صراخ القبور
١
تربع الأمير على منصة القضاء، فجلس عقلاء بلاده عن يمينه وشماله وعلى وجوههم المتجعدة تنعكس أوجه الكتب والأسفار، وانتصب الجند حوله ممتشقين السيوف رافعين الرماح، ووقف الناس أمامه بين متفرج أتى به حب الاستطلاع، ومترقب ينتظر الحكم في جريمة قريبه، وجميعهم قد أَحْنَوْا رقابهم، وخشعوا ببصائرهم وأمسكوا أنفاسهم كأن في عيني الأمير قوة توعز الخوف، وتوحي الرغبة إلى نفوسهم وقلوبهم. حتى إذا ما اكتمل المجلس، وأزفت ساعة الدينونة رفع الأمير يده وصرخ قائلًا: «أحضروا المجرمين أمامي واحدًا واحدًا، وأخبروني بذنوبهم ومعاصيهم.» ففتح باب السجن وبانت جدرانه المظلمة مثلما تظهر حنجرة الوحش الكاسر عندما يفتح فكيه متثائبًا، وتصاعدت من جوانبه قلقلة القيود والسلاسل متآلفة مع أنين الحبساء ونحيبهم، فحَوَّل الحاضرون أعينهم، وتطاولت أعناقهم كأنهم يريدون مسابقة الشريعة بنواظرهم؛ ليروا فريسة الموت خارجة من أعماق ذلك القبر.
وبعد هنيهة خرج من السجن جنديان يقودان فتى مكتوف السَّاعدين يتكلم وجهه العابس، وملامحه المنقبضة عن عِزَّةِ في النفس وقوة في القلب، وأوقفاه وسط المحكمة وتراجعا قليلًا إلى الوراء، فأحدق به الأمير دقيقة ثم سأل قائلًا: «ما جريمة هذا الرجل المنتصب أمامنا برأس مرفوع كأنه في موقف الفخر لا في قبضة الدينونة؟»
فأجابه رجل من أعوانه قائلًا: «هو قاتل شرير قد اعترض بالأمس قائدًا من قواد الأمير، وجندله صريعًا إذ كان ذاهبًا بمهمة بين القرى، وقد قُبِضَ عليه والسيف المغمد بدماء القتيل ما زال مشهورًا في يده.»
فتحرك الأمير غضبًا فوق عرشه، وتطايرت سهام الحنق من عينيه، وصرخ بأعلى صوته قائلًا: «أرجعوه إلى الظلمة، وأثقلوا جسده بالقيود وعندما يجيء فجر الغد اضربوا عنقه بحد سيفه، ثم اطرحوا جثته في البَرِّيَّةِ؛ لتجردها العقبان والضواري، وتحمل الرياح رائحة نتانتها إلى أنوف أهله ومحبيه.»
أرجَعُوا الشاب إلى السجن والناس يتبعونه بنظرات الأسف والتنهيدات العميقة؛ لأنه كان فتى في ربيع العمر حسن المظاهر قوي البنية.
وخرج الجنديان ثانية من السجن يقودان صبية جميلة الوجه ضعيفة الجسد، قد وشح معانيها اصفرار اليأس والقنوط، وغمرت عينيها العبرات، وألوت عنقها الندامة والحسرة.
فنظر إليها الأمير قائلًا: «وما فعلت هذه الامرأة المهزولة الواقفة أمامنا وقوف الظل بجانب الحقيقة؟»
فأجابه أحد الجنود قائلًا: «هي امرأة عاهرة قد فاجأها بعلها ليلًا، فوجدها بين ذراعي خليلها فأسلمها للشرطة بعد أن فَرَّ أليفها هاربًا.»
فأحدق الأمير بها، وهي مطرقة خجلًا ثم قال بشدة وقساوة: «أرجعوها إلى الظلمة، ومَدِّدُوها على فراش من الشوك لعلها تذكر المضجع الذي دنسته بعيبها، وأسقوها الخل ممزوجًا بنقيع العلقم عساها تذكر طعم القُبَلِ المحرمة، وعند مجيء الفجر جروها عارية إلى خارج المدينة، وارجموها بالحجارة، واتركوا جسدها هناك لكي تتنعم بلحمانه الذئاب، وتنخر عظامه الديدان والحشرات.»
توارت الصبية بظلمة السجن والحاضرون ينظرون إليها بين معجب بعدل الأمير، ومتأسِّف على جمال وجهها الكئيب، ورِقَّة نظراتها المحزنة.
وظهر الجنديان ثالثة يقودان كهلًا ضعيفًا يسحب ركبتيه المرتعشتين كأنهما خرقتان من أطراف ثوبه البالي، ويلتفت جزعًا إلى كل ناحية، ومن نظراته الموجعة تنبعث خيالات البؤس والفقر والتعاسة.
فالتفت الأمير نحوه، وقال بلهجة الاشمئزاز: «وما ذنب هذا القذر الواقف كالميت بين الأحياء؟»
فأجابه أحد الجنود قائلًا: «هو لص سارق قد دخل الدير ليلًا، فقبض عليه الرهبان الأتقياء ووجدوا طي أثوابه آنية مذابحهم المقدسة.»
فنظر إليه الأمير نظرة النسر الجائع إلى عصفور مكسور الجناحين، وصرخ قائلًا: «أنزلوه إلى أعماق الظلمة، وكَبِّلُوه بالحديد وعند مجيء الفجر جُرُّوه إلى شجرة عالية واشنقوه بحبل من الكَتَّان، واتركوا جسده معلقًا بين الأرض والسماء، فتنثر العناصر أصابعه الأثيمة نثرًا، وتذري الرياح أعضاءه نتفًا.»
أرجعوا اللص إلى السجن والناس يهمسون بعضهم في آذان بعض قائلين: «كيف تجرأ هذا الضعيف الكافر على اختلاس آنية الدير المقدسة؟»
ونزل الأمير عن كرسي القضاء فاتبعه العقلاء والمتشرِّعون، وسار الجند خلفه وأمامه وتبدد شمل المتفرجين وخلا ذلك المكان إلا من عويل المسجونين، وزفرات القانطين المتمايلة كالخيالات على الجدران.
جرى كل ذلك وأنا واقف هناك وقوف المرآة أمام الأشباح السائرة مفكرًا بالشرائع التي وضعها البشر للبشر، متأملًا بما يحسبه الناس عدلًا، متعمقًا بأسرار الحياة باحثًا عن معنى الكيان، حتى إذا ما تضعضعت أفكاري مثلما تتوارى خطوط الشفق بالضباب خرجت من ذاك المكان قائلًا لذاتي: الأعشاب تمتص عناصر التراب، والخروف يلتهم الأعشاب، والذئب يفترس الخروف، ووحيد القرن يقتل الذئب، والأسد يصيد وحيد القرن. والموت يُفني الأسد. فهل توجد قوة تتغلب على الموت، فتجعل سلسلة هذه المظالم عدلًا سرمديًّا؟! … أتوجد قوة تحول جميع هذه الأسباب الكريهة إلى نتائج جميلة؟! أتوجد قوة تقبض بكفِّها على جميع عناصر الحياة، وتضمها إلى ذاتها مبتسمة مثلما يرجع البحر جميع السواقي إلى أعماقه مترنمًا؟ أتوجد قوة توقف القاتل والمقتول والزانية وخليلها والسارق والمسروق منه أمام محكمة أسمى وأعلى من محكمة الأمير؟
٢
وفي اليوم الثاني خرجت من المدينة، وسرت بين الحقول حيث تبيح السكينة للنفس ما تسره النفس، ويميت طهر الفضاء جراثيم اليأس والقنوط التي تولدها الشوارع الضيقة والمنازل المظلمة، ولما بلغت طرف الوادي التفتُّ فإذا بأجواق كثيرة من العقبان والغربان والنسور تتطاير تارةً، وتهبط طورًا وقد ملأت الفضاء بنعابها وصفيرها وحفيف أجنحتها، فتقدمت قليلًا مستطلعًا، فرأيت أمامي جثة رجل معلقة على شجرة عالية، وجثة امرأة عارية مطروحة بين الحجارة التي رجمت بها، وجثة فتى غارقة بالدماء المجبولة بالتراب، وقد فُصل رأسها عنها.
وقفت وهول المشهد يغشى بصيرتي بنقابٍ كثيفٍ مظلمٍ، ونظرت فلم أَرَ سوى خيال الموت المريع منتصبًا بين الجثث الملطَّخة بالدِّماء، وأصغيت فلم أسمع غير عويل العدم ممزوجًا بنعاب الغربان الحائمة حول فريسة شرائع البشر.
ثلاثة من أبناء آدم كانوا بالأمس على أحضان الحياة، فأصبحوا اليوم في قبضة الموت.
ثلاثة أساءوا بعُرْفِ البشر إلى الناموس، فمدت الشريعة العمياء يدها، وسحقتهم بقساوة.
ثلاثة جعلهم الجهل مجرمين؛ لأنهم ضعفاء فجعلتهم الشريعة أمواتًا لأنها قوية.
رجل فتك برجل آخر، فقال الناس: هذا قاتل ظالم، وعندما فتك به الأمير قال الناس: هذا أمير عادل.
ورجل حاول أن يسلب الدير، فقال الناس: هذا لص شرير، وعندما سلبه الأمير حياته، قالوا: هذا أمير فاضل.
وامرأة خانت بعلها، فقال الناس: هي زانية عاهرة، ولكن عندما سيَّرها الأمير عارية ورجمها على رؤوس الأشهاد، قالوا: هذا أمير شريف.
سفك الدماء محرمٌ، ولكن من حلَّله للأمير؟
سَلب الأموال جريمة، ولكن من جعل سلب الأرواح فضيلة؟
خيانة النساء قبيحة، ولكن من صيَّر رجم الأجساد جميلًا؟
أنقابل الشرَّ بِشَرٍّ أعظم ونقول هذه هي الشريعة، ونقاتل الفساد بفساد أعم، ونهتف هذا هو الناموس، ونغالب الجريمة بجريمة أكبر، ونصرخ هو العدل؟
أما صرع الأمير عدوًّا في غابر حياته؟ أما سلب مالًا أو عقارًا من أحد تابعيه الضعفاء؟ أما راود امرأة جميلة عن نفسها؟ هل كان معصومًا عن هذه المحرمات، فجاز له إعدام القاتل وشنق السارق ورجم الزانية؟
ومن هم الذين رفعوا هذا اللص على الشجرة؟ أملائكة نزلوا من السماء أم رجال يغتصبون ويسرقون كل ما تصل إليه أيديهم؟
ومن قطع رأس هذا القاتل؟ أأنبياء هبطوا من العلاء أم جنود يقتلون ويسفكون الدماء أينما حلوا؟
ومن رجم هذه الزانية؟ أَنُسَّاك طاهرون أتوا من صوامعهم أم بشرٌ يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟
الشريعة، وما هي الشريعة؟ من رآها نازلة مع نور الشمس من أعماق السماء؟ وأي بشري رأى قلب الله فعلم مشيئته في البشر، وفي أي جيل من الأجيال سار الملائكة بين الناس قائلين: «احرموا الضعفاء نور الحياة، وأفنوا الساقطين بحد السيف، ودوسوا الخطأة بأقدام من حديد.»
وظلت هذه الأفكار تتزاحم على فكرتي وتتساهم عواطفي حتى سمعت وطء أقدام قريبة مني، فنظرت وإذا بصبية قد ظهرت من بين الأشجار، واقتربت من الجثث الثلاث متحذرة متلفتة بخوف إلى كل ناحية، حتى إذا ما رأت رأس الفتى المقطوع صرخت جزعًا، وركعت بجانبه وطوقته بزنديها المرتجفتين، وأخذت تستفرغ الدموع من عينيها، وتلامس شعره الجعدي بأطراف أصابعها، وتنتحب بصوت عميق جارح خارج من صميم الكبد، ولما أنهكها البكاء وغلبتها الحسرات، أسرعت تحفر التراب بيديها حتى إذا ما حفرت قبرًا وسيعًا، وجرت إليه الفتى المصروع، ومددته على مهل موجع، ووضعت رأسه المضرج بالدماء بين كتفيه وبعد أن غمرته بالتراب غرست نصل السيف الذي قطع عنقه على قبره، وإذ همَّت بالانصراف تقدمت نحوها، فأجفلت وارتعشت خوفًا ثم أطرقت والدمع السخين يتساقط كالمطر من مقلتيها وقالت متنهدة: «اشكني إلى الأمير إن شئت فخير لي أن أموت وألحق بمن خلصني من قبضة العار من أن أترك جسده طعامًا لقشاعم الطير والوحوش الكواسر.» فأجبتها قائلًا: «لا تخافي مني أيتها المسكينة. فأنا قد ندبت حظ فتاك قبلك بل خبريني كيف أنقذك من قبضة العار.»
فقالت والغصص تقطع صوتها: «جاء قائد الأمير إلى حقولنا ليتقاضى الضرائب ويجمع الجزية ولما رآني نظر إليَّ نظرة استحسان مخيفة ثم فرض ضريبة باهظة على حقل والدي الفقير يعجز الغني عن دفعها فقبض عليَّ ليقتادني قهرًا إلى صرح الأمير بدلا من الذهب فاسترحمته بدموعي فلم يحفل واستحلفته بشيخوخة والدي فلم يرحم فصرخت مستغيثة برجال القرية فجاء هذا الشاب وهو خطيبي وخلصني من بين يديه القاسيتين فاستشاط غضبًا وهمَّ أن يفتك به فسبقه الشاب وامتشق سيفًا قديمًا معلقًا على الحائط وصرعه به مدافعًا عن حياته وعن عرضي، ولكبر نفسه لم يفر هاربًا كالقتلة المجرمين بل لبث واقفًا بقرب جثة القائد الظلوم حتى جاء الجند وساقوه إلى السجن مكبلًا بالقيود.»
قالت هذا ونظرت إليَّ نظرة تذيب الفؤاد وتثير الشجون وولَّت مسرعة ورنات صواتها الموجعة تولد بين تموجات الأثير اهتزازًا وارتعاشًا.
وبعد هنيهة نظرت فرأيت فتى في ربيع العمر يتقدم ساترًا وجهه بأثوابه حتى إذا ما بلغ جثة المرأة الزانية وقف بقربها وخلع عباءته وستر بها أعضاءها العارية وأخذ يحفر الأرض بخنجر كان معه ثم حملها بهدوء وواراها التراب ساكبًا مع كل حفنة قطرة من أجفانه. ولما انتهى من عمله جنى بعض الزهور النابتة هناك ووضعها على القبر منحني الرأس منخفض الطرف. وإذا هم بالذهاب أوقفته قائلًا: «ما نسبة هذه المرأة الساقطة إليك حتى سعيت مخالفًا إرادة الأمير ومخاطرًا بحياتك لكي تحمي جسدها المرضوض من طيور السماء الجوارح؟»
فنظر إليَّ وأجفانُه المقرحة من البكاء والسهر تتكلم عن شدة حزنه ولوعته وبصوت مخنوق ترافقه التنهيدات الأليمة قال: «أنا هو ذلك الرجل التعس الذي رُجِمَتْ من أجله، أحببتها وأحبتني مذ كُنَّا صغيرين نلعب بين المنازل. نمونا ونما الحب معنا حتى صار سيدًا قويًا نخدمه بعواطف قلبينا فيستميلنا إليه ونهابه بسرائر روحينا فيضمنا إلى صدره. ففي يوم وقد كنت غائبًا عن المدينة زوَّجها والدها كرهًا من رجل تكرهه ولما رجعت وسمعت بالخبر تحولت أيامي إلى ليل طويل حالك وصارت حياتي نزاعًا مرًّا متواصلا. وبقيت أصارع عواطفي وأغالب ميول نفسي حتى تغلبت عليَّ وقادتني مثلما يقود البصير ضريرًا أعمى. فذهبت إلى حبيبتى سرًّا وأقصى مرامي أن أرى نور عينيها وأسمع نغمة صوتها فوجدتها منفردة تندب حظها وترثي أيامها فجلست والسكينة حديثنا والعفاف ثالثنا، ولم تمر ساعة حتى دخل زوجها فجأة ولما رآني أوعزت إليه نياته القذرة فقبض على عنقها الأملس بكفيه القاسيتين وصرخ بأعلى صوته «تعالوا وانظروا الزانية وعشيقها» فهرول الجيران ثم جاء الجند مستطلعين الخبر فأسلمها إلى أيديهم الخشنة فاقتادوها محلولة الشعر ممزقة الأثواب. أما أنا فلم يمسَّني أحد بضرر لأن الشريعة العمياء والتقاليد الفاسدة تعاقب المرأة إذا سقطت، أما الرجل فتسامحه.»
وعاد الشاب نحو المدينة ساترًا وجهه بأثوابه ولبثت أنا ناظرًا متأملا متنهدًا وجثة اللص المشنوق ترتجف قليلًا كلما هَزَّ الهواء أغصان الشجرة كأنها تسترحم بحراكها أرواح الفضاء لتهبط وتمددها على صدر الأرض بجانب قتيل المروءة وشهيدة الحب.
وبعد ساعة ظهرت امرأة ضعيفة الجسم ترتدي خرقًا باليةً ووقفت بقرب المشنوق تقرع صدرها باكية ثم تسلقت الشجرة وقضمت حبل الكتان بأسنانها فسقط الميت على الأرض سقوط الثوب البليل. فنزلت المرأة وحفرت قبرًا بجانب القبرين ووضعته فيه: وبعد أن غمرته بالتراب أخذت قطعتين من الخشب وصنعت منهما صليبًا وغرسته فوق رأسه. ولما تحولت نحو الوجهة التي جاءت منها أوقفتها قائلًا: «ما غرَّكِ أيتها المرأة فجئتِ تدفنين لصًّا سارقًا؟»
فنظرت إليَّ بعينين غارقتين مكحولتين بأشباح الكآبة والشقاء وقالت: «هو زوجي الصالح ورفيقي الحنون ووالد أطفالي. خمسة أطفال يتضورون جوعًا أكبرهم في الثامنة وأصغرهم رضيع لم يُفطم … لم يكن زوجى لصًّا بل كان زارعًا يفلح أرض الدير ويستغلها ولا يحصل من الرهبان إلا على رغيف نتقاسمه عند المساء ولا تبقى منه لقمة إلى الصباح … مذ كان فتى وهو يسقي بعرق جبينه حقول الدير ويزرع عزم ساعديه في بساتينه. ولما ضعف وانتهبت أعوام العمل قواه وراودت الأمراض جسده أبعدوه قائلين: «لم يعد الدير محتاجًا إليك فاذهب الآن وعندما يشب أبناؤك ابعثهم إلينا لكي يأخذوا مكانك في الحقل» فبكى وأبكاني واسترحمهم باسم يسوع واستحلفهم بالملائكة والقديسين فلم يرحموه ولم يشفقوا عليه وعليَّ وعلى صغارنا العراة الجائعين. فذهب يطلب عملًا في المدينة وعاد مطرودًا لأن سكان تلك القصور لا يستخدمون إلا الفتيان الأقوياء. ثم جلس على قارعة الطريق مستعطيًا فلم يحسن الناس إليه بل كانوا يمرون به قائلين: «الصدقة لا تجوز على مغلوب التواني والكسل» ففي ليلة وقد بَرَّحَ الْعَوَزُ بنا حتى صار أطفالنا يتلوون جوعًا على التراب. والرضيع بينهم يمص ثدييَّ ولا يجد لبنًا. تغيرت ملامح زوجي وذهب مستترًا بالظلام ودخل قبوًا من أقبية الدير حيث يخزن الرهبان غلة الحقول وخمر الكروم وحمل زنبيلًا من الدقيق على ظهره وهمَّ بالرجوع إلينا. لكنه لم يَسِرْ بضع خطوات حتى استيقظ القسس من رقادهم وقبضوا عليه وأوسعوه ضربًا وشتمًا وعندما جاء الصباح أسلموه إلى الجند قائلين: «هو لص شرير جاء لكي يسرق آنية الدير الذهبية» فاقتاده الجند إلى السجن ثم إلى المشنقة ليملأوا أجواف العقبان من جسده لأنه حاول أن يملأ أجواف صغاره الجياع من فضلات الغلة التي جناها بأتعابه إذ كان خادمًا للدير.»
وذهبت المرأة الفقيرة ولكلامها المتقطع أشباح محزنة تتصاعد وتتسارع إلى كل ناحية كأنها أعمدة من الدخان يتلاعب بها الهواء.
•••
وقفت بين القبور الثلاثة وقفة مؤبِّنٍ أُرْتِجَ عليه وانعقد لسانه لوعة فانسكب دمعه متكلمًا عن عواطفه. وحاولت التفكر والتأمل فعصتني نفسي لأن النفس كالزهرة تضم أوراقها أمام الظلمة ولا تعطي أنفاسها لخيالات الليل.
وقفت ومن دقائق تراب تلك القبور ينبثق صراخ التظلم انبثاق الضباب من خلايا الأودية ويتموج حول مسامعي ليوحي إليَّ الكلام.
وقفت ساكتًا ولو فهم الناس ما تقوله السكينة لكانوا أقرب إلى الآلهة منهم إلى كواسر الغاب.
وقفت متنهدًا ولو لامست شعلات تنهيداتي أشجار ذلك الحقل لتحركت وتركت أماكنها وزحفت كتائب كتائب وحاربت بقضبانها الأمير وجنوده وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه.
وقفت ناظرًا ومع نظراتي تنسكب حلاوة الشفقة ومرارة الحزن على جوانب تلك القبور الجديدة: قبر فتى دافع بحياته عن شرف عذراء ضعيفة وأنقذها من بين أظافر ذئب كاسر فقطعوا عنقه جزاء شجاعته، وقد أغمدت تلك الصبية سيفه بتراب قبره ليبقى هناك رمزًا يتكلم أمام وجه الشمس عن مصير الرجولة في دولة الحيف والغباوة. وقبر صبية لامس الحب نفسها قبل أن تغتصب المطامعُ جسدها فرُجِمَتْ لأن قلبها أبى إلا أن يكون أمينًا حتى الموت. وقد وضع حبيبها باقة من زهور الحقل فوق جسدها الهامد لتتكلم بذبولها وفنائها البطيء عن مصير النفوس التي يقدسها الحب بين قوم أعمتهم المادة وأخرسهم الجهل. وقبر فقيرٍ بائسٍ أوهت ساعديه حقول الدير فطرده الرهبان ليستعيضوا عنها بسواعد غيره، فطلب الخبز لصغاره بالعمل فلم يجده، ثم رجاه بالتسول فلم ينله، وعندما دفعه اليأس إلى استرجاع قليل من الغلة التي جمعها بأتعابه وعرق جبينه قبضوا عليه وفتكوا به، وقد وضعت أرملته صليبًا على قبره ليستشهد في سكينة الليل نجوم السماء على ظلم رهبان يحولون تعاليم الناصري إلى سيوف يقطعون بها الرقاب ويمزقون بحدودها السنينة أجساد المساكين والضعفاء.
وتوارت الشمس إذ ذاك وراء الشفق كأنها ملَّت متاعب البشر وكرهت ظلمهم. وابتدأ المساء يحيك من خيوط الظل والسكون نقابًا دقيقًا ليلقيه على جسد الطبيعة، فرفعت عينيّ إلى العلاء وبسطت يديَّ نحو القبور وما عليها من الرموز وصرخت بأعلى صوتي: «هذا هو سيفك أيتها الشجاعة فقد أغمد بالتراب، وهذه هي زهورك أيها الحب فقد لفحتها النيران. وهذا هو صليبك يا يسوع الناصري فقد غمرته ظلمة الليل.»