أمنمحات الثاني (١٩٣٨–١٩٠٣ق.م)
(١) مجمل أعماله
انفرد «أمنمحات الثاني» بالملك بعد وفاة والده «سنوسرت الأول»، وكان عندما تولى العرش مشتركًا مع والده، قد اتخذ لنفسه لقب «نب كاو رع»؛ أي الواحد الذهبي لأرواح إله الشمس.
وتدل الآثار المكشوفة إلى الآن، التي وصلت إلينا من عهده، على أن عصره كان عصر هدوء وسلام، وأنه لم يقُم بأعمال جسيمة في الفتوح والغزوات، كما أنه لم يُنسب إلى عهده شيء من المباني العظيمة الخالدة، وذلك لا يعني أن عهده خلا من الأعمال الجليلة التي سارت بسفينة البلاد نحو التقدم والوحدة التي كانت الغرض الأسمى لفراعنة هذه الأسرة، فقد أظهر نشاطه العظيم في إرسال البعوث العديدة إلى مختلف نواحي ممتلكاته لاستخراج المعادن من جبالها الغنية بها، أو لتهدئة الأحوال في الجهات التي حدثت فيها اضطرابات، كما أرسل البعوث للبلاد الأجنبية بقصد التجارة ونشر الحضارة المصرية، هذا إلى أنه أقام مباني عدة للآلهة في مختلف جهات القطر، غير أنها لم تضارع ما قام به والده وجده.
(١-١) بعوثه إلى سينا
السنة الرابعة والعشرون من حكم جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري «أمنمحات الثاني»، منجم حفره صديق الفرعون الحقيقي، وضابط البحارة المسمى «مين»، وأمه «موت» المرحوم.
(١-٢) آثاره في مختلف جهات القطر
(١-٣) البعوث إلى محاجر صحراء النوبة
وقد أرسل هذا الفرعون البعوث إلى محاجر صحراء النوبة الغربية التي كُشف عنها حديثًا لاستحضار حجر الديوريت والجرانيت فقد عثر له على لوحة في المحاجر الجنوبية لهذه الجهة مصنوعة من الديوريت الأسود، ولكن مما يؤسف له أن هذه اللوحة قد وُجدت نقوشها متآكلة وممحوَّة؛ مما يصعب معه حل رموزها، وكل ما يمكن حله في نقوشها أن الذي كان على رأس البعثة أمير، وأن الغرض من إرسالها هو إحضار حجر «منتت» من مكان يسمى «نخنت» (؟).
ملك الوجه القبلي والوجه البحري «خع كاو رع» عاش أبد الآبدين محبوب «حتحور» سيدة الجمشت (حسمن)، قريب الملك الحقيقي ومحبوبه وساكن قلبه رئيس الخزانة، وهو الذي وضعته «سبك رع» ورب الاحترام.
والذي استولى على قلب الملك باختراق الصحاري (في البعثة) التي قام بها لسيده بتفوِّق «سنببو» رب الاحترام.» ولدينا لوحة أخرى من هذا المكان، غير أن معظم كتاباتها قد مُحيت، وهي منحوتة من الحجر الرملي، ويرجع عهدها إلى السنة السادسة من الحكم المشترك لهذا الفرعون، وابنه «سنوسرت الثاني» (هاتان اللوحتان لم تُنشرا بعد).
(١-٤) بعوثه إلى بلاد بنت
ولهذه اللوحة أهمية خاصة؛ إذ عرفنا منها اسم الميناء التي كانت تستعمل كثيرًا لقيام البعوث إلى «سينا» وإلى بلاد «بنت»، وهذه اللوحة تعزى إلى حامل الختم الفرعوني ومدير مخازنه المسمى «خنتخاتي ور»، وقد كان غرضه إحضار العطور والروائح الذكية، ونشاهد على هذه اللوحة صورة الفرعون «أمنمحات الثاني» يقرِّب الشراب للإله «مين» سيد «قفط»، وأسفل هذا المنظر نرى «خنتخاتي ور» نفسه رافعًا ذراعه تعبدًا للإله، ويلي ذلك النقوش وهي: تقديم المديح الإلهي، والشكر من الأمير الوراثي والحاكم وحامل خاتم الفرعون ورئيس قاعة المحكمة «خنتخاتي ور» إلى الإله «حور» والإله «مين» رب «قفط»، وذلك بعد وصوله مع جيشه سالمًا من «بنت» غانمًا مظفرًا، وسفنه قد رست في «سواو» (وادي جاسوس)، في السنة الثامنة والعشرين من حكم هذا الفرعون.
(أ) أهمية البعوث إلى بلاد بنت
والواقع أن إرسال الفرعون «أمنمحات الثاني» الحملات إلى «بنت» تلك البلاد النائية الواقعة بجوار بلاد «الصومال» الحالية له أهمية عظيمة؛ إذ يدل على أن هذا الفرعون كان يريد مجاراة أجداده القدامي في هذه البعوث التي سبقه إليها «سحورع» و«اسسي» و«بيبي» من ملوك الدول القديمة، و«سنعنخ كارع» من ملوك الأسرة الحادية عشرة، ولا شك في أن الرحلة إلى هذه البلاد النائية كانت في وقت ما شاقة خطرة؛ إذ كان على رجالها أن يخترقوا الصحراء حتى يصلوا إلى البحر الأحمر. وبعد ذلك كان لا بد من بناء السفن اللازمة لحمل رجال البعثة، وفي أراضي الصحراء القاحلة الجرداء يلاقون قبائل العرب الرحل الذين تعوَّدوا السلب والنهب، يجولون طلبًا للسطو على أية غنيمة. وبعد ذلك كانت تقلع البعثة عدة أيام متجهة جنوبًا محاذية الشاطئ الخالي من السكان، وفي نهاية المطاف كان عليهم أن ينزلوا عند قوم من الناس غاية في السذاجة غير معروفين لهم، فيتجرون معهم، ثم يحملون عند عودتهم المرَّ والأصماغ ذات الروائح الذكية. وتدل شواهد الأحوال على أن السياحة إلى بلاد «بنت» العجيبة كانت مما يثير الدهشة والإعجاب؛ حتى إن رجال القصص قد ألفوا سلسلة قصص عن المخاطرات التي كان يلاقيها المسافر إلى هذا القطر الغريب، وقد وصلت إلينا واحدة من هذه القصص وهي «قصة الغريق»، التي يرجع تاريخها إلى هذا العصر، وهي تذكرنا بقصة «السندباد البحري» في «ألف ليلة وليلة»، وبطل هذه القصة الطريفة يقلع في سفينة طولها ١٢٠ ذراعًا وعرضها ٤٠ ذراعًا وبها ١٢٠ من خيرة البحارة المصريين، وقد أرسل هذه البعثة الملك إلى أرض الإله (أي بلاد بنت) ليحضر بعض النفائس منها، ولكنهم لم يفلحوا في مهمتهم فرجعوا بالخيبة بعد أن لاقوا في الطريق أهوالًا عظيمة، وصلوا بعدها إلى الوطن سالمين. ثم تستمر القصة في سرد قصة أخرى، فاستمع إلى ما جاء فيها.
قصة الغريق
يقول تابع حاذق: «كن فرحًا أيها الأمير، انظر! لقد وصلنا إلى مقر الملك، وقد أخذت المطرقة ودُقت أوتاد المرسى، وأُلقيت حبالها على البر، وكان الثناء والشكر لله، وقد عانق كل فرد زميله، وقد وصل ملاحونا سالمين أصحاء، ولم نفقد من جنودنا أحدًا، وقد وصلنا إلى أقصى «واوات» ومررنا «بسنموت»، تأمل! لقد عدنا بسلام ووصلنا إلى بلادنا.»
أصغ إليَّ أيها الأمير، إنني فرد خلو من المبالغة، اغسل نفسك، وصب الماء على أصابعك، وأجب عندما تُحيَّا، وتكلم إلى الملك وأنت مالك لشعورك، وأجب في غير تلعثم، وإن فم الإنسان هو الذي ينجيه، وكلامه هو الذي يجعل الناس يرفقون به، وستفعل ما يحلو لك، ومع ذلك فالكلام معك غير مجدٍ، ومع ذلك سأقص عليك شيئًا مماثلًا لقصتك، فقد حدث لي شخصيًّا عندما أقلعت إلى إقليم مناجم الملك ذاهبًا إلى البحر في سفينة ذرعها ١٢٠ طولًا و٤٠ عرضًا، وكان فيها ١٢٠ بحارًا من نخبة مصر؛ وكانوا يتعرَّفون السماء، وكانوا يتعرفون الأرض، وكانت قلوبهم أثبت من قلوب الأسود، وكانوا يتنبئون بالعاصفة قبل أن تحدث، والزوبعة قبل أن تمر، وقد هبت عاصفة ونحن ما زلنا في البحر، وقبل أن نصل إلى الأرض، وقد قامت الريح فضاعفت من شدتها، وجاءت موجة ارتفاعها ثمانية أذرع، وقد حُملت من على سطح السفينة مع السارية.
وبعد ذلك غرقت السفينة، ولم يبقَ غير واحد من بين الذين كانوا فيها، وقد رمت بي موجة إلى جزيرة، وقد قضيت ثلاثة أيام وحيدًا، ولم يكن لي رفيق غير قلبي، ونمت في خباء من الخشب، واحتضنت الفيء، ثم وقفت على قدمي لأجد ما يمكن أن أضعه في فمي، فوجدت تينًا وعنبًا هناك، وكل أنواع الخضر الجميلة، وكان هناك فاكهة «كاو» و«نكوت» وخيار كأنه مزروع، وكان هناك سمك وطيور، ولم يكن هناك شيء لا يوجد فيها، وعندئذ أشبعت نفسي، وتركت بعضها على الأرض؛ لأن حمله كان ثقيلًا على ذراعي، ثم أخذت زنادًا وأوقدت نارًا لنفسي، وقدمت قربانًا مشويًّا للآلهة.
وبعد ذلك سمعت صوت رعد، وظننت أنها موجة بحر، فتكسرت الأشجار وزلزلت الأرض، ولما كشفت عن وجهي وجدت أنه ثعبان يقترب مني، وكان ذرعه ثلاثين ذراعًا طولًا، ولحيته تزيد طولها على خمسة أذرع، وكان جسمه مرصعًا بالذهب وحاجباه من خالص اللازورد، وقد كان غاية في العقل، ثم فغر فاه لي حينما كنت ملقى على بطني أمامه وقال لي: من أحضرك إلى هنا؟ من أحضرك إلى هنا أيها الصغير؟ من أحضرك هنا؟ وإذا تأخرت عن إجابتي عمن أحضرك إلى هذه الجزيرة جعلتك لا تجد نفسك إلا ترابًا، وتصير كالذي لم يكن قد رئي.» فأجبت: «إنك تتحدث إليَّ ومع ذلك لم أسمع ما تقول: إني في حضرتك ولكن حواسي قد ذهبت.»
وبعد ذلك أخذني في فمه، وأحضرني إلى حجره، ووضعني دون أن يلمسني، وكنت صحيحًا ولم يمزق شيئًا مني؛ وفغر فاه لي عندما كنت ملقى على بطني أمامه وقال لي: «من أحضرك إلى هنا؟ من أحضرك إلى هنا أيها الصغير؟ من أحضرك إلى جزيرة البحر هذه التي يحيط بها الماء من الجانبين؟» وقد أجبته وذراعاي مثنيتان في حضرته وقلت له: «إني فرد ذهبت إلى المناجم في أمر للملك في سفينة ذرعها ١٢٠ طولًا و٤٠ عرضًا وكان فيها ١٢٠ بحارًا من نخبة مصر، وكانوا يتعرَّفون السماء، وكانوا يتعرفون الأرض، وكانت قلوبهم أثبت من قلوب الأسود، وكانوا يتنبئون بالعاصفة قبل أن تحدث، والزوبعة قبل أن تكون، وكان كل واحد منهم شجاع القلب قوي الساعد أكثر من زميله، ولم يكن بينهم أحمق، وقد هبت عاصفة ونحن لا نزال في البحر قبل أن نصل إلى الأرض، وقد قامت الريح فضاعفت من شدتها وجاءت موجة ارتفاعها ثمانية أذرع، وقد حُملت من على سطح السفينة مع السارية؛ وبعد ذلك غرقت السفينة بمن كانوا فيها، ولم يبقَ غيري، وتأمل! فإني هنا بجانبك وقد أحضرت إلى هذه الجزيرة بموجة البحر.»
وعندئذ قال لي: «لا تخف، لا تخف، أيها الصغير، ولا تدَع محياك يصفر ما دمت قد جئت إليَّ، انظر! لقد حفظك الله حيًّا ليحضرك إلى جزيرة الطعام «الوفير» التي ينمو فيها كل شيء؛ لأنها مفعمة بكل شيء حسن، وانظر! ستمضي الشهر بعد الشهر في هذه الجزيرة إلى أن تتم أربعة أشهر، ثم تأتي سفينة من مقر الملك تحمل بحارة تعرفهم، وستذهب معهم إلى مقر الملك، وتموت في نفس بلدك، ما أشدَّ فرحة الذي يقص ما جرى له بعد أن تمر الكارثة! وهكذا سأقص عليك شيئًا مماثلًا لهذا، قد حدث في هذه الجزيرة، وذلك أنني كنت فيها مع إخوتي وأطفالي في وسطهم، وكان كل عددنا ٧٥ ثعبانًا؛ أولادي وإخوتي، هذا غير بنت امرأة مسكينة قد أحضرت إلي … ثم انقض شهاب فذهب هؤلاء في النار بسببه (أي الشهاب).
وقد حدث ذلك وأنا لست مع المحرقين (؟)، ولم أكن بينهم، وقد كدت أموت من أجلهم عندما وجدتهم كومة من الجثث.
فإذا كنت شجاعًا فاكبح جماح قلبك، على أنك ستضم أطفالك، وتقبِّل زوجتك وترى منزلك، وهذا أحسن من كل شيء، وستصل إلى مقر الملك، وتسكن هناك في وسط أولادك.»
وعند ذلك ألقيت بنفسي على بطني ولثمت الأرض في حضرته، وقلت له: «سأتحدث للملك عن قوتك وأعلمه بعظمتك، وسأعمل على أن يجلب إليك «أبي» و«حكنو» و«أدنب» و«خسايت» وكذلك بخور المعابد التي يسر لها كل إله، وسأقص ما حدث لي وما قد شاهدت … وستشكرني المدينة أمام ضباط الأرض كلها، وسأذبح لك ثيرانًا قربانًا مشويًّا، وأضحي لك الإوز، وسأرسل لك سفنًا محملة بكل بضائع مصر الثمينة، كما يجب أن يُفعل لإله يحب الناس في أرض نائية لا يعرفها الناس.» عند ذلك ضحك مني ومما قلت، كأن ذلك الذي قلته سخافة وقال لي: «ليس عندكم «عنتيو» بكثرة، ولا تملكون إلا البخور، ولكني أمير «بنت»، والمرُّ متاعي الخاص، أما من حيث «حكنو» الذي تقول عنه إنك ستجلبه إليَّ فهو أهم حاصلات هذه الجزيرة، ولكن الواقع أنك لن ترى هذه الجزيرة قط بعد سفرك؛ لأنها ستصير ماء.»
وبعد ذلك أتت هذه السفينة كما تنبأ، وذهبت وتسلقت شجرة طويلة، ورأيت أولئك الذين كانوا فيها، وذهبت لأخبره، فعلمت أنه عرف ذلك من قبل، وقال لي: «بسلام بسلام للوطن، أيها الصغير، وشاهد أطفالك، واجعل لي اسمًا حسنًا في مدينتك، اسمع فإن هذا هو كل ما أبغي.»
وعندئذ ألقيت بنفسي على بطني، وأثنيت ذراعي في حضرته، وأعطاني حمولة «مر» و«حكنو» و«أدنب» و«خسايت» و«تشبس» و«شاس»، وكحل، وذيول زرافات، وكمية عظيمة من البخور، وسن فيل، وكلاب صيد، وقردة ونسانيس، وكل الذخائر الجميلة، وأنزلتها في هذه السفينة.
ولما ألقيت بنفسي على بطني لأشكره قال لي: «انظر! ستصل إلى الحاضرة بعد شهرين، وستضم أولادك في حضنك، وتصير شابًّا ثانية في مقر الملك ثم تدفن.»
وذهبت إلى الساحل حيث كانت هذه السفينة، وحَييت الفرقة التي كانت في هذه السفينة، وأثنيت على رب هذه الجزيرة على الساحل، وكل من كان في السفينة فعل كذلك.
ثم سحنا شمالًا إلى حاضرة الملك، ووصلنا إلى العاصمة في شهرين كما قال، ومثلت أمام الملك، وقدَّمت له هذه الذخائر التي أحضرتها من الجزيرة، وقد شكرني أمام كل ضباط الأرض قاطبة، وعُينت حاجبًا وكافأني ببعض حشمه (؟).
انظر إليَّ بعد أن وصلت إلى الأرض، وبعد أن شاهدت ما لاقيته، اسمع لما أقول انظر إنه من الخير للناس أن يصغوا.
فقال لي: «لا تلعبن دور الحكيم يا صديقي! فإن ذلك كالذي يعطي الطائر عند الفجر ماء وسيذبحه مبكرًا في الصباح؛ أي إني مقضي عليَّ بالموت عندما أقابل الفرعون، وعلى ذلك فإن كلامك المطمئن لا فائدة منه لي.»
(١-٥) بلاد النوبة ونشاطه فيها
ومما هو جدير بالذكر في هذه المناسبة اللوحة التي عثر عليها في «دابود» (على مسافة ١٨ كيلومترًا جنوبي أسوان) وهي محفوظة الآن بمتحف برلين.
وتنحصر أهميتها في تحديد العصر الذي أنشئت فيه هذه البلدة لحماية الحدود المصرية من غارات سكان الجنوب، وتنسب إلى هذا العهد.
(أ) علاقة مصر ببلاد آسيا في عهد هذا الفرعون
أما علاقة مصر ببلاد «فينيقية» (ببلوص = جبيل) و«سوريا» في عهد ملوك الأسرة الثانية عشرة، فإن ظواهر الأمور تدل على أنها كانت على أحسن ما يكون من الود والصفاء، وبخاصة في عهد هذا الفرعون؛ إذ عثر فعلًا في جبيل (ببلوص) على نقوش مصرية قديمة ذُكر فيها اسم شخصية مصرية عظيمة تحمل لقب الأمير الوراثي «حاتي عا»، كما أن اسمه ونسبه يدلان على أنه من أصل مصري بحت، وهذه الوثيقة يرجع عهدها بلا شك إلى الأسرة الثانية عشرة، ولا نزاع في أن تاريخها يرجع إلى ما قبل عهد حكم الفرعون «سنوسرت الثالث»؛ ونحن نجهل الآن مدى بقاء هذه السيادة المصرية على بلاد «فينيقية»، ولكن المؤكد أن النفوذ المصري كان عظيمًا فيها في خلال عهد الأسرة الثانية عشرة حتى ختامها — وقد كُشف حديثًا عن أشياء تدل على أن توطيد العلاقات بين مصر و«فينيقية» كانت على خير ما يكون.
(ب) كنز طود وأهميته
فقد كُشف في بلدة «طود» عام ١٩٣٦ عن كنز في أساس معبد يرجع عهده إلى الأسرة الثانية عشرة من عهد الفرعون «أمنمحات الثاني»، ويشتمل على أربعة صناديق من البرنز نُقش عليها اسم الفرعون «أمنمحات الثاني»، وقد وجدت كلها مملوءة بأوانٍ من الذهب والفضة يربي عددها على مائتي آنية، وكذلك وجد من بين محتوياتها سبائك من الذهب والفضة وكمية عظيمة من الخرز والأسطوانات «البابلية» والتعاويذ المصنوعة من اللازورد وقطع من اللازورد الغفل، ولا شك في أن هذه الأواني من الصناعة «الإيجية» المحضة، أما الأشياء المصنوعة من اللازورد فهي صناعة «بابلية».
ولما كانت ظواهر الأحوال تدل على أن العلاقات بين مصر في عهد «أمنمحات الثاني» والبلاد الأجنبية كانت علاقات صداقة وود، وبخاصة بين هذا الفرعون و«آسيا» فإنه من المستبعد أن تكون هذه التحف قد أتت إلى مصر عن طريق الغزو، بل يحتمل جدًّا أنها كانت جزية فرضها الفرعون على أمير «ببلوص» (جبيل) سواء أكان أميرًا من أهل البلاد نفسها أم أميرًا مصريًّا قد وضعه الفرعون حاكمًا عليها من قِبله.
(١-٦) محافظته على مباني أسلافه
وهو خادم الفرعون المقرَّب لديه، «سكرتير» ملابسه، فيقص علينا: «لقد وضعني الفرعون عند قدميه وأنا صبي، وكان اسمي يُتحدث عنه قبل أقراني، وكان جلالته يحبني، ويُظهر دهشته لعملي الطيب، وكنت أُمدح كل يوم أكثر من اليوم السابق، وكنت موضع ثقة الملك الحقيقية، وكان جلالته يقبل تزلفاتي، وعندما كان موظفو «البلاط» يصطفون في أماكنهم «حسب درجاتهم» كانت مكانتي أمامهم … وكنت كاهن تاج الجنوب وتاج الشمال، وكنت خادم الملابس الملكية، وملبسًا «التاج الذي اسمه» «عظيم في السحر»، وقابضًا على التاج في القصر … ولما أصبحت في المقدمة أمام جلالته كلفني أن أقوم بالتفتيش على الكهنة، وأقضي على العمل الخبيث، وأُحسن حالة عملهم في كل الأمور المقدسة. وذهبت حسب أوامر «الملك» إلى «إلفنتين»؛ وقدمت خضوعي أمام إله الشلال «خنوم»، وعدت بالطريق الذي ذهبت منه، ورسوت عند «العرابة» حيث أقمت هذه اللوحة التي تحمل اسمي عند المكان الذي يسكن فيه «أوزير» أول أهل الغرب ورب الأبدية، وحاكم الغرب، والذي يطير إليه كل كائن لما فيه من فائدة في وسط أتباع سيد الحياة، لأجل أن آكل رغيفه، وأخرج نهارًا (من قبره)؛ ولأجل أن يتمتع روحي باحتفالات القوم الذي يتشفعون بقلوبهم إلى قبري وبأيديهم إلى لوحتي؛ وذلك لأني لم أفعل «شرًّا»، ولأجل أن يكون الإله عطوفًا عليَّ عند الحساب حينما أكون هناك في «الآخرة»، وحتى يكون في مقدوري أن أعمل بوصفي روحًا في الجبانة المنحوتة في الصحراء، وحاكمًا للأبدية، وحتى يمكنني أن أحرك السكان وأتمكن من النزول في القارب المقدس «نشمت» وأشم الأرض (ألثمها) أمام الإله «وبوات» خنتمسميتي «المرحوم سيد الاحترام».
(أ) المباني
(٢) الإدارة
والظاهر أن هذا الفرعون كان حازمًا في إدارة شئون البلاد الداخلية، ومسيطرًا على حكام الأقاليم الوراثيين؛ فقد ذكر لنا «خنوم حتب» ابن «نحري» أمير مقاطعة الغزال في نقوشه التي على قبره في «بني حسن» أن الملك «نب كاو رع» «أمنمحات الثاني» قد ولاه منصب والده في السنة التاسعة عشرة من حكمه في الجهة المسماة «منعات خوفو»، ثم يصف لنا بعد ذلك في هذه النقوش المؤسسات الدينية التي أقامها لوالده للاحتفال بالأعياد المختلفة، وكذلك ذكر لنا أن ابنه قد رقي حاكم مقاطعة «ابن آوي» المتاخمة لمقاطعته، وأن الفرعون قد عين الحدود بنفسه، وبهذه المناسبة نذكر أنه قد نقش على مقابر «بني حسن» تاريخ أسرة أمراء مقاطعة الغزال، ولا بد من أن نشير هنا إلى شجرة نسب هذه الأسرة العريقة بالنسبة لحكم هذا الفرعون، حتى يعلم القارئ كيف تغلغل نفوذ الأمراء الوراثيين في المقاطعات، وأن عمل الملوك على نزع السلطة من أيديهم كان أمرًا عسيرًا يحتاج إلى نضال شديد مع حكمة وحزم.
ومؤسس هذه الأسرة «خنوم حتب» الذي لعب دورًا في تثبيت ملك «أمنمحات الأول» على عرش الملك، (انظر سنوسرت الثاني)، وهاك سلسلة النسب وسنتكلم عنها في حكم الملك «سنوسرت الثاني».
خنوم حتب الأول أمير منعات خوفو ومقاطعة الغزال
وهذه النقوش فضلًا عن أنها تمدنا بالحقائق السالفة فإنها قد دونت لنا الأعمال الصالحات لبعض الأمراء، مبينة لنا كيف كانت تؤسس الأوقاف الجنازية المعتادة، وكيف كانت توضع القربان أمام تماثيل الأجداد اتقاء إقامة أعياد خاصة، كما سبق شرحه عند الكلام على «زفاي حعبي».
(٣) اشتراك سنوسرت الثاني في الحكم
(٤) هرم الملك أمنمحات الثاني
(٥) مقابر الأسرة الملكية ومحتوياتها
(٥-١) مجوهرات الملكة خنمت
أما مدفن «خنمت» فهو أغنى هذه المدافن جميعًا، ويحتوي على أشياء مماثلة للأشياء التي وجدت في مقبرة «إتا» إلى تاجين وُجدا معًا، واحد منهما من الذهب الخالص المرصع بالأحجار نصف الكريمة، والثاني مؤلف من أسلاك من الذهب محلَّى بزهيرات مرصعة بحجر الكرنالين، وهذا التاج يكاد يكون أحسن قطعة فنية وصل فيها الصائغ المصري إلى محاكاة الطبيعة قدَّمها لنا الفن القديم. ومن المدهش أنه كشف في هذه المقبرة حلي رائع أجنبي الصنع على شكل نجوم ودوائر صغيرة مقسمة، ومع هذا عثر كذلك على أقراص من الزجاج المنمق تمثل عجلًا، ولا نعلم حتى الآن على وجه التأكيد من أي جهة أجنبية جاءت إلى مصر هذه الصناعة الدقيقة، هذا ويرجح بعض علماء الآثار أنها صناعة متأثرة بالفن «الكريتي» الذي كان قد بدأ يزدهر في هذا العصر. وسنرى في حكم خلف هذا الفرعون أنه عثر على كنز آخر من المجوهرات للأميرة «سات حتحور» عثر عليه السير «فلندرز بتري» عام ١٩١٤ في «اللاهون»، وتعتبر بعض قطعه أدق صنعًا من التي كُشف عنها في عصر «أمنمحات الثاني» الذي نحن بصدده.
(أ) القيمة الفنية لمجوهرات الملكة خنمت
وبدهي عندما نشاهد مثل هذه الدقة الفنية في وضع المجوهرات أن نعترف بأن المصري الذي عاش في عهد الدولة الوسطى؛ أي منذ ٤٠٠٠ سنة خلت تقريبًا؛ قد صعد في بعض نواحي حياته في مدارج الرقي والمدنية حتى وصل إلى ما وصل إليه رجل القرن العشرين من حيث الإنتاج الفني الذي ينم عن حسن الذوق، وفي الحق إذا كان منتهى الذوق السليم يعبر عنه بالجمال والمهارة، ويظهر في المقدرة على التأليف الرائع بين الشكل واللون محاكاة للطبيعة، وإذا كان هذا هو المعيار والمحك للثقافة العالية التي بلغتها الأمة، فإن كثيرًا من ثقافتنا الحاضرة يتضاءل عندما يقرَن بثقافة المجتمع الذي كان ينتج صناعة مثل مجوهرات «دهشور»، وهو ذاك المجتمع الذي كان يضم بين جنبيه مفتنين وصناعًا يخرجون للعالم مثل هذه التحف المنقطعة النظير. ولا نكون مغالين إذا قلنا إذن إن مجوهرات «دهشور» لشاهد عدل على وجود مجتمع لا يقل عن مجتمعنا الحالي إن لم يكن أرقى منه في الذوق الفني، يضاف إلى ذلك أن أحواله المعيشية كانت تجمع بين الثقافة والرخاء والرشاقة والتهذيب إلى درجة لم تصل إلى مثلها مصر إلا نادرًا في أي عصر آخر من عصور حضارتها.