المباني
تدل شواهد الأحوال على أن خَلَف «أمنمحات الأول» ورثوا عنه النشاط، ومضاء العزيمة في تسيير أحوال البلاد، على أن أخلاق كل من هؤلاء الفراعنة ليست من الأخلاق التي يمكن لمسها لا في ألقابهم الرسمية ولا من نقوش رعاياهم ولا من بعض تماثيلهم التي كانوا يقيمونها في معابد الآلهة؛ إذ الواقع أنهم كانوا يريدون أن يظهروا لنا دائمًا آلهة أحياء يتوقف عليهم فلاح بلادهم ورخاؤها، فكان لا يمكن الاقتراب منهم دون أن ترتعد من هيبتهم الفرائص حتى ولو كانت مقاصدهم حسنة، وأنهم يريدون إغداق الهبات ومنح الرتب.
والظاهر أن المواهب الحربية لهذه الأسرة قد تقمصت بوجه خاص في «سنوسرت الثالث»، وهو البطل الذي نسبت إليه الخرافات كل أعمال الفروسية والفتوح التي قام بها فراعنة آخرون. ولكن في مقابل ذلك نجد في عهد خلفه «أمنمحات الثالث» أن هذه الملكية القوية الجانب الحسنة النظام قد فاضت بضوئها المتلألئ الوهاج على البلاد بما قامت به من الأعمال الخالدة. ويمتاز كل ملوك هذه الأسرة بغيرتهم وتحمسهم لإقامة المباني، وبخاصة المعابد التي شيدوها للآلهة؛ ولذلك نجد أسماءهم في كل مكان في بقايا آثارهم التي وجدت تحت أساس مباني الدولة الحديثة، وهي مبانٍ قد أقيمت بصورة متواضعة، إذا قيست بمباني أخلافهم في الدولة الحديثة، فنجد أن «أمنمحات الأول» قد أقام خلافًا للمباني التي أضافها لمعبد الإله «بتاح» في «منف» معبدًا للإله «آمون» في «الكرنك» (بطيبة) ومعبدًا للإلهة «حتحور» في «دندرة»، وكذلك يظهر أنه أقام معبدًا للإله «سبك» في مدينة «الفيوم» كما أسفلنا ذكره. وشيد «سنوسرت الأوَّل» معبدًا في «هليوبوليس» للإله «آتوم» كما أسلفنا. ولا تزال المسلة التي أقامها فيه تذكارًا لعيد «سد» باقية في مكانها الأصلي، وكذلك أقام معبدًا «بالكرنك»، وسنتكلم عنه فيما يأتي.
معبد سنوسرت الأول بالكرنك
لقد ظل طراز المعابد المصرية في عهد الدولة الوسطى مجهولًا إلى أن قام المهندس «شفربيه» بالعمل في إصلاح أساس «البوابة» الثالثة التي أقامها الفرعون «أمنحتب الثالث» في معبد «الكرنك»، فقد لاحظ أثناء العمل أن معظم الحجارة التي بُنيت منها هذه «البوابة» كانت حجارة منقوشة، وأنها كانت تُنتزع من مبانٍ أخرى ترجع إلى عهد أقدم من عهد هذه «البوابة» الآنفة الذكر، وقد بدأ العمل في استخراج هذه الأحجار وترتيبها منذ سنة ١٩٢٤، واستمر العمل إلى سنة ١٩٣٦، فاستخرج منها زهاء ٩٥١ كتلة من الأحجار المختلفة، وقد اتضح في نهاية الأمر أنها مأخوذة من أحد عشر مبنًى أثريًّا قديمًا، ولحسن الحظ وجد المسيو «لاكو» من بينها حجارة تؤلف معبدين كاملين تقريبًا: أحدهما يرجع تاريخه للأسرة الثانية عشرة، والثاني يرجع إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة. والذي يعنينا من هذين المعبدين الآن هو معبد الأسرة الثانية عشرة، وهو الذي أعاد «شفرييه» بناءه، ومادته من الحجر الجيري الأبيض الذي كان يُستخرج من محاجر «طرة»، وهو نوع الحجر الذي كان شائع الاستعمال في عهد الدولة الوسطى، ويفسر لنا استعمال هذا النوع من الحجر وقتئذ السر في اختفاء آثار هذا العهد؛ وذلك لأن القوم كانوا يحصلون عليه بمثابة جير يحرق ليستعمل في مبانيهم. وقد ظل هذا النوع من التخريب المشين منتشرًا إلى أن أسست مصلحة للمحافظة على الآثار، وقد ظل طراز هذا المعبد مجهولًا لعلماء الآثار حتى أعيد إقامة هذا المبنى «بالكرنك» سنة ١٩٣٦، وهو يتألف من قاعدة مرتفعة مربعة الشكل تقريبًا يصل إليه الزائر بدرج ذي ميل خفيف من جهتين متقابلتين، ولكل منهما «درابزين» بسيط له قمة مستديرة ومنخفضة جدًّا، ويقع بين مجموعتي الدرج مطلع خفيف الانحدار، والظاهر أنه كان يستعمل ليُجرَّ عليه جرارة تحمل محراب الإله أو تمثاله (الإله آمون)، والمعبد المقام على هذه القاعدة المرتفعة يحتوي على ستة عشر عمودًا موزعة على أربعة صفوف؛ كل منها يحتوي على أربعة عمد، أقيم فوقها عقود وسقف مستوٍ، ويلاحظ أن العمد المقامة في واجهة المدخل وعند مخرجه، وهي التي تقابل السلالم؛ رباعية الشكل ليرتكز عليها عقود الواجهة المقامة طولًا، والعقود الموضوعة عرضًا.
أما الأعمدة الثمانية الباقية فتكاد تكون مربعة (٦٤ × ٦٢) سنتيمتر، ويشاهد أن الأعمدة الخارجية متصلة بقواعدها بوساطة «درابزين» غير مفرَّغ ومستدير، إلا التي في وجه درج السلم فليست كذلك؛ وذلك لارتفاع دعامتها، وعقود المعبد موزعة في أربعة صفوف موازية لمحور المعبد ومكملة لواجهتي المدخل والمخرج بصفين عموديين للعقود الأولى، ويرتكز على هذه العقود أو السقف. وقد قصد أن تكون هذه الأحجار بارزة بعض الشيء لتكون بمثابة طنف للمعبد (كرنيش)، أما زخرف الجدران فقد صُنع بكل دقة وعناية. فنشاهد أولًا على القاعدة المرتفعة منظرًا يحتوي على أرقام خاصة بحاجيات المعبد على ما يظهر، غير أنها لم تحَل بعد حلًّا مؤكدًا، ويشاهد ثانية على قاعدة العمد الخارجية وعلى الجزء المستوي من خارج «الدرابزين» منظرًا نُقش عليه أسماء مقاطعات الوجه القبلي، والوجه البحري، كما سبق الإشارة لذلك. وهذا المنظر فضلًا عن أهميته التاريخية والجغرافية قد سهل علينا معرفة الجهات الأصلية لاتجاه المعبد. ونعرف أن مقاطعات الوجه البحري كانت في الجهة الشمالية، ومقاطعات الوجه القبلي على الواجهة الجنوبية، في حين أن واجهتي المدخل والمخرج كانتا في الشرق والغرب على التوالي، وكان مرسومًا على كل واجهة عدد من صور إله النيل تحمل القرابين.
وثالثًا نجد على كل العمد في الجزء الأعلى الواقع فوق المساحة التي تشغلها هذه القائمة الجغرافية أو على سطح عارٍ من النقوش، أولًا سطرين أفقيين من الكتابة تحدثنا بأن هذا المعبد كان قد أقيم احتفالًا بالعيد الثلاثيني الأول (حب سد) للفرعون «سنوسرت الأول»، وأسفل ذلك صف آخر يحتوي على منظر قربان يقدمها الفرعون للإله «آمون رع»، ويلاحظ أن هذا الإله قد مثل في معظم مناظر المعبد في صورة الإله «مين». وكذلك يشاهد على أوجه العمد العريضة، وهي العمد المستطيلة الشكل، أن عدد الأشخاص الذين رسموا عليها لا يزيد عن ثلاثة، ونجد على بعضها الإله «منتو» إله طيبة القديم يقدم الفرعون للإله «آمون»، وهذا المنظر له أهمية عظيمة الشأن من الوجهة الدينية؛ إذ يؤكد لنا التاريخ الذي تخلى فيه الإله «منتو» إله «طيبة» المعبود الرسمي للبلاد في عهد الأسرة الحادية عشرة عن مكانته هذه للإله «آمون» بوصفه أولًا معبود مدينة «طيبة»، ثم الإله المقدس الرسمي لمصر كلها. هذا ويشاهد فوق الصفوف المنقوشة التي تحتوي هذه المناظر متن ديني كتب في أسطر عمودية توِّجت بصورة النسر أو الصقر حسب شكل الأعمدة؛ إذ كان بعضها مربعًا فكان يرسم عليه النسر والصقر معًا، وبعضها مستطيلًا فكان يرسم عليه الصقر وحده. وأخيرًا نجد على العقود منقوشًا صيغة إهداء المعبد جاء فيها أن هذا الأثر قد أقامه «سنوسرت الأول» ليكون فخارًا لوالده «آمون رع» من الحجر الجيري الأبيض المستخرج من محاجر طرة.
اتخاذ مقر الملك بجوار الجبانة
وقد انتشر هذا النوع من التقبيب الذي نشاهده في هذه المقابر؛ حتى إنه أصبح شائع الاستعمال من أطراف الدلتا حتى أعماق بلاد النوبة؛ إذ قد عثر في هذه الجهات على قبور مصنوعة من اللبن ذات قباب. وفي المقابر العظيمة نشاهد خارجة عظيمة المساحة يزينها عقد محكم الشكل مثل الذي كان يستعمل في عصور ما قبل التاريخ، غير أنه في عصرنا قد بلغ حد الكمال.