل لي يا فتاة إنكِ أتيت تحملين فدية هذا الرجل، فما الذي جئتِنا به؟
بارتينيا
:
جئت لك بما هو أثمن من كنوز العالم أجمع، دعوات صالحة من زوجة مخلصة، ومدامع
ابنة تحبُّ أباها، وشكر منزل كان خرابًا سيصبح عامرًا، وبركاتِ الآلهة التي
تجازي المحسنَ على إحسانه أَلْفَ مرة. وها أنا ابنةٌ راكعة تحت أقدَامك، تضرع
إليَك أن تطلق سراح أبيها الشيخ، وإنه لرجل هرم لا خير لكم فيه، ولا فائدة لكم
منه، ولكن منزله يفتقده، فأطلقه يا سيدي، أَطْلِقه بحق الآلهة!
أنجومار
:
أُطلقه!
أمبيفار
:
أهذه هي الفدية؟
أَلَسْتور
:
أَنطلقه بدون مقابل! لقد خدعتنا الفتاة!
أنجومار
:
اسكتوا! يا امرأة، إن أباك غنيمة للقبيلة كلها، ولو كان ملكي وحدي لأطلقت لك
سراحه؛ تخلصًا من بكائه ودموعه، ولكن إذا كنت تخدعيننا، وتجرئين …
بارتينيا
(ناهضة فجأة)
:
حسبك ذلك، لا حاجة للتهديد والوعيد، فقد أخطأت فيك الظن؛ إذ حسبتك ذا قلب
يَرِقُّ ويرحم، فخابت آمالي. والآن فلأتكلم بما فيه صالحكم، أنتم تطلبون فدية،
وهو لا يملك شيئًا منها، ولكنه يملك قوة وذكاءً يستطيع بهما الحصول على فديته
إذا سهَّلتم له السبيل إلى ذلك. أما إذا أبقيتموه في الأسر؛ فإن الحزن يقتله لا محالة،
وبعد بضعة أسابيع لا تجدون منه إلا رفاتًا وعِظامًا، فأطلقوا سراحه وهو
يشتغل ويكد، وأنا وأمي نشتغل معه، وكل ما نحصل عليه فهو لكم إلى أن نوفيكم
حقَّكم.
أنجومار
:
هذا قول معقول، ولكن أين الضمان؟
بارتينيا
:
سنترك عندكم ما هو أثمن من حريته وحياته.
أنجومار
:
وما ذاك، وهل أحضرتِه معك؟
بارتينيا
:
نعم.
أنجومار
:
أرنيه.
بارتينيا
:
هو أنا!
ميرون
:
إنك لمجنونة يا ابنتي!
أنجومار
:
أنتِ!
بارتينيا
:
لو كنت تعلم قيمة ابنته عنده، لما احتقرت الضمان.
ميرون
:
كلَّا هذا لا يكون.
أنجومار
:
لم نطلب رأيك! إن هذا لأمر غريب، لا لا! لا نثقل كَاهِلنَا بامرأة.
بارتينيا
:
لست عبئًا عليكم وسأساعدكم؛ لأن هذه الأيدي الراغبة تعمل ما لا يعمله عشرون
أسيرًا مُسَخَّرًا. أظنك لا تعرف فائدتي؛ فأني أغزِل وأَحِيك لكم ملابسكم،
وأجهِّز لكم طعامكم، وأعزف الموسيقى، وأقصُّ قصصًا مسلية، وأغني أناشيد مطربة،
تُسليكم في وقت راحتكم. وفضلًا عن ذلك فإني قوية سليمة الجسم والعقل، وما دام
قلبي خاليًا فإني فَرِحَة مسرورة، فلا تخشَ شيئًا.
أنجومار
:
يظهر أنك تقولين حقًّا، ويلوح أن فيكِ لنا شيئًا من الفائدة، أَمَّا أبوك فلا
يعرف إلا البكاء والعويل.
بارتينيا
:
إذن فَاقْبَلْ، وأطلقْ سراحه.
ميرون
:
لا لا، إنها مجنونة.
أنجومار
:
صهٍ! ماذا تقولون في ذلك أيها الرفاق؟
(يختلي معهم
أما ميرون وابنته فيُتْرَكَان وحدهما بقرب المتفرجين.)
ميرون
:
ماذا تريدين أن تفعلي أيتها التَّعِسَة؟
بارتينيا
:
سيُطلِق سراحك يا أبي.
ميرون
:
ألم يساعدكِ أحد من أصدقائي؟ ألم يساعدْكِ الحاكم؟
بارتينيا
:
كلهم صُمٌّ بُكْم، فأتيت إليك وحدي؛ لأكسِرَ أغلالَ أسْرِك بيدي.
ميرون
:
ليتني مِتُّ قبل هذا وما سمعت منه شيئًا، وخير لي أن أراكِ بين مخالب دُبٍّ،
عن أن أتركك بين هؤلاء القوم المتوحشين، وأنتِ ابنتي وفلذة كبدي (يضمها إلى صدره) كلَّا كلَّا!
بارتينيا
:
يجب ذلك يا أبتاه؛ لأن أمِّي يكاد يقتلها الحزن، فكفكف دموعها بيديك
الطاهرتين، أما أنا فلا زلت فتاةً صغيرة قوية، أستطيع تحمُّل الآلام، ولكنها
تقتلك قتلًا. فبحق الآلهة يا أبتِ إلا ما ذهبت إلى أمي حرًّا، وتركتني هنا
وحدي!
ميرون
:
هنا حيث يتهددك الموت؟ هنا حيث الغطرسة والإهانة والقسوة والشدة، وكلها
أمَرُّ من الموت؟ لا لا، وخير لي أن هذا الخنجر …
بارتينيا
(تخطف الخنجر من يده)
:
أعطنيه يا أبتاه ولا تَخَفْ، فإما أن أعيش جديرة بأن أُدْعى ابنتك، وإما أن
أموت به!
أنجومار
(وهو يتحادث مع قومه في الخلف)
:
فليكن ذلك ولتبقَ الفتاة.
ترينوبانتيس
:
خير لنا أن نبقيهما معًا.
أنجومار
:
كلَّا فهذا ينافي الشرف؛ لأنها أتت واثقةً بنا، فلا نخيِّب ظنَّها فينا
(متقدِّمًا إليها) قَبِلْنَا اقتراحك يا
فتاة، وسنبقيك عندنا ضمانًا، أما أبوك فقد أطلقناه حرًّا.
بارتينيا
:
شكرًا لكِ أيتها الآلهة!
ميرون
:
لا لا! بل أنا أسيركم، وسأبقى هنا، أما هي فدعوها ترجع.
أنجومار
:
من ذا الذي يكترث لقولك؟ اخرج من هنا!
ميرون
:
ابنتي ابنتي (يتعلق بها).
بارتينيا
:
اذهب. اذهب يا أبي.
ترينوبانتيس
(ماسكا ميرون)
:
هلمَّ اخرج من هنا.
بارتينيا
:
لا تقبض عليه بهذه القسوة، ها هو يخرج طائعًا مختارًا. اذهب يا أبي ولا
تتردد، اذهب اذهب!
ميرون
:
سأعود أيها الأوغاد ولكن لِأُهْلِكَكُمْ أجمعين!
أمبيفار
:
اقتلوه!
بارتينيا
:
لا لا. لا تقتلوه!
أنجومار
:
لا، بل آمركم أن تحرسوه إلى الحدود، وليذهب أحدكم معه.
ميرون
(وهو يسحبه أحد المتوحشين)
:
الوداع يا بارتينيا، الوداع يا ابنتي (يخرج مع
المتوحش من الشمال).
بارتينيا
:
الوداع! لقد ذهب ولن أراه بعد اليوم (تخفي وجهها
بيدها وتذهب إلى الخلف وهي تبكي).
أنجومار
(مستندًا إلى صخرة وهو ينظر خلف ميرون)
:
ها هو يقف ليبكي مرة أخرى! مسكين ذلك الشيخ الجبان! حقًّا إن الجبن شيء غريب،
حتى لأشتهي أن أعرف ما هو الجبن! ولكن أين الفتاة؟ أتبكين أيضًا! أهذا هو
السرور الذي تفاخرين به؟
بارتينيا
:
لأني لن أراه بعد اليوم.
أنجومار
:
ماذا، هل استبدلنا شيخًا جاهلًا بفتاة منخلعة القلب تبكي؟ حسبي ما شاهدت من
دموعه.
بارتينيا
:
ما دمت تحتقر الدموع، فلست بباكية قط (تمسح دموعها
وتذهب إلى الخلف).
أنجومار
:
لا بأس، إنها لفتاة شجاعة تملك زمام نفسها، وإذا صدقت فيما قالت نكون قد
ربحنا من هذه المبادلة ولم نخسر (لنفسه) قد
أحببت الفتاة؛ إذ تقول إنها لن تبكي قط، ولكن … إلى أين أنت ذاهبة؟
بارتينيا
(وهي حاملة آنيتين من أواني الماء)
:
… إلى أين ذاهبة؟ إلى النهر؛ لأغسل هذه الأواني.
أنجومار
:
لا، بل ابقي معي وحدثيني.
بارتينيا
:
عندي واجبات يجب أن أؤديها (متظاهرة
بالخروج).
أنجومار
:
قفي! أمرتُك أن تقفي أيتها الأسيرة.
بارتينيا
:
لست أسيرة بل أنا رهينة، وها أنا ذاهبة لأغسل الأواني (تخرج من الشمال).
أنجومار
:
هذه فتاة قوية الإرادة، «لست أسيرة وإنما رهينة»! «عندي واجبات يجب أن
أؤديها»! وتهز رأسها كأنها تحمل ما في الدنيا من الذهب! «لن تراني باكية»!
يسرني منها هذا العناد؛ لأني أحب المقاومة، وأعشق حصاني عندما يصهل ويعصاني،
وأحب الجبال ما دامت وعرة، والبحر ما دام مضطربًا مُزْبدا، كل هذه تملؤني حياةً
وسرورًا، أما السكينة والكسل، فهما الموت بعينه، وما الحياة إلا في مجالدة
الأبطال (تعود بارتينيا بالأواني ومعها باقة من زهور
الجبال فتضع الأواني وتجلس بجوار صخرة) آه ها هي قد عادت (يتقدم نحوها) ما الذي تفعلين؟
بارتينيا
:
أنا؟ أعمل تيجانًا.
أنجومار
:
تيجانًا (لنفسه مسرورًا) يخيَّل لي أني
رأيت هذه الفتاة من قبلُ في أحلامي؛ لأنها تشبه أخي الذي مات طفلًا، فشعرها
أسود مثل شعره، وعيناها براقتان كعينيه، حتى صوتها يشبه صوته، وأفضِّل أن أبقى
معها عن النوم وراحة البدن. (لها) إذن فأنتِ
تُسَمِّين ما تصنعين تيجانًا؟
بارتينيا
:
نعم.
أنجومار
:
ولماذا تصنعينها؟
بارتينيا
:
لأضعها على هذه الخوذات.
أنجومار
:
كيف؟
بارتينيا
:
أليس ذلك من عاداتكم؟ إننا في مدينتنا نضع الأزهار على رءوسنا
وصدورنا.
أنجومار
:
وما فائدة هذا اللهو؟
بارتينيا
:
فائدته؟ فائدته أن الأزهار جميلة ورؤيتها تَسُرُّ العيون ورائحتها تنعش
القلوب (تضع تاجًا من الزهر على خوذة وتقدمها إلى
أنجومار) ألا تراها جميلة الآن؟
أنجومار
:
نعم وأقسم بالشمس الزاهرة! علِّمي نساءنا صنع هذه التيجان.
بارتينيا
:
سأعلمهن، فتصنع لك زوجتك تيجانًا مثل هذا.
أنجومار
(ضاحكًا)
:
زوجتي! لا زوجة لي إلا حربتي ودرعي وسيفي؛ لأني لا أحب أن أشتري
النساء.
بارتينيا
:
تشتري النساء! كيف؟!
أنجومار
:
أفي كلامي ما يدعو للعجب؟
بارتينيا
:
ما هذا؟ أتساومون على النساء كما تساومون على الأرقَّاء، أو كما تشترون
الماشية والأنعام؟!
أنجومار
:
إني أعتقد أن المرأة لا تصلح إلا لتتزوج عبدًا، تلك عاداتنا ولكم عوائدكم،
فماذا تفعلون في مدينتكم؟
بارتينيا
:
هنالك نستشير قلوبنا؛ لأن بنات ماسيليا تلك المدينة الحرة لا تُباع النساء
ولا تُشترى، ولكن يختارهن الأزواج، ولا يشتريهن إلا الحب.
أنجومار
:
والحب يربطكم برابطة الزواج؟ وهل يحب نساؤكم أزواجَهن؟
بارتينيا
:
بالتأكيد، وإلَّا فلماذا يتزوجن؟
أنجومار
:
إذن فهن يتزوجن لأجل الحب! إن هذا لعجيب، لا أستطيع فهمه، فأنا أحب حصاني
وكلابي ورفاقي الشجعان، ولا أحبُّ النساء! فماذا تقصدين بالحب؟ وما الحب يا
فتاة؟
بارتينيا
:
الحب؟ الحب أحلى الأشياء وأجملها، بل هو جنة الدنيا ونعيم الحياة، هذا ما
قالته لي أمي؛ لأني لم أكابده ولم أذق له طعما.
أنجومار
:
أبدًا؟
بارتينيا
:
أبدًا. انظر إلى هذا التاج، كم هو جميل! لو كنت وجدت زهرة حمراء لوضعتها
هنا.
أنجومار
:
في تلك الغابة تنبت الأزهار الحمراء.
بارتينيا
:
هناك؟ ما أجمل اللون الأحمر! اذهب وأحضر لي شيئًا منها.
أنجومار
(مندهشًا)
:
أُحضِر لك زهرًا؟ أيخدم السيدُ عبدَه؟! (يحدق فيها
النظر فيرتاح إليها بالتدريج، ثم يقول لنفسه) ولكن لماذا لا
أذهب؟ وها الفتاة تَعِبَة؟
بارتينيا
:
أراكَ مترددًا.
أنجومار
:
سأحضر لك الأزهار غضةً يانعة (يخرج من
اليمين).
بارتينيا
(ممسكة التاج بيدها)
:
إن انتصاري باهر! ولكن ما قيمة هذا النصر بين هؤلاء المتوحشين وحيث لا تشهده
أمي فتبسم لي؟ وما أنا هنا إلَّا وحيدة! ولكن لا، لن أبكي قط؛ حتى لا يقال إني
خائفة.
(يدخل أنجومار حاملًا زهرًا أحمر وهو يمشي
ببطء إلى بارتينيا.)
أنجومار
(على حِدَة)
:
كذلك كان أخي الصغير عندما يريد مني شيئًا، يتدلَّل عليَّ ويصمم على رأيه،
فأطيعه راغبًا أو مضطرًّا. وها هي الآن تكلمني بنفس تلك الإرادة وذاك العزم؛
فحلَّت في قلبي محلَّ أخي (لها) ها هي
الأزهار!
بارتينيا
(تأخذ منه الأزهار)
:
شكرًا لك! ولكنك قطعتها قصيرة العنق (ترمي
بعضها).
أنجومار
:
هل أحضر لك غيرها؟
بارتينيا
:
كلَّا، هذا يكفي.
أنجومار
:
فلأجلس بجانبك! حدثيني الآن عن مدينتك (يجلس).
بارتينيا
:
لقد جلست على الأزهار فأتلفتها.
أنجومار
(ينتقل من مكانه ويجلس عند أقدامها)
:
لا بأس لا بأس، فلأجلس هنا إذن. فقولي لي الآن، ما اسمك؟
بارتينيا
:
اسمي بارتينيا.
أنجومار
:
بارتينيا؟ اسم جميل! أخبريني إذن يا بارتينيا عمَّا تسمينه الحب، وكيف يتسرب
إلى القلب؛ لأني أرى هذه الكلمة بعيدة الغور.
بارتينيا
:
لست أدري ماذا أقول، ولكن أمي قالت لي: إن الحب هو زهرة غضة، أو هو نظرة تلهب
القلب نارًا لا تطفئها مياه العالم، تزيدها الأحلام الْتِهَابًا، ويزيدها
التفكير اشتعالًا! أو هو نجم زاهٍ من نجوم السماء، يضيء لنا ظلمة الحياة التي
نتخبط فيها. أو هو نعمة من نعم الآلهة، خَلَّفوها في الأرض عندما صعدوا إلى
السماء، أَنَفَةً من الدنيا، وزهدةً فيها!
أنجومار
:
لم أسمع في حياتي ألذَّ من هذا القول، ولكني لا أفهمه.
بارتينيا
:
ولا أنا؛ لأني لم أشعر به قط. ولكن أمي كانت تغني لي أغنية قديمة في الحب
أذكر أنها قالت فيها (متمهلة):
أسائلها: ما الحُبُّ؟ قالت ضحوكة:
أتسألني والقلب أعلم بالسر؟!
فؤادان يضطربان إن ذكر الهوى
وروحان ممتزجان كالماء والخمر
هو الحب لا يُدْعَى ولكنه هدًى
يُضيء لنا ما أظلم من صحف العمر
هو الكوكب الزاهي المخلَّد نوره
وهيهات هيهات يفنى خالد الذكر!
فقلت لها … (تتردد متلعثمة ناسية).
أنجومار
:
تممي تممي!
بارتينيا
:
لقد نسيتُ بقية الأنشودة.
أنجومار
:
حاولي أن تتذكريها.
بارتينيا
:
لا أستطيع الآن، ولعلي أتذكرها في فرصة أخرى.
أنجومار
(بشيء من الحدة)
:
بل الآن، الآن!
بارتينيا
(تنهض منزعجة)
:
ليس الآن؛ لأني أريد أزهارًا أخرى لأعمل لي تاجًا، وها أنا ذاهبة لأجمع
زَهرًا، فاحْرُسْ أنت هذا التاج وهذه الأزهار (ترمي
الأزهار والتاج الذي عملته في حجر أنجومار وتخرج تجري
مسرعة).
أنجومار
(بعد سكوت برهة وهو يتكلم لنفسه بصوت منخفض)
:
فؤادان يضطربان إن ذُكر الهوى
وروحان ممتزجان كالماء والخمر