الحياة الدينية في عهد الدولة الوسطى
لقد كان من نتائج تدهور السلطة في البلاد بعد سقوط الدولة القديمة أن أصبحت الحالة الاجتماعية في تأخر ملموس في كل نواحيها، فقد كان المعمار وزخرفة المقابر يظهر فيها الانحطاط من جيل إلى جيل، وقد كان القوم يحاولون أن يقلدوا المناظر القديمة، غير أن قلة المال والاستعداد العقلي قد قاما حائلًا دون بلوغ ذلك؛ ولذلك نشاهد مما بقي لنا أن عتاد المقابر أخذ يتضاءل أكثر فأكثر حتى أصبح شيئًا حقيرًا تافهًا؛ لأن أهل هذا العصر لم يكن لديهم الموارد التي كانت في يد رجال الدولة القديمة. وكذلك نشاهد في هذا العصر أن رجال الفن قد اختفوا، ولم يبقَ إلا أصحاب الحرف والصناعات، ومع ذلك فإن عصر الانحطاط هذا كان له أهمية عظمى في تاريخ مصر؛ لأنه كان من نتائج محو سلطة الأشراف أن قام في البلاد طائفة الطبقة الوسطى لتناهضها، فاكتسبت من الحقوق ما كان له شأن عظيم في توطيد العدالة الاجتماعية، وإذا كنا نلاحظ أن مقابر هذه الطبقة كانت أبسط بكثير من مقابر هؤلاء الأشراف، فإننا من جهة أخرى نلاحظ أن المبادئ الأصلية في عبادة الأموات ومعتقداتهم، وهي التي كانت وقفًا على علية القوم، قد أصبحت ملكًا مشاعًا لكل الشعب المصري؛ ويرجع السبب في ذلك أيضًا إلى ما قام به رجال الفكر في هذا العصر من حملة شنعاء على النظم القديمة العتيقة، والمطالبة بحقوق الإنسان في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة، ناشدين الوصول إلى مساواة الناس جميعًا في الدنيا والآخرة. وقد تكلمنا في الفصل السابق عن العدالة الاجتماعية في هذه الدنيا، وسنتناول الآن الكلام عن العدالة في حقوق الإنسان في الآخرة، ومعتقدات القوم عامة في هذه الفترة.
لقد كان من نتائج التخريب والتدمير والفوضى التي حدثت في البلاد في العهد الإقطاعي الأول أن تحوَّلت النفوس إلى سوء الظن والتشكك في فائدة الاستعداد للحياة الآخرة الذي كان مظهره بناء قبر ضخم مجهز بالأثاث الجنازي، وبخاصة أن كُتاب هذا العصر أخذوا ينادون بعدم فائدة العتاد المادي للمتوفى، غير أن المعتنقين لهذا المذهب كانوا فئة ضئيلة جدًّا، وذلك بالرغم من مبالغة الكُتاب في هذا الاتجاه، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، والواقع أن مثل تلك الاتجاهات كانت من جهة من مستلزمات عقيدة التشاؤم واليأس المطلقين، كما كانت من جهة أخرى من مستلزمات الاعتقاد بضرورة التحلي بالقيم الخلقية للحياة الآخرة بدلًا من الالتجاء إلى الوسائل المادية التي كانت تنحصر في بناء المقابر الضخمة وتزويدها بالأوقاف والكهنة. وهذا الاعتقاد الخلقي أخذ ينمو ويزداد نفوذه، غير أن هذه الآراء التي كانت تعتبر ثورية ورجعية على العادات القديمة لم ينحدر في تيارها الجم الغفير من الشعب المصري القديم؛ ولذلك لما صارت سعادة الآخرة حقًّا مشاعًا لجميع المتوفين، كما سنرى، فإن عامة الشعب الذين كانوا متمسكين بامتيازاتهم هذه الجديدة التي تجعل لهم حق التمتع بذلك المصير السماوي الفخم، والذي كان منذ زمن بعيد حقًّا موقوفًا على الفرعون فقط، قد اتخذوا تلك الشعائر الجنازية، واستمروا قائمين بالمحافظة على مزاولتها، وقد استمرت العناية بإقامة تلك الشعائر تزداد وتنتشر دون أي التفات إلى ذلك الصمت البيِّن والخراب البادي الذين كانا يخيمان فوق هضبة الأهرام، وفوق جبانات الأجداد القدامى؛ ولذلك نجد أنه بالرغم من أن والد «مريكا رع» كان يشعر وهو يلقي تعاليمه لابنه شعورًا عظيمًا بتلك الأهمية الخطيرة التي تنتج من التحلي بالأخلاق القيمة، فإنه مع ذلك لم يرَ بدًّا من الإفصاح لابنه بضرورة العناية بإقامة القبور؛ إذ يقول له: «زين مثواك (أي قبرك) الذي في الغرب، وجمِّل مقعدك في الجبانة»، ثم اضطَّر أن يضيف إلى ذلك قوله: «كإنسان أقام العدالة؛ لأن ذلك هو ما يرتكن عليه القلب.»
وحقيقة الأمر أنه لم يعُد في قبضة يد الفرعون ذلك السلطان المطلق على رجال الحكومة حتى يمكنه أن يتخذ منها مجرد العامل السامي المنظم لإقامة المقبرة الملكية الهائلة، ومع ذلك فإن الموظفين القائمين بإقامة مثل تلك المقابر لم يتردَّدوا طرفة عين في موازنة تلك المقابر بجبانة الجيزة، وقد كان ذلك من باب المبالغة، فقد أظهر مثلًا «مري» أحد مهندسي الملك «سنوسرت الأول» ارتياحه العظيم عندما كُلف من قِبل الملك بإقامة مثوى له أبدي تفوق شهرته «روستاو» (أي جبانة الجيزة)، وهي المنطقة الممتازة الخاصة بالآلهة، فكانت عُمد ذلك المثوى تخترق السماء، والبحيرة التي حُفرت هناك قد وصلت إلى النهر، وأبوابه العظيمة المناطحة للسماء في طولها قد أقيمت من أحجار «طرة» البيضاء.
وقد فرح الإله «أوزير» رئيس أهل الغرب بكل آثار سيدي (الملك)، ولقد سُسررت أنا نفسي وكان قلبي مبتهجًا بما قد قمت بإنجازه. و«المثوى الأبدي» هذا هو قبر الملك، ويشتمل كذلك على المزار أو المعبد الجنازي الذي كان قد أقيم قبالته كما يدل على ذلك الوصف المذكور. ومع أن مقابر الإقطاعات لم تَعد تبنى حول هرم الملك، كما كان يفعل الأشراف ورجال البلاط في عهد بناة الأهرام؛ إذ صارت الآن قبور الأشراف مبنية في الإقطاعات في طول البلاد وعرضها، فإنهم مع ذلك قد استمروا يتمتعون إلى حد ما بالهبات الجنازية التي تُصرف من الخزانة الملكية، وكانت الصيغة الدينية الجنازية المألوفة في ذلك الوقت هي «قربان يهديه الملك»، وهي نفس الصيغة التي كانت شائعة الاستعمال في المقابر التي حول الأهرام، وقد صارت تُنقش بكثرة في ذلك الوقت على جدران مقابر الأمراء والأشراف. وعلى أية حال فإن هذه الصيغة لم تصبح بعد مقصورة على مقابر عِلية القوم؛ إذ باتساع انتشار المذهب الديني الذي كان خاصًّا بالأشراف بين عامة الشعب صار من العادات المعروفة المتفق عليها عند القوم أن يتضرع كل إنسان إلى الملك حتى يعطيه نصيبًا من تلك الهبات الجنازية الملكية؛ ولذلك نجد كل طبقات المجتمع حتى أحقر العمال من المدفونين في «العرابة المدفونة» وغيرها كانوا يتضرعون لنيل «قربان يهبه إليهم الملك»، بالرغم من أنه كان يستحيل أن يتمتع عامة الشعب بامتياز كهذا.
على أننا لم نحصل على فكرة ما عن تلك العادات البهيجة الخاصة بتموين المُتوفَّى في الحياة الآخرة إلا في العهد الإقطاعي، وهي تلك العادات التي صارت الآن متأصلة في حياة الشعب المصري القديم.
وقد حفظت لنا المقابر التي لا تزال باقية إلى الآن في مقابر مقاطعات الوجه القبلي بعض بقايا تلك الشعائر اليومية العادية، وكذلك ما كان خاصًّا منها بالاحتفالات والأعياد التي كان الشعب يظن أنه بها يُدخل السرور على الذين رحلوا عن دار الدنيا إلى دار الآخرة، حتى تصير حياتهم أكثر مرحًا وأعظم حبورًا، وهذه الاحتياطات نفسها كانت متبعة في عصر الأهرام عند الأشراف أيضًا؛ إذ نجد أن الشريف «زفاي حعبي» الأسيوطي المنبت، وأمير مقاطعة «سيوط» الذي كان يعيش في عهد «سنوسرت الأول» قد أقام لنفسه تمثالًا في كل من المعبدين الرئيسيين في المدينة؛ أي إنه أقام تمثالًا في معبد الإله «وبوات»، وهو الإله المحلي القديم لذلك المكان، وكان يمثل في صورة ذئب، ومن ذلك الاسم باليونانية اشتقت المدينة اسمها «ليكوبوليس» (بلد الذئب)، أما التمثال الآخر فقد أقامه في معبد «أنوبيس» وهو إله معروف في صورة كلب أو صورة ابن آوى، وقد كان ذلك الإله يومًا ما أحد الآلهة المناهضين للإله «أوزير». وقد ترك الأوقاف الخاصة لإقامة الشعائر والاحتفالات للآلهة، ولتقديم الطعام اليومي لروحه «كا» في مقبرته، وقد نُقش على جدران مقبرته شروطًا عشرة لإقامة هذه الاحتفالات وتقديم الطعام، وهي توضح لنا الحياة الدينية في هذا العهد. وقبل أن نتكلم عن هذه الاحتفالات سنضع أمام القارئ ترجمة حرفية لهذه الشروط العشرة وهي:
(١) شروط الوقف العشرة٢ المنقوشة على جدران معبد الأمير «زفاي حعبي»
الشرط الأول
- (١)
أن يقدم رغيف من الخبز الأبيض من كل كاهن مطهر لتمثاله الذي في معبد «أنوبيس» سيد «رقررت» في أول يوم من أيام النسيء، وذلك عندما يسير الإله «وبوات» سيد «سيوط» إلى معبده.
- (٢)
ما يقدَّم لهم في مقابل ذلك نصيبه في الثور الذي يقرِّب إلى «وبوات» سيد «سيوط» في معبده عندما يذهب إلى هناك، وهو نصيبه من اللحم المقرَّب، وهو ما يستحقه أمير المقاطعة.
- (٣)
وقد تكلم لهم قائلًا: «انظروا لقد أعطيتكم هذا القربان من اللحم الذي أستحقه من المعبد، وذلك في مقابل أن تقدموا إليَّ هذا الخبز الأبيض»، وعلى ذلك قدِّموا له نصيبًا من الثور لتمثاله المعهود به إلى كاهن لروحه «كا»؛ ومن أجل ذلك أعطاهم قربان اللحم هذا.
- (٤)
وقد سُروا بذلك.
الشرط الثاني
- (١)
أن يقدِّم رغيف من الخبز الأبيض من كل منهم لتمثاله الذي في حراسة كاهن روحه، في اليوم الأول من الشهر الأول من الفصل الأول وهو يوم السنة الجديدة، وذلك عندما يعطي البيت سيده، بعد إنارة المصباح (الشعلة) في المعبد، وأن يخرجوا خلف كاهن روحه عند الاحتفال بتنعيمه (أي جعله روحًا منعمًا) إلى أن يصلوا إلى الركن الشمالي من المعبد، كما يفعلون عندما ينعمون موتاهم أنفسهم المحترمين في اليوم الذي يضاء فيه المصباح (الشعلة؟)
- (٢)
وما يقدِّمه لهم في مقابل ذلك هو مكيال «حقات» (جالون) من شعير الشمال من كل حقل من حقول الوقف، من باكورة محصول ضيعة حاكم المقاطعة، طبقًا لما يقدِّمه كل رجل سيوطي معتاد من باكورة حصاده؛ وذلك لأنه أول إنسان يجعل كل فلاح من فلاحيه يقدِّمها (الباكورة) لهذا المعبد من باكورة حقله.
- (٣)
وقال: «انظروا! إنكم تعلمون أن التخلي عن أي رجل عظيم، أو رجل يقدِّم شيئًا للمعبد من باكورة حصاده، ليس بالحسن له، وليس هناك أمير مقاطعة ينقص في زمانه من شرط أمير آخر عمل مع الكهنة المطهرين في زمانهم، يضاف إلى ذلك أن هذا الشعير يجب أن يكون ملكًا لكهنة الساعة للمعبد كل على حدته؛ أي لكل كاهن مطهر سيقدم لي هذا الرغيف من الخبز الأبيض، ويجب أن لا يقسموه (أي الشعير) بين أولئك التابعين لشهر بعينه؛ وذلك لأنه يجب عليهم أن يعطوا هذا الخبز الأبيض كلًّا على انفراد.»
- (٤)
وقد سُروا بذلك.
الشرط الثالث
- (١)
قائمة (بما يقدمونه له):
قائمة بأسماء هيئة الموظفين آنية قبي من الجعة رغفان خبز قن رغفان خبز أبيض الكاهن الأعظم ٤ ٤٠٠ ١٠ الحاجب ٢ ٢٠٠ ٥ كاتم السر ٢ ٢٠٠ ٥ حافظ الملابس ٢ ٢٠٠ ٥ رئيس الحجرة الواسعة ٢ ٢٠٠ ٥ المشرف على المعبد ٢ ٢٠٠ ٥ كاتب المعبد ٢ ٢٠٠ ٥ كاتب مائدة القربان ٢ ٢٠٠ ٥ المرتل ٢ ٢٠٠ ٥ - (٢)
أما ما قدَّمه مقابل ذلك فهو ٢٢ يومًا من أيام المعبد من متاعه الذي من بيت والده (إرثه من والده)، وليس من ضيعة حاكم المقاطعة، منها أربعة أيام لرئيس الكهنة ويومان لكل واحد من الآخرين.
- (٣) وقال لهم: «انظروا! إن يوم المعبد هو من السنة، ويجب أن تقسموا كل العطايا اليومية التي تدخل هذا المعبد، وهي التي تحتوي على خبز وجعة ولحم؛ وذلك لأن يوم المعبد، يحسب من الخبز والجعة، وكل شيء يدخل المعبد لكل يوم من أيام المعبد هذه التي قدَّمتها لكم، واعلموا أنها متاعي الخاص من ضياع والدي، وليست من ضياع حاكم المقاطعة؛ لأني مثلكم ابن كاهن مطهر، ولاحظوا أن هذه الأيام «دخل المعبد»، يجب أن تنتقل إلى هيئة الموظفين المستقبلين الذين يعملون في المعبد؛ لأنهم هم الذين يقربون لي هذا الخبز والجعة التي يجب أن أعطاها.»
- (٤)
وقد سُروا بذلك.
الشرط الرابع
- (١)
على أن يقدم له رغيف خبز أبيض من كل واحد منهم لتمثاله الذي في المعبد، وذلك في اليوم الثامن عشر من الشهر الأول من الفصل الأول، وهو يوم عيد «واج»، وأن يخرجوا خلف كاهن روحه عند تنعيمه (أي جعله روحًا منعمًا) عندما ينار المصباح (الشعلة) له، وذلك على غرار ما يفعلون عند تنعيم أمواتهم المحترمين في يوم إنارة المصباح (الشعلة) في المعبد.
يضاف إلى ذلك أن هذا الخبز الأبيض يجب أن يكون في ذمة كاهن روحه، أما ما يقدِّمه في مقابل ذلك فكان حقيبة من الفحم لكل ثور، وسلة من الفحم لكل معزي، وهي التي كانوا قد اعتادوا أن يقدِّموها لمخزن حاكم المقاطعة عندما كان يقرِّب ثورًا أو معزي للمعبد، وذلك في مقابل ما يجب عليهم دفعه لمخزن حاكم المقاطعة، وهو يقدِّمها لهم دون أن يجبرهم على أخذها منهم عنوة.
- (٢)
وكذلك كان يقدم لهم ٢٢ إناء من الجعة و٢٢٠٠ رغيف خبز. وهذه كانت هيئة موظفي المعبد يقدمونها له في اليوم الثامن عشر من الشهر الأول من الفصل الأول، وذلك في مقابل ما يقدمونه، وهو رغيف خبز أبيض لكل فرد مما هو مستحق لهم في المعبد، وكذلك في مقابل تنعيمه (أي جعله روحًا منعمًا وهو احتفال خاص يقام على روح المتوفى).
- (٣)
ثم تكلم إليهم قائلًا: «إذا أخذ منكم هذا الفحم عنوة على يد أي حاكم مقاطعة في المستقبل، فاعلموا أن هذا الخبز وهذه الجعة يجب ألا ينتقص منها، وهي التي توردها لي هيئة موظفي المعبد، وهي التي قد أسلمتها لكم؛ تأملوا إني قد تعاقدت معهم عليها.»
- (٤)
وقد سُروا بذلك.
الشرط الخامس
- (١)
لأجل ثلاث فتائل يُنار بها المصباح (الشعلة) للإله.
- (٢)
أما ما قدَّمه «زفاي حعبي» له (حافظ الملابس) في مقابل ذلك فكان ثلاثة أيام من أيام المعبد، وثلاثة الأيام من أيام المعبد هذه ستكون مستحقة لكل حافظ ملابس في المستقبل؛ لأن هذه الفتائل الثلاث تكون مستحقة له «زفاي حعبي».
- (٣)
ثم تكلم قائلًا: «إن واحدة من هذه (الفتائل) تقدَّم إلى كاهن روحي بعد أن يكون قد عمل بها ما يجب أن يعمله في المعبد، ويجب أن يعطى أخرى في يوم أول السنة الجديدة في الفجر المبكر، وذلك عندما يقدم البيت إلى سيده بعد أن يكون كهنة الساعة للمعبد قد قدموا إلى هذا الخبز الأبيض، وهو الذي يجب أن يقدِّمه كل واحد منهم منفردًا في يوم أول السنة الجديدة، وسيقدم بوساطة كاهن روحي عند تنعيمي (أي تعطى له وتستعمل به).»
وسيعطى آخر.
في اليوم الثامن عشر من الشهر الأول الفصل الأول وهو يوم عيد «واج» في الوقت نفسه مثل الخبز الأبيض الذي يقدمه كل واحد من الكهنة المطهرين، وهذه الفتيلة ستخرج بوساطة كاهن روحي عند تنعيمي (الذي يحضره كهنة الساعة التابعون للمعبد)، ثم قال «زفاي حعبي» له: «انظر! إن يوم المعبد هو من السنة، ويجب أن تقسَّم العطايا اليومية التي تدخل المعبد (وتحتوي على) خبز وجعة وكل شيء يدخل المعبد لكل يوم من أيام المعبد هذه التي قدمتها لك، انظر! إنها متاعي الخاص من ضيعة والدي ومن ضيعة حاكم المقاطعة.والآن يجب أن تئول أيام المعبد الثلاثة هذه لكل حافظ الملابس في المستقبل (؟)؛ لأن هذه الفتائل واجبة له («زفاي حعبي»)، وهي التي قد حملتها لي بسبب أيام المعبد الثلاثة هذه التي حملتها لك وقدَّمتها لك.»
- (٤)
وقد كان مسرورًا بذلك.
الشرط السادس
- (١) لأجل شواء، وهو الذي يوضع على مائدة القربان ويوضع على حجر القربان لكل ثور يذبح في المعبد، وإناء جعة «ستا» من كل إناء دس.
في كل يوم «ظهور» (في المعبد).
وهي حق لكل رئيس كهنة في زمنه.
- (٢)
أما ما أعطاه «زفاي حعبي» له (أي رئيس الكهنة اسمًا) في مقابل ذلك؛ فهو يومان من أيام المعبد من ضيعة والده، ومن ضيعة حاكم المقاطعة.
- (٣)
وعندئذ تكلم «زفاي حعبي» قائلًا: هذا الشواء وإناء الجعة «ستا» سيقدم في كل يوم (ظهور التمثال في المعبد.
وهي مستحقة لتمثالي الذي في رعاية كاهن روحي.
- (٤)
وإنه «زفاي حعبي» بوصفه يحمل لقب رئيس الكهنة، كان مسرورًا بذلك في حضرة هيئة موظفي المعبد هؤلاء.
الشرط السابع
- (١)
من أجل ثلاث فتائل يستحقها؛ لإنارة المصباح (الشعلة) في معبد «أنوبيس»، واحدة في اليوم الخامس من أيام النسيء في مساء يوم السنة الجديدة، وأخرى في يوم السنة الجديدة.
والثالثة في اليوم السابع عشر من الشهر الأول من الفصل الأول في مساء عيد «واج».
- (٢)
أما ما قدمه في مقابل ذلك فكان ٢٢ «أرورا» (مقياس) من الأرض المنزرعة في «سمارسي» من أرض والده، وذلك في مقابل ثلاث الفتائل التي سيعطيها كاهن روحي لأجل أن يضيء لي المصباح (الشعلة) بها.
- (٣)
وقد كان مسرورًا بذلك.
الشرط الثامن
- (١)
من أجل أن يقدم له رغيف خبز أبيض من كل واحد منهم لتمثاله في اليوم السابع عشر من الشهر الأول من الفصل الأول في مساء عيد «واج»، ومن أجل أن يذهبوا بعد كاهن الروح عندما يُنار المصباح (الشعلة)، له عند تنعيمه إلى أن يصلوا إلى السلم السفلي (مزار الوادي) لقبره كما ينعمون موتاهم المحترمين في يوم إضاءة المصباح (الشعلة)، ومن أجل التقدمة الشهرية التي يقدمها الكاهن المطهر، المؤلفة من طبق من الخبز وإناء من الجعة لتمثاله الذي في السلم السفلي (مزار الوادي) لقبره عندما يخرج لتأدية الاحتفالات في المعبد كل يوم.
- (٢)
أما ما قدمه لهم في مقابل ذلك فكان شعير الشمال من باكورة محصول كل حقل من ضيعة حاكم المقاطعة، كما يفعل كل رجل أسيوطي عادي يقدم من باكورة محصول حصاده. وعلى أية حال فإنه كان أول من جعل كل واحد يقدمها من باكورة حقله لمعبد «أنوبيس».
- (٣)
ثم قال حاكم المقاطعة «زفاي حعبي»: «انظروا فإنكم تعلمون أن أي رجل عظيم، أو أي رجل عادي يقدم باكورة حصاده للمعبد، ويمتنع عن أدائها ليس بالشيء الحسن له، على أنه لم يجد حاكم مقاطعة في عصره انتقص من الشرط الذي تعاقد عليه حاكم مقاطعة آخر مع الكهنة المطهرين في أزمانهم، وشعير الشمال هذا سيكون ملك كهنة الساعة التابعين للمعبد، كل على حدته، من الذين يقدمون لي هذا الخبز الأبيض، وإنه لن يقسم مع الكهنة في شهورهم؛ لأنه لزامًا عليهم أن يقدموا هذا الخبز الأبيض كل على انفراد.»
- (٤)
وقد كانوا مسرورين بذلك.
الشرط التاسع
- (١)
من أجل أن يجعلهم يذهبون لمعبد «أنوبيس» في اليوم الخامس من أيام النسيء مساء السنة الجديدة.
وفي يوم السنة الجديدة.
بشأن تسليم فتيلتين قدمهما الكاهن الأعظم للإله «أنوبيس» المطهر إلى حاكم المقاطعة «زفاي حعبي»، وبشأن ذهابهم لتنعيمه إلى أن يصلوا إلى قبره، وبشأن تقديمهم الفتيلة (أي الخاصة بمساء السنة الجديدة) لكاهن روحه بعد أن نعموه كما ينعمون موتاهم المحترمين.
- (٢)
أما ما قدمه لهم في مقابل ذلك فكان ٢٢٠٠ (مقياسًا) من الأراضي الزراعية في «واعبت»، وهي من أملاكه الشخصية من ضيعة والده، وليست من ضيعة حاكم المقاطعة.
أرض مدير عمال الجبانة ٤٠٠ = ٢٨٫٤ أرورا (مقياس) قائد الصحراء ٢٠٠ ثمانية حراس للصحراء ١٦٠٠ وقد كان قدَّم لهم الجزء الأسفل من الجزء الخلفي من كل ثور ذُبح في الصحراء «لجبانة» في كل مزاراتها.
- (٣) أما ما قدَّموه له فهو:
- رئيس عمال الجبانة: إناءين دس من الجعة، ١٠٠ رغيف من خبز قفن، ١٠ أرغفة من الخبز الأبيض.
- قائد الصحراء: إناء جعة، ٥٠ رغيفًا قفن، ٥ خمسة أرغفة من الخبز الأبيض.
- الثمانية (حراس الصحراء): ثمانية آنية دس من الجعة، ٤٠٠ رغيف من خبز قفن، ٤٠ رغيفًا من الخبز الأبيض من أجل تمثاله الموكَّل به كاهن روحه، وذلك في اليوم الأول من الشهر الأول من الفصل الأول يوم أول السنة الجديدة عندما ينعمونه.
- (٤)
ثم قال لهم: «انظروا! إن هذه الأرض التي سلمتها لكم ستكون ملكًا لكل مدير عمال جبانة مستقبلًا، ولكل قائد صحراء، ولكل حارس جبانة مستقبلًا؛ وذلك لأنهم هم الأفراد الذين سيقدِّمون لي الخبز والجعة.»
- (٥)
وستكونون خلف تمثالي الذي في حديقتي وترافقونه [عندما يسير إلى معبد وبوات أو «أنوبيس»؟] في كل عيد أول فصل يقام في هذا المعبد.
- (٦)
وكانوا مسرورين بذلك.
الشرط العاشر: (٣١٩–٣٢٤)
-
(١)
من أجل أن يقدم له إناء هبث من الجعة وفطيرة واحدة كبيرة (؟)، ٥٠٠ رغيف خبز قفن، ١٠٠ رغيف من الخبز الأبيض لتمثاله المنوط به كاهن روحه، في اليوم السابع عشر من الشهر الأول من الفصل الأول مساء عيد «واج».
-
(٢)
أما ما قدمه «زفاي حعبي» في مقابل ذلك فهو ٢٫٢ أرورا من الأراضي الزراعية في «وعبت» من أملاكه الخاصة من ضيعة والده، وليست من ضيعة حاكم المقاطعة، والربع الأمامي من كل ثور يُذبح في الصحراء (الجبانة) في كل مزارات قبورها.
-
(٣)
ثم قال لمدير الصحراء: «انظر! إن هذه الأرض ستنتقل لكل مدير صحراء مستقبلًا؛ وذلك لأنه هو الذي سيقدِّم لي هذا الخبز والجعة.»
-
(٤)
وقد كان مسرورًا بذلك.
المرحوم حاكم المقاطعة ورئيس الكهنة «زفاي حعبي» صاحب الاحترام.
(٢) تصوير الاحتفالات الدينية التي كانت تقام للأمير «زفاي حعبي»
وسنضع أمام القارئ صورة من هذه الاحتفالات تخيلناها مأخوذة من نص العقود العشرة التي على جدران المقبرة؛ وقد أردنا بذلك أن نكسو عظام الحقائق التاريخية الجافة التي ذكرناها في هذه الشروط لحمًا ودمًا، ثم نبعث فيها روحًا يحركها فتصبح حية يراها القارئ ويتمثلها.
وقبل أن نورد هذه الصورة نقول: إن «زفاي حعبي» أقام لنفسه قبل وفاته تمثالًا في كل من المعبدين الرئيسيين في المدينة؛ أي إنه أقام تمثالًا في معبد الإله «وبوات»، وهو إله محلي قديم في صورة ذئب، ومن ذلك الاسم اشتقت المدينة اسمها اليوناني «ليكوبوليس» (أي بلد الذئب). أما التمثال الآخر فقد كان في معبد «أنوبيس» وهو إله معروف في صورة كلب أو صورة ابن آوى، وقد كان ذلك الإله يومًا ما من الآلهة المناهضين للإله «أوزير»، وكان معبد «وبوات» يقع في وسط المدينة في حين أن معبد الإله «أنوبيس» كان يقع بعيدًا عنه على ظاهر حدود الجبانة في سفح الجبل الذي نحتت في واجهته مقبرة «زفاي حعبي» على مسافة من ارتفاعه، وقد نصب في ذلك القبر الفخم كذلك تمثال لنفسه يقوم برعايته كاهنه الجنازي، ولم يكن له إلا كاهن واحد يُعنى بقبره ويقوم بالاحتفالات التي كان يرغب فيها في الحياة الدنيا قبل وفاته.
وأهم هذه الاحتفالات تلك التي كانت تقام في مناسبات الاحتفال بالسنة الجديدة، وكانت تقام قبل حلولها، وعند بدايتها، فكانت تقام قبل نهاية السنة القديمة بخمسة أيام في أول يوم من أيام النسيء الخمسة التي تنتهي بها السنة، فكان يُرى في ذلك اليوم كهنة الإله «وبوات» سائرين في موكب مخترقين شوارع «سيوط» وأسواقها، وكانوا في نهاية المطاف يخرجون من المدينة حاملين إلههم «وابوت» إلى معبد الإله «أنوبيس»، الذي كان يقع في سفح جبانة الجبل، وكان يذبح في ذلك المعبد ثور للإله الزائر؛ أي الإله «وبوات»، وكان كل كاهن؛ إذ ذاك يحمل بيده رغيفًا كبيرًا أبيض مخروطي الشكل، وعند دخولهم ساحة معبد «أنوبيس» كانوا يضعون أرغفتهم عند قاعدة تمثال «زفاي حعبي».
ثم بعد مضي خمسة أيام من ذلك التاريخ كان ينزل «مدير الجبانة» وبصحبته تسعة أفراد من موظفيه من فوق الجبل في وقت المساء مارِّين بأبواب القبور المفتحة، والتي كانت حراستها موكولة لهؤلاء الموظفين، ثم يدخلون في ظلال المدينة التي كانت في سفح ذلك الجبل. وكانت هذه المدينة في تلك الآونة من ذلك اليوم يخيم عليها الظلام؛ إذ كانت تقع في ظلال هذا الجبل المطل عليها، وكان هذا المنظر يحدث في مساء اليوم الأول من السنة الجديدة، وكانت الأنوار المبعثرة هنا وهناك، وهي التي أشعلت ابتهاجًا بالعيد قد بدأت تنبعث عند الشفق من داخل البيوت، ومن الشرفات، وأثناء انطلاق تلك الفئة في سيرها في الشوارع الضيقة الواقعة في أطراف المدينة كان يعترضهم فجأة في طريقهم الجدار العالي لسور معبد الإله «أنوبيس»، وعندما كانوا يدخلون من أبوابه العظيمة العالية يسألون عن الكاهن الأعظم الذي كان يقدم لهم على الفور حزمة من المشاعل فيأخذونها، ويعودون أدراجهم صاعدين في الجبل بتؤدة، فيشرفون على المدينة رويدًا رويدًا كلما تسلقوا الجبل مصعدين ثانية، وحينما كانوا يشرفون بأنظارهم من فوق الجبل على أسقف المدينة الملتفة في الظلام الدامس كانوا يكشفون في وسطها مجموعتين مشتعلتين من الأنوار المتلألئة، تقع إحداهما بالضبط تحت أنظارهم في حضيض الجبل، والأخرى تقع على مسافة بعيدة في قلب المدينة، فكانتا تشبهان جزيرتين متلألئتين بالنور في بحر من الظلمة يمتد إلى مسافة من تحت أرجلهم. وهاتان المجموعتان من النور هما ساحتا المعبدين اللذين كانت الأنوار تنتشر في أرجائهما.
وبالرغم من أن سيدهم القديم «زفاي حعبي» كان مدفونًا في بلاد النوبة النائية، فإنه كان حاضرًا معهم بتمثاله المقام في وسط تلك الأفراح والأعياد التي كانت حفلتها تملأ ذينك المعبدين، فقد كان تمثاله المنصوب في المعبد يتكلم بعينيه اللتين يشرف بهما على الجموع التي كانت تزخر بهم هاتان الساحتان المختالتان بجمال أعمدتهما الزاهية، وكان التمثال يتمتع مثل أصدقائه الأحياء الموجودين أسفل منه بروح ذلك الفيض العميم الذي كان مبسوطًا أمامه، حينما كان يشاهد رغفان القربان موضوعة عند قدميه، وهي التي ذكرنا فيما سلف أن الكهنة كانوا يضعونها هناك، وكانت أذناه (أي التمثال) تُملآن بضجيج آلاف الأصوات التي كانت تتعالى مع أصوات الأفراح المنبعثة من جماهير المدينة المجتمعين بمعبدي الإلهين، يترقبون انقضاء ذلك العام الراحل، ويستقبلون أول العام الجديد، وكأن أصواتهم اصطفاق بحر يزخر بأمواجه ينبعث من بعيد فوق الأسقف المظلمة؛ إلى أن يصل جرسه المتضائل إلى آذان طائفة حرَّاس الجبانة المرتفعة القائمة بين ظلمات الجبال، وهم يشرفون على المدينة في صمت رهيب، وكانت تطل من فوق رءوسهم بالضبط واجهة تلك المقبرة التي كانت قد أعدت لتضم جثمان سيدهم الراحل «زفاي حعبي». وقد كان المتقدمون في السن من بين أولئك الحراس يذكرونه جيدًا أو يذكرون الكرم الذي طالما لاقوه على يده. أما المحدثون الذين كان في نظرهم اسم «زفاي حعبي» مجرَّد اسم لا يحمل معنى، فكانوا لا يجيبون إلا متباطئين، وعلى كره منهم، عندما كان شيوخهم يحثونهم على إضاءة أنوار القبر، وعندما كان يتعجلهم صوت كاهن «زفاي حعبي» من أعلى الجبل قائلًا: «لا تتأخروا أكثر من ذلك في إضاءة النور»، وعندئذ يخرج الشرر من قدح الزناد، وعلى أثر ذلك تُضاء أول شعلة، ومنها تُضاء المشاعل الأخرى بسرعة. وكان الموكب الذي يشمل أولئك الحرَّاس حول مرتفع من الجبل فسيح الأرجاء، ثم يعود الموكب ثانية إلى باب القبر العالي حيث يكون في انتظارهم كاهن «زفاي حعبي» فيدخلون توًّا إلى مزار القبر العظيم.
وكان يشاهد انعكاس أنوار تلك المشاعل المتلألئة في غير نظام فوق جدار ذلك المزار الذي تُرى فوق جدرانه صورًا ضخمة مرسومة للسيد الراحل، ترتفع عالية حتى تختفي رأسه وسط الظلمة التي لم تصل إليها أنوار تلك المشاعل المتضائلة، ويبدو على صورته كأنها تحثهم على تأدية واجباتهم نحوه بالدقة والعناية، كما هو مدوَّن بالعقود العشرة المنقوشة فوق جدار المزار نفسه وهي التي سبق ذكرها. وكان «زفاي حعبي» يبدو في الصورة مرتديًا لباسًا بهيجًا ومتوكئًا في رفق على عصاه التي بيده، وطالما كان المسنون من تلك الطائفة يرونه قائمًا في هذا الوضع وهو يفصل في القضايا التي كانت تُعرض عليه، بينما كان يساق المجرمون إلى داخل باب ديوانه بين صفين من ضباطه المتزلفين. ويشاهد في حالة أخرى كأنه يراقب سير تقدم العمل في إحدى ترع الري الهامة حتى يفتتح بها زراعة جديدة، فكان هؤلاء الحراس يسجدون خضوعًا أمام صورته هذه المهيبة؛ يسوقهم إلى ذلك الدافع الطبعي الذي ليس لهم فيه اختيار، كما كان يسجد أمامه أيضًا الكُتاب، وأصحاب الحرف، والفلاحون الذين نشاهد صورهم تملأ الجدران التي أمامه. وقد لونت بألوان جميلة محفورة فوق الجدران، وهذا المنظر يمثل الصناعات والملاهي التي كانت تضمها تلك الضياع العظيمة التي كان يملكها «زفاي حعبي» وقتئذ، وهي تؤلف دنيا مصغرة يُرى فيها ذلك الشريف الراحل عندما كان يدخل مزار قبره، فكان يشعر أنه لا يزال يغدو ويروح بين مناظر حياة الرفاهية والملاذ في الحياة الدنيا، وكان يمثل هو فيها الشخصية البارزة العظيمة؛ إذ كان يخيل إليه أن جدران مقبرته قد رحبت واتسعت حتى صارت تشمل حقول زراعة عماله، وأسواقهم، ومصانع السفن، وأحواضها، ومستنقعات الصيد، والطيور، والأسماك، وردهات لإقامة الحفلات. وقد عمر النحات والرسام الجدران بتلك المناظر حتى صارت في الواقع كأن الحياة تدب فيها، وكانت المشاعل الموقدة تنبث حول القربان الخاص بمائدة القرب العظيمة المصنوعة من الحجر في المزار، وكان يقوم خلف ذلك تمثال «زفاي حعبي» في كوَّة منحوتة في أصل الجدار.
وبعد ذلك تنسحب جماعة الحرَّاس الصغيرة على مهل، ملقين عدة نظرات خاطفة على الباب الوهمي المقام في جدران المزار الخلفي، وكانوا يعرفون أن «زفاي حعبي» يمكنه أن يخرج منه من عالم الظلام المستتر خلف هذا الباب الوهمي ليدخل إلى عالم الأحياء، ويحتفل مع الأحياء من أصدقائه بعيد رأس السنة المذكور.
وأما اليوم التالي وهو اليوم الأول من السنة الجديدة فيعد أعظم أيام الأعياد في التقويم السنوي، وكانت تتبادل فيه الهدايا بفرح كما تتوافد أهل الضياع أيضًا يحملون الهدايا إلى سيد ضيعتهم، وإذا اتفق أن سلالة «زفاي حعبي» قد انهمكت في ملاذها وجرت فيها إلى آخر شوطها، فإن شروطه التي دونت بانتباه ويقظة في سجلات المدينة تضمن له الاهتمام بأمره، وعدم إهمال قربانه. وفي الوقت الذي كان فيه الفلاحون ومستأجرو الإقطاعات يشاهَدون مزدحمين عند الباب العظيم لبيت ذلك الشريف حاملين هداياهم لسيدهم الحي غير مفكرين في سيدهم الراحل؛ كان حراس الجبانة العشرة بقيادة رئيسهم يجتازون أطراف المدينة سائرين نحو أحد المخازن بالضيعة التي من حقهم أن يتزودوا منها، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم حاملين ٥٥٠ فطيرة مستديرة و٥٥ رغيفًا من الخبز الأبيض، ١١ إناء مملوءًا بالجعة، ثم يعودون من حيث أتوا يقتحمون طريقهم على مهل وسط مرح الزحام، حتى يصلوا إلى مدخل الجبانة عند سفح الجبل، فيجدون هناك زحامًا عظيمًا أيضًا، وكل واحد من أولئك المزدحمين محمل بمثل ما حملوا به. وإذا كان الطيبون من أهل «سيوط» يحملون عطاياهم من الأطعمة والشراب في وسط جلبة عظيمة من الأفراح القائمة وسط تلك المناظر الخلابة التي لا عداد لها من صور تلك الحياة الشرقية، فإن مثل ذلك يُشاهد إلى اليوم في الجبانات الإسلامية في مصر في أيام عيد الفطر وباقي المواسم والأعياد الإسلامية، ويقصدون إلى الجبل ويدخلون بما يحملون إلى أبواب المزارات العديدة التي كانت منتشرة في وجه الجبل على مثال خلية النحل في كثرتها، حتى تتمكن موتاهم من مشاطرتهم تلك الأعياد المرحة.
وهكذا يشترك ذلك الشريف المُتوفَّى وأولاده ورعاياه الأحياء في الاحتفال بأعياد رأس السنة، وخلافًا لتلك الأعياد وغيرها من الأعياد العظيمة التي كان يتمتع بها المُتوفَّى بتلك الكيفية فإنه لم ينسَ في أي عيد من الأعياد الرسمية الصغيرة التي كان يحتفل بها في أول كل يوم من الشهر وفي منتصف الشهر، أو في أي يوم من الأيام المحتفَل بها. وأما حاجاته اليومية فكان يقوم بها طائفة خارجة عن هيئة الكهنة تخدمه بالتناوب بمعبد «أنوبيس»؛ لأن ذلك المعبد كان على مقربة من الجبانة، فكان أولئك الخدم يذهبون في كل يوم بعد الفراغ من تأدية أعمالهم في المعبد حاملين نصيبًا من الخبز، وإناء مملوءًا بالجعة ويضعونها أمام تمثال «زفاي حعبي» الذي يكون منصوبًا فوق السلم السفلي لقبره، وعلى ذلك كان لا يمضي يوم واحد من أيام السنة لا يتسلم فيه «زفاي حعبي» ما يلزمه من الطعام والشراب. هذه صفحة من الحياة المصرية من الناحية الدينية والاجتماعية تركها لنا «زفاي حعبي» في قبره في مصر، وإن مثل تلك المعتقدات والعادات لتدل على شدة استمرار تعلق قدماء المصريين بتلك الأعمال المادية الخاصة بالحياة في عالم الآخرة التي هي الضمان الوثيق لاستمرار بقاء جثمان المُتوفَّى بعد الموت، بالرغم مما ظهر من الأفكار التي ألقت ضوءًا جديدًا على ضرورة التحلي بالأخلاق العظيمة استعدادًا لاستقبال الحياة الآخرة فيما بعد الموت.
على أن استمرار إمداد ذلكم الشريف المُتوفَّى بمثل هذا العتاد المادي الذي قدمنا وصفه إلى الأبد، كان من غير شك متخيلًا؛ ولذلك قال «خنوم حتب» أحد الأمراء الإقطاعيين في مقاطعة الغزال فيما يختص بأوقافه الجنازية: أما فيما يختص بالكاهن أو بأي شخص آخر يعبث بها فإنه لن يستمر بعد، وكذلك ابنه لن يستمر بعده في هذا المكان (أي لن يبقى مشرفًا على حراسة مقبرته) فيظهر من خوف ذلك الشريف المذكور من عدم دوام تقديم القرابين له بعد الموت، ومثل هذه المخاوف كانت منتشرة يكثر ذكرها في الوثائق التي من هذا النوع. هذا؛ وقد شاهدنا أن «زفاي حعبي» أمير «سيوط» كان يبدي مخاوفه من إحجام الخلف عن تقديم القربان اللازم للحياة الآخرة، وليس هذا بغريب، فنحن أبناء هذا العصر الحديث لا يكاد يدفعنا البر نحو الاهتمام بأي قبر من قبور أجدادنا الذين رحلوا عنا إلى الحياة الآخرة منذ زمن بعيد نسبيًّا، بل في بعض الأحيان لا نكاد نعرف أين دُفنوا بالضبط، فضلًا عن مواقع مقابرهم.
وقد كان كهنة «أنوبيس» و«وبوات» وحراس الجبانة في «سيوط» يؤدون واجباتهم ما دام كاهن «زفاي حعبي» الجنازي يتسلم مرتباته، وما دام مخلصًا في القيام بالتزاماته، بأن يذكرهم بالقيام بما عليهم من الواجبات وأن يلاحظ تنفيذها.
ونحن نعلم تمام العلم أن مثل هذه الأوقاف كانت تستمر نافذة المفعول إلى ما بعد تغير الأسرة نفسها، وكانت تمكث على أقل تقدير حوالي ثلاثين أو أربعين سنة في منتصف القرن الثامن والثلاثين قبل الميلاد.
(٣) احترام مقابر الأجداد في هذا العصر
وفي القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد نجد أنه كان هناك احترام كبير في مصر العليا لأجداد الدولة القديمة؛ إذ ذاك، فقد قام حكام مقاطعة «البرشة»؛ أي المقاطعة الخامسة عشرة من مقاطعات الوجه القبلي في القرن التاسع عشر والعشرين ق.م، بإصلاح مقابر أجدادهم التي يرجع عهدها إلى عصر الأهرام، وكذلك المعبد أو المزار الذي كشف عنه في «أسوان» وهو الذي أصلحه «سرنبوت» ويرجع عهده إلى الدولة القديمة وهو «لحقا اب».
قربان يقربه الملك و«بتاح سكر» و«أوزير» سيد «شتيت» و«أونوبيس» الذي يقطن في جبله، والذي في لفائفه رب الأرض المقدسة (ليعطوا) ألفًا من الخبز والجعة والخمر والبقر والإوز والملابس إلى روح الكاهن «سخمت حتب» الذي وضعته «سان أميني».
في معبد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر أركارع» الصادق القول، وهذا دليل قاطع على أن معبد هذا الإله كان موجودًا في هذا العصر في جهة «بوصير».
إنه (يعني حاكم المقاطعة)، قد عملها بصفتها أثرًا للأجداد الذين في الجبانة، وهم أرباب هذا المرتفع، فأصلح ما قد وجده مخرَّبًا، وجدَّد ما قد وجده مهدَّمًا، ولم يقُم الأجداد الذين كانوا من قبله بذلك.» ثم نجد أن أشراف هذه المقاطعة قد استعملوا تلك الصيغة في مقابر أجدادهم خمس مرات، كما نجد أن «أنتف» أمير «أرمنت» قد اتبع نفس هذه الطريقة حيث يقول: «لقد وجدت مزار الأمير «نخت بوكر» آل إلى الدمار، فجدرانه قديمة وتماثيله محطمة، ولم يعتنِ به أي إنسان؛ فبنيته من جديد، وزدت في بنائه، وجدَّدت تماثيله، وأقمت أبوابه بالحجر حتى يصبح مكانه ممتازًا عن أماكن الأمراء العظام الآخرين.
وكان القيام بمثل هذا البر للأجداد الراحلين نادرًا جدًّا، ومع ذلك فإن القيام بمثل هذه الأعمال التي ذكرناها لم تكن لها فائدة، إلا أن تؤخر مئونة وقوع اليوم المشئوم الذي تزول فيه تلك الآثار الجميلة، والمدهش في ذلك أنهم كانوا مع وجود مقابر أجدادهم مخرَّبة أمامهم وأحيانًا يخرِّبونها بأيديهم، لا يزالون يقيمون لأنفسهم الأضرحة التي كان لا بد أن تلقى محتوياتها نفس المصير من النهب والسلب والنسيان المطلق، ولا أدل على ذلك مما نشاهده في قبر «خنوم حتب» الذي يعد أكبر القبور التي تركها لنا أمراء مقاطعة الغزال «بني حسن»؛ إذ نجد بين الرسوم الملونة الجميلة التي على جدرانها كتابات قد حُشرت حشرًا بين الكتابات القديمة الأصلية يرجع تاريخها إلى ١٢٠ جيلًا من الناس. وقد خطها كاتبوها على عجل باللغة المصرية القديمة، وكذلك باللغة القبطية والعربية والفرنسية، والإيطالية والإنجليزية.
لقد حضر الكاتب «أمين سي» ليرى معبد «خوفو» وقد وجده كالسماء يسطع فيها النجوم.
وهذه العبارة كانت قد كُتبت هنا بعد أن مضى على بناء المقبرة نحو ٧٠٠ سنة من زيارته، فنرى من ذلك أنه على الرغم من أن صاحبه الأمير «خنوم حتب» كان من أعظم أمراء عصره فإن ذلك الزائر على ما يظهر قد نسي كل شيء من أمره؛ ولذلك فإنه لما وجد اسم «خوفو»، قد كُتب عرضًا فوق الجدار في سياق نقش جغرافي، ظن خطأ أن ذلك المزار هو مزار الملك «خوفو» باني الهرم الأكبر في جبانة «الجيزة». وهذا الحادث يدل دلالة واضحة على أن كل معرفة بهذا الأمير العظيم قد اختفت، وبالطبع كانت أوقافه الجنازية التي كانت تمده في عالم الآخرة قد أصبحت في زوايا النسيان التام، وذلك بالرغم من تلك الاحتياطات التي قام بتسجيلها فوق جدران قبره؛ ولذلك فإن اللعنات التي كانت تُكتب على جدران المقابر لتضر بمن يعبث بها كانت تافهة ولا فائدة منها، وقليلة الجدوى. وقد حاول المصري القديم أن يجد علاجًا يضمن به المُتوفَّى سعادة خالدة، فقام بنقش صلوات وأدعية فوق واجهة قبره كان يعتقد أنها ذات تأثير في إمدادها للمتوفى في الآخرة بكل ما يحتاج إليه فيها، فيضمن لنفسه بذلك الحصول على السعادة في الآخرة؛ فكان لذلك يستحلف كل من يمر على قبره أن يقدم الاحترام له؛ بأن يتلو على قبره تلك الأدعية المنقوشة «أنتم يا من تمرون بهذا القبر بقدر ما تحبون الحياة وتكرهون الموت، وترغبون في أن يحبكم آلهة مدنكم، ويكافئوكم، وبقدر ما ترغبون في أن يرث أولادكم مكانتكم: قولوا قربانًا ملكيًّا من الأطعمة والملابس والزينة … إلخ إلى فلان.» وتلك الأدعية توضح لنا الاعتقاد في مقدار ما كان لتلك الكلمات من التأثير الفعال، حينما كانت تُقرأ من أجل المتوفى. وقد انتشرت أمثال تلك الصيغ الدينية انتشارًا عظيمًا منذ عصر الأهرام، فكان ذلك تدرجًا يسير مع تعميم هذه العادات الجنازية التي كانت وقتئذ خاصة بالطبقة العليا من الشعب فصارت إذ ذاك حقًّا للطبقة المتوسطة وبطائفة الموظفين على السواء. وكان مثل تلك الصيغ الدينية في عهد الأهرام ينحصر استعماله في عهود الأهرام المتأخرة فقط، وكانت هذه الصيغ خاصة بمصير الفرعون في عالم الآخرة، ولكن صارت الطبقة الوسطى مع طائفة الموظفين يستعملونها بكثرة.
(٤) ظهور متون التوابيت
ونجد كذلك في الوقت نفسه أنه ظهر في عالم الوجود طائفة أخرى من «الأدب الجنازي» وهو ما يسميه علماء الآثار «متون التوابيت» وهي صيغ مشابهة لسابقتها وتتحد معها كل الاتحاد في القيام بوظيفتها، غير أنها كانت أكثر ملائمة لحاجات الإنسان العادي من أي شخص آخر من الطبقات العالية؛ ولذلك كان كل دهماء الشعب يستعملونها في ذلك الوقت؛ أي في العهد الإقطاعي. وقد كان ما يسمى «كتاب الموتى» الذي جاء فيما بعد مؤلفًا من منتخبات أُخذت من «متون التوابيت»، وهذه كانت في الواقع تتألف من مقتبسات كثيرة أخذت من «متون الأهرام»، وكانت تكتب في هذا العصر على أوجه التوابيت الداخلية المصنوعة من خشب الأرز. ولا يزال عدد تلك المتون الجنازية آخذًا في الازدياد؛ إذ تكشف الآن توابيت جديدة من ذلك العصر تضاف متونها إلى المجموعة التي وُجدت من قبل. وكان كهنة كل بلدة يمدون كل صانع محلي لهذه التوابيت بنسخ من تلك المتون أو التعاويذ، وكان الكُتاب المختصون بملاحظة صانع التابوت قبل تركيب قطعه يملئون أوجهه بالكتابة بالقلم والمداد، وذلك بتدوين نسخ من هذه المتون.
أما فيما يختص بالجزء الذي اتحدت فيه «متون التوابيت» هذه مع «متون الأهرام»، فإنا قد ألفنا وظيفتها ومحتوياتها؛ وذلك لأن عالم الآخرة الذي كان يتطلع إليه أهل هذا العهد الإقطاعي كان لا يزال إلى درجة عظيمة عالمًا سماويًّا وشمسيًّا كما كان في عصر الأهرام؛ أي إن عبادة الإله «رع» كانت العبادة السائدة في ذلك الوقت، ولهذا فإن «متون التوابيت» تكشف لنا عن السيادة المدهشة التي كانت لتلك الآخرة السماوية؛ إذ نجد نفس توحيد المُتوفَّى مع إله الشمس كالذي وجدناه في متون الأهرام.
إذ يقول الرجل المتوفى:
وقد عثر على شرح لهذا المتن القديم يرجع تاريخه إلى العهد الإقطاعي، وهذا الشرح كُتب بصفة تعليق على السطر الذي جاءت به عبارة «أمس ملكي» «وإني أعرف الغد» ففسر هذا السطر بقول الشارح: «ذلك هو «أوزير»»، مع أنه من الواضح تمامًا أن هذا النص كان خاصًّا بإله الشمس فقط كما يُفهم من سياق الكلام.
ولقد كان من جراء صبغ تلك المتون بالصبغة الأوزيرية، أن أدخل العالم السفلي الذي كان خاصًّا بأوزير في المتون الشمسية والسماوية، وبهذه الكيفية لم يكن لدينا في متون التوابيت مجموعة المعتقدات الشمسية والأوزيرية وحسب، وهي التي امتزج بعضها بالبعض الآخر بحالة أتم وأكثر مما كانت عليه من قبل، بل كانت النتيجة أن «رع» إله الشمس قد حشر الآن في عالم الآخرة السفلي الخاص «بأوزير»، وعلى ذلك يمكن عرض الحوادث في ذلك الصدد بصورة تشعر بشيء من المبالغة إذا قلنا إن «أوزير» في «متون الأهرام» قد رفع إلى السماء في حين أننا نجد أنه في «متون التوابيت» و«كتاب الموتى» قد أنزل «رع» من مقره السماوي إلى الأرض، ولكن الارتباك «اللاهوتي» الذي نتج عن ذلك كان أدهى وأمرَّ مما جاء في متون الأهرام؛ فقد تم الامتزاج بين المصير السماوي المتألق الفاخر وبين عالم آخر مظلم واقع في ظلمات العالم السفلي، وبجانب ذلك مثوى سماوي.
وإنه لمن الأمور الصعبة أن يكوِّن الإنسان أية فكرة متصلة الحلقات عن الحياة في عالم الآخرة التي كان يأمل أهل ذلك العصر الوصول إليها؛ إذ نجد الصورة الشمسية الأوزيرية المركبة وهي التي ذُكرت في متون الأهرام، وفيها قد أرخى أولئك الكهنة الذين ترجع إليهم كل الارتباكات التي نجدها في «متون التوابيت» لخيالهم العنان يجول كيف يشاء.
إنك تطوف حول الأقطار مع «رع» فهو يجعلك ترى الأماكن الممتعة، وتجد الأودية مفعمة بالمياه لغسلك وإنعاشك، فإذا أنت تقطف أزهار البطاح ونوار «هني» وزهور السوسن، والزئبق، وتأتي إليك طيور البرك آلافًا جاثمة في طريقك، وعندما ترمي مقمعك لصيدها يسقط منها ألف برنين صوته وتشمل الإوز، والعصفور الأخضر والسمان، وطيور «كونست»، وقد أمرت بأن يؤتى إليك بالغزلان الصغيرة والعجول البيض، وأمرت بأن يحضر إليك الجَدَّاء والكباش المسمنة بالحبوب، وقد ربطت لك سلم السماء، والإلهة «نوت» تفتح لك ذراعيها، وإذا أنت تسبح بسفينتك في بحيرة الزئبق.
ففي هذا المتن نشاهد المُتوفَّى يصطاد في الأودية والبطاح؛ وهي التسلية المحببة إلى الفرعون وأشرافه، ولكنا نلاحظ أن المؤلف ينتقل فجاءة إلى بحيرة علوية في عالم السماء.
وبهذه الحالة كان الاعتقاد في قوة تأثير السحر آخذًا في الانتشار، وكان بمثابة سلاح لا يخطئ في يد المتوفى، وسنرى في النهاية أن السحر يسود كل المعتقدات الجنازية الأخرى، كما سيكشف لنا ذلك «كتاب الطريقين» الذي دوِّن في هذا العصر ثم «كتاب الموتى» الذي جاء بعد مضي عدة قرون على ذلك العهد الذي نحن بصدده؛ إذ ليس من شك في أن المذهب الأوزيري كان له أثر عظيم في انتشار استعمال هذه الطرق السحرية الجنازية. ولا شك في أن أسطورة «أوزير» التي كانت منتشرة في هذا الزمن انتشارًا عامًّا قد جعلت كل طبقات الشعب يعرفون نفس هذه الطرق التي اتخذتها «إزيس» لإحياء زوجها «أوزير» من الموت، وهي تلك الطرق التي كان يعتقد كل مصري قديم أنها ذات تأثير عظيم في عالم الآخرة، كما كانت ناجعة التأثير بالنسبة إلى «أوزير» من قبل. وبقدر ما كان مذهب «أوزير» قويًّا في عصر الأهرام فإن انتشاره العام الآن في العهد الإقطاعي كذلك قد فاق كل انتشار معروف سبق من قبل؛ إذ نجد فيه ظفر ديانة الشعب التي كانت مناهضة وقتئذ لعبادة «رع» الحكومية، وهي التي كانت تشبه أية كنيسة معترَف بها الآن. وقد كانت سيادة «رع» تعتبر ظفرًا سياسيًّا، أما ظفر ديانة «أوزير» التي كان يشد أزرها بلا ريب طائفة من مهرة الكهنة وربما كانوا يقومون لها بدعاية مستمرة وقتئذ؛ فإنه لم يكن في طاقة أية طائفة، ولا طاقة الحكومة، ولا الأشراف مناهضتها؛ وذلك لأن النعم التي كان يقوم بإغداقها المصير الأوزيري في الحياة الآخرة على كل الناس يجعلها ذات جاذبية قوية شاملة لا تناهضها أية جاذبية أخرى منافسة لها، وإذا كانت تلك النعم المذكورة في زمن ما قاصرة على الفرعون وحده كما كان المصير الشمسي في متون الأهرام قاصرًا عليه، فإننا قد شاهدنا أنه حتى الآخرة الشمسية الملكية قد صارت الآن من حق الجميع يستوي فيها الفرعون مع بقية أفراد الشعب.
(٥) الحج إلى بيت أوزير
ومن بين القبور المحترمة التي يرجع تاريخها إلى عهد الأسرات الأولى في «العرابة المدفونة» قبر كان يعتبره القوم في ذلك الوقت قبر «أوزير» وقد صار بسرعة المقام المقدس في القطر المصري، فكانت تحج إليه كل طبقات الشعب. وكانت أعظم البركات التي ينالها الإنسان هي أن يُدفن بجوار ذلك القبر المقدس؛ ولذلك كان كثير من الموظفين عند قيامهم بمأمورية رسمية، أو رسالة في هذه الجهة ينتهز الفرصة لإقامة قبر له هناك، وإذا تعذر عليه بناء قبر حقيقي كان يقيم الإنسان لنفسه مقبرة وهمية على الأقل، ويكتب عليها اسمه وأسماء باقي أفراد أسرته وأقاربه، وإذا تعذر ذلك أيضًا أقام لنفسه لوحة تذكارية ينقش عليها أدعية للإله «أوزير» العظيم خاصة بالزائر وأسرته، وقد فعل مثل ذلك كثير من الحجاج والزوار من الموظفين لهذه البقعة المقدسة؛ ولذلك يقول موظف من عهد الفرعون «سنوسرت الأول»: «لقد أقمت هذا القبر عند طريق سلم الإله العظيم لأكون من أتباعه، والجنود الذين يأتون في ركاب جلالته يقدمون إلى روحي «كا» من خبزه ومئونته، كما يفعل ذلك كل رسول ملكي يأتي للتفتيش على حدود جلالته.»
وكان داخل سور معبد الإله «أوزير» وما يجاوره مزدحمًا بتلك اللوحات التذكارية، وهي كما نجدها اليوم تؤلف جزءًا هامًّا من المصادر التي يصح الاعتماد عليها في تدوين تاريخ ذلك العصر من الوجهات السياسية والاجتماعية والدينية.
(٦) زيارة جثمان المُتوفَّى «العرابة المدفونة»
وهكذا كان الزوَّار الذين يأتون إلى «العرابة المدفونة» قبل الوفاة وبعده يحملون معهم القرابين التذكارية، وهي التي يعثر عليها خلال أعمال الحفر الآن مدفونة على بُعد عميق تحت كومة عظيمة من الفخار المهشم ومعها كثير غيرها من الهدايا الأخرى التي تركها هناك الحجاج، الذين وفدوا على هذا المكان المقدس مدة آلاف السنين، ولا بد أنه كان يجتمع هناك الجم الغفير من أولئك الحجاج الزائرين لذلك المقام المقدس بالقطر المصري في كل العصور، وبخاصة في ذلك الموسم الذي كانت تمثل فيه حوادث أسطورة الإله في شكل مسرحي يمكننا أن نسميها بحق مسرحية الآلام أو المأساة.
مسرحية آلام أوزير
وبالرغم من أن تلك المسرحية قد فُقدت تمامًا فإن لدينا لوحة «إخرنوفرت» التذكارية المحفوظة الآن بمتحف برلين تمدنا الملخص الذي يمكننا به أن نستخلص، ولو على أقل تقدير عناوين أهم فصول المسرحية المذكورة. ولا نزاع في أن هذه المسرحية قد مثلت أهم الحوادث الواردة في أسطورة «أوزير» وقد كان «إخرنوفرت» ضابطًا من ضباط الملك «سنوسرت الثالث»، وكان قد أرسله ليقوم ببعض الإصلاحات في معبد «أوزير» «بالعرابة المدفونة»، وقد ذكر في لوحته الأمر الملكي، ثم ذكر لنا بعد ذلك كيفية تنفيذه.
ثم يتلو ذلك ما قاله وزير المالية إطاعة للأمر.
«لقد نفذت التعليمات حسب كل ما أمر جلالته، فزينت كل ما أمر به سيدي، من أجل والده «أوزير أول أهل الغرب» ورب «العرابة» العظيم، المهيمن، الواحد القاطن في «طينة» ولقد أنبت عنه بوصفي «ابنًا يحبه» (أي بدل الملك) لأجل «أوزير» أول أهل الغرب، وزينت «القبر» العظيم إلى أبد الآبدين، وصنعت له محفة (سميتها) «حاملة جمال أول أهل الغرب» من الذهب والفضة واللازورد، والخشب والعطر والخشب الخرنوب، وخشب المرو. وكذلك صنعت آلهة تاسوعه المقدس، وعملت لها مقاصير جديدة، وجعلت كل كاهن غير محترف يقوم بواجباته، وجعلتهم يعرفون شعائر كل يوم، وأعياد أوائل الفصول، وأشرفت على صنع القارب المقدس، وصنعت مقصورته، ورصعت جسم رب «العرابة» باللازورد والفيروز، والذهب وكل الأحجار الثمينة، وذلك بين الحلي التي كانت من قبل على أعضاء الإله (تمثاله)، وألبست الإله ثوبه بحكم وظيفتي رئيسًا للأشياء السرية وقيامًا بواجبي بصفتي كاهنًا، وكنت طاهر اليد نظيفها عند تزيين الإله، وكاهنًا نظيف الأصابع.
ولا نزاع في أن كل ما ذكر مفيد جدًّا؛ لأنه يكشف لنا عن بعض الشعائر الخاصة بعبادة الإله «أوزير»، وبعد ذلك يقص علينا طورًا فريدًا من أطوار حياة الإله «أوزير» خاصًّا بإحياء ذكرى موته وبعثه في «العرابة» فيقول: احتفلت بطلعة الإله «وبوات»، عندما طلع ليحارب والده، وأقصيت العدو من القارب المقدس وهزمت أعداء «أوزير»، واحتفلت بالطلعة العظيمة مقتفيًا الإله عند ذهابه، وجعلت القارب المقدس للإله «تحوت» يجري على «البحيرة المقدسة»، وجهزت القارب مضيئًا حقًّا لرب «العرابة» بمقصورته، وألبسته حلته عندما خرج ذاهبًا إلى القرية (الجبانة الملكية)، وقدت طريق الإله إلى قبره أمام «بقر» ونازلت «نفر»؛ أي «أوزير» في يوم الشجار العظيم، وذبحت كل الأعداء على شاطئ ماء «نديت» وحملته إلى القارب المسمى العظيم عندما كان يحمل جماله، وأدخلت السرور على قلب المرتفعات الشرقية، وأوجدت الانشراح في المرتفعات الغربية، ولما رأوا جمال القارب المقدس عندما رسا في «العرابة المدفونة»، أحضروا «أوزير أول أهل الغرب»، ورب «العرابة المدفونة» إلى قصره، ومشوا خلف الإله حتى بيته ليحتفلوا بشعائره عندما يعود إلى مسكنه، وحللت عقدة (المقصورة) في وسط أتباعه وبين حاشيته.
وقد تبين لنا من هذه العناوين المدونة بتلك اللوحة التذكارية عن المسرحية المذكورة أنه كان لا بد من أن يستمر تمثيلها عدة أيام، وأنه كان من الجائز أن يستمر تمثيل كل فصل من فصولها الهامة على أقل تقدير يومًا كاملًا، وأن الجمهور كان يشترك في كثير مما كان يحدث فيها، وإننا ندرك من ذلك المختصر المدَّون على لوحة «إخرنوفرت» أن تلك الرواية كانت ذات فصول ثمانية.
فالفصل الأول يكشف لنا عن ذلك الإله الجنازي القديم «وبوات» خارجًا في موكب ليشتت أعداء «أوزير» ويفتح له الطريق (ومن ثم اشتق هذا الاسم).
وفي الفصل الثاني يظهر «أوزير» نفسه في قاربه المقدس الذي ينزل فيه بعض الحجاج ومنهم «إخرنوفرت» كما يقص ذلك علينا في نقوش لوحته التذكارية بزهو وافتخار، وكان «إخرنوفرت» هذا يساعد «أوزير» في صد الأعداء الذين يعرقلون سير القارب، ولا شك في أنه كانت تحدث بين الجمهور؛ إذ ذاك معركة عامة كالتي شاهدها «هرودوت» في بابريمبس، بعد ذلك الحادث بألف وخمسمائة سنة — فكان بعضهم يقوم بحماية الإله في القارب، بينما يمثل الآخرون دور أعدائه المزدحمين في خارج القارب برءوسهم المهشمة في زهو من أجل ذلك الاحتفال.
ويلحظ هنا أن «إخرنوفرت» هذا قد مر على موضوع قتل الإله مر الكرام دون أن يذكر شيئًا من ذلك، كأن ذلك في نظره موضوع مقدس لا يصح وصفه.
وقد ذكر لنا فقط أنه قام بتنظيم «الموكب العظيم» للإله، وهو احتفال مظفر نوعًا ما عندما لاقى الإله حتفه، وهذا كان موضوع الفصل الثالث.
وفي الفصل الرابع: يخرج «تحوت» رب الحكمة، ولا شك أنه مجدَّ الجثة، وإن كان ذلك لم يرِد ذكره. ويتألف الفصل الخامس: من الاحتفالات المقدسة التي يجهز الإله بوساطتها للتحنيط. في حين أن الفصل السادس: يشاهد الجمهور يسير في زحام عظيم إلى المقام المقدس بالصحراء التي خلف «العرابة المدفونة» حيث يضعون جثمان ذلك الإله الراحل في قبره.
وأما الفصل السابع فلا بد أنه كان مشهدًا رائعًا، فعلى شاطئ (أو ماء) «نديت» القريبة من «العرابة المدفونة» تهزم أعداء «أوزير» بما فيهم الإله «ست» وأتباعه بطبيعة الحال في موقعة عظيمة على يد «حور» بن «أوزير». ولم يذكر لنا «إخرنوفرت» شيئًا عن بعث الإله وقيامه ثانية من بين الأموات.
ولكن في الفصل الثامن نشاهد «أوزير» وقد عاد إلى الحياة يدخل إلى معبد «العرابة المدفونة» في موكب مظفر.
وقد كان لمثل ذلك العيد الشعبي الكبير مكانة عظيمة في نفوس القوم؛ إذ نشاهد مرارًا وتكرارًا قيام الحجاج بالصلاة للإله العظيم لينالوا بعد الموت حظوة الاشتراك في هذا الاحتفال العظيم، وهذا يماثل بالضبط ما رتبه «زفاي حعبي» لنفسه فيما بعد الموت ليشاطر بنصيبه في الاحتفالات بالأعياد في «سيوط».
وهكذا كان لصياغة حوادث أسطورة «أوزير» في شكل مسرحي أثر قوي في نفوس عامة الشعب.
على أن مسرحية مأساة «أوزير» هذه في أي شكل من أشكالها قد استولت على خيال المجتمعات المصرية، فهي بالضبط كما قد وجدها «هرودوت» فيما بعد في «باريمبس»، وكانت؛ إذ ذاك تنتشر من بلدة إلى أخرى لتحوز المكانة الأولى في تقويم الأعياد السنوية؛ وبهذه الكيفية نال «أوزير» مكانة سامية في حياة عامة الشعب وآمالهم لم ينلها إله آخر. وقد كان مصير «أوزير» الملكي الذي صور بهذه الصورة المسرحية الناطقة سببًا في انتشار الاعتقاد بين الشعب، بأن هذا المصير الذي كان في وقت ما (عصر الأهرام) وقفًا على الفرعون فقط قد صار من نصيب كل الناس؛ ولم يكن يلزم لأي شخص كان يريد مثل هذا المصير إلا أن يحصل كما ذكرنا من قبل على نفس العوامل السحرية التي استعملتها «إزيس» لإرجاع الحياة ثانية إلى زوجها الميت وهو «أوزير» المقتول ظلمًا بيد أخيه «ست»، وهذه العوامل تجلب لكل إنسان هذا المصير المبارك الذي ناله هذا الإله العظيم الراحل.
وقد كان محتمًا حدوث مثل ذلك التدرج في تلك العقيدة الجنازية (الشعبية) كما شاهدناه من قبل حتى صارت ثقة الناس بها تزداد باضطراد دالة على كفاية السحر وقوة تأثيره ونفعه في الحياة الآخرة.
(٧) أثر السحر في نفوس الشعب في هذا العهد بخاصة
وإنه لمن الصعب أن يفهم العقل الحديث الذي لم يندمج في أفكار هؤلاء القوم الدينية وتاريخهم، كيف أن مرافق الحياة جميعها قد تسرب إليها الاعتقاد في السحر بحالة صيرته صاحب السيطرة على السعادة الشعبية، وكان ذلك ظاهرًا على الدوام حتى في أبسط الأحوال المنزلية العادية؛ إذ صار من الأشياء التي يزاولها الإنسان بطبيعة حياته كالنوم أو تجهيز الطعام، فقد صار السحر يتألف من نفس الجوِّ الذي كان يعيش فيه أهل الشرق قديمًا.
وقد كانت الحياة المنزلية في الشرق قديمًا غير ممكنة إلا بالالتجاء إلى نفوذ تلك العوامل السحرية الناجعة، التي كانت تستعمل على الدوام، والتي لولا نفوذها لأبادت القوى المهلكة الخفية كل البشر كما كانوا يعتقدون، وبخاصة عند العامة.
لقد أعددت ما يحميه منك من نبات «افت» إنه يسبب الآلام؛ ومن البصل الذي يلحق بك الضرر، ومن الشهد الحلو المذاق (للأحياء) من الرجال ومر المذاق لمن هنالك (يعني الموت)، ومن الأجزاء المؤذية من سمك «ابدو» ومن فك «مررت»، ومن العمود الفقري للسمك …»
ولم تكن الأم الوجلة على ابنها تستعمل هذه التعويذة المذكورة بمثابة رقية وحسب، وإنما كانت تتبعها بمزيج شهي تعطيه الطفل المريض فيبتلعه، وهو مزيج مصنوع من الأعشاب والشهد والسمك، وكان خاصًّا بطرد الشياطين المرجومة التي كانت تعذب المرضى من الأطفال ذكورًا وإناثًا مهدِّدة بانتزاع حياتهم. كما نجد في وصف الشهد بأنه حلو المذاق (للناس الأحياء)، ومرُّ المذاق لمن هم هنالك (الموتى).
فكان الواضح إذن أن من الشياطين من يخاف الإنسان بأسه؛ لأن بعضهم يكونون هم نفس الأموات الذين تجردوا من أجسامهم؛ ولذلك كانت حياة أهل الدنيا في تصادم مع الأموات طوال مدة حياتهم في هذه النقطة، فكان من اللازم حينئذ العمل على كبح جماح أولئك الأموات الأشرار، ووقفهم عند حدودهم؛ ومن هنا كانت التعاويذ والحيل السحرية التي دلت على تأثير فعلهم ضدهم في الحياة الدنيا لها قيمتها في الحياة الآخرة أيضًا، فإن هذه الرقية السالفة التي منعت أخذ الطفل بعيدًا عن أمه يمكن استعمالها كذلك ضد من يسعى لسلب قلب أي رجل في العالم السفلي، فلأجل أن يتمكن الرجل المُتوفَّى من الدفاع عن نفسه يقول «هل حضرت لتأخذ قلبي هذا الحي: إن قلبي هذا الحي لن تُعطاه».
وعلى ذلك فإن الشيطان الذي يريد أخذ قلبه ليضر به كان يتسلل بعيدًا عنه لا محالة، وبتلك الطريقة كان السحر الذي يستعمل في الحياة الدنيا يستعمل بحالة مضطردة في الحياة الآخرة، وكان الأموات يعرفونه؛ إذ كانت تعاويذه توضع تحت تصرفهم.
(٨) تعميم المحاكمة العامة أمام الإله
ونعرف أن الاعتقاد الديني لم يكن يحتم في عهد الأهرام وجود محاكمة عامة تجري على كل الناس في الحياة الآخرة؛ لأن الأمر وقتئذ كان يتطلب حضور المذنب للمحاسبة في عالم الآخرة عن ذنب خاص اقترفه، فكان إله الشمس يعقد هناك محكمة للفصل في أمثال تلك القضايا، ولكن في العهد الإقطاعي كان إله الشمس يعلن أن كل إنسان مسئول عن خطيئته كما يستدل على ذلك من «متون التوابيت»: «لقد جعلت كل رجل مثل أخيه، وقد حرمت عليهم إتيان الشر، ولكن قلوبهم هي التي تعصي ما قلت.» وقد ذكرنا في النصائح الموجهة إلى «مر يكارع» ما يأتي: «إن ذنوب الرجل كانت تكوَّم بجانبه كالجبال في حضرة القضاة المهابين في عالم الآخرة.» ولذلك فإن حياة الإنسان مهما كانت نقية فإنه كان من مستلزمات معتقدات هذا العصر الإقطاعي أن ينتظر الإنسان ريثما يجتاز المحاكمة الخلقية للحصول على السعادة المنشودة في الحياة الآخرة، وقد صار ذلك الشعور بالمسئولية الخلقية فيما بعد الموت من العوامل القوية في حياة الشعب المصري القديم، غير أنه كان هناك عاملان قويان يعملان على هدم تلك المسئولية وهما؛ أولًا: استمرار اعتقاد عامة الشعب في كفاية العوامل المادية مثل إقامة القبور مع إعداد معداتها لضمان سعادة المُتوفَّى في الحياة الآخرة. ثانيًا: الاعتماد الزائد على نفع قوة السحر في عالم الآخرة، وهو الاعتقاد الذي نال تشجيع الكهنة الذين تطرفوا في ابتداع تعاويذه، واشتطوا فيها إلى حد أنهم حاولوا إنتاج تعاويذ سحرية تنفع المُتوفَّى في ضمان قبوله خلقيًّا عند محاكمته في عالم الآخرة.
ورغم انتشار العقائد الشمسية والأوزيرية في عهد الدولة الوسطى فإن ملوكها كانوا متمسكين بعبادة آلهتهم المحلية، ففي الأسرة الحادية عشرة كانت عبادة «منتو» هي السائدة حتى جاءت الأسرة الثانية عشرة فأصبح ملوكها يعتنقون عبادة إلههم المحلي «آمون»، ولما كانت عبادة هذا الإله في «طيبة» وكيفية ظهوره في أواخر عهد الأسرة الحادية عشرة، ثم انتشار عبادته في عهد الأسرة الثانية عشرة وما بعدها آثرنا أن نتبع خطوات ظهوره في عهد الدولة الوسطى.
(٩) ظهور الإله آمون وعبادته في الدولة الوسطى
تدل الآثار المكشوفة حتى الآن على أن عبادة الإله «آمون» رغم أنه الإله المحلي لمدينة «طيبة» منذ الأزل كما تقول النقوش الدينية لم يُذكر اسمه إلا في عهد الأسرة الحادية عشرة، وحتى هذا التاريخ لم يذكر إلا أربع أو خمس مرات؛ أولًا: يحتمل أن الأمير «واح عنخ أنتف عا» يشير في لوحته الرئيسية التي وجدت في قبره إلى تجهيز معبد «آمون» وإعداد سفنه المقدسة.
وقد ولد «أمنمحات الأول» الذي أصبح فرعونًا فيما بعد في نفس حكم هذا الفرعون، ولكن في نهايته، وقد عاش بعد الأسرة الحادية عشرة ليحكم البلاد لمدة ٣٠ عامًا. وخلافا للقليل الذي ذكرناه عن «آمون» فإنا لا نعرف شيئًا عنه قط قبل الأسرة الثانية عشرة.
لقد بقي اسم «عيد الوادي» يطلق على هذا العيد حتى بعد أن جاءت الأسر الأخرى وبنت معابد جديدة في «طيبة» الغربية وكان القوم يحجون إليها، رغم أنها كانت مقامة في السهل لا في الوادي.
على أنه لم يخطر ببال الملك «نب حبت رع» أن القوم سيحجون إليه هذا الحج العظيم، وكذلك لم يفكر المهندسون الذين وضعوا تصميم معبده بهذه الكيفية أن هذا الحج سيحدث؛ لأن بناء المعبد لا يصلح لأي احتفالات يحمل فيها قارب الإله، ويسير بين طرقاته الضيقة الملتوية كما أشرنا إلى ذلك من قبل. وفي الحق أن سياحة القارب المقدس لم يسمع بها قط في كل ما وصل إلينا من النقوش حتى الآن في عهد الأسرة الحادية عشرة.
وهذا الفصل من السنة لم يكن له أهمية من الوجهة الزراعية؛ إذ فيه فصل الركود الزراعي؛ لأن الأراضي تكون مغمورة بمياه الفيضان حينئذ، وسنرى الدور الفريد الذي لعبه هذا الإله الذي كان مغمور الذكر في عهد الأسرة الحادية عشرة عندما امتدت الفتوح المصرية في كل بقاع العالم في عهد الأسرة الثامنة عشرة.
(Annales du Musée Guimet) Vol. XXX (1902); Winlock M.M.A. (March 1932) Part II, PP. 14 ff.; Breasted, A. R. Vol. II, Par. 885, Vol. III, pp, 212, 215, 218, 515, 517, 522; Vol. IV, Par. 17; Foucart, B. I. F. A. O., Vol. XXIV: Kees, “Orientlische Literaturzeitung”, Vol. XXX, P. 242; Sethe, “Achtung”, Par. 8, Note Steindorff and Wolf, Thebaniche Graberwelt”, P. 27.