الفصل الأول
(المنظر: خارج قصر حسن بك رضوان في الريف. باب في الوسط يؤدي إلى الحديقة وعلى جانبيه
أقاصيص الرياحين، شرفة في اليمين يُصعَد إليها ببضع درجات تؤدي إلى باب القصر في
اليمين، إلى يسار الشرفة منضدة عليها إبريق من الماء وكأس وسكين وطبق به ليمون وسكرية
بها سكر، كراسي حديقة منتشرة، على أحد الكراسي في الشمال طربوش، إلى أسفل المسرح
منضدة عليها سلة بها ألوان مختلفة من الحرير للتطريز.)
(ترفع الستار عن زينب وهي تروي
الرياحين برشاشة صغيرة في يدها، فيدخل البستاني خليل بخفة وهو يلتفت حوله.)
خليل
(همسًا وبدون أن تراه زينب)
:
زينب!
زينب
(منزعجة)
:
مَن! (تلتفت خلفها) خليل! والله لقد
أزعجتني.
خليل
(باهتمام وسرور)
:
ماذا تعملين هنا يا بلهاء؟
زينب
(ترفع الرشاشة إلى وجهه فيتراجع برأسه إلى الوراء)
:
حتى لا تظن سيدتي أني أهمل أزهارها.
خليل
(باهتمام)
:
ألم يبلغك الخبر؟
زينب
:
أي خبر؟
خليل
:
أما رأيت الدخان الذي يتصاعد من مدخنة مطبخنا حتى كاد يحجب ضوء الشمس؟ عندنا
اليوم وليمة كبرى لنحو مائة شخص أو يزيدون.
زينب
(مندهشة)
:
وليمة لمائة شخص! ولأي مناسبة يا تُرى؟
خليل
:
تشبَّهي بي، فإني خير مثال لمن يريد راحة البال، واهتمي بالأكلات، ودعيك من
المناسبات؛ لأنه يتصادف أحيانًا …
(تدخل أمينة هانم إلى الشرفة متثاقلة الخطى مفكرة.)
أمينة
(لزينب)
:
ما هذا يا زينب؟ (إلى البستاني) وما شأنك
معها يا خليل؟
خليل
(مرتبكًا)
:
لا شيء يا سيدتي، وأقسم بالله العظيم، إني … إني …
زينب
(بسرعة)
:
إنه يقول لي، إن عندنا اليوم وليمة لمائة شخص.
أمينة
:
ومن أين هذا الخبر الغريب؟ (تنزل
متباطئة).
خليل
:
رأيت الطباخ يا سيدتي، يذبح سبعة خراف وعشرة ديوك رومي، ونحو الثلاثين زوجًا
من الدجاج والحمام.
أمينة
:
إذن فالمسألة مسألة وليمة بلا شك.
خليل
:
لمائة شخص يا سيدتي؟
زينب
:
هذا سيدي البك قد أتى.
(يخرج خليل من باب الحديقة
وتصعد زينب إلى القصر، ويدخل حسن بك ضاحكًا من باب الحديقة وهو يفيض
بِشرًا وفي يده فأس، أما ملابسه فبيضاء واسعة مما يلبسه العمال
عادة.)
حسن بك
(ضاحكًا)
:
هاها! (ينظر إلى ملابسه).
أمينة
:
ما هذه الملابس يا عزيزي؟
حسن بك
:
هكذا يلبس الفلاحون في فرنسا، وما دمت قد انقطعت للحياة الريفية، فقد صممت
على أن أكون ريفيًّا حقيقيًّا، إنما على الطراز الأوروبي! هاها!
أمينة
:
لقد علمت الآن …
حسن بك
(مقاطعًا)
:
انتظري من فضلك، انتظري حتى أُفرغ لك كل ما عندي خشية النسيان … أين كنتِ هذا
الصباح؟
أمينة
:
كنتُ في غرفتي (تذهب إلى المنضدة السفلى
وتجلس).
حسن
(متأسفًا)
:
آه! ليتك كنت معي في الساعة السادسة من هذا الصباح تستنشقين أنفاس الطبيعة
المنعشة! (باهتمام) اسمعي الآن لأحدثك عن
الأمنيات الثلاث الكبرى التي أسعدني بها الحظ.
أمينة
:
خير إن شاء الله!
حسن
:
أما الأولى؛ فهي أن تجاربي في القطن قد أسفرت عن خير نجاح وسيكون للنوع الذي
ولَّدْتُهُ شأن عظيم.
أمينة
:
إذن أهنئك على هذا الفوز، وما هي الثانية؟
حسن
:
الثانية هي أني نَصَبت عدة شِراك لذلك الثعلب الملعون الذي زار الدجاج زيارة
منكرة، وسيقع الليلة في قبضتي.
أمينة
:
فتقتص منه طبعًا، وما الثالثة؟
حسن
:
الثالثة هو أنه سيزورني اليوم بضعة من أصدقائي.
أمينة
:
هذا هو ما أريد أن أسأل عنه؛ فكيف تدعو ضيوفًا بدون أن تخبرني؟!
حسن
(ضاحكًا)
:
في الحقيقة يا عزيزتي كنت أخشى أنهم لا يلبون دعوتي، وعلى كل حال فقد أوشكوا
أن يصلوا.
أمينة
:
وعددهم مائة كما أظن.
حسن
(ببساطة ظاهرة)
:
ليتهم كانوا مائة! إنهم أربعة فقط.
أمينة
(مندهشة)
:
أربعة! ولأجل أربعة تأمر بإعداد الطعام بالكثرة التي حدثني عنها
البستاني؟
حسن
:
خليل؟ يا له من أبله! حقًّا إن الطعام كثير ولكن هذا الأحمق لم يفكر في
أولاده وأولاد غيره من الخدم ولا في الفقراء الذين تموج بهم القرية، ألا يتألم
كل هؤلاء عندما يروننا نولم أفخر الولائم وليس لهم فيها نصيب؟ إن للفقراء في
أموالنا حقًّا، وتالله ما بارك الله في مال لم يخرج منه نصيب الفقراء فيه! ولكن
أين ابن عمي؟
أمينة
(منتعشة)
:
لست أدري، ولقد كنت أظنه معك.
حسن
:
معي؟ أبدًا! مسكين هذا الفتى. كلما أذكر أنه لم يرَ أباه وما أصيب أخيرًا من
وفاة أمه حتى لم يصبح له من ذوي قرباه غيري أتألم لحاله وها هو لم يمكث معنا
شهرًا حتى لزم الفراش شهرين.
أمينة
:
والفضل في شفائه يرجع إلى الدكتور زكي ومهارته في فنه.
حسن
:
وهل نسيت أنه أنقذ حياتك مرتين؟ إني من ذلك الحين أصبحت أنظر إليه كأنه أحد
أفراد أسرتي تمامًا، ولو أن له بعض نظريات لا أستطيع الإيمان بها. (ينادي) فريد! فريد! لست أدري أين اختفى هذا
الفتى.
(تظهر زينب من الشرفة.)
زينب
:
فريد أفندي ليس هنا يا سعادة البك.
حسن
:
هذا ما قلته (يلمح طربوشه على الكرسي، زينب تدخل
المنزل) ها هو قد ترك طربوشه وخرج يتمشَّى عاري الرأس!
أمينة
:
وماذا يضره لو تمشَّى في الشمس قليلًا؟
حسن
:
الدكتور زكي منعه من ذلك.
أمينة
:
بل أظن أنه أوصاه بالفسحة عند الشروق.
حسن
:
وإذا صح ذلك فإنه يكون برهانًا مبينًا على أن الدكتور مجنون.
أمينة
:
مجنون!
حسن
:
وكيف لا وهو يوصي بأن يتمشى في الشمس؟ أوَلا يكون مجنونًا وهو الذي يدَّعي
معرفة أخلاق الناس من شكل جماجمهم وطول أنوفهم؟
أمينة
:
ولكن …
حسن
:
ولكن ماذا؟ حقًّا إني أحترمه وأعترف له بفضله ولكني لا أشعر أنه من أصدقائي،
فدعيني منه الآن حتى أبحث عن فريد. (ينادي)
فريد … فريد! (يخرج مسرعًا.)
أمينة
(تتناول قطعة الحرير وتفكر لحظة ثم تجلس وقد بدأت
تطرز)
:
يا لك من مسكين يا فريد! كم أشفق عليه وكم يتزايد انعطافي إليه حتى لأتمنى
ألا يفارقنا أبدًا.
(صوت فريد من الخارج يغني وصوته
يقترب بالتدريج فتتنبه حواس أمينة وتصغي إليه برغبة.)
فريد
(يغني)
:
لم يَطُلْ لَيلِي ولكنْ لَمْ أَنَمْ
ونفى عنِّي الكرى طيفٌ ألم
رَوِّحي عنِّي قليلًا واعلمي
أنني يا هند من لحم ودم
إنَّ في بُرْدَيَّ جسمًا ناحلًا
لو تَوكَّأتِ عليه لانهدم
أمينة
(لنفسها)
:
يشجيني صوته الملائكي (يدخل فريد من باب
الحديقة) يسرني جدًّا أني سمعتك تغني.
فريد
:
ولو أني لا أجيد صناعة الغناء ولكنني أغني أحيانًا على سبيل الرياضة.
أمينة
:
إنك لتجيد الغناء إجادة متفوقة (يحني رأسه
خجلًا) ولكن كيف تخرج في الشمس عاري الرأس؟
فريد
:
عفوك يا هانم! فإن ما كان ليصح لي أن أترك صحبتك.
أمينة
(تنادي ناحية المنزل)
:
زينب! (لفريد) ألم تلتقِ بابن عمك؟
فريد
:
كلا، وهل سأل عني؟
أمينة
:
نعم، والآن فقط (تدخل زينب) هاتِ تلك
الصينية يا زينب!
زينب
(وقد أتت بالصينية)
:
هل أُخبر سيدي البك بحضور فريد أفندي؟
فريد
:
لا لا … أظن أنه لا داعي لذلك حتى لا يؤنبني على خروجي إلى الحديقة عاري
الرأس.
زينب
:
هل تأمرين بشيء يا سيدتي؟
أمينة
:
كلَّا … بل تعالي يا زينب أعدي غرف النوم للضيوف وسآتي بعد قليل لأرى ماذا
عملت (تخرج زينب … خلال الحديث المتقدم تكون أمينة
هانم جهزت شراب الليمون لفريد) تفضل يا فريد أفندي (تقدم له كأس الليمون).
فريد
(يشرب)
:
إني لي شكر يا سيدتي يفي بعض ما تُحملينني من المعروف والفضل.
أمينة
:
أرجوك ألا تتكلم عن هذا (تقدم إليه كأسًا
آخر).
فريد
(يتناولها)
:
سامحيني فإني لا أستطيع أن أتكلم في غير هذا الموضوع؛ إذ لولاك لما نهضت من
فراش سقامي (يشرب ويضع الكأس على
المنضدة).
أمينة
:
وهل نسيت فضل الطبيب؟ لا تضطرب فإني ما زلت أخشى عليك الانتكاس.
فريد
(بحرارة)
:
ليتني أنتكس يا سيدتي فأستمتع مرة أخرى بعذوبة حنانك؛ لأن الألم الذي يصحبه
هذا العطف لا يكون ألمًا بل سرورًا.
أمينة
(ضاحكة)
:
قلت لك دعنا من هذا الموضوع.
فريد
:
إن الاعتراف بالجميل هو دَين القلوب.
أمينة
:
إني لأشكر لك رقة إحساسك، ولكني ألاحظ من اضطرابك أنك لا تزال تحت تأثير
الحمى.
فريد
:
ربما كنت لا أزال مريضًا، ولكن الذي أشعر به وقد ملأ كل قلبي يجب أن أصرح
به.
أمينة
:
لا تُثِرْ عواطفك؛ لأني علمت من الدكتور أن مرضك لم يسببه إلا تهيج العواطف،
ومن كان في سنك فإنه يستطيع أن يجد إلى العزاء سبيلًا.
فريد
:
وكيف يا سيدتي وأنا وحيد كما ترينني وليس لي صديق؟!
أمينة
:
ألا تجد في ابن عمِّك حسن بك أكبر صديق لك؟
فريد
:
إن صداقة النساء وحدها هي التي تنزل على القلب بردًا وسلامًا، فأنا في حاجة
إلى حنان كحنانك أنت.
أمينة
:
إنما تطيعني كما لو كنت أختك الكبرى؟
فريد
(بشغف)
:
إذن فقد قَبِلتِ أن تكوني صديقتي؟
أمينة
(ضاحكة)
:
نعم، قبلت مع كل ما يترتب على ذلك من المسئولية.
فريد
:
شكرًا لك يا سيدتي، بل صديقتي، وألف شكر (تدخل
زينب).
زينب
:
الدكتور زكي بك يا سيدتي.
أمينة
:
دعيه يتفضل (تخرج زينب).
فريد
(يقف متأففًا)
:
لست أدري لماذا أصبحت لا أميل إلى هذا الطبيب؟!
أمينة
:
إنه لآية في الأدب وحسن الخُلق، وإنك لا تزال تحت رعايته.
فريد
:
ولكني لاحظت عليه أخيرًا أنه ينظر إليَّ نظرات لا أفقه سرها (يدخل الطبيب).
الدكتور
:
سلام يا هانم (يصافحها ثم يتقدم إلى فريد ويصافحه
وهو ينظر إليه بدقة) وأنت؟ كيف حالك اليوم؟
أمينة
:
ألا ترى تحسينًا في صحته يا دكتور؟
فريد
:
تحسين كبير (تدخل زينب وتهمس في أذن أمينة
هانم).
أمينة
:
عن إذنك برهة يا دكتور (وهي على الدَّرَج ووراءها
زينب) سأعود حالًا.
الدكتور
:
تفضلي يا هانم (لفريد) لم تقل لي كيف أنت
(يلمح شراب الليمون وقطعة
التطريز).
فريد
:
يظهر أن الحمَّى قد عاودتني (الدكتور يمسك يده
ويفحصه ثم يلبس نظارته وينظر إليه من أعلى إلى أسفل).
الدكتور
(بتهكم)
:
ظاهر ظاهر!
فريد
:
ولكن ما لي أراك تنظر إليَّ كما لو كنت مرتابًا في قولي؟! فهل تنكر أني كنت
مريضًا؟
الدكتور
:
وكيف أُنكر ذلك وقد عالجتك شهرين وعرفت السبب الحقيقي الذي سبَّب لك المرض؟
وبالاختصار فإني أعرف كل شيء.
فريد
(على حِدة)
:
يعرف كل شيء (للدكتور) وما ذلك الذي
تعرفه؟
الدكتور
(يتناول قطعة التطريز ويقلِّبها في يده)
:
انظر إلى هذا التطريز نظرة مفكر حكيم، ألا ترى أن هذه الألوان المختلفة قد
اختلطت بعضها ببعض اختلاطًا لا شيء من التناسب فيه بالمرة؟ وكيف أن عقد الخيوط
الحريرية قد أغفلت ظاهر القماش بتأكيد معنوي بسبب عدم العناية وانشغال البال؟
ثم لا تنسى أن هذا التطريز هو إطار ستوضع فيه صورة ابن عمك حسن بك (يتناول كأس الليمون ويملؤه) وهذا شراب الليمون
انظر كيف صُنع بمزيد الدقة والعناية! وَسَلِ ابنَ عمِّك كم مرة في حياته شرب
مثل هذا الشراب؟
فريد
:
ما هذا؟ أراك قد تدخلت فيما هو ليس من شأنك! ومع ذلك فاعلم أنك قد أخطأت في
كل ما ذهبت إليه.
الدكتور
:
تالله ما خانتني الفراسة قط!
فريد
:
وعلام؟ بثني ظنونك حتى أفنِّد دعواك (يدخل حسن
بك).
حسن
(للدكتور)
:
أنت هنا؟ مرحبًا … مرحبًا (يصافحه) وفريد
أيضًا. (فيقول لفريد) أين كنت يا خبيث؟
(للدكتور) ما الذي تراه في حالته يا
دكتور؟
الدكتور
:
تقريبًا قد زالت عنه الحمَّى، إنما لا يزال عنده تهيج في المجموع
العصبي.
حسن
(يهز رأسه بحالة جِد وتخوُّف)
:
آه … هذا ما ظننته وخشيته!
الدكتور
(ينزل مع حسن بك)
:
وهو في حاجة إلى الرياضة والرياضة الشديدة كالمشي مثلًا، ويحسن أن تصحبه كل
يوم في فسحة طويلة على الأقدام.
حسن
:
فسحة طويلة!
الدكتور
:
نعم نعم، على قدر ما تستطيع، وكلما كان بعيدًا عن المنزل كلما كان ذلك في
صالحه وصالحك، إنما لا تتركه وحده مطلقًا؛ لأن الوحدة تسبب الأفكار.
حسن
:
أما من هذه الوجهة فلا تَخَفْ؛ لأن أمينة هانم لا تفارقه قط (تدخل أمينة) وها هي قد أتت فاسألها إذا كانت
تفارقه لحظة واحدة.
أمينة
:
إني دائمًا معه.
الدكتور
:
آه حسن جدًّا إذن فلا خوف عليه مطلقًا (يتناول
طربوشه وعصاه).
حسن
(لنفسه)
:
أخشى أن ينتكس المسكين عقب فسحة اليوم؛ إذن يجب أن أدعو الدكتور ليتناول
الغداء معنا حتى لا نفتقد معونته عند الحاجة.
الدكتور
(مستأذنًا في الانصراف)
:
أرجو أن تسمح لي يا بك …
حسن
(مقاطعًا)
:
لا لا، لا تهرب منا فإنك ستتناول الغداء معنا.
الدكتور
:
إني يا عزيزي البك …
حسن
(مقاطعًا)
:
لا لا، لا أستطيع أن أقبل لك عذرًا، ويجب ويلزم ويتحتم أن تمكث معنا.
الدكتور
:
ما دام الأمر فيه وجوب وإلزام وتحتيم فها أنا معكم (يضع طربوشه وعصاه … أمينة تطلع قليلًا وفريد يتناول جريدة ويلحق
بها).
حسن
:
الآن أصبت وأحب أن تشترك معي في الترحيب بالضيوف الذين سيشرفونني بعد
قليل.
الدكتور
:
إذن فأنت اليوم تنتظر بعض الزائرين؟
حسن
:
نعم، ويسرني هذا جدًّا وبهذه المناسبة أخبرك يا دكتور أن عندنا غرفة فرشناها
أخيرًا وزينَّاها أبدع زينة فحيطانها وسقفها أزرق سماوي بديع موشَّى بماء الذهب
وستائرها وفرشها الثمين من هذا اللون أيضًا ونوافذها مشرفة على المزارع والحقول
فكأنها جنَّة في البيت، وهذه الغرفة هي التي أسميها غرفة الصديق ولا يروقني أي
منزل إلا إذا كان فيه غرفة صديق كهذه.
الدكتور
:
إنك ممن يقدسون الصداقة والأصدقاء.
حسن
:
كل التقديس، وكم يحلو لي أن أرى أصدقائي حولي تفيض قلوبهم بِشرًا وحبًّا،
وتعلو شفاههم ابتسامات الإخلاص الطاهر! فما أجملَ حياةَ المرء وحوله أصدقاؤه
المخلصون! إني دائمًا لسعيد، ويزيد سعادتي وجود من يشاركني فيها.
الدكتور
(ينظر إلى فريد وأمينة وهما يتحادثان)
:
إذا كان الأمر كذلك فهنالك من هو مستعد لمشاركتك في سعادتك.
حسن
:
تعني فريدًا ابن عمي؟ ولكنه لا يكفي وعندنا غرف أخرى كثيرة ويسرني أن أراها
كلها ملأى بالأصدقاء، وعندما كنت في القاهرة في الأسبوع الماضي دعوت كلَّ من
صادفته من أصدقائي لتمضية ما يشاء من الأيام في ضيافتي هنا.
الدكتور
:
إذن فسيضيق منزلك بالزائرين!
حسن
(يضحك مسرورًا)
:
حبذا حبذا! إن مزاجي يا دكتور اشتراكي محض، حتى إني ألتصق بالناس بمجرد
التعارف وعندي خاصية لاتخاذ الأصدقاء، فهل لك مثل هذه الخاصية يا دكتور؟
الدكتور
:
كلَّا يا سيدي، وليس لي أصدقاء.
أمينة
:
لا صديق لك يا دكتور؟ ولماذا؟
الدكتور
:
لأني يا سيدتي لم أعثر بعدُ على من يستحق أن يحمل هذا اللقب المقدَّس؛ إن حسن
بك يبحث عن الكمية أما أنا فأبحث عن الجوهر.
حسن
:
هذه هي إحدى النظريات التي يختلف نظرنا فيها (إلى
أمينة) هل أعددت لوازم الضيوف يا أمينة؟
أمينة
:
لقد تركت زينب تجهِّز اللازم.
حسن
(متأففًا)
:
زينب! زينب! بل أنت التي تجهزين كل شيء حتى لا يشعر أحد من الضيوف بِذرَّة من
الإهمال أو التقصير، أنت ربة الدار يا أمينة فلا تعتمدي إلَّا على نفسك!
أمينة
:
لقد أوضحت لها كل ما يلزم عمله وأشرفت عليها عندما أتى الدكتور، وها أنا
ذاهبة أيضًا لأرى ماذا عملت (تطلع الدَّرَج)
عن إذنك يا دكتور (تخرج).
حسن
:
لا يمكن للمرأة أن تعترف بخطئها إذا أخطأت، ولكنها دائمًا تأتي بالمعاذير
والمبررات (يدخل خليل من باب
الحديقة).
خليل
(لحسن بك)
:
بالباب شخصان يقول أحدهما إنه صديق سعادتك ولم يشأ أن يذكر اسمه.
حسن
(متهللًا)
:
صديق! إن طالعي لسعيد (يدخل شعبان أفندي ورمضان
أفندي من الوسط يتبعهما عتَّال يحمل لهما المنضد) شعبان أفندي
ورمضان أفندي! مرحبًا مرحبًا! هذا فضل منكما عظيم.
شعبان
:
نعم ها قد حضرنا، هات ريالًا لأصرف العتَّال؛ إذ ليس معي عملة صغيرة (يتناول النقود ويعطي العتَّال بعضها ويضع الباقي في
جيبه، وخلال ذلك ينقل خليل المنضد إلى أعلى).
حسن
:
تالله إن هذا الفضل منكما حقًّا! آنستما وشرفتما!
رمضان
:
ما دام ليس لنا منزل في الريف ونريد استنشاق الهواء الطلق فليس لنا من سبيل
غير الحضور إليك، والمرء مدين لنفسه بالطبع.
شعبان أفندي
:
إن مرور السنين يا حسن بك لم يترك على جبينك غضونًا ولا أثرًا.
حسن
:
ببساطة ذلك لأني لا أحمل همًّا.
الدكتور
(على حدة)
:
براعة استهلال!
رمضان
(وهو يفحص المكان بنفسه)
:
يا لله! إنه لقصر حقًّا!
حسن
(ينزل بشعبان وأخيه)
:
شعبان أفندي موظَّف بمصلحة الصحة، وشقيقه رمضان أفندي بمصلحة المساحة (الدكتور وفريد ينحنيان) الدكتور زكي طبيب صحة
المركز وطبيب العائلة أيضًا … فريد ابن عمي.
شعبان ورمضان
(بامتعاض)
:
تشرفنا!
حسن
:
هل تحبَّان أن تريا الغرفة المُعدَّة لكما؟
شعبان
:
لا بأس وليذهب أخي رمضان.
حسن
:
فريد، اذهب مع رمضان أفندي وأَرِهِ الغرفةَ الزرقاء.
رمضان
(على حدة)
:
كأن عندهم عشرين غرفة (يخرج مع
فريد).
شعبان
(بغيظ)
:
إن الحظَّ وحدَه هو كل شيء في هذا العالم، فلا الذكاء ينفع ولا الهِمَّة
تُغني، فسبحان العاطي الوهاب!
الدكتور
:
سبحان مالك الملك!
زينب
(في الخارج)
:
من هنا يا سيدي؟
حسن
:
برافو! زائر جديد!
(تدخل زينب أمام مرسي أفندي
وخلفه فؤاد ولده.)
مرسي
:
بالطبع من هنا؛ فهل حسبتيني أعمى لا أرى الباب؟
حسن
:
مرسي أفندي! أهلًا أهلًا!
مرسي
:
بالله استرح لا تتعب نفسك؛ لأني أنا شخصيًّا لا أحب ذلك، خذ هذه (يتناول حقيبة وهي عبارة عن سجادة مطوية داخلها
ملابس).
حسن
:
اسمحوا لي يا سادة أن أقدِّم إليكم صديقي القديم مرسي أفندي.
مرسي
:
صديقك القديم! وهل رأيت على وجهي أو على ملابسي ما يدل على القِدم، خذ هذه
(يتناول المظلة) إني لا أحب أن أُتعب
أحدًا، هات حقيبتك هنا يا فؤاد (يتناولها من ولده
ويعطيها لحسن بك) ولدي الوحيد أيها السادة أدَّبته بنفسي وهذبته …
أطهر من زهرة وأودع مِن حَمَل!
الدكتور
:
من شابه أباه فما ظلم!
حسن
:
إني لا أنسى لك فضلك لوفائك بوعدك.
مرسي
:
نعم، وتالله ما فعلت هذا من قبل لأحد غيرك؛ لأني لا أحب الريف.
الدكتور
:
وهل هذا ممكن؟
(يدخل فريد.)
فريد
:
لقد استنسب رمضان أفندي أن يلزم غرفته قليلًا.
شعبان
:
لا بأس، ولعلَّه في حاجة إلى الراحة.
مرسي
(للدكتور)
:
لا أطيق الريف قط يا سيدي؛ لأنه قبل كل شيء ترى الأشجار الضخمة التي تحجب ضوء
الشمس، والأزهار التي تورث الصداع برائحتها، والطيور التي تُصم الآذان بصياحها.
والخلاصة أن حسن بك ضايقني كثيرًا بإلحاحه عليَّ في الحضور إلى هنا حتى أضجرني،
فقلت لولدي هيا بنا يا فؤاد لتلبية هذه الدعوة عسى ألا يضايقنا حسن بك بمثلها
في المستقبل!
حسن
(يصافحه)
:
تالله إنك لكريم جدًّا!
الدكتور
(على حدة)
:
كريم ذو انتقام!
حسن
:
ولو كنت حضرت قبل الآن بقليل لكنت نزلت في الغرفة الزرقاء، ولكن شعبان أفندي
سبقك إليها.
مرسي
:
أوه، لا بأس ما دام عندك ما هو خير منها.
حسن
:
عندنا الغرفة القرمزية وهي بديعة جدًّا.
مرسي
:
الغرفة القرمزية …
الدكتور
:
وعلى كل حال فمسألة لون الغرفة أمر لا يهم في الظلام.
مرسي
:
أنا لا أحب الريف ولا أحب أن أُتعب الناس، إنما لا يصح أن يغادر المرء مصر
الزاهرة ويهجر فراشه الوثير لأجل غرفة (باحتقار) في الريف (لولده)
أظن أنه خير لنا يا فؤاد أن نعود إلى مصر بأول قطار!
فؤاد
:
نعم يا أبت.
مرسي
:
نعم نعم، يجب أن نرحل في الحال (يمشي).
حسن
:
لا لا، هذا لا يكون أبدًا، ويمكننا التوفيق فهل تسمح بغرفتك الزرقاء يا شعبان
أفندي؟
شعبان
(لحسن بك على حِدَة)
:
بالطبع لا، ولماذا أعطيه إياها؛ ألأنه غني وأنا فقير؟
فريد
:
لا تتكدر يا شعبان أفندي، فإني متنازل عن غرفتي.
مرسي
:
أوه! يا لله، يا لله! إني آسف جدًّا لأني أتعبتكم هذا التعب وأظن أنه خير لنا
أن نرحل عنكم!
حسن
(يأخذ منه الحقيبة)
:
لا لا، ولقد تنازل فريد أفندي عن غرفته وهي آية في الإبداع كلها بالحرير
الأصفر الموشَّى، وفي داخلها غرفة أخرى وحمَّام أيضًا تام المعدات، فماذا تريد
أكثر من ذلك؟
مرسي
:
لست مغرمًا باللون الأصفر ولا أحبه؛ إنما إرضاءً لخاطرك ولأني لا أحب أن
أُتعب أحدًا (يدفع الدكتور ناحيته بعنف ويجلس على
كرسي) ولأني أحب أن …
حسن
:
تريح نفسك.
مرسي
:
أريح نفسي … أقصد أن أقول: ولكي أريح كل إنسان؛ فقد عوَّلت على
البقاء.
حسن
:
شكرًا لك يا أخي.
مرسي
(إلى الدكتور)
:
أرجوك أن تجلس.
الدكتور
:
شاكر فضلك؛ فإني لا أحب الجلوس.
مرسي
:
تكرَّم عليَّ واجلس؛ لأني عندما أرفع رأسي أُصاب بالصداع.
الدكتور
:
إذن فلأجلس.
مرسي
:
نعم، ولنرفع الكلفة بيننا فإني وحسن بك كأننا أخوان، وقد افترقنا عندما كان
حسن بك كثير الأشغال وفي حالة عسر، ولكني وجدته بعدها وكثيرًا ما يعثر المرء
بأصدقائه.
حسن
:
بالطبع يتقابلون ما داموا على قيد الحياة.
الدكتور
:
ولا سيما إذا كان أحدهم قد أصاب نجاحًا في حياته!
مرسي
:
نعم … (مرتبكًا) أقصد أن أقول … إنهم في
هذه الحالة …
الدكتور
:
يكون العثور عليهم أسهل.
مرسي
:
نعم، هذا ما أريد أن أقوله. (إلى حسن بك على
حدة) متى تعرَّفت بصديقك هذا؟
(يدخل
الصاغ بيومي ببدلة عسكرية تلفت النظر لعدم انتظامها وما هو ظاهر عليها من
آثار القِدم.)
الصاغ
:
سلام أيها السادة! هل هذا منزل صديقي العزيز حسن بك؟
حسن
:
صديقي العزيز (اندهاش عام).
الصاغ
:
ما لكم ساكتون؟ أليس فيكم من يستطيع الجواب؟
حسن
:
عفوًا يا صديقي العزيز؛ فإنك ما دمت صديقًا لي عزيزًا فإني أنا حسن
بك.
الصاغ
:
ولماذا لم تقل ذلك يا خبيث في الحال؟! (يأخذه بين
ذراعيه بشكل يضايق كثيرًا حتى يتململ حسن بك).
حسن
(يتنفس الصعداء ويمسح جبينه من العرق)
:
إنما يظهر أني ضعيف الذاكرة جدًّا؛ لأني لا أذكر تمامًا …
الصاغ
:
ماذا؟ أنسيت أيام الدعارة التي أمضيناها معًا في صبانا؟ أنسيتني بهذه
السرعة؟
حسن
(مرتبكًا خجلًا)
:
لم أنسَ ولكن يظهر أن مُضيَّ السنين الطويلة …
الصاغ
:
على كل حال يَسرُّني جدًّا أن أراك يا حسن بك، والآن أين أضع حوائجي ومتاعي؟
(يخرج من الوسط ويعود ومعه أحمال كثيرة منها
صندوق من الخشب يجلس عليه).
شعبان
:
شيء غريب! أهذا الرجل صديقك حقيقة؟
حسن
:
إنه يزعم ذلك، وأعتقد أنه لا بد أن يكون من أصدقائي.
شعبان
:
إذن فأنت مُصَدِّقٌ دعواه؟
حسن
:
الحقيقة إن لي أصدقاء كثيرين وترجع معرفتي ببعضهم إلى عشرين أو ثلاثين سنة
مضت؛ لذلك أراني معذورًا إذا الْتَبس عليَّ الأمر، ومع هذا فإني دائمًا أميل
إلى حسن الظن.
مرسي
:
وما اسمه؟
حسن
:
هذا هو أدهى ما في الأمر؛ إني لا أعرف اسمه!
شعبان
:
يمكنك أن تسأله!
مرسي
:
نعم سله عن اسمه، ولكن لا تَدْعُه إلى تناول الطعام معنا؛ لأن مجرد النظر إلى
صورته يُفقدني الشهية للطعام.
حسن
:
ولكن يا عزيزي …
الصاغ
:
علامَ تتهامسون وتتغامزون؟ لقد انتظرت عليكم طويلًا لعلكم تستحون فما استحى
منكم أحد، فما الخبر؟
حسن
:
لا شيء، ولكني أحب أن أعرف يا عزيزي …
الصاغ
:
ماذا؟ تكلم! قل!
حسن
:
أظن يا عزيزي أنك … لعلك … أظنك لا تنوي الإقامة.
الصاغ
:
لا لا لن أقيم طويلًا! شهر واحد فقط.
الجميع
:
شهر!
الصاغ
:
نعم شهر واحد فقط مع مزيد الأسف! وعلى كل حال فيمكنكم انتهاز هذه الفرصة
لتستمتعوا بوجودي بينكم هذه الفترة القصيرة (إلى حسن
بك) ياه لا أنسى آخر مرة قابلتك فيها في منزل … هاها! وكنت ليلتها
في أشد أحوال السكْر!
حسن
:
أحوال السكْر! تالله ما ذقت الخمر في حياتي!
الصاغ
:
لعلك مُستحٍ من السادة الموجودين؟
حسن
:
ليس الأمر كذلك، ولكن المسألة في الحقيقة … والله لا أدري ماذا أقول!
مرسي
(على حِدَة)
:
يظهر أنه سكران ولا شك.
الصاغ
:
لقد كان حسن بك فيما مضى متهتِّكًا عربيدًا (يدخل
خليل ويهمس في أذن سيده ثم يخرج).
حسن
:
تفضلوا الغداء يا سادة!
مرسي
:
الغذاء! (ينظر في ساعته) لا لا! هذا موعد
باكر جدًّا؛ فإني لا أتغدى قبل الساعة الثانية. أليس كذلك يا فؤاد؟
فؤاد
:
نعم يا أبت.
الدكتور
:
وموعدي أيضًا.
حسن
:
أؤكد لك يا مرسي أفندي أننا هنا نجد قابلية للطعام قبل أذان الظهر، فما بالك
والساعة الآن الواحدة بعد الظهر؟
مرسي
:
نعم يا عزيزي، ولكن كم يكون مقدار هذه القابلية في الساعة الثانية؟
فريد
:
إذن حسمًا للنزاع فلنجعل الغداء في منتصف الساعة الثانية، وأظن هذا الموعد
يناسب الجميع.
مرسي
:
أرجو ألا تُحدثوا أي تغيير في مواعيدكم مراعاةً لي؛ لأني لا أحب أن أُتعب
أحدًا ولست محبًّا لنفسي فلا داعي للتأخير هيا بنا.
حسن
:
لا لا، يمكننا أن ننتظر (مرسي يقترب من
الباب).
فريد
:
يا لله! انتظر يا مرسي أفندي!
مرسي
:
إني لا أحب أن أُتعب أحدًا.
الدكتور
:
إنك لتولينا فضلًا عظيمًا إذا انتظرت.
مرسي
:
ما دمت أُوليكم فضلًا بانتظاري إذن …
رمضان
(نازلًا من المنزل)
:
لو لم أسمع هذه الضجة لكنتم نسيتموني من الطعام.
حسن
:
لا والله يا رمضان أفندي، ولقد كنت على وشك أن أدعوك بنفسي.
شعبان
(لرمضان على حدة)
:
هذا لأننا فقراء يا أخي، ولكن انظر إلى هذا الرجل فإنهم لأجل خاطره قد
أخَّروا موعد الطعام نصف ساعة!
حسن
:
إذن فليكن كل منا يا سادة على حريته حتى يحين وقت الغداء، فمن كان منكم لا
يقر بقابليته فيمكنه أن يستنشق الهواء الطلق في البستان.
(يدخل خليل من الوسط يحمل الجرائد.)
خليل
:
الجرائد يا سيدي.
شعبان
(يخطفها من الخادم)
:
دعني أرى الأخبار المحلية أولًا (يذهب يمينًا مع
أخيه حيث يقتسمان الجرائد ويخرجان من الوسط إلى الحديقة، وحسن بك يُخرج
سجارة من علبته ويضعها في فمه).
الصاغ
:
سجارة! شكرًا لك (يخطفها من فمه) لا لا …
لا تتعب نفسك فإن معي كبريت (يذهب شمالًا حيث يشعل
سجارته ويخرج وهو يدخن).
فريد
:
فلأذهب لتناول دوائي قبل الغذاء (يدخل
المنزل).
مرسي
:
أين طربوشي؟ إني لا أستطيع أن أخرج في الشمس عاري الرأس (يتناول طربوش حسن بك من على رأسه) كأنه طربوشي
تمام (يخرج مع ابنه من الوسط).
الدكتور
(ينظر إلى حسن بك لحظة)
:
أما أنا يا عزيزي حسن بك فأرجو أن تسمح لي … بالانصراف (ينحني) أسعد الله صباحك (يخرج من الوسط، ويظل حسن بك واقفًا في وسط المسرح
مندهشًا مبهوتًا عاري الرأس).
(تنزل الستار)