العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية في عهد الدولة الوسطى
لم ينشأ هذا النظام الحكومي الدقيق، ولم تظهر تلك الصفات والأخلاق الكريمة التي كان يتخذها حكام الدولة الوسطى نبراسًا يسيرون على ضوئه من تلقاء نفسها، بل ترجع إلى عوامل إصلاح اجتماعية كانت قد بدأت ترسم خطتها منذ أن قلبت الأوضاع الاجتماعية على أثر سقوط الدولة القديمة، وانهيار الملكية الضعيفة البغيضة، وقيام حكم أمراء الإقطاع واستئثارهم بالسلطة. وقد قام بحملة الإصلاح هذه كُتاب اجتماعيون قد فصَّلنا الكلام فيما قام به كل منهم، فبعضهم كان متشائمًا، وآخر كان متفائلًا بعض الشيء، وقد رأينا بعض أولئك المتفائلين في المستقبل. وإن الملك العادل الذي يتوقع مجيئه قد يكون عاجزًا عن أداء رسالته دون أن يساعده طائفة من الموظفين العدول.
ولا بد أن القارئ قد أدرك في قصة الفلاح الفصيح أن الغرض منها هو المساعدة على إنشاء طائفة من الموظفين المتصفين بالكفاية والأمانة؛ حتى يقوم على أكتافهم بناء طبقات العهد الجديد الذي تسود فيه العدالة الاجتماعية. والآن لا يسعنا إلا أن نتساءل عما إذا كانت تلك المقالات الاجتماعية التي وضعها أعلام الفكر في هذا العصر قد أصبحت هي الحقيقة المعبرة عن القوى الاجتماعية التي كانت تجيش في صدور الشعب في ذلك العهد؟ والواقع أن هذه المقالات الاجتماعية كان لها أثر عظيم في نفوس الشعب المصري في ذلك العهد، وفي العهود التي تلت لدرجة أنها كانت تُتخذ بمثابة نموذج أدبي يحتذى حذوه في عهد الدولة الحديثة؛ إذ قد عثر على بعض شظيات في عهد الدولة الحديثة كُتب عليها أجزاء من «قصة الفلاح الفصيح». غير أنه لدينا أسئلة أخرى، وهي هل الوثائق التي عثرنا عليها حتى الآن، وهي الخاصة بكشف النقاب عن حالة قدماء المصريين الاجتماعية والحكومية في العهد الإقطاعي، تدل على أن تلك الحملة الكتابية المقدسة التي قامت في سبيل إرجاع العدالة الاجتماعية قد أدت إلى النتيجة التي كان ينشدها الكُتاب؟ أو هل الآمال في ظهور المخلِّص وقيام المثل العليا للحياة الاجتماعية التي تكلم عنها المتنبئون الاجتماعيون أمثال «أبور» و«خع خبر رع سنب» في ذلك العصر صراحة قد بقيت مجرد أحلام؟ وهل استمرت تلك الصور الكئيبة المحزنة التي قرأناها في مقالات رجال الفكر المتشائمين أمثال «الرجل الذي سئم الحياة» و«خع خبر رع سنب» ونصائح «خيتي بن دواوف» التي قيلت على لسان «أمنمحات الأول»، تدل على الحقيقة الواقعة؟ وهل تلك النهضة التي قامت في العهد الإقطاعي مترسمة ما يمكن أن يكون الخلق الحقيقي للمجتمع البشري ورغبته في التخلص من تلك الأوهام المزعجة التي نتجت عن ذلك قد بقيت موجودة دون أن تصل لأية نتيجة إنسانية ذات ثمار؟
وكان أعضاء المجلس يجتمعون في قاعة استشارة الفرعون (له الحياة والفلاح والعافية)؛ وكان الملك يأمر بإحضار الوزير الذي نُصبَّ حديثًا ويقول له جلالته: «تبصر في وظيفة الوزير، وكن يقظًا للقيام بكل مهامها، انظر! إنها الركن الركين لكل البلاد، واعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق بل إنها مُرة … فالوزير هو النحاس الذي يسور حول ذهب بيت سيده، واعلم أن الوزارة لا تعني إظهار احترام الناس للأمراء والمستشارين، وليس الغرض منها أن ينتخب الوزير لنفسه عبيدًا من الشعب … واعلم أنه عندما يأتي إليك سائل متظلم من الوجه القبلي، أو من الوجه البحري، أو من أية بقعة من الدولة، فعليك أن تطمئنه إلى أن المعاملة التي عومل بها كانت وفق القانون، وأن كل شيء قد تم حسب العُرف، فتعطي كل ذي حق حقه. واعلم أن الأمير يحتل مكانة بارزة، وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله. واعلم أن كل ما يأتيه لا يبقى مجهولًا أبدًا …»
وبعد ذلك يضع الفرعون لوزيره التفاصيل التي يجب أن يسير على نهجها في القضايا التي تقدَّم إليه، ثم يستشهد له في ذلك بقضية حكم فيها ظلمًا أو خطأً وزير يسمى «خيتي»، وهو وزير قديم ذائع الصيت من عهد الدولة القديمة؛ إذ يقول: «انظر إن ما ألقيته عليك مدَّون في تعيين الوزير في «منف»، عندما كان ينطق به الملك ليحث الوزير على الاعتدال … احذر ما قيل عن الوزير «خيتي» فإنه حُكي عنه أنه جارٍ في حكمه على بعض عشيرته الأقربين ممالئًا أجنبيًّا خوفًا من أن يُتهم بمحاباة أقاربه خيانة منه، وأنه عندما استأنف أحدهم هذا الحكم الذي أصدره ضدَّهم أصر على حكمه المجحف، واعلم أن ذلك يعدُّ تخطيًا للعدالة، فلا تنسَ أن تحكم بالعدل؛ لأن التحيز يعد طغيانًا على الإله، وهذا هو التعليم (الذي أعلمك إياه)، فاعمل وفقًا له.
وعامل ما تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرَّب من الملك كالمُبعد عنه، واعلم أن الأمير الذي يعمل بذلك سيستمر هنا في هذا المكان (أي كرسي الوزارة …) ولا تغضبن على رجل أخطأ، بل اغضب على من يجب الغضب عليه، اجعل نفسك مهيب الجانب، ودع الناس يهابونك، والأمير لا يكون أميرًا إلا إذا هابه الناس … واعلم أن الخوف من الأمير يأتي من إقامته للعدل.
واعلم أن الرجل إذا جعل الناس يخافونه أكثر مما يجب دل ذلك على ناحية نقص فيه في نظر القوم؛ ولذلك لن يقال عنه إنه رجل بمعنى الكلمة، واعلم أن رهبة الأمير تبعث الخوف في نفس الكاذب، عندما يعامله الأمير حسب خوفه منه، واعلم أنك ستصل إلى ذلك إذا جعلت العدل رائدك في عملك، تأمل! دع الرجل الذي يؤدي وظيفته يعمل حسبما يؤمر به، واعلم أن نجاح الرجل هو أن يعمل حسبما يقال له، ولا تتوانَ قط في إقامة العدل والقانون الذي تعرفه.
واعلم أنه جدير بالملك أن لا يميل إلى المستكبر أكثر من المستضعف، انظر في القانون الملقى على عاتقك (تنفيذه). ويلحظ في هذه الوثيقة الحكومية أن أهم تشديد فيها منصَب على العدالة الاجتماعية، فلم يكن الغرض من الوزارة إظهار ما للأمراء والمستشارين من فضل على غيرهم أو استعبادهم أي فرد من أفراد الشعب، بل إن كل عدالة تجري بتطبيق القانون في كل قضية، ويجب على الوزير ألا ينسى أن وظيفته بارزة جدًّا؛ ولذلك كانت كل تصرفاته معروفة شائعة بين الناس حتى إن المياه والرياح كانت تذيع أخباره بين الأنام، على أن العدالة لا تعني أن يقع أي ظلم على من كانوا من أصحاب المكانة السامية كما حدث في القضية المشهورة التي حكم فيها «خيتي» ضد أقاربه، مع أن الحق كان في جانبهم، وهذا لا يتفق مع العدالة المنشودة، هذا وتعني العدالة من جهة أخرى الحياد المطلق والمساواة بين الناس دون تمييز فرد على فرد، فيكون سواء لديك من تعرفه ومن لا تعرفه، ومن قرب من الملك ومن لا علاقة له بأحد من بيت الملك.
وإدارة الأمور على هذا النحو تضمن للوزير الاستمرار الطويل في وظيفته، ومن الواجب المحتم على الوزير أن يُظهر منتهى الحزم عند الغضب؛ إذ من واجبه أن يكبح غرب جماح غضبه ليكسب بذلك احترام الشعب له، ورهبتهم منه، ويجب أن يكون عماد هذه الرهبة الوحيد إقامة العدل من غير تمييز؛ لأن الرهبة الحقيقية من الأمير هي إقامة العدل؛ ومن ثم لا يكون في حاجة إلى بعض خوفه في نفوس الناس بالشدة والغطرسة؛ إذ إن ذلك يولد تأثيرًا كاذبًا عنه بينهم، فإقامة العدل كافية وحدها لأن تكون لهم رادعًا، والناس يتطلعون إلى العدالة في ديوان الوزير؛ لأن العدالة كانت قانونه المعتاد منذ أن قام بالحكم إله الشمس فوق الأرض. ولقد كان قدماء المصريين في العهد الإقطاعي ينظرون إلى ذلك بثاقب النظر إلى الوراء خلال ألف السنة التي مكثها اتحاد مصر الثاني إلى عهد الاتحاد الأول الذي كان قائمًا في «عين شمس»، ومنذ ذلك العهد كان الوزير هو الشخص الذي يُذكر في أمثالهم بأنه سيقيم العدل بين الناس كلهم، فنجاح الرجل كان يتوقف على مقدرته في تنفيذ تلك التعليمات واتباعها «وعلى ذلك لا تتوانَ في تصريف الأمور بالعدل»، ولا تنسَ أن الملك يحب الضعيف ومن لا ناصر له أكثر من المستكبر.
أما فيما يختص بالأراضي التي يحتمل أنها تكون ثروة الملك، وكذلك فيما يختص بالموظفين المكلفين برعايتها فإن الملك قد ختم ذلك القانون الذي يسمى بحق دستور إعلان الحقوق للفقراء بالكلمات التالية: «راع القانون الذي أُلقي على عاتقك.»
ويجوز أن رؤية الملك المثالي الذي ذكره «أبور» أمام البلاط، أو الرؤية المظلمة لصورة الفساد التي صوَّرها «الرجل التعس»، أو رؤية ذلك المنظر الرائع الذي دل على الاضطهاد الرسمي، وهو الذي كشفته قصة الفلاح الفصيح، هي التي أحاطت العرش الملكي بنور فياض من العدالة الاجتماعية، حتى إن تنصيب رئيس الوزراء رئيسًا لقضاة البلاد جميعًا، قد جعل الملك يلقي خطبة العرش هذه فتكون بمثابة تصريح رسمي من رئيس البلاد الأعلى إلى موظف منفذ للعدل، ويشمل كل المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية.
ويمكننا إذن أن نقول بحق، بناء على ما ذكرنا، إن تلك الوثيقة الرسمية المملوءة بروح العدالة الاجتماعية إلى حد بعيد كانت النتيجة المباشرة لتلك المقالات الاجتماعية التي دوَّناها في هذا الكتاب وفي الجزء الثاني من هذه المجموعة.
وتوجد أدلة كثيرة على صحة هذا الاستنتاج؛ إذ إن نفس الاحترام الذي أظهره الفرعون في هذه التعليمات بتفضيله الضعيف على المستكبر أو العنيف القلب؛ يوجد مثله في تحذيرات «أبور»، وعلى وجه عام فإن قانون تنصيب الوزير يتفق تمام الاتفاق مع تعاليم تلك المقالات المصرية الاجتماعية السالفة الذكر.
وسواء أكان المقصود من سياسة الملك الاجتماعية المذكورة في مقاله ذلك هو إجابته الخاصة عن تلك المقالات أم أوحى به إليه؛ فليس لذلك أهمية ذات شأن، إذ كان من الظاهر جدًّا أن موضوع «الوعي» في ذلك العصر الإقطاعي قد صار يعد شيئًا أكثر من مجرد تأثير خاص بسلوك الفرد. فقد صار الضمير في الواقع قوة اجتماعية ذات تأثير عظيم على الحياة الاجتماعية لأول مرة في التاريخ البشري.
ومن الواضح أن الفرعون قد صار منقادًا لنفوذ رجال الفكر الأدبي في ذلك، وبهذا صارت سياسة العدالة الاجتماعية تكوِّن جزءًا من هيكل النظام الحكومي، وقد انتهى عهد تلك الأيام الخالية التي كان يعتبر فيها سلوك الإنسان الخلقي مرضيًا برضاء الأب، والأخوة، والأخوات فقط، وجاء العهد الذي يصح أن نسميه عصر الوعي الاجتماعي، وهو الذي بحلوله بزغ عصر الأخلاق والمسئولية الخلقية العامة. وقد رأى أنصار ظهور البطل المخلِّص الاجتماعي أن حلمهم قد تحقق بظهور الملك العادل؛ عندما اعتلى «أمنمحات الأول» عرش الملك، ولكننا من جهة أخرى نتساءل عما صار إليه المصلحون الذين كانوا أقل سموًّا في مطامحهم، وأعني بهم الذين كان أساس آمالهم إنشاء جيل جديد من الموظفين العدول، كما جاء في قصة الفلاح الفصيح.
وحقيقة الأمر أنه لا يمكننا أن نفصل المنهاجين أحدهما عن الآخر؛ لأن حكم الملك العادل لا يكون له تأثير بمفرده قط، إذا لم يعتمد على طائفة من الموظفين العدول ليقوموا بتنفيذ السياسة الملكية العادلة، وقد كان الملك «أمنمحات» يؤمن بتلك الحقيقة ويرقبها، ولكن لما كان هذا الفرعون غير واثق بالناس، فإن آماله فيهم كانت ضعيفة؛ مما جعله يرى أن استقامته بمفرده لا تأتي بالنفع المنشود. على أن مؤلف قصة الفلاح الفصيح، الذي نجهل اسمه للآن، كان يتطلع إلى ظهور نتائج ما كتبه، وأن لدينا بعض الأدلة التي تثبت أنه لم يخفق فيما كانت تصبو إليه نفسه، بل تحققت أمانيه. وقد أبقت لدينا يد الدهر عددًا قليلًا من الوثائق التي كشفت لنا عن كيفية سير نظام الحكومة المصرية في ذلك العهد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن النقوش الجنازية التي دوِّنت على مقابر حكام المقاطعات والموظفين في ذلك العهد الإقطاعي قد كشفت لنا عن العقائد الاجتماعية لذلك العصر، ولا أدل على ذلك من النقوش التي وجدت على جدران مقبرة «أميني»، فهي في الواقع تعد أثرًا جليل القدر في التاريخ الاجتماعي لذلك العهد؛ إذ يسهل لنا على الأقل أن ندرك بعض التأثير على جيل الموظفين الجديد، وكذلك النقش الذي تركه لنا مدير مكتب الوزير في عهد «سنوسرت الأول»، فقد ذكرناه فيما سلف. ويخيل لنا عندما نقرأ هذين النصين أننا نسمع في هذين السجلين صدى الأوامر التي صدرت للوزير عند تنصيبه، وبخاصة في العبارة التي يقول فيها «أميني» «التي لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في شيء أعطيته إياه.» وإنه لمن السهل علينا أن نعتقد أن أميرًا كذلك الأمير كان حاضر بالبلاط الملكي وسمع الفرعون وهو يلقي تلك الأوامر على رئيس وزرائه عند تنصيبه، وإذا كانت إدارة «أميني» لمقاطعته قد وصلت إلى أي حد مما يدعيه فيما كتبه، فإنه يجب علينا أن نستخلص هنا من ذلك أن تلك الأوامر الاجتماعية التي فاه بها الحكماء الاجتماعيون أمام البلاط الملكي كانت معروفة بدرجة عظيمة ومنتشرة في طول البلاد وعرضها. وإذا وصل بنا الاستنتاج إلى المثل الأعلى للرقي الخلقي الذي ذكرناه هنا، فإنه لا يغرب عن الذهن أنه أراد أن يحدث مثل هذا التأثير كما نقرؤه في تاريخ حياته، وهذه الحالة تنطبق كذلك على سجلات حكام المقاطعات الأخرى في نفس ذلك العصر، وهذه السجلات نقشت على صخور محاجر المرمر في «حتنوب»، وتحتوي على عدة تأكيدات من صنف الوثيقتين السابقتين؛ إذ تقص علينا أن الأمير كان رجلًا خلص الأرملة وواسى المتألم، ودفن المسنَّ، وأطعم الطفل، وحمل عبء مدينته كلها في زمن الجدب، وهو الذي أطعمها في وقت القحط؛ وهو الذي زوَّدها بسخاء حتى إن عظماءها صاروا مثل أصاغرها.
وكذلك افتخر في عهد «سنوسرت الأول» شريفان في ترجمة حياتهما بأنهما كانا قاضيين يقومان بتأدية وظيفتيهما بالعدالة وبدون محاباة، وأنهما كانا لا يفكران في مكافأة (رشوة) يأخذانها، وقد قصَّا علينا افتخارهما كذلك بنفس لغة النصائح الموجهة إلى «مريكا رع»، فهما بذلك يظهران أن المثل العليا الاجتماعية التي فاه بها ذلك الملك الحكيم في العهد الإهناسي كانت لا تزال ذات نفوذ بعد قرون مضت على التفوه بها في ذلك العصر الإقطاعي. فمن البدهي إذن أن المثل العليا للعدالة الاجتماعية التي كانت تحتل مكانة بارزة جدًّا في أدب ذلك العصر لم يقتصر تأثيرها على الملك وحده، بل كان كذلك لها أثرها العميق بين طبقة الحكام في كل مكان.
وحينئذ يمكننا أن ندرك منها حدوث انقلاب عظيم، فالتشاؤم الذي كان ينظر بمنظاره رجال العصر الإقطاعي الأول للحياة الآخرة، ويتأملون به مصير الجبانات المخرَّبة التي يرجع تاريخها إلى عصر الأهرام، أو اليأس الذي كان يغمر بعضهم في الحياة الدنيا، كل ذلك قد قوبل بتيار مضاد بكتابات تنشد الحق والعدالة الاجتماعية، وهذه الكتابات قد أُخرجت للناس في صورة نصائح وقصص ملؤها الأمل على لسان أولئك المفكرين الاجتماعيين، وهم رجال رأوا الأمل في القيام بالمجهودات الإيجابية التي توصل إلى الغرض المنشود.
وعلى ذلك يجب علينا أن نعتبر تحذيرات «أبور» وتنبؤات «نفرروهو» وقصة الفلاح الفصيح من الأمثلة التي تستدعي الاهتمام بالقيام بمثل تلك المجهودات، كما يجب أن نتعرف في كتاباتهم أنها تعبر عن الأسلحة التي استعملها أقدم طائفة قامت بحروب مقدسة في سبيل توطيد الأخلاق والمجتمع البشري.
والواقع أن منتهى ما كان يرغب في الوصول إليه رجل مثل «أبور» هو خطاب العرش الذي كان ألقاه الملك عند تنصيب رئيس الوزارة.
والحقيقة أن الملك الذي كان في إمكانه أن يلقي خطابًا مثل هذا ليقرب في سموه من ذلك الملك الأمثل الذي كان يحلم «أبور» بظهوره، ومثل الملك الذي اعتقد «نفرروهو» أنه قد عثر عليه، على أن لدينا ما يحملنا من جهة أخرى على الاعتقاد بأن «أميني» أمير مقاطعة الغزال لا يبعد أن يمثل بحق جيل الموظفين الجدد العدول، وهم الذين كان يؤمل مؤلف قصة «الفلاح الفصيح» أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة في مصر.
ويلاحظ أن استحسان الأسرة لسلوك الفرد لم يعد كافيًا في ذاته، فقد نما عصر تفكير في المثل العليا للسلوك الشخصي، تشمل طبقات بأسرها من المجتمع، وهو السلوك الذي يكون عرضة لحكم المجتمع عليه. وهذا الحلم الاجتماعي قد وضع الآن في فم إله الشمس، فقد قال ذلك الفلاح الفصيح لمدير البيت العظيم: «أقم العدل لرب العدل.» وكذلك كان يشير في كلامه إلى هذه الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه «تكلم الصدق وافعل الصدق»، وفيها يذكر أن «الصدق» معناه كذلك الحق والعدالة «ماعت»، وقد رأينا في أوامر الملك للوزير أن ذلك المنهاج الخاص بالشفقة الاجتماعية والعدالة، وهو الذي يفضل فيه الملك الرجل الضعيف، ومن لا ناصر له على الرجل القوي المستكبر قد يرمي بوضوح إلى غرض ديني ينسب إلى الإله، فيقول الملك في ذلك: «إنها لعنة من الله أن يُظهر الإنسان تمييزًا أو محاباة.» ولذلك ترى أن إدراك العدالة الاجتماعية عندما وجدت منفذًا عمليًّا لظهورها أولًا في الملكية المثلى، ثم بعد ذلك في أخلاق الفرد المكلف بإقامتها انعكست صورتها على أخلاق إله الشمس ونشاطه، وهو الملك الأمثل؛ وبذلك صار وجوب المحافظة على العدالة الاجتماعية التي أخذ الناس يشعرون بها في قرارة أنفسهم أمرًا إلهيًّا، واعتقدوا في الحال أن مقت أنفسهم للظلم هو مقت الإله للظلم؛ وبذلك صارت مثلهم العليا في الأخلاق هي كذلك مثل الإله، فاكتسب بهذا المظهر الجديد قوة مسيطرة جديدة. وحينئذ كان من السهل علينا أن نعتقد زيادة على ما ذكرنا أن العدالة هي القانون التقليدي لوظيفة الوزير منذ الزمن الذي كان يحكم فيه إله الشمس مصر، وكذلك كان حكم الفرعون الذي صار وراثيًّا مدة ألفي سنة منذ تأسيس اتحاد مصر الأول، وكان المفروض فيه أنه استمرار لسريان دم «رع» وسلالته، فكان كذلك مستمرًا في إقامة نظام العدل القديم الذي أقامه إله الشمس على الأرض، وقد ألقى الملك أمره بكل وضوح على الوزير، غير أنه لم يتردد في الوقت نفسه في الالتجاء إلى المحكمة العليا، فكان على الوزير أن يقيم العدل؛ لأن الإله الأعظم الذي يشرف على الحكومة يمقت الظلم، وليس ذلك اتباعًا لأمر الملك وحسب.
ويرجع تأثير مثل تلك المثل العالية للعدالة الاجتماعية التي وجدت سبيلها إلى الحكومة بدرجة عظيمة إلى الحالة التي انتشرت بين كل طبقات الشعب، والواقع أن مثل هذه العقائد، لو كانت أُعلنت بين أفراد الشعب المصري في شكل مبادئ معنوية، لما لفتت إليها الأفكار، ولما أحدثت إلا أثرًا ضئيلًا، بل قد لا يكون لها أثر بالمرة. يضاف إلى ذلك أن المصري كان يفكر دائمًا في الصور المحسة، فهو مثلًا لا يفكر في معنى الحب، بل في المحب، ولا يفكر في الفقر، بل في الرجل الفقير، وهلم جرًّا؛ ولذلك لم يبصر الفساد الاجتماعي، بل شاهد المجتمع الفاسد؛ ولهذا كان الوزير «بتاح حتب» رجلًا قائمًا بأعباء الوظيفة بإيمان سليم في قيمة السلوك الحق والإدارة الحقة ليخلق بذلك السعادة، وسلم إرث تلك التجربة إلى ابنه (راجع الجزء الثاني)؛ ولذلك فإن «الرجل التعس» كان قد حلَّ به الظلم الاجتماعي، فعبر عنه في صورة الروح البائس الذي يعبر عن يأسه وأسبابه (انظر الجزء الثاني). ولذلك كان «أبور» أيضًا رجلًا تسكن في نفسه الرؤية التي أدركت كلًّا من الفساد الفتاك بالمجتمع، والحلم الذهبي بظهور الملك الأمثل الذي يصلح كل شيء، وكذلك كان الفلاح الفصيح أيضًا رجلًا يتألم من اضطهاد الموظفين له، ويصرخ بأعلى صوته مستغيثًا من ذلك الظلم؛ ولذلك كانت الأوامر التي جاءت على لسان الملك «أمنمحات الأول» أيضًا تظهر في أنه يتألم من الخيانة المخزية التي حدثت له وجعلته يحذِّر ابنه أن يضع كل ثقة بالناس، وذلك بإلقاء تجاريبه تلك بين يدي ابنه «سنوسرت الأول».
ولذلك كان من اللازم أن تكون هذه العقائد أو التعاليم التي تعزى إلى أولئك المفكرين الاجتماعيين في شكل تمثيلي، أو كان يعبر عنها في صورة محاورات نشأت عن تجارب وحوادث مثِّلت كأنها حقائق واقعية.
ولا نزاع في أن تلك الأبحاث الأخلاقية والفلسفية التي تلقى في صورة محاورات بعد التمهيد لها بمقدمة تجعل كل البحث في هيئة قصة، كان لها أثرها في ظهور الشكل الحواري في «آسيا وأوروبا».
وقد لاحظنا من قبل أن المثل العليا الاجتماعية قد نالت في العهد الإقطاعي سلطة مقدسة، كما أنها عزيت إلى أصل إلهي.
وإنه لمن المهم أن نفحص هنا الدليل على قيام الحقيقة، ونثبت بصفة قاطعة شخصية هذا الإله الذي كان يلتجئ إلى سلطانه رجال المثل العليا الاجتماعيون، وهذا المثل الأعلى في الاجتماع، وهو أقدم شيء من نوعه، كان بلا جدال مرتبطًا بحكم إله الشمس على الأرض، وهو الذي نعرف أنه كان في بادئ الأمر إلهًا للشئون البشرية أيضًا في عالم الأحياء، في حين أن «أوزير» كان إلهًا للموتى، ولا نزاع في أن «رع» إله الشمس كان هو الملك الأمثل، وهو الذي كان يجدد بها حكمه الخلقي في الفرعون الذي كان خليفته على الأرض؛ ولذا كان يسمى دائمًا ابن الشمس.
ولقد التجأ الملك في أوامره إلى رئيس وزرائه بأن يجعل ما يضعه من قواعد الحكم منطبقًا على حكم إله الشمس، وجريًا على تقاليده المتبعة وهو الإله «رع» الذي كان صاحب السيادة على أفكار أولئك الفلاسفة الاجتماعيين في العهد الإقطاعي؛ لأننا نجد مثلًا في أغنية الأعمى الضارب على العود (انظر جزء ٢) أنه حتى مومية المُتوفَّى قد وضعت أمام إله الشمس، وكذلك كان يتطلع إليه «الرجل التعس» ليبرئه في الآخرة، وقد كان «خع خبر رع سنب» كاهنًا لإله الشمس بمدينة «هليوبوليس»، وكانت رؤية «أبور» للملك الأمثل الذي سيأتي في المستقبل ليخلص البلاد قد برزت إليه من ذكريات النعيم المقيم لحكم «رع» عندما كان يقطن على الأرض بين الناس، في حين أن ملخص كل شكاوى الفلاح الفصيح كانت تنحصر في هذه الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه وهي: «تكلم الصدق، وافعل الصدق (الحق)؛ لأنه عظيم وإنه قوي ودائم.»
فالواجبات الخلقية التي تظهر في اللاهوت الشمسي ليست إذن إلا صورة لأقدم نظام اجتماعي جديد، وجد لم يُعرف له نظير في تاريخ العالم.
وقد كان من أهم نتائج الملكية المثلى لحكم إله الشمس، الأمل في تكرار هذا الحكم الذي كان مفعمًا بالخير، وقد كان هذا الأمل هو الذي جلب معه انتظار مملكة تخلص مصر من ويلاتها، ستأتي فيما بعد.
ومن الواضح هنا أن علاقة «أوزير» بالمثل العالية للحق والعدالة في ذلك الوقت كان أمرًا ثانويًّا؛ لأن «أوزير» كان قد حوكم ثم اتضحت براءته في قاعة «هليوبوليس» العظمى؛ أي إنه حوكم أمام محكمة الشمس التي كان معترفًا بها أنها المحكمة التي لا بد أن يفوز الإنسان أمامها ببراءته، وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه أسطورة «أوزير» لا تزال في دور التكوين والتأليف.
لقد خلقت الرياح الأربعة ليتنفس منها الإنسان مثل أخيه الإنسان مدة حياته، ولقد خلقت المياه العظيمة ليستعملها الفقير مثل السيد، ولقد خلقت كل رجل مثل أخيه، وحرمت عليهما إتيان السوء، ولكن قلوبهم هي التي نكثت بما قلته، ولقد جعلت قلوبهم لا تغفل عن الغرب (الموت) ليقربوا قربانًا للآلهة المحلية.
لقد خلقت كل إنسان مثل أخيه.
ولقد حرَّمت عليهم السوء ولكن قلوبهم هي التي نكثت بما قلته.
ومن ثم نجد أن الحقوق الخاصة التي كان يدعيها العظماء والأقوياء لأنفسهم من الإجلال والسعادة في عالم الآخرة، أخذت تختفي وتزول في هذا الوقت.
ومن هنا أيضًا بدأت المساواة تنتقل إلى التمتع بنعيم الآخرة لجميع البشر على السواء، ومعنى هذا أن عالم الحياة الآخرة قد صار كذلك ديمقراطيًّا لكل البشر، وذلك تبعًا للآراء الخاصة بالعدالة الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي.