نظام الحكم في العهد الإقطاعي الأول في حكومة العهد الإقطاعي بالدلتا
مقدِّمة
إن أقدم عهد إقطاعي معلوم لنا من النقوش المصرية هو العصر الذي جاء بعد تفكك الدولة المتحدة التي قامت في مصر في عهد الأسرات الثالثة والرابعة والخامسة، ثم بدأ عصر الانحلال في أوائل الأسرة السادسة، وتحولت المديريات القديمة إلى إمارات وراثية قامت على الأعطية التي كان يهبها الملك الأمراء المستقلين الذين لم يكن له سلطان عليهم منذ سنة ٢٥٠٠ق.م، اللهم إلا السلطة الشخصية التي كانت للملك على أتباعه. وهذا العصر الإقطاعي يمتد من أواخر الدولة القديمة حوالي سنة ٢٤٧٥ إلى بداية الأسرة الحادية عشرة، حوالي سنة ٢١٤٠ق.م، وفي هذه الأثناء كانت الوحدة المصرية في طريق التكوين ثانية تحت حكم أسرة كان ينتخب ملوكها على ما يظهر، ولكنها أصبحت فيما بعد وراثية في عهد الأسرة الثانية عشرة حوالي عام ٢٠٠٠ق.م، وقد حلت هذه الأسرة بدلًا من الإقطاعيات المفككة التي كانت تتألف منها البلاد فكونت مملكة إقطاعية متحدة مهدت السبيل إلى الدولة الحديثة التي بدأت بالأسرة الثامنة عشرة حوالي سنة ١٥٨٠ق.م.
والواقع أن هذا العهد الإقطاعي الذي مكث نحو ثلاثة قرون منذ الأسرة الثامنة إلى نهاية الأسرة العاشرة بقي مجهولًا لنا، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الوثائق عنه قليلة، وكل ما لدينا ينحصر في بعض لوحات ومراسيم الملك «نفر-كاو-حور» «نفر-أب-تاوى» ونقوش أمراء إخميم؛ أي المقاطعة التاسعة من مقاطعات الوجه القبلي يضاف إلى ذلك نقوش أمراء أسيوط … ثم أخيرًا تعاليم الملك «خيتي» لابنه «مريكا رع» أحد ملوك الأسرة التاسعة؛ أي الأسرة الإهناسية، وقد تكلمنا عنها جميعًا ببعض الاختصار فيما سبق.
وعند موازنة هذه الوثائق السالفة الذكر بالوثائق التي من عهد الأسرة السادسة والتي توضح لنا عهد الإقطاع في تكوينه، وبالوثائق التي من عهد الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة التي تضع أمامنا معلومات عن أقوال رجال هذا العصر، يصبح في إمكاننا أن نفهم بوجه عام أن النظام الإقطاعي الذي كان السلطان فيه للأمراء ساد في مصر الوسطى، ولم تصل إلينا حتى الآن معلومات مؤكدة عن حالة البلاد السياسية والاجتماعية في الدلتا في نفس هذا العصر؛ لأن الوثائق التي وصلتنا من العهد الفرعوني في معظمها خاصة بالوجه القبلي ومصر الوسطى؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن رمال هذه الجهات قد حفظت لنا الآثار وملفات البردي، عكس ما كان عليه الأمر في الدلتا؛ إذ إن غرين الدلتا قد دفن كل الآثار الخاصة بهذه المدنية العظيمة الضخمة التي كان مسرحها الوجه البحري، والتي كانت تقع على النيل، وقد أصبحنا لا نعرف عنها شيئًا إلا الإشارات القليلة التي نجدها فيما عثرنا عليه من الوثائق في الوجه القبلي أو ما كتبه بعد مؤرخو الإغريق. وقد كان ذلك سببًا في خلق فكرة خاطئة في أفقنا التاريخي عن مصر القديمة، فقد صورت لنا طبق ما وجدناه في وثائق الوجه القبلي.
عراقة مدنية الوجه البحري
والواقع أن الوجه القبلي كان بلادًا زراعية في أصلها، وقد أُدخلت فيه الحضارة بعد الدلتا بزمن طويل؛ إذ كانت الدلتا معظمها مدن يشتغل سكانها بالتجارة البحرية والنيلية وبالصناعة، ومن أجل ذلك كانت أغنى البلاد المصرية وأكثفها سكانًا وأعرقها حضارة، ومع ذلك فإن مكانة هذه البلاد لا تشغل حيزًا ما تقريبًا في التاريخ المصري القديم لقلة ما لدينا عنها من المصادر المدوَّنة.
لوحة نعر مرو الحكم الديمقراطي
وعلى أية حال فلدينا سلسلة وثائق ذات أهمية ممتازة تسهل لنا درس هذه المدن واقتفاء أثر أنظمتها في إجمالها، وفهم أصل نشأتها الاجتماعية، وذلك في عصر ما قبل الأسرات وعصر الإقطاع الإهناسي. ففي زمن ما قبل الأسرات ألقت اللوحات الأثرية لملوك الجنوب نورا خاطفًا على مدن الدلتا فقد مثل عليها ملوك هذا العهد وهم يهدمون تلك المدن، ولوحة الملك «نعرمر» الذي يختلط اسمه باسم الملك «مينا» لها أهمية عظيمة جدًّا في موضوعنا هذا، فقد مثل هذا الملك وهو يضرب عصاة الدلتا مرتديًا تاج الوجه القبلي، وهؤلاء العصاة هم أناس يسمون بالمصرية «رخيت» (سكان المدن) وهم من الخوارج وقد ذبح منهم الملك «نعرمر» خلقًا كثيرًا.
وبعد أن قهر قرية متليس ومليج (فوَّة الحالية) القوية، وهي تميز على لوحة «نعرمر» بالرمز الخاص بها وهو المقمعة (الخطاف)، أمر بإزالة جدرانها وقصف رقاب عشرة الرجال الذين يديرون شئونها وأخضعها لسلطانه.
وأخيرًا قضت الأسرة الثالثة على كل مقاومة من ناحية هذه المدن فلم تعد تجد بعد أثرًا لعشرة الرجال الذين كانوا يحكمونها منذ أربعة أجيال مضت.
نظام الحكم في مدن الدلتا
وكانت هذه المدن الآن قد وضعت تحت إدارة مديرين ملكيين يحمل كل واحد منهم لقب «عزمر» (المشرف على حفر الترع) وربما كان حفر الترع هذا عملًا يستحق العناية في الدلتا في ذلك الوقت ولا نستغرب ذلك؛ لأن الدلتا في حاجة إلى توزيع المياه والعناية بها في كل الأزمان، وسنرى أن الاهتمام بالنيل في الدلتا كان من الأسلحة التي يشهرها الملك على كل بلدة تعصيه فيحجز المياه عنها بإقامة سد فيعطل تجارتها وري الأراضي التي حولها، وبخاصة إذا علمنا أن مدن الوجه البحري كانت تعيش فيما بينها على التجارة بالنيل وترعه.
ولما كان الوزير هو القاضي الأعلى في البلاد فإنه عُني بمد سلطانه حتى على سكان المدن (رخيت)، وذلك مما يدل على أن هؤلاء المدنيين كانوا قبل ذلك يتمتعون بمركز قانوني خاص، ويظهر ذلك جليًّا منذ قيام الإصلاح التشريعي الجديد الذي أدخلته الأسرة الخامسة.
محكمة العدل العليا
عودة الحكم الديمقراطي إلى الدلتا في العهد الإقطاعي
ومن الأمور الهامة في تاريخ العهد الإقطاعي في عصر الأسرة التاسعة أن نرى عشرة الرجال الذين شاهدناهم في لوحة «نعرمر» كانوا يحكمون المدن قبل جمع السلطة الملكية في يد «مينا» وقد ظهروا ثانية في متن تعاليم الملك «خيتي» لابنه «مريكارع»، وهذا المتن له أهمية ممتازة في درس تاريخ مدن الدلتا والعصر الإقطاعي بوجه عام، ومن المدهش أنه لم يدرس قط حتى الآن من هذه الناحية، وذلك أنه عندما شرح الملك «خيتي» لابنه ما يجب عليه القيام به لتنفيذ سلطانه حتى يكون ملكًا قويًّا فاضلًا في وقت واحد، أشار في سياق الحديث إلى أن الحال قد تستدعي في مواطن كثيرة الاستعانة بسلطانه الشخصي وسلطان أتباعه ورعاياه، على أن طابع هذه الوثيقة التي في أيدينا نفسها لا يعرض أمامنا وصفًا منظمًا عن مملكة «خيتي» التي كانت وقتئذ تنحصر في مصر السفلى ومصر الوسطى، ولكن من الممكن أن نستخلص هذا النظام بجمع كل العناصر التي تضمها الوثيقة، ويكون لها علاقة بالأنظمة الإقطاعية في تلك الفترة.
ورغم أن التعاليم التي وجهت إلى «مريكا-رع» ترجع إلى العهد الإهناسي، فإن النسخة التي في أيدينا قد كتبت في عهد «تحتمس الثالث» أو «أمنحوتب الثاني» هذا فضلًا عن أن المتن الذي في أيدينا مشوَّه وفيه فجوات، ونجد كثيرًا من نقطه لا يمكن الاستفادة منها، وسنقتصر في الترجمة على الفقرات السليمة التي يمكن الوصول فيها إلى حقائق مفهومة.
حالة بلاد الدلتا من تعاليم مريكارع
ونعلم من هذا المتن أن الملك الإقطاعي كان قبل كل شيء كاهنًا أعظم، على أنه وإن كان سلطانه من جوهر إلهي فإنه لم يكن بإله كما كان الفراعنة العظام في عهد الدولة القديمة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن تفكك الدولة قد غيَّر الفكرة عن الملكية وجعلها تعود إلى ما كانت عليه قبل توحيد «مينا» للبلاد؛ أي إلى الفكرة الإقطاعية قبل الأسرات.
أسس بيوتًا للإله وطوائف الناس الذين تجندوا (لهذه البيوت) نافعين لربهم، وهذا هو السبيل لإحياء اسم من أقامها، ويجب على الإنسان أن يفعل ما يسر روحه «با»، أدِّ الخدمة الشهرية للكاهن المطهر «وعبت» فالبس حذاء أبيض، واختلف إلى المعبد، وتفقه في الأسرار، وأنفذ إلى أعماق المحراب، وكل من خبز المعبد، وأبسط مائدة القربان وضاعف خبز «القربان» وزِد في أهمية ضحايا المؤسسات الدينية، فإن ذلك شيء نافع لفاعله، أسس بيوتًا للإله حسب ثروتك؛ لأن يومًا واحدًا يثمر لكل الأبدية، وساعة واحدة تجلب السعادة للمستقبل، والله يعرف الذي يعمل حبًّا في ذاته.
نزاهة الحكم والعدالة
وكانت محكمة العدالة هذه هي أساس القوة الملكية، وذلك لما كانت سلطة الملك تفرض على الناس الرهبة التي كان يجب أن تبعثها في نفوس القوم، وكذلك تفرض رهبته عليهم باستقامته التي كان يعترف بها الجميع، فإنه كان من الضروري أن يكون عظماء حاشيته مستشارين مخلصين له وقضاة نزيهين في أحكامهم، ولذلك كان من واجب الملك أن يجعلهم من أهل اليسار؛ لأن «خيتي» يقول لابنه: «إن الرجل الذي لا يحتاج إلى شيء في مأمن من أن تُشترى نفسه بالمال.
حاب عظماءك حتى يحترموا قوانينك، ولن يكون محابيًا من كان غنيًّا في بيته وله متاع ولا يشكو الفاقة، والرجل المعوز لا يتكلم حسب اعتقاده، ولا يكون مستقيمًا من يقول: آه، لماذا لم أكن غنيًّا، ويكون إذن محابيًا لمن في قدرته أن يدفع له «الرشوة».
وعظمة الرجل العظيم عندما يكون العظماء عظماء.
وإنه لملك قوي إذا ما شد أزره مجلس، وإنه لجدير بالاحترام من كان غنيًّا في عظمائه، وعندما يكون الملك محاطًا بعظمائه الذين تضمن ثروتهم استقامتهم فإنه يقيم عدالة صحيحة.
وعندما تقيم العدالة في بيتك فالعظماء الذين في البلاد يخافونك، وكل شيء ينجح لملك سليم القلب؛ وإن داخلية بيتك هي التي تبعث الرهبة في خارج بيتك، أجرِ العدل حتى يمكن أن تبقى على الأرض، واسِ الباكي، ولا تضطهدن الأرامل، ولا تحرمن رجلًا متاع والده، ولا تؤذين العظماء في مراكزهم، واحذر أن تعاقب ظلمًا، ولا تضربن إلا إذا كان في ذلك مصلحة، ويمكنك أن تعاقب بالجلد وبالسجن، فالبلاد يحسن نظامها بهذه الطريقة، ولا تستثنين إلا الثائر عندما يكشف عن نواياه؛ لأن الله يعرف الشرير ويلعنه في الدم … ولكن لا تضربن رجلًا تعرف مزاياه، وقد رتلت معه الكتب.»
يجب أن يكون الملك متعلمًا تقيًّا — والكتب المقصودة هنا هي التي قد حفظ فيها حكم الأجداد أساسًا لتكوين الرجال المثقفين «قلد آباءك وأجدادك، وتأمل فإن كلامهم محفوظ في الكتب، افتحها واقرأها لتصير من أهل المعرفة؛ لأن الذي يعمل يصبح رجلًا متعلمًا، والواقع أن الملك ببعثه مثل هذه الحكمة التقليدية يصل إلى هذه الاستقامة وطيبة القلب اللتين تسمحان له أن يقابل حساب ربه دون خوف بعد الموت؛ لأنه لن ينسى قط أنه مسئول أمام الإله، إن المحكمة الإلهية التي تحاكم المجرم كما تعرف ليست متهاونة في اليوم الذي يقف فيه الشقي ساعة النطق بالحكم، فالشقاء إذا كان المتهم مجرمًا. ولا تركنن إلى التفكير في طول الأعوام (التي عشتها)؛ لأن الحياة الإنسانية في نظر المحكمة مثل ساعة واحدة، (هذه هي نظرية العلم الرياضي)، والرجل يظل باقيًا بعد أن يصل إلى ميناء الموت وأعماله تكون بجانبه مكدسة، وسيبقى هناك أبدًا وإنه لمن الحمق أن يستهان بذلك.
ومن المهم الآن أن نتساءل من هم هؤلاء العظماء والرعايا الذين مد الملك عليهم سلطانه التشريعي، ولكن متن هذه البردية لا يمكِّننا من فهم ذلك إلا بعد أن نفحص فحصًا دقيقًا الألفاظ التي تعبر عنها، ومن ثم يمكننا أن نصل إلى بعض نتائج بطريقة واضحة بالرغم من الفجوات والإبهامات التي تجعل بعض أجزاء المتن لا يمكن فهمها كلية.
تفسير كلمة عظماء في العهد الإقطاعي
وهؤلاء الأسياد كانوا يسكنون قلاعًا عظيمة «حت-عات» مثل حكام الإقطاع في عصر ما قبل التاريخ، ويلقب كل واحد منهم بلقب «نب» (السيد) مثل الملك نفسه، ونقوش أمراء أسيوط تُظهر لنا أنهم كانوا يتعاقبون على حكومة مقاطعتهم حسب قواعد الوراثة الملكية، وفي يدهم السلطة الملكية الحقيقية، ومع ذلك فإنهم كانوا تابعين للملك فهم أتباعه وأصحاب إقطاعه، ومرتبطون به من جيل إلى جيل وخاضعون لتشريعه، ويحصلون منه على هبات وثروة؛ وهم مدينون له بالخدمة العسكرية ولكنهم يقودون جيوشهم الخاصة.
وملوك إهناسية لم يمدوا سلطتهم على الأمراء الإقطاعيين فحسب، بل إن قوتهم كانت تتمثل إلى درجة عظيمة في السلطة التي يديرونها، وذلك بفرضها على مدن الدلتا أو على الأقل على طائفة منها.
تقسيم الدلتا إلى مراكز ديمقراطية
وكانت الدلتا خلافًا لمصر الوسطى مقسمة بين العظماء، وتتألف من مراكز (سبت) لكل مركز مدينة عظيمة تُتخذ حاضرة له: وفي كل من هذه المدن كانت السيادة في أيدي عشرة رجال، وكان الحاكم يستمد إيراده من الضرائب المختلفة، أما الكاهن فكان له حقل (أي إن الكاهن كان له حقل بصفة مرتب يستغله هبة وراثية).
وصف مدينة أتريب (بنها) وحكومتها
ويصف لنا المتن بلدة «أتريب» بأنها مدينة من أهم هذه المدن، وهي واقعة في وسط الدلتا على الفرع الأوسط للنيل (المقاطعة العاشرة من الوجه البحري) (٩٩٠١) وهي المركز الرئيسي للطرق التي تؤدي إلى البلاد الأجنبية (في المتن يقول سُرة جبال أهل الصحراء)، وأسوارها وجنودها كثيرة.
ويبلغ تعدادهم عشرة آلاف رجل (الذين يطلق عليهم صفة المواطنين) لا يدفعون ضرائب (أي الضرائب أو السخرة للملك التي أُعفوا منها؛ إذ المتن في الواقع يشير إلى ضرائب يدفعونها إلى حكومة المدينة.»
ولها حكام (سر) منذ زمن الحاضرة (أي منذ أوزير وهو عصر ما قبل التاريخ الذي تنتمي إليه اللوحات المنقوشة، وهي التي عرفنا منها هؤلاء الحكام؛ أي عشرة الرجال).
وحدودها ثابتة، وقوية، وحامياتها (؟)، وهي مؤلفة من جم غفير من رجال الشمال، وبلاد الدلتا تنتج القمح بلا قيد ولا شرط، وهذا القمح ملك لمن يزرعه، ولقد كانت هذه هي الميزة الأساسية لبلاد الشمال، ولا نزاع في أن هذه الأسطر القلائل من هذا المتن (وهي لم تفهم من قبل على ما أعتقد) تظهر لنا بوضوح حال مدن الدلتا، فكان يدبر شئونها حكام وهم عشرة الرجال، ومن المهم أن نلاحظ أن السلطة التي كانوا يمارسونها قد عبِّر عنها في المتن بكلمة «حقات» وتدل على السيادة التي كانت في يد الأمير، والواقع أن سيادة الأمراء الإقطاعيين كان يعبَّر عنها بلقب «حاكم القلعة» (حقا حت)، ففي مرسوم «نفر كاوحور» وهو أحد العقود القانونية في العهد الإقطاعي يقول: «عندما عين «إدي» أمير «قفط» حاكمًا على ست المقاطعات الجنوبية للوجه القبلي»، وقد أنعم عليه بهذه السلطة في العبارة الآتية: اعمل أميرًا «حاتي عا» … ورئيسًا لحكام القلاع (حقا حت) الذين هناك (في هذه المقاطعات)؛ وعلى ذلك فإن المدينة كانت بالنسبة للملك كإقطاعية؛ أي إنها ليست تابعة لأي أمير إقطاعي، وهذا يدل على أن الدلتا لم تكن مقسمة إمارات إقطاعية، ولكن المدن كانت منظمة جمهوريات تتمتع بحكم ذاتي وتحت سيطرتها الأراضي المنبسطة، وسكان هذه المدن كانوا يتألفون من مواطنين أحرار، وكانوا قابعين داخل أسوارهم، وفي قبضتهم الأراضي التي تحيط بهم. أما مصدر حياتهم فكان التجارة، وكانت تلتقي القوافل البرية في هذه المدن، وكذلك السفن التي كانت تجري على النيل نحوها، وفي أصقاع هذه المدن لم يكن نظام «التملية» الإقطاعية موجودًا، فالقمح كان ينتجه الزراع بحرية ومحصوله ملك لهم.
سكان المدن من الطبقة الوسطى
إنهم عنصر ثورة في المدينة، فهم كالرجل المشاغب الذي يبعث الشقاق في حزبين بين أهل الجيل الغني، فإذا فهمت أن المدينة منحازة إليه … وأن أعماله لا تحسب حسابك فعليك أن تحضره أمام المجلس وعاقبه؛ لأنه ثائر، والإنسان المؤذي للمدينة يكون مثل الثرثار، وعليك أن تخضع الجمهور وأن تقمع هياجه.
ونشعر من هذا المتن الممتلئ حيوية بحياة هؤلاء السكان المدنيين المضطربين المتفرقين شيعًا سياسية أنهم يكونون دائمًا على أهبة خلع النير الملكي، وكذلك نجد من جهة أخرى أن الملك، وإن لم يكن يضرب الضرائب على أهل المدن، فإنه كان له عليهم نفوذ تشريعي إقطاعي الصبغة، فالقاضي كان يحضرهم أمام محكمته ويحكم عليهم، على أن الملك مع ذلك كان لا يتردد في أن يتدخل ويخضع الجمهور كما فعل ملوك ما قبل التاريخ وملوك الأسرتين الأوليين الذين أرسلوا الحملات التأديبية إلى المدن، كما جاء في لوحات ذلك العصر وفي حجر «بلرم».
تكوين جيش الفرعون
وعند كلام الملك عن هذه المدن القوية الآهلة بالسكان الواقعة في شرق الدلتا كان يقول: «إنها تقدم له خدمات كزمرة بسيطة (تس).» ويقصد من هذه «الزمرة» أن المدينة تقدم للملك فرقًا عسكرية من المجندين، وسنرى ذلك فيما يلي، فإذا كان أمراء الإقطاع كما نفهم من نقوش أسيوط، لهم جيوشهم الخاصة فإن الملك كذلك له جيشه الذي كان يهتم دائمًا بزيادته، «جنِّد جنودك بطريقة تجعل القصر يقدرِّك، وضاعف عدد رعاياك الذين تتخذ منهم أتباعك.
وارعَ أن تكون المدينة (يعني هنا المدينة الملكية) مكتظة بجنود جدد، وهاك عشرين عامًا، والجيل الغني مرتاح ليعيش حسب رغبته.
وعلى ذلك استمر الأتباع يقدمون أنفسهم، ورئيس الأسرة يشترك في الخدمة مع أولاده … [فهل الشيخوخة هي] التي حاربت لأجلنا عندما جندت جنودي وقت توليتي العرش؟
حابِ عظماءك ومد «محاريبك» وضاعف أجيال أتباعك، ومدهم في قوائمك بالهبات من الحقول المجهزة … بالماشية.» وهذه الفقرة تظهر أن الملك كان يجند من بين رعاياه رجالًا يحملون السلاح ويهبهم إنعامات وراثية، وبذلك أصبحوا أتباعه، والظاهر أنه كان من واجبهم أن يقوموا له بالخدمة العسكرية مدة عشرين عامًا.
وهذا الجيش كان يقوده رؤساء ينتخبهم الملك من بين عظمائه كما كان ينتخبهم من بين أهل المدن.
لا تميزن بين ابن الأسرة (أي الشريف في النسب) وبين الرجل الرقيق الحال؛ أي الذي من الطبقة المتوسطة، بل خذ الرجل في خدمتك حسب قيمته.
ولا شك في أن الملك كان يفرض خدمة عسكرية خاصة على سكان المدن؛ ومن أجل ذلك كان يخرطهم في سلك فرقة من الفرق (تس) التي يتألف منها جيشه، فمع أن مدن الدلتا كانت صاحبة استقلال ذاتي إلا أنها كانت تابعة للتشريع الملكي، ومدينة للملك بتقديم فرق من المجندين، وكانت له منبع قوة؛ ولذلك وصى «خيتي» ابنه بألا يهمل ذلك المنبع؛ ولا نزاع في أن المدن كانت تطبق سلطان الملك بصعوبة، وكذلك الالتزامات التي كانت تنجم عن هذا الخضوع. ولهذا كان يرى الملك من بعيد المعارضة التي ينتظر أن تقوم في وجه ابنه.
أسلحة الملك لمحاربة المدن الثائرة
وكيف حدث أن هذه المدن لم تثُر؟ فيقول؛ لأن النيل لا يخطئ، فإذا أردت فإنه لا يأتي (إلى هذه المدن)، وهذا هو السبب الذي من أجله أصبحت الضرائب «باك» في يدك وهي التي تُجبى من بلاد الشمال، وهكذا فقد غرست وتد حبل المرسى في القطر الذي أخضعته في شرقي الدلتا (أي أصبحت مسيطرًا على شرقي الدلتا) من بداية حدود حبتو (بني حسن) حتى طريق حور (حدود شرقي الدلتا)، وهذا القطر آهل بالمدن المكتظة بالسكان وهي أحسن البلاد …»
وفي جزء آخر من المتن يفسر لنا الملك كيف تنتهز الفرصة لإجبار المدن على الخضوع، وذلك أن المدن كانت دائمًا في حروب مستمرة فيما بينها، فمثلًا نجد أن «أتريب» لأجل أن تقهرها «إهناسية» حاضرة الملك، قد أقامت سدًّا ضدها، وهو سد في عرض النهر؛ طبعًا لوقف الملاحة وإجبارها على التسليم والخضوع.
وهذه هي نفس الطريقة التي يشير إليها الملك عند قوله أن يمنع المدن من الثورة ضده؛ لأنه هو سيد النيل، وأنه بإرادته يأتي النيل أو لا يأتي حتى مدن الدلتا.
ومن ذلك نعلم أن فيضان النيل وسده كانا هما الطريقين الفعالين للسيادة على المدن؛ فالفيضان يعوق زرع الغلال وهو مادة التجارة لمدن الشمال، والسد يمنع الملاحة. وهكذا يصف لنا الملك الحرب التي شنها على الدلتا: «أقم سدًّا ضد نصف البلاد، واغمر النصف الثاني بالمياه بما في ذلك (؟) مدينة «أتريب».»
وهذه الجمل مع إيجازها لها أهمية استثنائية؛ إذ تبرهن على أن المدن كلها كانت تتوقف حياتها على النيل؛ لأنه الطريق العظيم للتجارة التي منها تعيش، وبه حافظت على حريتها في داخل أسوارها.
والظاهر أن تعاليم «مريكارع» لم تترك مجالًا للشك في أهمية مدن الدلتا مدة العصر الإقطاعي، إلا أنها قد سهلت علينا فهم النظام الذي كانت تعيش تحت كنفه هذه المدن، وكذلك تأليف سكانها ونشاطهم.
وفي وسط نظام الإقطاع الذي ملك الدولة القديمة تحول المجتمع إلى ضِياع يملكها الأشراف، وأسس بين الأشراف والأحرار والعبيد نظام طبقات وراثي دقيق منظم اقتصاديًّا في نطاق ضيق جدًّا، نجد فيه أن المدن التي كانت مركز التجارة والملاحة، كسرت تلك القيود التي كان يضيق بها الأشراف الخناق باضطراد.
نظام الحكم الجمهوري في مدن الدلتا
وقد كانت كل مدينة من هذا العهد تؤلف جمهورية لها حكومتها الذاتية، وسكانها الذين كان يبلغ عددهم نحو ١٠٠٠٠ مواطن بالغ، كما في «أتريب» يعيشون أحرارًا دون أشراف بينهم، ولكن كان يقلقل راحتهم حياة سياسية شديدة قسمتهم أحزابًا، وكانت محكومة كما كانت في عهد «نعرمر» بعشرة حكام في يدهم السيادة، وهذه المدن كانت محوطة بأسوار ولها جنود مرابطون يسيطرون على الأراضي المستوية التي تحيط بها ويحافظون على حريتها، وزراع هذه الولايات الصغيرة المدنية كانوا يزرعون بحرية القمح ويبيعونه في المدن ويصدرونه بفضل مياه النيل إلى الأقطار الأجنبية، وثروة المدن وقوتها كانت تأتي لها عن طريق تجارتها التي سهلت بفضل السفن التي تجري على ماء النيل.
ومع ذلك فقد كان لزامًا على هذه المدن أن تخضع للإشراف الملكي؛ لأن المشاحنات التي قسمتها أحزابًا قد صيرتها تحت رحمة الملك، فجرَّها ذلك إلى الخضوع حتى لا يغرقها أو يمنع عنها النيل، وبذلك يعزلها عن باقي العالم، ويجعل نشاطها التجاري وهو قوام حياتها مستحيلًا.
ومع ذلك فإن السلطة الملكية لم تظهر في المدن إلا في امتداد تشريع محكمة الملك الإقطاعية، وفي الالتزامات المفروضة عليها وإمداد جيش الملك بالمجندين.
أهمية تعاليم خيتي في الأنظمة الحكومية
ونجد عند عرض ما قامت به مدن الوجه البحري في العهد الأول الإقطاعي المصري أن تعاليم «مريكارع» تحتل على ما يظهر مكانة تاريخية ذات أهمية ممتازة، فاللوحات التي من عهد ما قبل التاريخ تثبت وجود الحكم الذاتي في مدن الشمال قبل عهد «مينا»، ووثائق الأسرة السادسة والعشرين تبرهن على الصبغة الأصلية للمدنية الصاوية التي نمت في الدلتا بعد العصر الإقطاعي الثاني (الأسرة ٢١–٢٥). أما تعاليم «خيتي» التي وصفت لنا الحياة في المدن المصرية بأنها حياة صاخبة قوية فتبرهن لنا على أن هذه الحياة قد ظلت في خلال أربعة آلاف عام محورًا يدور حوله نظام الحكم، ويرجع به إذا اقتضى الأمر إلى نظام الإقطاع في وادي النيل، ويجعل من هذه المدن المتحضرة جزيرات؛ حيث تسود بفضل التجارة والملاحة حرية لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت معروفة في مدن سهل «لومباردي» و«الفلندر» في وسط المدينة الإقطاعية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر.