سنوسرت الأول حوالي (١٩٨٠–١٩٣٦ق.م)
(١) مقدمة
دلت ظواهر الأحوال على أن المؤامرة التي قامت ضد «سنوسرت الأول» لاغتصاب المُلك منه على إثر اغتيال والده بعد أن اشترك معه في الحكم نحو عشرة أعوام؛ لم تكن واسعة النطاق، وأنه بعودته في الحال قُضي على هذه الفتنة قضاء عاجلًا حاسمًا، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك.
وقد خلا «لسنوسرت» الجو بعد ذلك وأخذ في الدعاية لنفسه، وقد حكم البلاد نحو ٤٠ سنة، منها عشر سنوات بالاشتراك مع والده، وثلاث منها مع ابنه عندما أشركه معه في الحكم. ويمتاز عصر «سنوسرت الأول» بجلائل الأعمال وبالإصلاحات التي قام بها في داخل البلاد، وبخاصة مبانيه العظيمة التي نشاهدها منبثة في طول البلاد وعرضها، وقد وضعته في الصف الأول بين عظماء الفراعنة الذين اشتهروا بمبانيهم الهامة.
(٢) وصف «سنوهيت» للملك «سنوسرت الأول»
وإنه لمنتقم محطم للجبناء، ولا أحد يجسر على الوقوف بجواره، وهو الواسع الخُطى، المهلك للهارب، ولا نهاية لمن يولي ظهره له؛ (أي إن الهارب لا يصل إلى غايته سالمًا)، شجاع القلب عندما يرى الجموع، ولا يسمح لقلبه بأية راحة، الجسور عندما ينقَض على الشرقيين، وسروره أن يأسر «الربدتو» (العدو)، وهو يقبض على درعه، ويدوس تحت القدم «العدو»، ولا يعيد ضربته ليقتل (أي لا يضرب إلا ضربة واحدة قاتلة).
وليس هناك من حوَّل سهمه عن هدفه، وليس هناك من حنى قوسه (لصلابته)، «وشعب الأقواس» يهرب أمامه كما يهرب أمام قوة الآلهة العظيمة، وهو يحارب بدون نهاية، وهو لا يبقي ولا يذر، وهو رب الرشاقة، غني في عذوبة، وبالمحبة قد تغلب على قلوب الناس، ومدينته تحبه أكثر من نفسها، وهي تبتهج به أكثر من إلهها، والرجال والنساء يمرون أمام قصره فرحين، وهو ملك قد فتح وهو لا يزال في البيضة (أي طفلًا)، وقد كانت وجهته أن يكون ملكًا منذ ولادته.
وهو الذي يكثر عدد من ولدوا معه، وهو نسيج وحده، ومنحة من الله، وسيفتح الأراضي الجنوبية، ولكنه إلى الآن لم يلتفت إلا الأراضي الشمالية.
ومع ذلك فقد خُلق ليضرب على أيدي البدو، ويحطم سكان الرمال.
أرسِل إليه ودعه يعرف اسمك، ولا تنطق بلعنة ضد جلالته، وهو لا يفوته أن يعمل خيرًا لأرض ستكون موالية له.
(٣) حفلة تتويج «سنوسرت الأول»
وقد كان أول عمل قام به «سنوسرت» بعد توليته العرش أن أقام حفلة لتتويج نفسه، وقد كان الغرض منها محض الدعاية لشخصه، وأنه هو الوارث للعرش الحقيقي. وفي ذلك تشبه «بأوزير» و«حور»، فإن «حور» قد أقام لنفسه حفلة تتويج عند اعتلائه عرش والده «أوزير»، وكان الأخير قد قتله «ست» أخوه. وهذه الحفلة كانت تُقام في صورة رواية تمثيلية تمثَّل فيها كل الأدوار التي حدثت في مأساة «أوزير» و«حور»، «فأوزير» هو الملك المُتوفَّى، «أمنمحات الأول» و«حور» هو الملك الذي خلفه، وهو هنا «سنوسرت الأول». وتمتاز التمثيلية التي نحن بصددها الآن بأنها من إنشاء عصر الدولة الوسطى، وقد عثر عليها «كويبل» في عام ١٨٩٥-١٨٩٦ في منطقة «الرمسيوم»، ولما كانت هذه الدراما منقطعة القرين في بابها حتى الآن آثرنا أن نأتي على ملخصها هنا، وبخاصة أنها كانت أكبر دعاية «لسنوسرت الأول» في تثبيت ملكه وتعريف الشعب بأحقيته للملك. وتحتوي هذه الدراما على ستة وأربعين منظرًا، وها هي ذي حسب ترتيب مناظرها.
(٣-١) ملخص تمثيلية عيد التتويج
فنجد في المنظرين الأول والثاني أن الملك قد مات «وهو أمنمحات الأول» وعندئذ يأمر ابنه ووارثه على العرش «سنوسرت الأول» بإحضار السفينة الملكية بعد إعدادها، وقد كان المفروض أن الملك يمثل دوره فيها خلال عرض هذه الدراما كلها، ولكن يظهر أنه قد تركها في المنظرين الأخيرين منها. ونشاهد في المنظر (٣ و٤) تقديم ضحية للملك المُتوفَّى وهو ثور يُذبح ثم يُقطع قطعًا ليقدَّم وجبة، والمعنى هنا رمزي؛ أي إن الثور هو الإله «ست» الذي قتل أخاه «أوزير».
وفي المنظرين الخامس والسادس يُطحن الشعير ثم يقدَّم منه كعك للملك.
وفي المنظر السابع نشاهد تجهيز سفينتين لأولاد الملك.
وفي المنظر الثامن نشاهد شارات الملك الخاصة بحور (أي الملك الجديد) تُستخرج من محرابه، ثم يجهز موكب يمر به الملك في الجبل (أي الجبانة).
وفي المنظر التاسع نشاهد درس الشعير بوساطة البهائم وحمله إلى المخازن، وهذا المنظر رمزي يقصد به أن «حور» بدرس الشعير يمزق أوصال عدو والده «ست» انتقامًا له.
وفي المنظرين العاشر والحادي عشر نشاهد زيادة الاهتمام بإعداد سفينة الملك وسفينتي أولاده، وذلك بوضع أشياء وأوانٍ خاصة بتطهير الملك وأولاده.
وفي المنظر الثاني عشر والخامس عشر وما بينهما نشاهد صورًا تحتوي على صب الماء وتقديم رأس حيوانين «رأس ثور ورأس إوزة» للإله المحلي، ثم يأمر بإقامة العمود المقدس بأيدي الأولاد الملكيين.
وفي المنظر الثاني والعشرين نشاهد أولاد الملك يقدِّمون له الخمر، وهذا رمز إلى تقديم عين «حور» إليه بعد أن اقتلعها «ست» الشرير.
وفي المنظرين الثالث والعشرين والرابع والعشرين يقدَّم للملك حلي من حجر الدم والفخار المطلي، وهذه يرمز بها إلى إرجاع عين «حور» إليه ثانية. وفي المنظر الخامس والعشرين يقدِّم ساقي الملك له وجبة، وهذا رمز للإله «تحوت» عندما قدَّم عين «حور» إليه بعد أن اقتلعها «ست»؛ ولذلك يقول «تحوت» في هذا المنظر للإله «حور»: «إني أقدِّم لك عينك لتفرح بها.» فتقديم العين إلى «حور» هو تقديم الوجبة. وفي المنظر السادس والعشرين نشاهد كهنة خاصة يلتفون حول علمي «حور»، وهما اللذان يرمز بهما إلى سلطان الملك على الوجهين القبلي والبحري أو غرب الدلتا وشرقيها، وكذلك يرمز بهما إلى عيني «حور». وفي المناظر من السابع والعشرين إلى الحادي والثلاثين نشاهد أنه كان يقدم للملك شارات ملكه الخاصة وهي الريشتان والصولجان والخاتم، وعند ذلك يهلل عظماء الوجه القبلي والبحري فرحًا، وبعد ذلك يؤتى بكل ضروري لتزيين الملك وتضميخه وتعطيره وإطلاق البخور له، ثم وضع الحارستين على رأسه؛ أي الريشتين اللتين يزين بهما تاجه. وفي المنظر الثاني والثلاثين نشاهد بعد التتويج عظماء القوم الذين اشتركوا في احتفال التتويج هذا، ويشتركون كذلك في تناول طعام الوليمة الملكية التي أقيمت لهذا الغرض وحده، وفي المنظرين الثالث والثلاثين والرابع والثلاثين نشاهد الملك قد ارتدى لباس الحزن على والده المُتوفَّى، وعندئذ يقدَّم نوع خاص من الخبز، ونوع خاص من الجعة فالخبز كان يُسمى خبز «أح»؛ (أي «أوزير») الذي قتل، أما الجعة فكانت تُسمى جعة «سرمت» وهي ترمز إلى «إزيس» والدموع التي سكبتها هي و«حور» على «أوزير» المقتول، وكانا يقدَّمان طعامًا في الاحتفال بجنازة «أوزير».
وفي المنظرين الآخرين وهما اللذان لا يظهر فيهما الملك، وبهما تنتهي الدراما؛ يحضر إلى الملك المُتوفَّى كل معدَّات التطهير، وبخاصة النطرون الذي كان يستعمل لهذا الغرض، وتوضع في المحراب المقدس، وهو المكان الذي يثوى فيه، وآخر مطاف له في عالم الدنيا؛ وأعني بذلك هرمه الذي يُدفن فيه.
(٤) مبانيه الدينية
(٤-١) معبد عين شمس
وعندما توِّج الفرعون بالتاج المزدوج للوجه القبلي والوجه البحري (أي عند توليته العرش بوصفه فرعونًا منفردًا بعد موت والده)، جمع المجلس وطلب الفرعون رأي أتباعه، وهم أشراف القصر والأمراء الذين في البلاط في مكان المشاورة الخاص، ثم تكلم الفرعون وهم مصغون وسألهم الملك رأيهم، وجعلهم يتكلمون بما عندهم فقال: تأملوا! إن جلالتي عازم على القيام بعمل، ويفكر في أمر حسن للمستقبل، وذلك أن يكون في مقدوري إقامة أثر ونقش لوحة تذكارية للإله «حور أختي» (إله الشمس)، فإنه ذرأني لأقوم له بعمل ما يجب أن أعمله، وأنفذ ما أمر بنفاذه، فهو الذي جعلني راعيًا على هذه الأرض؛ لأنه يعلم أني سأحافظ له على النظام فيها، ومنحني كل شيء تحت حمايته، وما تسطع عليه العين التي فيه (أي الشمس)، وكل شيء يعمل حسب رغبته. وقد أنجزت كل ما يريده مني؛ لأني ملك بحسب إرادته وفرعون لا … وحتى عندما كنت صبيًّا كنت مظفرًا وكنت قويًّا وأنا لا أزال في بطن أمي … وقد قدر لي أن أكون سيد القطرين؛ وقد كنت لا أزال طفلًا قبل أن تُنتزع عني لفائفي، وقد نصبني سيد بني الإنسان … أمام الناس، وعلمني أن أستوي على العرش عندما كنت لا أزال شابًّا … وقد أعطاني صورته وحزامه.
وقد صُورت حسب الشكل الذي اتخذه هو، وقد أُعطيت الأرض وإني سيدها، وبذلك قد وصلت شهرتي إلى عنان السماء … وقد أمرني أن أتغلب على ما يجب أن يتغلب عليه هو، وقد جمعت بوصفي «الصقر الملكي» مناقبه، وقد حبست قرابين الآلهة، وسأقوم الآن بعمل وهو إقامة معبد عظيم لوالدي إله الشمس «آتوم» وسأجعله منيرًا بقدر ما جعلني مظفرًا، وسأمد مائدته بالطعام على الأرض، وسأشيد بيتي (هذا) على الأرض المقدسة، وبذلك سيذكر طيبتي في هذا المعبد وسيكون اسمي (مخلدًا) مثل «حجر بنبن» (قمة الهرم)، وستُكرى البحيرة (البحيرة المقدسة التي تجاور المعبد عادة)، وسيكون هذا العمل الذي عقدت العزم عليه مثل الأبدية؛ لأنه لن يموت ملك وآثاره تتحدث عنه، وإن اسمي سيُذكر دائمًا ولن يفنى لما خلده من الآثار، وما أفعله هو الصواب، وما أبحث وراءه هو الممتاز. فأجاب مستشاروه بما يأتي: إن القول الفصل في فمك، وثاقب الرأي خلفك، يأيها الملك، وإن ما عزمت عليه سينفذ يأيها الملك الذي ظهر موحدًا للقطرين لأجل أن … في معبدك، إنه لحسن أن ينظر الإنسان إلى العدو … ولكن بني الإنسان قاطبة لن يتخيروا شيئًا بدونك؛ لأن جلالتك عين كل إنسان، وإنك لعظيم حينما تقيم آثارًا في «عين شمس» مسكن الآلهة أمام والدك رب القاعة العظيمة «آتوم» ثور التاسوع، أقم بيتك وخصص له منحًا لمائدة القربان لأجل أن نمدَّ تمثاله المقرَّب منه لكل الأبدية.
وبعد أن حصل على الموافقة التامة من مستشاريه، أخذ الفرعون يعطي تعليمات للاحتفال بوضع الحجر الأساسي للمعبد، فقال الملك نفسه لحامل الختم ورئيس تشريفاته ومدير الخزانة والمشرف على أسرار «تاجيه» سيكون رأيك هو المعمول به لتنفيذ العمل.
وهذا ما تصبو إليه جلالتي، وستكون أنت المدير المكلَّف به حسبما يحبه قلبي، كن يقظًا حتى ينفذ من غير تراخٍ كل عمل خاص به، أما كل الذين يعملون فإنهم قد أُمروا ليعملوا حسب أوامرك. ثم طلع الملك لابسًا تاجه وعليه الريشتان، وقد سار خلفه القوم كلهم، وبعد ذلك مدَّ رئيس المرتلين وكاتب الكتب المقدسة الخيط، ودق أوتاد الحدود في الأرض (أي حدود المعبد)، وبعد ذلك أمر الملك بأن يمشي كاتب الوثائق الملكية أمام الناس الذين كانوا متجمعين في مكان واحد من الوجهين القبلي والبحري.
ومما يؤسف له أن الورقة قد قطعت عند هذه النقطة بالذات، ولكنا على الرغم من ذلك قد وقفنا على مضمونها في جملتها، ويرى القارئ أن معظم النص ينحصر في مدائح للفرعون كان يكيلها لنفسه، ويفرغها عليه مستشاروه، ولقد أراد «سنوسرت» من إقامة هذا الأثر أن يثبت للملأ أنه من نسل «رع» الذي ينتسب إليه كل فراعنة مصر، وبخاصة أن موضوع نسبه للأسرة المالكة كان مشكوكًا فيه، يضاف إلى ذلك أنه أراد أن يُبقي ذكراه في مدينة الشمس موطن جدِّه الإله «رع» إلى أبد الآبدين.
(٤-٢) مسلة عين شمس
ولكنه لو قدِّر له أن يحيا ثانية لرأى أن يد الدهر لم تُبقِ من كل هذا الأثر الفخم إلا ثلاث قطع من الأحجار، وأهمها مسلته التي لا تزال قائمة في موضعها الأصلي بالمطرية، وهي أقدم المسلات الخمس التي لا تزال قائمة في مكانها الأصلي. أما باقي مسلات الفراعنة فقد نُقلت إلى عواصم المدن الأوروبية وأمريكا لإشباع شهوة طائشة. ففي «روما» وحدها يوجد تسع مسلات يزيد ارتفاع كل منها على ٢٩ قدمًا، ويبلغ ارتفاع مسلة «سنوسرت» هذه ٦٦ قدمًا، وهي كتلة واحدة من الجرانيت الأحمر، وقد نُقش على كل من جوانبها سطر من النقوش الهيروغليفية، يدل على أن مقيمها هو «سنوسرت الأول» الذي تحبه أرواح عين شمس المقدسة (أي الملوك الذين توفوا قبله من أجداده) وفي ذلك من الدعاية لنفسه ما فيه، وأنه صنعها تذكارًا لعيد «سد»؛ أي العيد الثلاثيني لتوليه الحكم، وقد ذكر لنا «عبد اللطيف البغدادي» في كتابه عن مصر عندما زار «عين شمس» عام ١١٩٠ ميلادية أنه شاهد مسلتين عظيمتين؛ واحدة منهما لا تزال قائمة في مكانها، والثانية ملقاة على الأرض مهشمة. وقد شوهد كذلك الجزء الهرمي لكل منهما، وقد صُنعا من النحاس، وبقي ملقى على الأرض حتى عام ١٢٠٠ق.م. وفي عام ١٩١٢ عثر الأستاذ «فلندرز بتري» على بقايا مسلة في هذه الجهة غير أن نقوشها دلت على أنها للفرعون الفاتح العظيم «تحتمس الثالث».
(٤-٣) هدايا «سنوسرت» للآلهة المصرية
وللإله «أوزير» أول أهل الغرب وسيد العرابة المدفونة … آنية من الجمشت وآنيتان من النحاس، ومبخرة من العاج. وللإله «أنحور» رب «طينة» آنية من الفضة وآنية من الذهب وآنية من البرنز وآنيتان من الجمشت، ومبخرة من العاج ومبخرة من الفضة. وللإله «إبو» (صورة من صور الإله مين) وآنية من الفضة وآنية من الذهب وآنية من الجمشت وآنيتان من النحاس ومبخرة من العاج ومبخرة من الفضة … ولمعبود اسمه … عقد منات. وكذلك أقمت معبدًا للإلهة «ساتت» و«عنقت» و«خنوم» رب الشلال (وهذا الثالوث خاص ببلاد النوبة السفلية) من الحجر المنحوت، وكذلك أقمت معبدًا للإله «حور» النوبي في الإقليم الثاني لمصر العليا (أي شمالي أسوان) … وقد قدَّمت لمعبد «آتوم» التذكاري رب «عين شمس» كثيرًا من آنية الفضة … ومحرابًا من الذهب (؟) … وتمثالًا … لنفسي (سنوسرت) في مدينة «سايس» وتمثالًا للإلهة «وازيت» سيدة مدينتي «پ» و«دپ» وآنية عظيمة من النحاس وتمثالًا لسنوسرت (أي نفسه) لمدينة «پ» وللإلهة «نفتيس» … وللتاسوع في بلدة «خرعحا» (مصر العتيقة) قدَّمت إناء عظيمًا من النحاس وتمثالًا للإله «حعبي» (النيل)، وعندما أقلعت مصعدًا في النيل إلى «إلفنتين» (أسوان) قدِّمت موائد قربان لآلهة الجنوب، وقدِّمت للإلهة «حتحور» سيدة دندرة … من الذهب وعقدًا من حجر «حماجت» (حجر يشبه العقيق) وعقدًا … وقدِّمت «لحتحور» (سيدة القوصية)! عقدًا من حجر «حماجت» وعقدًا من حجر مسنت.
(٥) آثاره في أنحاء البلاد
(٥-١) مبانيه بالعرابة المدفونة
وقد استخدم الفرعون لإقامة هذه المباني العدة «حجر البرشيا» المستخرج من محاجر «وادي الحمامات» في الصحراء الشرقية، ولا تزال النقوش الدالة على هذا ترى هناك منحوتة في الصخر، ومسجلة عليها الحملات التي قامت في السنة السادسة عشرة من حكم هذا الفرعون.
(٦) أعماله في المناجم وآثاره الأخرى
(٧) محاجر صحراء «النوبة الغربية»
وقد كان على ما يظهر أول من استثمر محاجر صحراء النوبة الغربية في عهد الدولة الوسطى هو الملك «سنوسرت الأول»، وقد كُشف عن موقع هذه المحاجر حديثًا، وتقع على مسافة ٦٥ كيلومترًا في الشمال الغربي من «أبو سمبل»؛ أي على خط عرض ٢٢ / ٤٩ شمالًا وخط طول ٣١ / ١٦ شرقًا. وقد جاء كشفها عن غير قصد، فلقد كان رجال من شرطة الجيش المصري يمرُّون في هذا المكان، فلفت نظرهم قطعتان من الحجر عليهما نقوش ظهر أنها تحمل ألقاب بعض ملوك الدولة القديمة ومن بينها اسم الفرعون «زدفرع».
(٧-١) ما عثر عليه في هذه المحاجر
وقد عثر في هذه المحاجر على حجر الديوريت الجميل الذي كان يستعمله «خفرع» لصنع تماثيله العظيمة، وقد كان مصدر هذا الحجر مجهولًا حتى كُشف عنه كما ذكرنا، وكذلك عثر على أنواع أخرى من الحجر الصلب في هذه البقعة، مثل الجرانيت الوردي ذي الحبات الدقيقة، وحجر الكوارتسيت الأبيض القاتم.
وقد عثر في هذا المكان على لوحة من الحجر الرملي الأسمر نُقش عليها طغراء كل من «أمنمحات الأول» وابنه «سنوسرت الأول».
وفي محاجر الجرانيت الواقعة في هذه البقعة وجدت لوحة لهذا الفرعون مؤرخة بالسنة العشرين، الشهر الثاني، فصل الحصاد، والجزء الأسفل منها غامض.
(٧-٢) بعوثه إلى وادي الهودي
وأرسل «سنوسرت» الأول عدة بعوث إلى «وادي الهودي» لاستحضار حجر الجمشت في السنوات العشرين، والحادية والعشرين، والثانية والعشرين، والرابعة والعشرين، والثامنة والعشرين، والتاسعة والعشرين من حكمه، وقد ترك لنا رجال هذه البعوث لوحات هامة عما قاموا به في هذه الجهة، ففي السنة العشرين من حكم هذا الفرعون ترك لنا ثلاثة ممن قاموا بالبعثة ثلاث لوحات: الأولى منها لأعظم عشرات الجنوب المسمي «منتو حتب» بن «حننو» بن «بيبي» وقد صُنعت من الجرانيت الأسود.
-
نص لوحة «منتو حتب»: (١) السنة العشرون في حكم جلالة الصقر «الملك … ملك الوجه
القبلي والبحري «خبر كارع» بن الشمس» «سنوسرت» حور العائش
أبديًّا، خادمه الحقيقي وعزيزه الذي يفعل كل ما يمدحه دائمًا
وكل يوم، أعظم عشرات الجنوب، الذي شخصه «ماعت» (العدالة):
«منتو حتب» بن «حننو» بن «بيبي» يقول: «أرسلني سيدي له الحياة
والصحة والسلامة لأحضر الجمشت من أرض «النوبة»، واستوليت من
جديد على الأماكن التي كنت قد عملتها، وقد أحضرت منه كثيرًا
جدًّا من منجم الأحجار التي من الجمشت، ولقد كانت قوة رب القصر
وامتيازه هما اللذان رعياني، ولرهبته انحنى أهل الأراضي
الأجنبية، وسيفه يخضِع كل الأراضي ليشتغلوا له، وأعطي الصحراء
التي هم فيها بأمر «منتو» ساكن «أيون» (أرمنتت) و«آمون» رب
تيجان الأرضين ليبقى خالدًا.
وقد عاد «منتو حتب» هذا مرة أخرى في العالم الرابع والعشرين من حكم هذا الفرعون، فكتب على نفس اللوحة ما يأتي: السنة الخامسة والعشرون من حكم جلالة «حور» حياة المواليد؛ وصاحب الإلهتين، حياة المواليد، ملك الوجه القبلي والبحري «خبر كارع» (روح رع تأتي إلى الحياة)، ابن الشمس «سنوسرت» الإله الطيب رب الأرضين الحي إلى الأبد: العودة لمتابعة (استخراج) الجمشت إنه خادم سيده ومحبوبه … إلخ.»
-
لوحة قائد الجيش «أنتف»: (٢) وفي نفس السنة العشرين ترك لنا قائد الجيش «أنتف» لوحة
لم يكمل كتابتها، وقد جاء فيها:
السنة العشرون من حكم «حور» حياة المواليد، الإله الطيب، رب الأضين، ملك الوجه القبلي والبحري، «خبر كارع» عاش مثل «رع» مخلدًا، حامل الختم وقائد الجيش «أنتف» خادمه الذي يثق فيه، والذي يفعل كل ما يرضيه، وعشت خاليًا من الذنب «أنتف» المبرأ …
-
لوحة رئيس الخزانة «أنتف إقر»: (٣) وكذلك ترك لنا لوحة من الجرانيت الأسود رئيس الخزانة،
غير أن نقوشها متآكلة.
وقد جاء عليها: «السنة العشرون رئيس الخزانة ووكيل حامل الختم «وني»، عملت «هذه اللوحة» لقائد جيشه الذي يعمل كل ما يرضيه دائمًا، وكل يوم، حاكم المدينة «طيبة»، والوزير، وكاتم أسرار بيوت الفرعون «أنتف إقر»، له الحياة والصحة والسلامة، لقد أرسلني لأحضر الجمشت والذهب … وقد أحضرت منها [الكثير جدًّا] …»
وفي السنة الواحدة والعشرين ترك لنا «منتونسو» لوحة من الجرانيت منقوشة نقشًا جميلًا جاء فيها:السنة الواحدة والعشرون من حكم جلالة «حور» حياة المواليد الإله الطيب «سنوسرت» الحي الخالد.
إنه خادمه وموضع ثقته بحق الذي يفعل كل ما يرضيه دائمًا وكل يوم. لقد تبع خطوات سيده في الطرق المعبدة التي أحسن صنعها الخادم «منتونسو» بن «حتبي» بن «ادن».» وفي نهاية اللوحة نجد رسم الملك.
فهل هذا يشعر بأن الفرعون نفسه قد زار هذه المناجم؟
وهذه اللوحة محفوظة الآن بمتحف أسوان.
(٤) وفي السنة الثانية والعشرين ترك شخصان لوحتين من الجرانيت؛ أولهما يُدعى «سنوسرت» بن «وني»، وقد جاء عليها ما يأتي:السنة الثانية والعشرون، الخروج لإحضار الجمشت «لحور» (أي الملك) حياة المواليد الإله الطيب ابن الشمس ملك الوجهين القبلي والبحري «خبر كارع» ابن الشمس «سنوسرت» عاش أبد الآبدين خادمه «سنوسرت» بن «وني»، مما يدل على أن خادمه كان معه في الرحلة، أما اللوحة الثانية فهي لشخص يُدعى «سبك» ابن … وقد نقش عليها ما يأتي: «السنة الثانية والعشرون، ملك الوجهين القبلي والبحري «خبر كارع» بن الشمس سنوسرت معطي الحياة مثل «رع» مخلدًا «سبك» ابن … الممدوح … نزل في سلام.
(٥) وفي السنة الرابعة والعشرين قامت حملة خامسة يقول فيها قائدها: إنه تابع البحث عن الجمشت. والظاهر أن كاتب اللوحة قد كتبها على عجل؛ إذ نقش اسم «سنوسرت» بدون طغراء.
(٦) ولدينا لوحة من السنة الثامنة والعشرين باسم «وسدي» ويلقب رئيس القوم، ولم يذكر فيها شيء غير الألقاب الفرعونية والصيغ المعتادة في إخلاصه للفرعون، وكان معه خادمه المخلص الذي يثق فيه «حرور» قاطع الأحجار.
أما في السنة التاسعة والعشرين فقد وجد على ما يظهر لوحتان من عهده: الأولى أقامها موظف يدعى «حننو» وهي من الحجر الرملي وقد جاء عليها ما يأتي:في السنة التاسعة والعشرين خرج إلى هذه البلاد أعظم عشرة الوجه القبلي «حننو» ليته يعيش ويقوى ويصح، (ومعه) خادمه الأمين الذي يعمل كل ما يمدحه «سيده» في خلال كل نهار المسمى «سنب حا اشتف».
أما اللوحة الثانية فصاحبها كذلك «حننو» بن «منتو حتب» وهو نفس الموظف صاحب اللوحة السابقة، وقد جاء عليها ما يأتي:
«السنة التاسعة والثلاثون أعظم عشرة الوجه القبلي «حننو» بن «منتو حتب» ليته يعيش ويقوى ويصح (ومعه) خادمه الأمين الذي يعمل كل ما يمدحه «سيده» كل يوم «شمسو سعنخ»»، ومن ذلك نعلم أن اللوحتين قد عملتا للموظف «حننو» ومعه خادماه؛ أي إن الثلاثة كانوا قد ذهبوا سويًّا إلى هذه المناجم.
-
لوحة «حور»: وأعظم هذه اللوحات التي تنسب إلى عهد هذا الفرعون لوحة
أقامها موظف يدعى «حور» أرسله «سنوسرت» لإحضار الجمشت من صحراء
النوبة الجنوبية الشرقية من «وادي الهودي»، وهذه اللوحة مصنوعة
من الحجر الجيري الأبيض، وهاك النص الذي نقش عليها:
يعيش «حور» حياة المواليد، صاحب السيدتين: «الصل والعقاب»، حياة المواليد، ملك الجنوب والشمال «خبر كارع» (روح رع تأتي للوجود) ابن الشمس، «سنوسرت» الإله الحسن، الذي يذبح «الأونتي» (سكان الصحراء الجنوبية الشرقية) ويقطع رقاب الذين في الأراضي الأسيوية، الملك الذي يطوق «حانبو» (أقوام الشمال) والذي يصل إلى نهاية حدود المقهورين وحدود السود، والذي يهشم رءوس الأسر الثائرة، موسعًا تخوم مصر، مفسحًا بذلك المجال (لبلاده)، وهو الذي وحَّد بجماله الأرضين، رب القوة والحروب في البلاد الأجنبية، وسيفه قد أخضع الثوار، ومن ثاروا عليه ماتوا بسيف جلالته، وهو الذي وضع أعداءه في الأغلال، وهو أمير وديع الخلق لمن يخدمه، ومعطيًا نَفَس الحياة من يبتهل إليه، والبلاد تقدم له طعامها، و«جب» «إله الأرض» أفضى إليه بأسراره، والبلاد الأجنبية أصبحت تابعة (له)، والجبال صارت مبتهجة (به)، وكل مكان قد أفضى إليه بأسراره. مبعوثوه عديدون في كل الأراضي، ورسله يفعلون ما يريد، وأملاكه هي السهل والحزن، ويدين له ما يحيط به قرص الشمس، وإليه تُجلب العين وما فيها (العين هنا عين حور وهي تعني كل شيء حسن)، وهي سيدة الموجودات مع كل ما خلقته.
ملك الوجه القبلي والوجه البحري «خبر كارع» الذي يحب «حور النوبة»، والذي يمدح السيدة التي على رأس «النوبة» معطي الحياة والثبات والصحة مثل «رع» مخلدًا، خادمه الأمين حقيقة، حامل ختم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد ومدير مخزني الغلال، ومدير حظيرتي الدجاج، ومدير بيتي التبريد، ومدير ذوات القرن، وذوات الحوافر، والطيور والسمك، ومدير البيت «حور» يقول: «لقد أرسلني السيد «هذا الإله رئيس الأرضين» بأمر يتعلق بأعماله الطيبة في هذه الأرض، وقد كان الجيش خلفي (أي يشد أزري) لأجل أن أقوم بما أراده خاصًّا بهذا الجمشت الذي في أرض «النوبة» وقد أحضرته من هناك بكميات عظيمة، وعندما جمعته مثل فم المخزنين (أي مثل القطع التي تسد فم المخزنين) جر بزحافات وحمل على نقالات، وكل «انتيو» من أرض النوبة الذين سيدفعون الجزية يعمل خادمًا حسب رغبة هذا الإله فإن جنسه سيبقى أبد الآبدين. (A. S. XXXIX. P. 188. ff).وفي جنوب الشلال الأول عثر له على لوحتين في معبد «بوهن» ويعدان من أهم آثاره، وهذا المعبد قائم أمام بلدة «وادي حلفا»؛ أقامه هذا الفرعون تخليدًا لذكرى انتصاراته على أعدائه، واعترافًا منه بالجميل لآلهة هذه المنطقة.
(Maclver and Wolley, “Buhen” PP. 89, 95).وتوجد لهذا الملك آثار مؤرخة بسني حكمه من السنة الأولى حتى السنة الخامسة والأربعين (Petrie, “History” P. 163).
(٨) بعض من أعمال دعايته لنفسه
وقد أقام هذا الملك كذلك من باب الدعاية تماثيل للملك «سحورع» أحد ملوك الأسرة الخامسة وتمثالًا للأمير «أنتف» والد «واح عنخ أنتف» مؤسس الأسرة الحادية عشرة.
(٩) أعماله الحربية
(٩-١) حملة بقيادة «منتو حتب» لإخضاع النوبيين
«أحضرت كل الممالك التي في «النوبة» تحت قدميك يأيها الإله الطيب.» ويشاهَد بعد ذلك الإله يقود للفرعون عشرة أسرى من النوبيين كل منهم يمثل قبيلة، وتحت هذا دُونت النقوش الخاصة بالفرعون، ولكن لم يبقَ منها إلا بعض كلمات لا تؤدي معنًى مفهومًا، وبعد ذلك ذكر «منتو حتب» بعض مناقبه الشخصية، وعزى لنفسه مفاخر هذه الحملة ظنًّا منه أن سيده الفرعون لن يرى ذلك، وقد كان الفرعون يعتبر القائد الحقيقي للحملة وإن لم يقدها بنفسه. والظاهر أن الفرعون قد وصله خبر ما نقشه «منتو حتب» فجعله يدفع الثمن غاليًا؛ إذ محا اسمه من اللوحة ومحا كل ما عدده من المناقب لنفسه وأصبح من المغضوب عليهم.
(٩-٢) حملاته للبحث عن الذهب
وقد ذكر لنا بعد ذلك «أميني» حملتين لم يكن غرضهما حربيًّا، بل كان للبحث عن الذهب الغفل. وقد كانت طبيعة الأرض التي لا بد من السير فيها تحتم أن يكون مع القائمين بالبعثة جنود؛ فسار مع الحملة الأولى نحو أربعمائة جندي، ومع البعثة الثانية نحو من ستمائة جندي، وإذا كانت الحملة الأولى التي شيد بذكرها «أميني» في نقوشه هي نفس الحملة التي كان القائد فيها «منتو حتب» فإن «أميني» لم يكن فيها إلا قائدًا لجنود مقاطعته فحسب.
وقد أشير إلى حملة بلاد النوبة هذه في ترجمة حياة أمير من «إلفنتين» يُدعى «سرنبوت» في نقش دوِّن على إحدى جدران مقبرته بالقرب من «أسوان».
(٩-٣) حملة «أكوديدي» إلى الواحات
لقد حضرت من «طيبة» بوصفي عامل الملك الخاص لأقوم برغباته، وقد كنت على رأس فرقة من الجنود لزيارة أرض سكان الواحة؛ لأني موظف ممتاز يعرفه سيده بنفاذ بصيرته ويتمدَّح به موظفو القصر، وقد أقمت هذا القبر عند سلم عرش الإله الأعظم «أوزير» لأجل أن أكون في ركابه، في حين أن الجنود الذين يتبعون جلالته يقدمون لروحي من خبزه ومؤنته، كما يفعل رسول الملك عندما يأتي ليفحص حدود جلالته، وقد أرِّخت بالسنة الرابعة والثلاثين من حكم هذا الفرعون.
(١٠) حزم «سنوسرت» وسلوك حكام المقاطعات
وتدل النقوش التي عثر عليها من عصر هذا الفرعون على أنه كان إداريًّا يقظًا حازمًا، وقد ظهر ذلك بوجه خاص في رقابته الشديدة على رجال إدارته، حتى إنهم كانوا يهابونه ويؤدون أعمالهم بكل دقة وأمانة، ولا أدل على ذلك مما ذكره لنا «أميني» عن سلوكه في حكم مقاطعة الغزال، هذا إذا صدقنا كل ما قاله في نقوشه، ولكن على الرغم من كل ما ذكره من المبالغات في كلامه، وتلك سجية في عظماء هذا العصر، فإن مقتضيات الأحوال تدل على أنه كان حتمًا حاكمًا عادلًا يخشى سلطة أكبر من سلطته، فيقص علينا: «كنت سمحًا يحبني الناس كثيرًا، كما كنت حاكمًا تحبه أهل بلدته، وقد قضيت سنين في حكم مقاطعة الغزال، وكانت كل الجزية المستحقة تمر بيدي، وقد أعطاني رؤساء عمال التاج من الرعاة في مقاطعة الغزال ثلاثة آلاف ثور بمحاريثها؛ ولذلك مدحت في القصر كل عام لعدد الماشية (التي أقدمها)، وحملت كل ضرائبها إلى بيت الملك، ولم أكن متأخرًا في أية مصلحة.» ولا نزاع في أن «أميني» كان يعد إدارته مرضية بالنسبة لولائه للفرعون، ويمكن تصديقه؛ لأن مثل هذه الحوادث والاعترافات كانت تجري على مرأى من كل الشعب، وتقيد في السجلات العامة، وكذلك كان «أميني» مرتاحًا لما كان يقوم به في حكومة مقاطعته من المساواة والعدالة الاجتماعية التي كان ينشدها كل الناس وعلى رأسهم الفرعون، اسمع إليه يقول:
(١٠-١) وصف «أميني» لعدالته
إني لم أسِئ معاملة بنت أي رجل، ولم أظلم أية أرملة، ولا يوجد فلاح احتقرته، ولا راعٍ أقصيته، ولا رئيس عمال قد سخَّرت عماله، ولا يوجد بائس في بلادي، ولا جائع في عهدي، وعند حلول سني القحط كنت أحرث كل حقول مقاطعة الغزال إلى حدودها الجنوبية والشمالية، وبذلك حافظت على حياة أهلها مقدِّمًا لهم الطعام، حتى إنه لم يبقَ فيها جائع، وأغدقت على الأرملة والمتزوجة الخيرات على السواء، ولم أميز العظيم على الصغير في كل ما أعطيت، وبعد ذلك كان يأتي نيل يحمل الحبوب وكل الأشياء، ومع ذلك فإني لم أحصل المتأخر على الحقول.
(١١) زفاي حعبي حاكم بلاد النوبة من قبل سنوسرت الأول ومقبرتاه
على أن الإنسان في هذه الحالة يتساءل إذا كان من المستحيل أن يضمن المُتوفَّى لنفسه — وقد دفن في وطنه الأصلي — استمرار الاحتفالات الجنازية، فأي أمل للأمير «زفاي حعبي» وقد مات في السودان في تنفيذ رغباته بمصر؟
وقد قال الأستاذ «ريزنر»: إن رغبة «زفاي حعبي» في تحقيق هذه الأمنية الصعبة المنال هو الذي دعاه لكتابة هذا المختصر الفريد في بابه، وذلك أن «زفاي حعبي» وهو ذاهب إلى السودان حذَّر كاهن الروح أو القرينة «كا» بكل مهارة ألا يهمل الاحتفالات التي تعاقد على تنفيذها، ولما كان دخل هذا الكاهن مرتبطًا بالمحافظة على إقامة هذه الشعائر وتنفيذها بكل دقة، عمل جهده ألا تُنسى أو تُهمل، من أجل ذلك دوَّنها على جدران المقبرة، ويظهر أن التعليمات التي أعطاها «زفاي حعبي» كاهن روحه، كما يظن الدكتور «ريزنر» هي التي جاءت في خطاب كتبه هذا الحاكم العظيم من السودان قبل مماته بقليل إلى كاهن الروح. وهذا الخطاب كان يحتوي على بعض التعليمات التي نجدها في السطور ٢٦٩–٢٦٢ من عقوده وهي:
(١١-١) تعليمات زفاي حعبي لكاهن الروح
الأمير الوراثي، حاكم المقاطعة ورئيس الكهنة الأعظم «زفاي حعبي» يقول: «انظر! إن كل هذه الأشياء التي تعاقدت بشأنها مع كهنة الطهور (وعب) تحت رعايتك؛ وذلك لأن كاهن الروح (القرينة) للإنسان هو الذي يجعل أملاكه تنمو، انظر! لقد جعلتك تعرف هذه الأشياء التي أعطيتها الكهنة المقرَّبين، وذلك مقابل تلك الأشياء التي أعطوها إياي، واحذر أن ينتقص منها شيء، وعليك أن تتكلم عن الأشياء الخاصة بي التي سلمتها لهم، ويجب عليك أن تجعل ابنك ووارثك يسمعهم، فإنه هو الذي سيعمل كاهنًا لروحي، انظر! لقد منحتك أراضي وعبيدًا وماشية وحدائق وكل شيء كأي إنسان عظيم المكانة في «سيوط»، حتى تقوم على عملي بقلب سليم، وحتى تشرف على كل أموري التي وضعتها بين يديك، انظر! إنها كلها أمامك مكتوبة وستؤول كل هذه الأشياء لابنك الذي تريد أن يكون كاهنًا لروحي من بين أولادك، وسيكون هو الذي يتصرف في الدخل دون أن يعبث به، وذلك تنفيذًا لهذه التعليمات التي أعطيتك إياها.»
حقًّا إن «زفاي حعبي» نفسه كان كاهنًا وكان عنده بلا شك من الأسباب ما يجعله يسيء الظن بهؤلاء الكهنة المطهرين، وقد نصح لكاهن الروح أن يحذرهم، وقد كان يعتقد أن مصلحته في أن يجعل مصلحة كاهن الروح متوقفة على نفاذ ما جاء في الشروط التي فرضها. ولا نزاع في أن كاهن الروح كان يقوم بواجبه؛ لأن ذلك من مصلحته بصرف النظر عن مصلحة «زفاي حعبي»، وقد كان «زفاي حعبي» يعتقد أن روحه «كا» كانت تسافر من «كرمة» مقر جسده؛ لتبعث الحياة في تماثيله في مقبرته أو في مزاره، ولتأخذ بنصيبها كذلك من القرابين اللذيذة التي كانت توضع أمامها، ولا بد أن النشاط الذي كان يبديه الكهنة في تأدية الشعائر أخذ يتناقص على مر الأيام كلما تناسى القوم ذكرى هذا الرجل العظيم، وتغيرت هذه الأحوال الاجتماعية إلى أن أصبحت هذه الأوقاف التي كان يحافظ عليها بكل عناية أثرًا بعد عين؛ إذ لا يبعد أن التهمتها الكهنة الجشعون، أو وضع الفراعنة أيديهم عليها، ولم يبقَ لنا شاهد على وجودها إلا نقوشها المحفورة على جدران المقبرة المنحوتة في الصخر. وسنتكلم عنها عندما نتكلم على الحياة الدينية في هذا العصر.
(١١-٢) مقبرة «زفاي حعبي» في كرمة ومحتوياتها
أما قبره الثاني الذي عثر عليه في كرمة فقد وجد فيه أثاث جنازي يكشف لنا عن صفحة جديدة في أثر الفن النوبي، وتأثير كل منهما في صاحبه، وتأثره به مما جعله يتفق وذوق أهالي بلاد النوبة، والواقع أننا في هذا العصر نشاهد تمصير النوبيين، ومما هو جدير بالملاحظة في هذه المناسبة أن الثقافة المصرية والحكومة كانت في الدولة الوسطى مصرية بحتة، وأن تقدمها كان داخليًّا بحتًا لا يعزى إلى بلد أجنبي، وهذا نفس ما كانت عليه البلاد في عهد الدولة الحديثة إلى حد ما؛ إذ كانت تجد كفايتها في تربة بلادها، وأنها لم تخرج عن نطاق حدودها الأصلية إلا عندما كانت إحدى الممالك المجاورة تهددها طلبًا للغنائم، ولم تشذ عن هذه القاعدة على ما يظهر إلا عند قيام ملوكها بالتوسع في حدودها من جهة الجنوب حيث قد امتدت الحدود المصرية في عهد الدول القديمة حتى ما بعد الشلال الثاني.
(١٢) زحف النوبيين على مصر في العهد الإقطاعي الأول
ولقد بقي السبب الذي دعا إلى هذا الفتح غامضًا حتى أماطت عنه اللثام الكشوفُ الأثرية التي قامت حديثًا في بلاد النوبة؛ إذ تدل الحقائق التي كشف عنها معول الحفار أنه قد حدث زحف قام به أقوام من السودان في العصر الذي يقع بين الدولة القديمة والدولة الوسطى، والظاهر أن هؤلاء الأقوام قد زحفوا من الجنوب وانتشروا على طول النيل شمالًا، وقد تخطت القبائل المغيرة في زحفها الشلال الثاني، ثم اكتسحت في طريقها السكان القدامى؛ أي سكان بلاد النوبة السفلية وهزموهم تمامًا، ثم تابعوا سيرهم حتى الشلال الأول، وتوغلوا في الأراضي المصرية نفسها، وقد كشف عن آثار كثيرة تدل على استعمارهم لبعض الأراضي المصرية حتى «الكاب الحالية». وكذلك تدل البحوث الأثرية وما قام به علماء الأجناس البشرية في هذه الجهات على أن قبائل من جنس واحد قد أوغلوا في البلاد حتى الشلال الثاني على أقل تقدير؛ إذ قد وجدت آثار مساكنهم باقية هناك، وهؤلاء القبائل ليسوا من الزنوج وكذلك ليسوا مثل سكان بلاد النوبة الأقدمين، بل ينتسبون إلى الجنس الحامي، ويحتمل أن الدم الزنجي يجري في عروقهم، وقد كانوا يسكنون أكواخًا مستديرة الشكل محملة عروشها على جذوع أشجار، أما قبورهم فكان يقام على ظاهرها كومة مستديرة الشكل أيضًا، وتدل الكشوف على أن ثقافتهم كانت ساذجة تمامًا، ولقد كان من البدهي أن توجد روابط بين هذه الثقافة والثقافة المصرية في عهد ما قبل التاريخ، وهذه الثقافة كانت لها علاقة بالثقافة المصرية التي توغلت في أعماق السودان في الأزمان السحيقة في القدم، ثم بقيت هناك في صورتها الأصلية، على حين أنها أخذت في النمو والارتقاء باستمرار في الجزء الأسفل من وادي النيل. وتدل الكشوف على أن المستعمرات التي قطنها هؤلاء الوافدون كانت عديدة بدرجة تفوق حد المألوف، وأن البلاد كانت مكتظة بالسكان بالنسبة للأزمان السالفة؛ ومع ذلك فإن الهجرة الجديدة لم تكن مصدر خطر ما. وأن إخضاعهم لم يتطلب مصاعب كبيرة؛ لأنهم كانوا يقطنون في الأراضي الضيقة الزراعية الممتدة على شاطئ النيل في بلاد النوبة السفلية، غير أنه كان يقطن في الجنوب قبائل متصلة بهم، وهؤلاء قد أسسوا في «دنقلة» مملكة قوية البنيان واتخذوا «كرمة» حاضرة لملكهم، وتقع على مسافة قصيرة من جنوبي الشلال الثالث، وهذه المملكة هي التي تُعرف بمملكة «كوش».
وقد ظهر هؤلاء الكوشيون لأول مرة في تاريخ العالم، وهم متصلون اتصالًا وثيقًا بسكان بلاد النوبة السفلية، غير أنهم ليسوا من فصيلة واحدة، وتنطوي ثقافتهم على اختلافات كثيرة ظاهرة عن سكان بلاد النوبة. ومن الغريب أننا لم نعثر حتى الآن على مستعمرات أو مساكن لقوم «الكوش» غير أن مقابرهم الضخمة التي عثر عليها في «كرمة» عام ١٩١٣–١٩١٥م، قد بسطت أمامنا صورة واضحة عن هذه المملكة التي تعد أقدم مدنية عثر عليها في مجاهل أفريقية، فكل ملك لهم قد دفن تحت تل ضخم (هرم) يبلغ ارتفاعه نحو ٩٠ مترًا، وقد دفن معه عدد عظيم من خدمه الإناث والذكور ليقوموا بخدمته في عالم الآخرة، كما كانوا يخدمونه في عالم الحياة الدنيا، وكذلك وجد في مقبرته مدافن لأعضاء أسرته وأتباعه.
وتدل قطع الفخار التي عثر عليها في «كرمة» أنها قد بلغت من الدقة حدًّا مدهشًا، وهي تمثل استمرار تحسن الأواني التي يرجع عهدها إلى عصر ما قبل التاريخ، ويشترك في ذلك مجاميع الفخار التي عثر عليها في بلاد النوبة السفلية، وهذا التحسن في فن صناعة الفخار وشكله نلحظه بصورة منقطعة النظير من جهة الإتقان، وبجانب ذلك نجد أشكالًا محلية كثيرة، كما نجد تقليدًا للأشكال المصرية المعاصرة، فنشاهد في قطع العاج المطعمة طرازًا دقيقًا، وكذلك وجدت بقايا ألوان متساقطة من مباني الأضرحة الملكية التي أقيمت من اللبن، وهذه الألوان تعزى حتمًا إلى صناعة وطنية أصلية، والصور البارزة ترجع إلى أصل مصري، وكذلك الخزف المطلي الذي وجد بجوار مصانعه كان لا بد من عمل مصانع أسسها المصريون هناك.
وقد كان الخطر الذي يهدد الحدود المصرية الجنوبية منبعه مملكة «دنقلة» هذه، وقد كان سكان بلاد النوبة يشدون أزرهم؛ ولذلك جعل ملوك الأسرة الثانية عشرة هذه الجهة ميدان قتالهم، والمكان الذي يدافعون منه عن بلادهم؛ من أجل هذا جعل «سنوسرت الأول» وجهته في بادئ الأمر كما أسلفنا الإقليم الشرقي من بلاد النوبة حيث تمكن من منع أي تقدم نحو مصر من قبل العدو، فأخضع له الأقاليم المجاورة، ومد الحدود المصرية حتى الشلال الثاني، ولكن الضربة القاضية كانت على يد «سنوسرت الثالث» كما سيجيء بعد.
(١٣) وصف سنوهيت لحياته مع بدو آسيا
لقد رأينا كيف أن «سنوهيت» قد ولى الأدبار إلى بلاد فلسطين عندما انفرد «سنوسرت» بالحكم، وكيف أنه وصف لشيخ القبيلة «عمو ننشي» الفرعون الجديد بكل نعوت الشجاعة والمهارة والحزم بما يتفق مع موقفه الجديد بعد موت «أمنمحات الأول»؛ وذلك مما يدل على أنه كان يسير مع الريح ويريد تحسين مركزه بعد هربه الذي لم يذكر له هو مبررًا ما. ولما كانت بقية القصة تفصح لنا عن الخلق المصري في هذا العصر، وتبديه في مظهر يجمع بين السذاجة والمكر ونفاذ البصيرة والشعور بالعظمة والبراعة في النكتة، كما تكشف لنا عن بعض نواحي حياة البادية وقبائلها؛ فإنا آثرنا أن نوردها هنا حتى يعرف الباحث في تاريخ القوم الاجتماعي والديني ما انطوت عليه القصة، أو بعبارة أخرى ترجمة «سنوهيت» من عجائب وحقائق مدهشة. وعندما انتهى «سنوهيت» من وصف الفرعون اندفع الشيخ قائلًا: «حقًّا إن مصر سعيدة؛ لأنها تعرف أنه (أي الملك الجديد) يفلح «في حكمه» ولكن تأمل إنك ستكون هنا وستسكن معي وسأعاملك بشفقة.» بعد ذلك يصف لنا «سنوهيت» حياته في وسط هذه القبيلة، وما وصل إليه من مركز ممتاز، والمبارزة التي قامت بينه وبين أحد شجعان فلسطين الممتازين فيقول: «وقد جعلني على رأس أولاده، وزوَّجني من كبرى بناته، وقد جعلني أختار لنفسي من بلاده أحسن ما في حيازته على حدوده إلى بلاد أخرى، وقد كانت أرضًا جميلة، تسمى «ياء» وكان فيها التين والكرم، ونبيذها أكثر من مائها، شهدها غزير، وزيتونها كثير، وكل الفاكهة محملة على أشجارها، وكان فيها الشعير والقمح، وماشية يخطئها العد من كل نوع، وكذلك كان نصيبي عظيمًا بسبب ما نلت من الحُب (حب الناس)، وقد نصبني حاكم قبيلة من أحسن قبائل بلاده، وقد كان يضع لي الخبز لأكلي اليومي، والخمر لشرابي اليومي، وكذلك اللحم المطبوخ والدجاج المشوي، هذا فضلًا عن صيد الصحراء؛ لأن ذلك كان القوم يصطادونه، ويضعونه أمامي خلافًا لصيد كلابي، وكان يضع لي كثيرًا من الحلوى، ويحضر اللبن بكل الأشكال.
وقد قضيت سنين عدة، وقد نما أولادي، وأصبحوا رجالًا أشداء؛ كلٌّ يحكم قبيلته، والرسول الذي كان يأتي من قبل مقر الملك شمالًا أو جنوبًا، كان ينزل عندي، وقد أعطيت الظمآن ماء، وهديت الضال إلى الطريق، وخلصت من كان قد نهب، ولما أخذ البدو يخرجون عن الطاعة ويقاومون رؤساء الصحاري كبحت جماحهم؛ وذلك لأن أمير «فلسطين» قد جعلني عدة أعوام رئيس جيشه، وكل بلاد سرت إليها قد طردتها من مراعيها وآبارها، ونهبت ماشيتها، وأسرت أهلها، وحملت طعامهم، وذبحت القوم فيها بساعدي القوي وبقوسي وهجماتي، وتدابيري الحسنة، وقد حزت بذلك الحظوة لديه، وأحبني، وقد جعلني على رأس أولاده عندما شاهد كيف تتفوق يداي.»
(١٣-١) المبارزة بين «سنوهيت» والفلسطيني
«وقد جاء رجل قوي من فلسطين ليبارزني في معسكري، وقد كان بطلًا منقطع النظير، أخضع كل فلسطين، وقد أقسم أن يحاربني، وقد دبر سرقتي، وتآمر على أن يأخذ ماشيتي غنيمة بمشورة قبيلته، وقد تكلم معي هذا الأمير، فقلت له: أنا لا أعرفه، وفي الحقيقة لست محالفًا له؛ ولا من الأفراد الذين حاموا حول معسكره، ومع ذلك هل فتحت بابه قط أو اخترقت سياجه؟ كلا، إن ذلك حقد؛ لأنه يرى أني أنفذ أوامرك، والحق أني كثور الماشية في وسط قطيع غريب، وثور الأبقار يهاجمه، والثور صاحب القرن الطويل ينطحه، وهل يوجد رجل خامل الذكر يكون محبوبًا وفي منزله سيدًا؟ وليس هناك بدوي يحالف رجلًا من الدلتا؛ إذ ما الشيء الذي يمكن أن يربط البردية بالصخرة؟ هل يحب الثور النزال، ويريد من ثور أقوى منه أن يعلن تقهقره خوفًا من أنه ربما كان مضارعًا له في القوَّة؟ فإذا كان قلبه مصممًا على الحرب فدعه ينطق بإرادته، وهل الإله يعلم بما قدر له، أو هل يعرف هو كيف يكون المصير؟»
«وفي وقت الليل شددت قوسي، وفوَّقت سهامي، وأرهفت خنجري، وصقلت أسلحتي، وعند الفجر كانت «فلسطين» قد جاءت؛ إذ إنها أثارت قبائلها وحشدت ممالكها وهيأت هذا النزال، وقد برز إلى المكان الذي كنت أقف فيه، وقد وقف بالقرب منه، وكان كل قلب يحترق من أجلي، ولغط النساء والرجال، وكان كل قلب مكلومًا بسببي وقالوا: هل هناك رجل آخر شديد يستطيع منازلته؟»
«ثم سقط درعه وفأسه وحزمة حرابة عندما تفاديت سلاحه، وجعلت سهمه يمر بي طائشًا، ولما اقترب كل منا من الآخر هاجمني، وأرسلت سهمي عليه فلصق بعنقه؛ فصاح وسقط على أنفه، وألقيته أرضًا بفأسه، وصحت صيحة النصر على رقبته، وصاح كل أسيوي، وقدَّمت الثناء «لمنتو» قربانًا، وحزن له أتباعه، أما هذا الأمير «عمو ننشي» فضمني إلى صدره.»
«وبعد ذلك أخذت متاعه، وأتلفت ماشيته، وما قد دبره من النكاية بي جعلته يحيق به، واستوليت على كل ما في خيمته، ونهبت معسكره، وقد أصبحت عظيمًا بهذا واسعًا في ثروتي، غزيرًا في قطعاني.»
وقد فعل الإله (ذلك) رحمة بفرد غضب عليه، وجعله يفر إلى أرض أخرى، واليوم أصبح قلبه فرحًا ثانية.
سنوهيت يتحدَّث عن مجده:
(١٣-٢) حنين سنوهيت إلى وطنه
«وأنت يأيها الإله، الذي أمرت بهذا الهرب، كن رحيمًا وأعدني ثانية إلى مقر الملك، وربما تسمح لي أن أرى المكان الذي يسكن فيه قلبي، والأمر الذي هو أهم من ذلك أن تدفن جثتي في الأرض التي وُلدت فيها، تعال لمساعدتي، ولقد وقع حادث سعيد، لقد جعلت الإله يرحمني، وليته يرحمني ثانية حتى تحسن خاتمة من قد عذبه، وقلبه رحيم يحن لمن حتم عليه أن يعيش في الخارج، وإذا كان رحيمًا بي اليوم فليته يصغي إلى دعوات فرد ناءٍ، وليته يعيد من قد نكبه إلى المكان الذي أخذ منه.
آه ليت جسمي يعود إلى الشباب ثانية؛ لأن كِبر السن قد نزل بي، واستولى عليَّ الضعف وعيناي ثقيلتان، وذراعاي ضعيفتان، وساقاي قد وقفتا عن السير، وقلبي متعب، والموت يقترب مني، سأحمل إلى مدن الأبدية، فدعني أخدم سيدتي الملكة، وليتها تتحدث إليَّ عن جمال أطفالها، وليتها تخلع عليَّ قبر اللأبدية.
(١٣-٣) صورة من القرار الملكي الذي أُحضر إلى الخادم المتواضع خاصًّا بعودته إلى مصر
قرار ملكي إلى التابع «سنوهيت»
وقد وصلني هذا القرار الملكي عندما كنت واقفًا في وسط قبيلتي، وقد قُرئ عليَّ فانبطحت على بطني، ولمست التراب، ونثرته على شعري، ومشيت حول معسكري فرحًا قائلًا: «كيف تفعل أشياء مثل هذه لخادم، قد أضله قلبه وقاده إلى أراضٍ متوحشة؟ نعم إن ذلك الواحد المحسن الذي يخلصني من الموت طيب حقيقة، وإن حضرتك ستسمح لي بأن أختم نهاية حياتي في مقر الملك.»
صورة من الاعتراف بهذا القرار الملكي
والناس يتحدَّثون عن الخوف منك في السهل والحزن، وقد أخضعت كل ما تحيط به الشمس، وهذه الصلاة من الخادم هناك (يعني نفسه) إلى سيده لينجيه من الغرب، رب الفطنة الذي يفهم صغار الناس، قد أدركها في قصره المنيف، والخادم هناك خاف أن يقولها؛ لأن ذلك أمر خطير أن يعيدها، وأنت أيها الإله العظيم الذي يماثل «رع» في إعطاء الفطنة لفرد يجاهد لنفسه، وخادمك هذا في يد ناصح طيب في مصلحته؛ وفي الحق أني قد أصبحت تحت إرشاده؛ لأن جلالتك «حور» المظفر، وساعداك قويان على كل البلاد، والآن فلتأمر جلالتك أن يحضر «مكي» من «كدمي» «وخنتواش» من بلاد خنتكش، و«منوس» من أراضي «الفنخو» وهم أمراء مشهورون قد نموا على حبك غير أنهم منسيون، و«فلسطين» ملكك كأنها كلابك.
أما من ناحية هذا الهرب الذي فعلته فلم أدبره ولم يكن في قلبي، ولم أفهمه ولم أعرف الشيء الذي أقصاني عن مكاني، وقد كان ذلك كحلم كما لو كان رجل من الدلتا يرى نفسه على غفلة في «إلفنتين» أو رجل من المستنقعات في النوبة، ولم يكن هناك أي شيء أخافه، ولم يطاردني إنسان، ولم أسمع أي كلام معيب، واسمي لم يُسمع في فم المنادي، وكل ما حدث أن جسمي أخذته الرعدة، وبدأت قدماي تخوران، وقادني قلبي، والإله الذي أمرني بهذا الهرب جرني بعيدًا، ومع ذلك لم أكن دعيًّا من قبل، على أن الرجل الذي يعرف بلاده يخاف؛ لأن «رع» قد بث خوفك في كل الأرض، والرعب منك في كل البلاد الأجنبية، وسواء أكنت في مقر الملك أم في هذا المكان فإنك أنت الذي في قدرتك أن تظلم ذلك الأفق، وتطلع الشمس بإرادتك، ومياه النهر تُشرب حينما تريد، وهواء السماء يُستنشق حينما تأمر.
وسيسلم خادمك مركز الوزارة الذي كنت أشغله في هذا المكان، ولكن دع جلالتك تفعل ما تشاء، فالناس يعيشون على النَفَس الذي تمنحه، ليت «رع» و«حور» و«حتحور» يحبون أنفك الرفيع الذي يريد «منتو» رب طيبة أن يبقى إلى الأبد.
وقد حضر إلى هذا الخادم الرسل، وقد سمح لي أن أمضي يومًا في «ياء»، وسلمت فيه متاعي إلى أولادي، فأصبح ابني الكبير المشرف على قبيلتي، وكل ما أملك أصبح في يده: عبيدي وكل ماشيتي وفاكهتي، وكل شجرة لذيذة أملكها.
ثم سار هذا الخادم المتواضع نحو الجنوب، ووقف عند «ممرات حور» وأرسل القائد الذي كان مكلفًا بحراسة الحدود هناك رسالة إلى مقر الملك تحمل الأخبار بوصولي؛ فأرسل جلالته أحد رؤساء الصيد في القصر ممن يثق بهم ومعه سفن محملة بالهدايا من الفيض الملكي للبدو الذين أتوا معي ليقودوني إلى «ممرات حور»، وقد ناديت كلًّا منهم باسمه؛ وكان صناع الجعة يعجنونها ويصبونها في حضرتي، وكان كل خادم منهمكًا في عمله، ثم أخذت في سياحتي إلى أن وصلت بلدة «مراقبة الأرضين» (العاصمة)، وعند انفلاق الصبح، أتوا ليطلبوني مبكرين جدًّا، وقد كان عشرة رجال يأتون، وعشرة رجال يذهبون ليقودوني إلى القصر، واستلمت الأرض بين تماثيل «بو الهول» بجبهتي، ووقف أولاد الملك عند الباب، واستقبلوني، أما أمناء القصر الذين يقودونني إلى القاعة فإنهم ذهبوا بي إلى الطريق المؤدية إلى الحجرة الخاصة، فوجدت جلالته على عرشه العظيم في مدخل من الذهب، فانبطحت على بطني، وذهب عني عقلي في حضرته؛ مع أن هذا الإله حياني بفرح، وقد كنت كرجل أطبق عليه الظلام؛ إذ فرَّت روحي وتزلزلت أعضائي، ولم يعد قلبي في جسمي؛ ولم أشعر إذا كنت حيًّا أو ميتًا.»
وعندئذ قال جلالته لأحد هؤلاء الأمناء: «ارفعه ودعه يكلمني.» وقال جلالته: «انظر! لقد عدت بعد أن قطعت الصحاري واخترقت الفيافي؛ والكبر قد تغلب عليك، وقد بلغت الشيخوخة، وإنه ليس بالأمر الهين أن يُدفن جسمك في الأرض دون أن يسير في مشهدك المتوحشون، ولكن لا تبقَ هكذا صامتًا باستمرار عندما يُنطق باسمك.» ولكن في الحق خفت العقاب وأجبت عن ذلك جواب الخائف: «ماذا يقول سيدي لي؟ ليت في مقدوري أن أجيب عليه، ولكن لا يمكنني، انظر! كأن ذلك يد الله؛ إذ إن الفزع الذي في جسمي كالفزع الذي سبب هذا الهرب الذي قضى به علي، انظر! إنني في حضرتك والحياة ملكك وليت جلالتك تتصرف كما تريد.»
وعندئذ قال جلالته: «لن يخاف ولن يرتاع؛ لأنه سيصير أمينًا في القصر بين الحكام، وسيوضع بين رجال الحاشية، اذهبوا إلى قاعة الزينة لتكونوا في خدمته.»
وبعد أن تركت الحجرة الخاصة، وقد صافحني أولاد الملك، ذهبنا إلى البابين العظيمين، وقد أسكنت في بيت ابن من أولاد الملك، وكان مزينًا بثمين الأثاث، وكان فيه حمام وأشكال ملوَّنة للأفق، وكان فيه أشياء ثمينة من الخزانة، فكان فيه ملابس الكتان الملكي، والبخور، والزيت الثمين الخاص بالملك، ورجال البلاط الذين يحبهم، وكان كل خادم في عمله، وقد أخذت السنون تذهب عن جسمي، وأُزيلت لحيتي ورُجِّل شعري، وقد ألقي في الصحراء حمل أوساخ، وأُعطيت الملابس القذرة رجال الرمال.
وقد زُينت بأحسن ملابس الكتان، ودُلكت بأحسن الزيت، وفي الليل نمت على سرير، وتركت الرمال لمن هم فيها، وزيت الخشب لمن يدلك نفسه به.
وقد أهدى لي بيت حاكم مقاطعة كما يليق بسمير ملكي، وقد بناه كثير من الصناع، وكانت كل الصناعة الخشبية فيه جديدة.
وكان يُؤتى إليَّ الطعام من القصر ثلاث مرات وأربع مرات في اليوم، هذا فضلًا عما أعطانيه أولاد الملك بدون انقطاع في أي وقت.
وقد أقيم لي قبر من الحجر في وسط المقابر، والبناءون الذين ينحتون المقابر قد وضعوا تصميمه، وكبير مهندسي العمارة قد بدأ في بنايته (؟)، وأخذ النقاشون ينقشونه، وأخذ مهرة النحاتين ينحتون فيه، أما رؤساء بنَّائي الجبانة فوجهوا عنايتهم له، وكل ما يحتاج إليه من لامع المتاع الذي يوضع في القبر قد مُدَّ به، وقد رتب لي كهنة جنازيون، وصُنعت لي حديقة للقبر كان فيها حقول مقابلة لمأواي، كما كان يصنع للسمير الأول للقصر، وقد رُصع تمثالي بالذهب ومئزره كان من خالص النضار، وإن جلالته هو الذي أمر بصنعه، وليس هناك رجل فقير قد عمل له مثل ذلك، وقد تمتعت بعطف من الفيض الملكي إلى أن أتى يوم الممات.
(١٤) إشراك سنوسرت ابنه «أمنمحات الثاني» في الحكم
وكما أعد «أمنمحات الأول» ابنه «سنوسرت الأول» ليكون مدرَّبًا في فنون الحكم والحروب، اتبع «سنوسرت الأول» نفس الطريقة مع ابنه «أمنمحات الثاني»؛ إذ أرسله مع القائد «أميني» ليرى أجزاء مملكته النائية بنفسه، وليتقبل خضوع أمراء هذه البلاد، وليقضي على كل من شق عصا الطاعة منهم.
(١٥) وفاة «سنوسرت الأول»
وقد تُوفي هذا الفرعون المسن في السنة السادسة والأربعين من حكمه، وهي السنة الرابعة من اشتراك ابنه معه في الحكم؛ أي بعد أن حكم خمسًا وأربعين سنة، كما جاء في ورقة «تورين»، وكما تدل على ذلك آثاره المؤرخة؛ إذ وجدنا من بينها أثرًا يذكر لنا السنة الخامسة والأربعين من حكمه.
(١٦) هرم سنوسرت الأول
وقد مات «سنوسرت الأول» بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، بنى فيها مجد الأسرة الثانية عشرة، ودفن في هرم أقامه لنفسه، انتخب موقعه في الجهة الجنوبية من معبد هرم والده باللشت، وقد وجد مدخله في رقعة الهرم عند سفحه، وكان الممر المؤدي إلى حجرة الدفن مسدودًا بقطع كبيرة من الجرانيت، وقد تسرب اللصوص إلى مخدعه بنفق حُفر بجانب المدخل، ولكن الحجرة لم يمكن الوصول إليها بسبب ارتفاع منسوب مياه الرشح فيها الآن.
ولما كنت غيورًا جدًّا أرسلني الفرعون لأقيم له ضريحًا أبديًّا، وكانت جدرانه تخترق السموات، والبحيرة التي حفرت قد بلغت في حجمها النهر، وأقيمت «بواباته» التي تناطح السماء من حجر «طرة»، وقد فرح الإله «أوزير» أول سكان الغرب بهذا البناء الذي أقمته لسيدي، وقد سررت أنا نفسي وكان قلبي فرحًا بما أنجزته.