أمنمحات الأول (٢٠٠٠–١٩٧٠ق.م)
(١) مقدمة
قلنا فيما سبق: إن «أمنمحات» الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة، يحتمل أن يكون هو نفس «أمنمحات» وزير الفرعون «منتو حتب الرابع»، والمرجح أن سلطان هذا الوزير أخذ يعظم، ونفوذه يزداد ويقوى في عهد «منتو حتب» هذا؛ حتى تمكن في النهاية من الاستيلاء على العرش عنوة، ويقوي هذا الظن أن «منتو حتب الرابع» هذا كان مغتصبًا الملك، ولم يكن صاحب حق وراثي فيه، على أنه من الجائز أن يكون «أمنمحات» تولى العرش بعد وفاة «منتو حتب» مباشرة بفضل ما كان له من قوة ونفوذ في البلاط.
ويعد هذا الرأي الأخير مقبولًا جدًّا إذا ثبت أن «أمنمحات» هذا ينتسب إلى أحد فروع الأسرة الملكية الشرعية القديمة، ولدينا مصادر تاريخية تشير إلى وجود صلة دم بين «أمنمحات» مؤسس الأسرة الثانية عشرة وبين ملوك الأسرة الحادية عشرة، فقد نوَّه «سنوسرت الأول» عن ذلك كما أسلفنا، ولكن على الرغم من وجود صلة الدم هذه فإن «أمنمحات الأول» على ما يظهر أراد أن يبرر اعتلاءه عرش الملك أمام الشعب المصري بطريقة روحية مبتكرة تختلف عن الطريقة التي اخترعها ملوك الأسرة الخامسة عندما أرادوا أن يثبتوا مراكزهم أمام الشعب المصري (مصر القديمة ج١)؛ وقد جرت التقاليد في التاريخ المصري القديم ألا يتولى عرش الفراعنة إلا من كان يجري في عروقه الدم الملكي الخالص، كما سبق شرح ذلك في الجزء الأول (مصر القديمة ج١)، فإذا اتفق أنه ظهر رجل عظيم في البلاد ولم يكن من دم ملكي وأراد أن يؤسس أسرة جديدة أو يغتصب الملك بما لديه من قوة ونفوذ بدون حق شرعي، فإنه كان يلقى في سبيل تنفيذ مآربه عقبات جسامًا؛ وذلك لأن الشعب المصري كان يميل إلى التمسك بأهداب القديم، ويحافظ على ما وجد عليه آباءه وأجداده؛ وبخاصة فيما يتعلق بالبيت المالك الذي يرتفع في نظر المصريين إلى مرتبة الآلهة. من أجل ذلك لم يعتمد «أمنمحات الأول» في استوائه على العرش على القوة وحدها، بل قرنها بحيلة تدل على الحذق والمهارة، استمال بها أبناء الشعب مثقفين وغير مثقفين، تلك هي أسطورة، حرص على إذاعتها بين القوم قوامها نبوءة لحكيم قديم، رأى فيها أن الويلات التي حاقت بالبلاد ستنجاب على يد رجل عظيم يصلح عوجها، ويبرئ بحكمته عللها، وذلك المخلِّص المنتظر هو «أمنمحات»، آمن بها الدهماء؛ لأنها نبوءة تنبأ بها حكيم من قديم الزمان منذ آلاف السنين، وقال عنه: إنه المخلِّص المنتظر، الذي سيخلص البلاد مما أحاق بها من ويلات ونكبات ظلت قرونًا متوالية، وآمن بها المثقفون؛ لأنها كُتبت بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب في عصر يحتل فيه الأدب مكانة رفيعة؛ بفضل كُتاب نابهين كانوا يصورون حالة البلاد وما انطوت عليه من بؤس وفقر بأسلوب مؤثر، فكان ظهور هذا المخلِّص المنتظر يعد رحمة عند الجميع، وسنورد فيما يأتي هذه النبوءة التي صاغها الكاهن المرتل «نفرروهو» في قالب أدبي جذاب تبريرًا لاعتلاء «أمنمحات» عرش الملك مع التعليق على محتوياتها.
(٢) نبوءة نفرروهو١
عثر الأستاذ «جولنيشف» على بردية هي الآن بمتحف «لننجراد» وتحتوي على نبوءات كاهن مرتل اسمه «نفرروهو»، وهو يدعي أنها ألقيت في حضرة الملك «سنفرو» الذي ينتسب إلى أوائل الأسرة الرابعة؛ أي قبل العصر الإقطاعي الذي نحن بصدده بما يقرب من ألف سنة. والواقع أن ذلك هو مجرد وضع تمثيلي ليسبغ على كلمات «نفرروهو» قوة التأثير. ومن حسن الحظ أن كاتبًا آخر من عهد الدولة الحديثة ممن عاشوا في القرن الخامس عشر قبل الميلاد قد ظهرت له أهمية ذلك المقال، ولما لم يجد لديه برديًّا أبيض ينقشه عليه نقله على ظهر أوراق أخرى سبق أن استعملها في تدوين حسابه هو. وبذلك بقيت نبوءات «نفرروهو» في تلك الصورة التي وصلت عفوًا بما تحتويه من غموض بسبب أغلاطها الكثيرة التي حدثت عند نقلها بطريق المصادفة كما ذكرنا.
والوثيقة تبتدئ بمنظر مألوف في كل عصور التاريخ المصري حتى في النقوش الرسمية ويصور مقدمة للموضوع، فيجلس الملك مع حاشيته يتشاور في أمر، أو تقص عليه الحاشية حكاية، أو كما نجد في غير هذا المكان أن الملك لحب استطلاعه أمور الغيب تتوق نفسه لسماع شيء لم يكن يعرفه.
وقال لهم جلالته: «يا إخواني، لقد أمرت بطلبكم؛ لتبحثوا لي عن ابن من أبنائكم يجيد الفهم، أو أخ من إخوانكم بارع، أو صديق من أصدقائكم قد أنجز بعض عمل شريف، أي فرد يتحدث إليَّ بكلمات جميلة وألفاظ مختارة عندما تسمعها جلالتي تجد فيها تسلية.»
وعندئذ سجدوا منبطحين على بطونهم في حضرة جلالته مرة أخرى.
ثم يصف لنا بعد هذه المقدمة التاريخية التي تنسب لذلك المقال كما أوضحنا، الخراب والفوضى الذين كانا يحيطان به، ومثله في ذلك مثل «خع خبر-رع-سنب»؛ إذ يتكلم مع قلبه فنراه يقول: «أنصت يا قلبي وانعِ تلك الأرض التي منها نشأت …»
وصف حالة البلاد المحزنة
لقد أصبحت تلك البلاد خرابًا فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع عليها، فأية حال تلك التي عليها البلاد؟ لقد حُجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس.
وقد كان من نتيجة تعطيل أعمال الري العظيمة العامة أن أصبح نيل مصر جافًّا، فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم، وصار الإنسان عندما يريد أن يبحث عن ماء، (يعني النهر) لتجري عليه السفن وجد مجراه قد صار شاطئًا، والشاطئ صار ماء، وكل طيب قد اختفى وصارت البلاد طريحة الشقاء بسبب طعام البدو والذين يغزون البلاد، وظهر الأعداء في مصر فانحدر الأسيويون إليها … وسأريك البلاد وهي مغزوَّة تتألم، وقد حدث في البلاد ما لم يحدث قط من قبل … فالرجل يجلس في عقر داره موليًا ظهره عندما يكون الآخر يُذبح بجواره … وسأريك الابن صار مثل العدو، والأخ صار خصمًا، والرجل يذبح والده، وكل فم ملؤه أحببني [صياح المتكفف؟] وكل الأشياء الطيبة قد ذهبت، والبلاد تحتضر … وأملاك الرجل تُغتصب منه وتُعطى الأجنبي … وسأريك أن الملك صار في حاجة، والأجنبي في غنى … وأن الأرض قد نقصت، وقد تضاعف حكامها، وصارت الحياة شحيحة، مع أن المكيال صار كبيرًا، وتكال الحبوب (أي بجابي الضرائب) حتى يطفح الكيل، سأريك البلاد، وقد صارت مغزوَّة تتألم، وإن منطقة «عين شمس» لن تصير بعد مكان ولادة كل إله.
الدعاية لظهور مخلِّص للبلاد
وبعد ذلك يتحول «نفرروهو» من غير تردد أو شك عن تلك الصورة التي يصف فيها القحط الذي وقعت فيه البلاد، منادٍ بالكلمات التالية الهامة، داعيًا لظهور الملك الذي سيخلص مصر مما حاق بها؛ إذ يقول: «سيأتي ملك من الجنوب اسمه «أميني» وهو ابن امرأة نوبية الأصل، وقد ولد في الوجه القبلي، وسيتسلم التاج الأبيض وسيلبس التاج الأحمر، فيوحد البلاد بذلك التاج المزدوج، وسينشر السلام في الأرضين، (يعني مصر) فيحبه أهلها … وسيفرح أهل زمانه، وسيجعل ابن الإنسان يبقى أبد الآبدين، أما الذين كانوا قد تآمروا على الشر، ودبروا الفتنة فقد أخرسوا أفواههم خوفًا منه، والأسيويون سيُقتلون بسيفه، واللوبيون سيُحرقون بلهيبه، والثوار سيستسلمون لنصائحه، والعصاة إلى بطشه، وسيخضع المتمردون للصل الذي على جبينه … وسيقيمون «سور الحاكم» حتى لا يتمكن الأسيويون من أن يغزوا مصر، وسيستجدون الماء حسب طريقتهم التقليدية لأجل أن ترِدها أنعامهم، والعدالة ستعود إلى مكانها، والظلم ينفى من الأرض، فليبتهج من سيراه، ومن سيكون من نصيبه خدمة ذلك الملك.»
- أولًا: القضاء على المغيرين وأخذ العدَّة لدفع الغارات المقبلة.
- ثانيًا: إصلاح النظام الداخلي.
«فسور الحاكم» الذي سبق ذكره كان قلعة قديمة لحماية الدلتا الشرقية، وكان واقعًا على التخوم الأسيوية، وقد بُني لحراسة الطريق من آسيا إلى مصر في عهد بناة الأهرام، وقد أعلن «نفرروهو» أن الملك سيعيده كما كان من قبل.
والصور التي رسمها لنا ذلك المتنبئ عن الحالة التي نتجت عن دخول الأسيويين؛ يذكرنا بما ورد في الرواية العبرانية الخاصة برحلة دخول أجدادهم إلى مصر.
أما إعلان الإصلاح الذي حدث في النظام الداخلي فإنه يسترعي الأنظار لقصره وبساطته؛ إذ يقول: «إن العدالة ستعود إلى مكانتها، والظلم سينبذ بعيدًا.» فكانت إذن «ماعت» القديمة هي التي سيعيدها الملك الجديد في شكل نظام ثابت؛ يكون رقيبًا ومهيمنًا على حياة الشعب المصري الاجتماعية.
وقد رجع إلى «ماعت»، وهي ذلك النظام القديم الذي مكث ألف سنة مرشدًا ومهيمنًا على الحاكم وحكومته، سلطانها مرة أخرى من جديد.
(٣) نشأة أمنمحات وعبادة الإله آمون
تلك كانت حالة البلاد المصرية كما يريد أن يصفها لنا «نفرروهو» أو كما يريد أن يصورها لنا «أمنمحات» عند توليته العرش، وسنرى فيما يلي الإصلاحات العظيمة التي أدخلها الفرعون العظيم في خلال مدة حكمه الطويل. ومن الغريب أن المؤرخ «مانيتون» لم يذكر لنا في تاريخه عن هذا البطل العظيم شيئًا إلا أنه هو المؤسس للأسرة الثانية عشرة، ومن مدلول اسمه «أمنمحات» (آمون في الأمام)؛ أي آمون أمام الإله، نلحظ أن أسرته كانت تنتمي إلى عبادة الإله «آمون» معبود «طيبة» المحلي، وأنه كان يقدس هذا الإله أكثر من الإله «منتو» إله الحرب وهو معبود بلدة «أرمنت» المحلي، وكان ملوك الأسرة الحادية عشرة يقدسونه أكثر من «آمون» ويمزجون اسمه في تركيب اسمهم «منتو حتب»، هذا على الرغم من أن عاصمتهم كانت طيبة، ولكن من يوم أن اعتلى «أمنمحات» الأول عرش الديار المصرية أخذ نجم الإله «آمون» يعلو ويتلالأ بين الآلهة المصرية؛ حتى صار فيما بعد أعظم الآلهة المصرية شهرة وعظمة وثراء؛ لدرجة أن غطى على شهرة كل الآلهة المصرية، وانتحل لنفسه صفاتها ليكون هو الإله المسيطر، ومن ذلك أن كهنته لاحظوا أن الإله «رع»؛ أي الشمس، كان أعظم الآلهة المصرية نفوذًا وعظمة فمزجوا اسم «رع» باسم «آمون» وأصبح يسمى «آمون رع»؛ ومنذ عهد هذا الفرعون أخذ ثالوث مدينة «طيبة» يزداد شهرة ويتألف من الأب وهو «آمون» ومن الأم وهي «موت» ثم من الابن وهو «خنسو»؛ (أي القمر) وكلهم حسب الاعتقاد المصري إله واحد، أما الآلهة الآخرون فأخذوا يتضاءلون أمام هذا الثالوث، اللهم إلا الإله «أوزير» إله الآخرة، فإنه حفظ مكانته وسلطانه، وسنرى فيما بعد أن كهنة «طيبة» قد ازداد سلطانهم تدريجًا، حتى إنهم في النهاية أصبحوا أصحاب السيطرة الدينية في البلاد كلها، وأغنى طائفة فيها في عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة؛ وسنتكلم عن نشأة عبادة «آمون» عند الكلام على الديانة.
(٤) مقر الملك الجديد
(٥) نظرة عامة في أخلاقه وإصلاحاته
ولا نزاع في أن هذه التسمية «مراقبة الأرضين» تحكي قصة ما كانت عليه البلاد وقتئذ من القلق والاضطراب كما وصفها «نفرروهو»، وأن «أمنمحات» لم يكن بالرجل الذي يخدع نفسه؛ إذ كان يعرف أنه لم يكن بالفرعون المحبوب، بل ربما كان يعدُّ في نظرهم دخيلًا على البيت المالك الأصلي، وإن كان ينتسب إلى فرع منه على حسب إحدى الروايات؛ وأن أكبر شفيع له في تولي عرش البلاد واحترام الأهلين له يرجع إلى كفايته في إدارة البلاد بعد طول الفوضى، وأنه هو المصلح المنتظر الذي تنبأت بظهوره الأساطير منذ قديم الزمان. وحقًّا قد حقق ما أنبأت به الكتب بما أظهره من مقدرة نادرة في توجيه سكان البلاد، وهي تلك المقدرة التي ورثها عنه أخلافه، وميزت هذه الأسرة وجعلتها أقوى أسرة مصرية، حكمت البلاد في كل عصورها بمقدرة فذة وكفاية منقطعة النظير، حتى أصبح عصرها يُعرف بالعصر الذهبي في تاريخ الديار المصرية؛ وبخاصة من حيث الإدارة والأدب والفن.
ذكرنا فيما سبق أن نبوءة «نفرروهو» لم تكن إلا دعاية لهذا الفرعون، ومبررًا لاعتلائه عرش الملك أمام الشعب المصري، وقد كان مما تنبأ به هذا الحكيم أنه سيقام «سور الحاكم» ولن يسمح للأسيويين ثانية بنزول مصر، ولا نزاع في أن «نفرروهو» يشير هنا إلى سور الحدود الذي كان مقامًا على خليج السويس ليصد غارات الأسيويين عن بلاد الدلتا، وقد كانت هذه الغارات الأسيوية موضع شكوى في الأزمان السالفة.
(٦) تاريخ سيدنا إبراهيم وما يقال عنه
ولذلك فإن التاريخ ٢٠٠٠ق.م، الذي يظن المستر «ويجول» أنه يعاصر «أمنمحات الأول» يسبب فجوة تبلغ نحو ٧٠ سنة تقريبًا بين إبراهيم عليه السلام المعاصر للملك «أمنمحات الأول» و«إبراهيم» المعاصر للملك «حمورابي». وهكذا يجد القارئ نفسه أمام نظريتين جذابتين في ظاهرهما، ولا يمكن القطع بإحداهما ما دام التاريخ لا يمكن القطع بصحته بصفة نهائية في مثل هذه الأحوال التي يرتكز التاريخ فيها على استنتاجات قد تصيب وقد تخطئ، ولكن يمكننا أن نقول على وجه التقريب: إن إبراهيم عليه السلام كان معاصرًا لأحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، ويرجح جدًّا أنه كان يعيش في عهد أحد أواخر ملوك هذه الأسرة لا عهد أحد أوائل فراعنتها.
وهذا كل ما يمكن القول به الآن إلى أن تجود الكشوف في مصر أو «بابل» بما يكشف النقاب عن هذا الحادث العظيم في تاريخ البشر، وبخاصة من الوجهة الدينية.
(٧) إصلاحاته وسياساته الداخلية
ولما لم يكن في مقدور «أمنمحات» أن يجمع كل السلطة في يده دفعة واحدة، وأن يكون له الحق والسلطان المطلق في تولية حكام المقاطعات الوراثية وعزلهم كما كانت الحال في إبان عز الدولة القديمة؛ لجأ إلى سبيل أخرى للحد من شوكة هؤلاء الحكام الوراثيين والأسرات القديمة القوية، وتلك أنه أخذ يضمهم إلى جانبه بإغداق الإنعامات عليهم ومنحهم الألقاب الرفيعة وتقريبهم منه بالحظوة والوعود الخلابة.
والواقع أن «أمنمحات» الأول أحيا في نواحي البلاد كلها تلك الروح القومية القديمة التي أخنى عليها الدهر زمنًا طويلًا.
(٨) آثاره المندثرة وما بقي منها
وأقام هرمه بالقرب من «اللشت» عاصمة الملك، وسنتناول الكلام عليه فيما بعد.
(٩) بعثته إلى وادي الحمامات
أرسلني سيدي إلى «وادي الحمامات» لأحضر هذا الحجر الفاخر، ولم يكن قد أتى بمثله منذ عهد الآلهة، ولم يكن هناك باحث يعرف غرابته، ولم يتمكن أحد ممن بحثوا عنه من الوصول إليه، على أني قضيت ثمانية أيام في البحث عن هذا المرتفع (الذي فيه الحجر) فلم أعثر على المكان الذي كان فيه، ولقد سجدت للإله «مين» وللإلهة «موت» (والدة الإلهة خنسو بطيبة) ولإلهة السحر العظيمة، ولكل آلهة هذه الأراضي المرتفعة مقدِّمًا البخور لهم على النار. وفي ذات يوم عندما طلع الفجر بدأت أجوب جبال وادي الحمامات ورجالي خلفي وأناسي منتشرون على الجبال باحثين في كل هذه الصحراء، وفي النهاية وجدته، وكان العمال فرحين والجيش بأجمعه يحمدون الله، وسُروا خاشعين، وشكرت الإله «منتو».
(١٠) حروبه الخارجية ضد آسيا
كل كلمة ذكرت على هذه اللوحة صادقة تعبر عما حدث بقوة ساعدي، وهو ما فعلته في الواقع، وليس فيه تمويه، وليس فيه أي مين؛ فقد قهرت سكان الكهوف من الأسيويين، وسكان الرمل وخربت معاقل البدو، وجعلتها كأن لم تغنِ بالأمس، ووطئت حقولهم، وتقدمت أمام الذين توانوا خلف حصونهم «من جنودي» ولم يجاريني في ذلك أحد وذلك بأمر الإله «منتو»؛ والظاهر أن جنود «نسومنتو» كانوا يفضلون النجاة على البطولة.
(١١) حروبه في بلاد النوبة
(١٢) إشراك ابنه «سنوسرت» معه في الحكم
ولما كان «أمنمحات» قد أخذ يتقدم في السن وكانت بغيته أن يناضل بنجاح مستمر في القضاء على حكام المقاطعات الوراثيين الذين كانوا يدافعون عن استقلالهم بكل وسيلة وبالقوة، رأى أن يشرك ابنه الأكبر في تولي مهام الحكم معه، وهو النظام الذي جرى عليه أخلافه من بعده، ولذلك عدت هذه الخطة الحكيمة من مميزات هذه الأسرة؛ ولا شك في أن هذا التجديد في نظام الحكم يعد عملًا حكيمًا؛ لأنه قضى على معظم الفتن والدسائس التي كانت تتبع عادة عند موت الفرعون الحاكم.
والواقع أن سلطان الفرعون قد زاد بإشراك ابنه «سنوسرت» معه في حكم البلاد عام (٢١ من حكم أمنمحات)، فقد ظهر أثر ذلك في الأقاليم؛ إذ أخذ الفرعون يتدخل فعلًا في شئون حكام المقاطعات الخاصة كلما سنحت له الفرصة، فمن ذلك أن الفرعون استطاع أن يحفظ لنفسه حق تولية كبار الموظفين في المقاطعات وعزلهم، وقد كان هذا الحق من قبل من حقوق الأمراء أنفسهم منذ عدة أجيال متعاقبة، وبهذه الطريقة تمكن الفرعون وحكومته من استعادة السلطة العليا المطلقة في كثير من المقاطعات، وهي السلطة التي لم يكن يتمتع بها الفراعنة إلا اسمًا منذ نهاية الأسرة السادسة.
(١٣) سلطة الوزير
وفي ظل هذه السلطة استعادت الحكومة المركزية نفوذها القديم الذي كان قد انمحى منذ زمن بعيد، وقد وضع الفرعون على رأس هذه السلطة المركزية وزيرًا كان في الواقع يعد ساعد الفرعون الأيمن، وممثله في كل شئون البلاد المالية والقضائية والحربية … إلخ.
ولا شك في أن إدارة الوزير للبلاد بما فيها من أنظمة حازمة، كانت نموذجًا صالحًا لكل الأنظمة الرئيسية، مما جعل البلاد بأجمعها تسير على نظام إدارة واحد حازم، يشمل الأمور المالية والقضائية والحربية أيضًا، وهذا النظام قد حل محل النظام المرتبك القديم في المدة السالفة. أما في الأمور الدينية فإن الآلهة المختلفة التي كانت تُعبد في كل البلاد قد بقيت على حالها مع إصلاح معابدها، والشيء الجديد هو ظهور الإله «آمون»؛ ولقد عظم شأنه حتى أصبح الإله الأعظم الرسمي للحكومة، وبذلك غطى على معظم الآلهة كما سبق ذكره، اللهم إلا الإله «أوزير» فقد حفظ مكانته بوصفه إله الآخرة.
(١٤) تفكير الفرعون في إصلاح الفيوم
ولم تقف جهود «أمنمحات الأول» عند الإصلاحات الإدارية والبنائية، بل كان كذلك أول من فكر في كثير من المشروعات التي تعود على البلاد بالخير، ولعل أجدرها بالذكر التفاته إلى إصلاح إقليم الفيوم، ويعزو بعض المؤرخين إليه أنه هو أول من فكر في إنشاء خزان المياه الذي عُرف فيما بعد باسم بحيرة «موريس»، وينسب إلى «أمنمحات الثالث» إتمامه جملة.
(١٥) محاربته اللوبيين
وكان آخر حادث هام في حياة هذا الفرعون المسن هو إرسال جيش إلى الحدود الغربية لتأديب اللوبيين وكبح جماحهم، فسار «سنوسرت» ابنه وشريكه في الحكم على رأس الجيش، وعندما كانت الحملة عائدة من الحدود مظفرة قابلها رسول من قبل كبير أمناء القصر ليخبر «سنوسرت» باغتيال والده. وقد بقي لنا وصف هذا الحادث بكل ما فيه من اضطراب وفزع في قصة «سنوهيت»، وقد وصلنا منها لحسن الحظ عدة نسخ، وسنترك المتن المصري يقص علينا تفاصيل هذا الخبر، وما لابسه من الأحداث، ونراه يبتدئ بألقابه ثم يقص قصته فاستمع إليه.
متن القصة
الأمير الوراثي، والحاكم ومدير ضِياع الملك في بلاد الأسيويين، والسمير الوحيد للملك والمحبب إليه «سنوهيت». الخادم «سنوهيت» يقول: «كنت خادمًا يتبع سيده، وخادم نساء الملك يخدم الأميرة، صاحبة الثناء العظيم، زوجة «سنوسرت» الملكية في بلدة الهرم المسماة «ختم-أسوت» والابنة الملكية «لأمنمحات» في بلدة الأهرام «كانفرو» المسماة «نفرو» المحترمة.
(١٦) المؤامرة ضد ولي العهد ونصيب «سنوهيت» فيها وفراره
ولا شك في أننا نرى في هذه الجمل القصيرة صورة تامة للأزمة التي حدثت في القصر عقب اغتيال الفرعون، فإنه مات بسبب مؤامرة دُبرت ضده، كما سنوضح ذلك بعد. وقد أعقب هذا الاغتيال دسيسة لتولية أحد أولاد الملك غير «سنوسرت» الذي كان يعتبر خلفه؛ لأنه أشركه معه في الملك مدة تربي على عشرة أعوام، والظاهر بل الواقع أنه كان في البلاط حزبان: حزب موالٍ «لسنوسرت» وآخر موالٍ لابن آخر للملك، ومن حسن الحظ أن رئيس الأمناء في القصر كان يعلم بهذه المؤامرة، وكان في الوقت نفسه على ولاء تام لولي العهد، فأسرَّ إليه بخبر الأزمة التي كانت في البلاط بعد وفاة والده، وطلب إليه العودة على جناح السرعة دون أن يضيع لحظة واحدة، ولكن الحزب الثاني كان على استعداد لانتهاز الفرصة، ولا يبعد أن رجاله هم الذين دبروا المؤامرة ضد الملك، وتمكنوا من تطيير الخبر إلى الأمير الذي وقع عليه اختيارهم من بين أبناء الملك الذين كانوا يحاربون في الجيش مع ولي العهد، غير أن مغادرة «سنوسرت» الجيش كالبرق ومعه ثلة من رجاله الذين يعتمد عليهم مكنه من القضاء على المؤامرة قبل أن تنفذ؛ لأننا لم نسمع عنها بعد ذلك، وتدل ظواهر الأمور على أن «سنوهيت» كان له ضلع مع الفريق المتآمر ضد «سنوسرت»، وأنه كان يعلم بها، وإلا فليس هناك أي تفسير آخر للفرار المفاجئ، والفزع الذي استولى عليه حينما استرق السمع وأصغى لرسول المتآمرين ضد «سنوسرت» حيثما كانوا يقصون رسالتهم على الأمير الذي أرسلوا في طلبه لتولية العرش؛ إذ يقول: «وعندئذ كان قلبي يتحرق، وخارت ذراعاي، واستولت الرعدة على جميع أعضائي، فقفزت باحثًا عن مكان أختبئ فيه، فوضعت نفسي بين أيكتين لأفسح الطريق للمسافر فيها (أي لأكون بعيدًا عن الطريق المطروق)، ثم سرت نحو الجنوب، ولم يكن غرضي الوصول إلى مقر الملك؛ لأني فكرت أن الشجار يقوم هناك، ولم يكن يهمني أن أعيش بعده … إلخ» (كتاب الأدب المصري ص٣٥)، هذا؛ ولا يمكننا أن نفسر الوقت الطويل الذي قضاه في الخارج قبل أن يسمح له «سنوسرت الأول» بالعودة من منفاه.
ولا بد أن «سنوهيت» قد أقحم نفسه في هذه المؤامرة التي كان مآلها الفشل التام، ولا أدل على ذلك من أنه لم يلمح لا من قريب ولا من بعيد عن سبب هربه وترك وطنه العزيز، مما جعل علماء الآثار المصرية يتحيرون في سبب فراره، مع أنه من كبار موظفي الدولة وأعلامها المشهورين، كما تدل على ذلك ألقابه؛ ولذلك نجده قد وصف هربه بصورة من أروع الصور الحية التي ورثناها من أدب الشرق القديم؛ إذ تدل على براعة التملص والمروق من الموقف الحرج الذي يتطلب اللباقة والإبهام معًا؛ وبخاصة نلحظ تخلصه من الإجابة بصراحة عندما سأله «عمو ننشي» أمير «رتنوا العليا» … إلخ (ص٣٦ من كتاب الأدب المصري القديم).
(١٧) الدعاية للملك «سنوسرت الأول»
وهكذا اغتيل «أمنمحات الأول» بعد أن مكث يحكم البلاد المصرية أكثر من ثلاثين عامًا قضاها في كفاح مر في داخل البلاد وخارجها، ولا بد أن «سنوسرت الأول» لما تولى المُلك كانت الأحوال في البلاط مضطربة، وأن الحزب المعارض له كان يدس له خفية. ولذلك احتال الفرعون الجديد على استمالة قلوب الشعب إليه وإثبات شرعيته للعرش بطرق تكاد تكون مبتكرة، واستعان على ذلك بحملة الأقلام الذين كان لهم قدم راسخة في حسن التعبير وصياغة الكلام، فكتب له «خيتي بن دواوف» نصائح وتعاليم جعلها على لسان والده، فقد جعل «أمنمحات» يظهر لابنه في رؤيا صادقة بعد وفاته، ويلقي عليه تعاليمه ونصائحه وتجاريبه في الحياة ليتخذها نبراسًا له يهتدي به في حكم البلاد.
(١٨) التعاليم المنسوبة إلى «أمنمحات الأول»
وأنه هو (أي الكاتب خيتي) الذي كتب مؤلفًا يسمى «تعاليم الملك سحتب-أب رع» عندما ذهب ليستريح منضمًّا إلى السماء وداخلًا بين أرباب الجبانة.
تحليل العلماء لهذه التعاليم
وقد تشكك الأستاذ «جاردنر» في أن «خيتي» هذا هو مؤلف هذه التعاليم قائلًا: «إنها قد تنسب إليه بسبب جهل أحد الكتاب في عهد الرعامسة، غير أنه من جهة أخرى يرى أن هذه التعاليم قد كُتبت في عهد «أمنمحات الأول»، وإن كان لا يجزم بالطريقة التي دوِّنت بها، وكل ما قاله في هذا الصدد لا يخرج عن كونه مجرد حدس وتخمين.»
فقال: «من المحتمل أنه عندما أشرك «أمنمحات» ابنه «سنوسرت» في حكم البلاد فاه أمام رجال بلاطه بنصائح غالية تحمل في طياتها ما لاقاه من المصاعب والمصائب، وما قام به من عظيم الأعمال، وما جعله يشرك ابنه معه في حكم البلاد، ولا يبعد أن رجال الحاشية الذين أعجبوا بهذه النصائح وتلك الحكم الثمينة، التمسوا من الملك أن يدوِّنها، فكلف بدوره كاتبًا ملكيًّا بذلك.»
ثم قال الأستاذ «جاردنر»: «إنه يمكن أن يقاس ذلك بالخطاب الذي ألقاه الملك عند تولية الوزير، كما نجد ذلك في مقبرة «رخمرع» وغيرها من المقابر.»
لو كنت استللت سلاحي بيدي لكنت جعلت هؤلاء المخنثين يولون الأدبار، ولكن لا شجاع في الليل ولا أحد يحارب وحيدًا، ولا يحرز النصر بدون عضد.
فإذا اعترفنا أن «أمنمحات» يشير في هذه الفقرة إلى مؤامرة ناجحة ضده، وهذا على ما يظهر هو الرأي الصحيح، وأن ما جاء في ورقة «شستربيتي» من أن «خيتي» هو مؤلفها كان لا بد لنا من أن نأخذ بنظرية من يقول: «إن الملك كان يتكلم، أو كان مفروضًا أن يتكلم من قبره.»
لقد أعطيت الفقير وعلَّمت اليتيم، وقد جعلت الرجل المغمور الذكر يصل إلى غرضه مثل صاحب المكانة.
أنا الذي أنشأت الغلال والذي أحبه «نبر» (إله الحبوب)، والفيضان قد حياني باحترام (أي كان معتدلًا في أيامي)، ولم يجُع إنسان في سني حكمي، ولم يعطش خلالها أحد، وكل ما أمرت به كان في موضعه الصحيح.
ولا شك في أن أي عالم أثري يقرأ هذه الفقرات دون أن يعلم أنها من تعاليم «أمنمحات» لا يشك في أنها كانت على لوحة جنازية.
انظر إن المصيبة قد حلت بي عندما كنت بدونك.
والقول بأن الثورة قد بدأت و«سنوسرت» بعيد عن العاصمة يتفق تمامًا مع بداية قصة «سنوهيت»؛ إذ نقرأ هناك أن «أمنمحات» قد مات عندما كان ابنه عائدًا من حملته إلى بلاد «لوبيا»، على أن السرعة التي عاد بها «سنوسرت» ليصل إلى مقر الملك مع كتمان الأمر عن جيشه، والرسالة التي بعث بها لإحضار أولاد الملك الذين كانوا يرافقون الجيش، وذعر «سنوهيت» الغريب وهربه؛ وسؤال الشيخ الفلسطيني «لسنوهيت» عما إذا كانت قد حدثت كارثة في العاصمة ثم محاولة «سنوهيت» إقناعه بعدم حدوث أي شيء شاذ، (وأن كل ما حدث هو أن «أمنمحات» قد رحل إلى الأفق … وأن ابنه قد دخل القصر وتولى ميراث والده، واعترافه بأن موت «أمنمحات» لا تُعرف نتائجه). كل هذه الحقائق توحي إلينا أن هذا الموت لم يكن طبعيًّا، مما يتفق وما جاء في سياق التعاليم، ثم يأتي بعد ذلك في المتن (هذا إذا كان ما تُرجم هو المتن الصحيح): «قبل أن يسمع رجال البلاط أني سأسلمك «الحكم» وقبل أن أجلس معك.» وإني أفهم من هذه الكلمات أن «أمنمحات» قد حال بينه وبين إعلان ابنه ملكًا على البلاد بصفة رسمية موته المفاجئ.
وإذا كان هذا الرأي هو الصحيح عن محتويات هذه التعاليم فما هو إذن الغرض منها، وما القصد الذي من أجله كُتبت؟
والجواب عن ذلك أن هذه الوثيقة مقال سياسي في صورة قطعة أدبية صيغت دعاية لتعضيد حزب «سنوسرت الأول»، فقد رأينا أن «سنوسرت» بعد موت والده قد أسرع إلى مقر الملك، وقد وصل في الوقت المناسب، ليمنع ما يخشى من الأحداث، وقد أفلح في تسلم مقود المملكة التي كان والده قد أعدها له.
ولكن لا بد أن يكون تيار المعارضين قويًّا؛ إذ كان المنافسون له على وشك الوصول إلى مأربهم، وربما كان لديهم من الأسباب الحقة ما يبرر موقفهم ويقوِّي جبهتهم ويضعف من «سنوسرت» واستحقاقه العرش.
فمن المحتمل أن يكون «سنوسرت» قد لجأ إلى قوة السلاح الأدبي لتهدأ النفوس عقب الضربات القاصمة التي أودت بحياة الملك الكبير.
وإذا كان من الممكن الاتصال بالموتى بالرسائل، وإذا كان في مقدور المُتوفَّى أن يقرأ ما يرد إليه من رسائل الأحياء فمن المعقول المنطقي — وكان المصريون منطقيين في مثل هذه الأمور — أن يكتب الأموات بأنفسهم للأحياء.
ولهذا عثرنا على عدد قليل من الخطابات أرسلها الأموات للأحياء مقابل ما يصل إليهم من أقاربهم، ومن بين هذه الوثائق ورقة «هاريس» التي وصفها «ستروف» الأثري الروسي بأنها تزييف ولكنه قديم، وقد ذكر فيها أن الملك «رعمسيس الثالث» المُتوفَّى (وقد كان كذلك فريسة لمؤامرة نسوية) قد أفرد أحد أولاده بأن يكون الوارث الشرعي للعرش، ويرجو من الآلهة والشعب أن يعضدوه، وبذلك أفسد الغرض الذي لاقى من أجله الملك حتفه، ولا شك في أن المتن الذي بين أيدينا الآن بمثابة مثال مبتكر من نفس هذا النوع من المقالات السياسية التي كُتبت للدعاية.
على أن الحرب بالأسلحة الكتابية أو الأدبية لم تكن من مبتكرات الملك «أمنمحات» الأول، وإذا كان من الممكن أن يصل إليه صدى من تعاليمه في العالم السفلي الذي غيب فيه، فإنه لا بد أن يذكر بابتسامة بنوءات «نفرروهو» عنه بأنه هو المخلص المنتظر الذي سينشر في البلاد عهد سعادة ورخاء، فقد كانت تلك النبوءات دعاية له في أول عهده عندما كانت شوكة الحزب المنتمي للأسرة الحادية عشرة لا تزال قوية، وقد كان من نتائج هذه الدعاية أن ضمت إلى جانبه شعور القوم الديني ومهدت له السبيل إلى اعتلاء عرش البلاد.
وفي اعتقادي أن هذه التعاليم تعد من نوع هذه الوثائق، ورغم أننا لا نرى أمامنا صورة ذلك الملك المسن اليقظ الصارم الذي لم تخدعه الأوهام؛ فإن لدينا في مقابل ذلك مقالًا هو دعاية سياسية ليس أقل حيوية ولا إنسانية من شخصه.
التعاليم والتعليق
أنت يا من ظهرت إلهًا (أصبحت ملكًا) أصغ لما سألقيه عليك حتى تصير ملكًا على البلاد وحاكمًا على شواطئ النهر، وحتى يمكنك أن تفعل الخير «أكثر مما ينتظر»، خذ الحذر من مرءوسيك؛ لأن الناس يصغون لمن يرهبهم، ولا تقتربن منهم على انفراد، ولا تثقن بأخ، ولا تعرفن لنفسك صديقًا، ولا تصطفين لك خلانًا؛ لأن ذلك لا فائدة منه.
وعندما تكون نائمًا كن الحارس لشخصك حرصًا على قلبك؛ لأن الرجل لا صديق له في يوم الشدة، فإني قد أعطيت الفقير، وعلمت اليتيم، وجعلت من لا ثروة له مثل صاحب الثراء، وقد كان آكل خبزي هو الذي جنَّد الجنود ضدي، والرجل الذي مددت له يد المساعدة هو الذي أحدث لي بها المتاعب، والذين يرتدون فاخر كتَّاني عاملوني كالذين في حاجة إليه، والناس الذين يتضمخون بعطوري قد لوثوا أنفسهم وهم يستعملونه «بخيانتي».
وأنتم يا نسلي من الأحياء ويا من سيخلفونني من الناس؛ اعملوا على أن تكون أحزاني كأنها أشياء لم يسمع بها، وكذلك اجعلوا ما قمت به من عظيم الأعمال الحربية لا يُرى؛ وذلك لأن الإنسان يحارب في ساحة الوغى وقد نسي ما جري بالأمس، ومع ذلك فإن الإنسان الذي يتناسى العلم لا تتم له سعادة.
وينتقل الملك بعد ذلك إلى وصف الحالة التي كان عليها حينما هاجمه المتآمرون، قال: «لقد كان ذلك بعد العشاء حينما دخل الليل، وكنت أخذت ساعة من الراحة واضطجعت على سريري، وكنت متعبًا وأخذ قلبي يجدُّ وراء النوم، ثم شعرت كأن أسلحة تلوح، وكأن إنسانًا يسأل عني، فانقلبت كأني ثعبان الصحراء (أي قمت منتصبًا).»
وبعد هذه القطعة أخذ «أمنمحات» يصف موقفه الحرج عند الهجوم عليه. وهنا تختلف الآراء كما أوضحنا فيما مضى فيقول «دي بك»: إن الملك اغتيل فعلًا، أما «جاردنر» فلا يعتقد ذلك. ولهذا نجد أن كلا منهما يترجم الجملة التي تشير إلى ذلك حسبما يظن: «وقد استيقظت على صوت الحرب، وكنت وحيدًا ووجدت أنها حرب جنود، ولو كنت أسعفت بالسلاح في يدي لكنت قد شتت شمل المخنثين شذر مزر؛ ولكن لا شجاع في الليل، ولا يمكن أن يحارب الإنسان وحيدًا؛ إذ لا نصر بدون معين.»
يرى بعد ذلك «أمنمحات» أنه قد أصبح طاعنًا في السن وليس في مقدوره أن يحكم البلاد وحده، ولما لاحظ أنه قد أصبح غير قادر على أن يتنبأ ويعوق المؤامرة التي دُبرت ضده؛ نزل عن الملك لابنه «سنوسرت» وهو الذي أشركه معه في حكم البلاد، ولذلك يقول: تأمل! لقد أريق الدم وأنت بعيد عني، وقد سلمت لك «الملك» قبل أن يسمع بذلك رجال البلاط، وعلى ذلك دعني، افعل ما تريد؛ وذلك لأني لم أحتَط لنفسي ضد هذه «المؤامرة»، فإني لم أفطن إليها من قبل، هذا فضلًا عن أن قلبي لم يتنبه إلى تراخي الخدم.
هل حدث أن النساء اصطففن في ميدان المعركة؟ وهل من لا يرعى حرمة القانون قد شب في القصر؟ أو هل الماء الذي كسر السد قد انطلق، وعلى ذلك خاب الفلاحون في عملهم؟
ويمكن فهم السؤالين الأولين تمامًا، أما الثالث فإنه استعارة تشبيهية من الطراز الأول؛ إذ من المحتمل أن نفهم منها أن الشعور بالولاء الذي نماه الملك قد تلاشى فأصبح الوئام الذي كان يسود القصر مقضيًّا عليه جملة؛ ولذلك شبهه بتوزيع مياه الفيضان في وقت الزرع بوساطة القنوات الصغيرة تشق الحقول وتقسمها إلى مربعات مثل رقعة الشطرنج، فإذا حدث خلل في هذه القنوات فإن كل المساحة تغمرها المياه، وبذلك يضيع تعب الفلاحين سدى.
على أن ما يأتي لا يثبت أن المؤامرة قد خابت، ويمكن فهم نتيجتها ضمنًا من قوله: «وسوء الحظ لم ينتبني منذ ولدت، هذا فضلًا عن أنه لم يتأتَّ لإنسان قط أن يقوم بمثل ما قمت به من الأعمال العظيمة بوصفي رجلًا شجاعًا.»
ثم ينتقل «أمنمحات» إلى تعداد ما أحرزه من النجاح في ميدان الأعمال المادية فيقول: «لقد اقتحمت طريقي إلى «إلفنتين» (أسوان)، ونفذت حتى مناقع الدلتا، ووقفت عند نهاية حدود الأرض، وشاهدت وسطها، ووصلت إلى معاقل الحدود بقوة ساعدي وباهر أعمالي العظيمة.»
لقد كنت مؤسسًا للمحاصيل الزراعية، محبوبًا من الإله «نبر» رب الغلال، وقد حياني النيل في كل رقعة من الأرض المكشوفة، ولم يجُع إنسان في سني حكمي، ولم يسغب أحد خلالها (السنون)، ولكن القوم جلسوا في سلام بما عملت لهم وتحدَّثوا عني، وكل ما أمرت به كان في موضعه الحق، ولقد أذللت الأسود، واصطدت التماسيح، وقهرت أهل «واوات» وأسَرت قوم «المازوي» وجعلت الأسيويين يمشون كالكلاب، وأقمت بيتًا مزينًا بالذهب، وسقفته باللازورد، … ورقعته … وأبوابه من النحاس وأقفاله من البرنز، وقد صنعتها لتبقى إلى زمن لا نهاية له، والأبدية تخشاها؛ لأنها لا يمكنها أن تقضي عليها.
ويأتي بعد ذلك عدة جمل لا يمكن فهمها؛ لأن المتن مشوَّه.
ولا نزاع في أن كاتب هذه التعاليم قد رسم لنا صورة التشاؤم والريبة التي بعثتها أحوال البلاد في ذلك العصر، رغم ما قام به «أمنمحات» من إعادة النظام القديم الذي كانت عليه البلاد بقدر ما استطاع؛ إذ كانت الأحوال قد حتمت عليه أن يتخير عماله وموظفيه لإدارة البلاد من بين أولئك الرجال الذين ترعرعوا وشبوا في عهد ذلك الانحطاط الذي عقب عصر الأهرام، وكانت قلوبهم قد أشربت حب الفوضى والفساد اللذين هوى إلى حضيضها الشعب المصري عدة قرون، ولم ينقذه منها في ذاك الوقت إلا «أمنمحات»، وإن كانت بقاياهما قد ظهرت ثانية في حادثة اغتياله على يد من أحسن إليهم؛ لذلك بدأ شعور النفوس في المجتمع المصري في ذلك العهد مملوءًا بالريبة والشكوك إلى حد أن ذلك الشعور قد انعكست ظلاله على أعظم أنواع الفنون في ذلك العصر؛ وأعني بذلك فن نحت التماثيل البشرية؛ فظهر في هيئات التماثيل الخالدة التي تمثل لنا ملوك الدولة الوسطى، سمة الرزانة والوجوم التي تلمح في أقوالهم ونصائحهم، والتي كانوا ينظرون بها في عصر إلى الحياة الدنيا. وعندما ننعم النظر في تلك الوجوه التي تدل على الجرأة والبطولة أمثال «سنوسرت الثالث» و«أمنمحات الأول، والثالث»، وقد ظللتها سحائب اليأس والقنوط، نرى أن نفس هذه الوجوه تُعد كشفًا جديدًا في ميدان الفن يميط لنا اللثام من غير شك عن روح ذلك العصر الذي يعتبر أقدم عصر معروف تخلص من الأوهام ولم ينخدع بها، (راجع صور هؤلاء الملوك في مكانها).
(١٩) هرم أمنمحات ومعبده
وقد أقام «أمنمحات» لنفسه هرمًا بالقرب من مدخل الفيوم (اللشت) يظهر أنه كان على أنقاض بلدة يرجع عهدها إلى عصر ما قبل التاريخ. وتدل أعمال الحفر التي قامت في تلك الجهة على أن التصميم الأول للهرم ومعبده كان ضخمًا جدًّا، ولكن يظهر أن الملك رأى أنه لا يمكنه إتمام هذا العمل في حياته، وأن المكان الذي اختاره لم يكن ملائمًا من الوجهة الهندسية؛ لأنه كان ينحدر شرقًا وجنوبًا، فترى موضع الهرم وإن كان سهلًا؛ لأن الأرض التي أقيم عليها قد سُويت بقطع الأحجار من المكان العالي وبنائها في المكان المنخفض. إلا أن موضع المعبد كان غير معبد ويحتاج إلى عناء كبير؛ ولذلك اكتفى «أمنمحات» ببناء معبد صغير في الجهة الشرقية على مستوى منخفض جدًّا من الهرم. ومن المدهش أنه وجدت أحجار من أحجار المعبد كانت قد استعملت في بناء آخر باسم «أمنمحات»، ويحتمل أنه كان قد أعدها لبناء آخر ولكن استعملها في هرمه هذا. وكذلك تدل الأبحاث على أن هذا المعبد والهرم قد اغتصبهما ملك آخر فيما بعد، ولكن لا يمكن الجزم بذلك؛ لأن حجرة الدفن موجودة تحت الماء الآن.
ومن الأمور التي تلفت النظر رغم شيوعها منذ الدولة القديمة أن بناء قلب هرم «أمنمحات» وجدت فيه أحجار كثيرة منقوشة، معظمها يرجع إلى عهد الدولة القديمة، وقد اغتُصبت إما من «دهشور» أو «سقارة»، وقد كان تمييز هذه الأحجار من أحجار الهرم والمعبد الأصلية من الأمور الصعبة؛ وذلك لأن «أمنمحات» كان يقلد كتابة الدولة القديمة بكل دقة، بل كان أحيانًا ينقل أسطرًا منها كاملة، ولما تولى «سنوسرت» الملك بنى لنفسه هرمًا على مسافة ميل ونصف من هرم والده جنوبًا. وقد أقيم حول الهرمين عدة مقابر لرجال البلاط وكبار الموظفين، وقد كان قرب كل منهم وبعده من قبر سيده يتوقف على مركزه في البلاط والمجتمع. وحول قبور العظماء أقيمت قبور أسرهم وخدمهم. وقد أخذ عدد هذه المقابر يتزايد حتى شغلت حيزًا عظيمًا في أواخر الدولة الوسطى إلى أن جاء عهد «الهكسوس» فهُجرت؛ ومن ثم أصبحت تحت رحمة السرقة ولصوص المقابر، وقد كان أول بناء عُرض للنهب هو هرم «أمنمحات» الذي كانت معظم أحجاره مغتصَبة من مقابر الدولة القديمة (انتقام التاريخ) حتى إنه بعد فترة أصبح كومة عالية فقدت شكلها الهرمي؛ إذ أخذت كل أحجارها واستعملت في جهات أخرى. وفي الجهة الغربية من الهرم عثر على بعض مقابر لعظماء عصر «أمنمحات»، وكان معظم أحجارها من مقابر الدولة القديمة مما يدل على أن الملك لم يكن يغتصب الأحجار لنفسه فحسب، بل كان يغتصبها أيضًا لعظماء بلاطه.
حجر أثاث الهرم وما وجد معه
وفي هذه الجهة من الهرم عثر الأثري «ونلك» على قطع الأثاث التي كانت توضع عند وضع حجر الأساس، وقد وجدت في الركن الجنوبي الغربي للهرم، ويعد العثور على هذه الأشياء من الأمور النادرة جدًّا، وقد عثر عليها في حفرة مستطيلة عند الفوهة، وبيضية في نهايتها، وقد غطيت بحجر جيري مهذب بعض الشيء وهذه الحجرة كانت مملوءة بالرمل الصافي.
مدينة الهرم
وفي الجهة الجنوبية كشف عن مساحة كبيرة تحتوي على بلدة وجبانة من هذا العصر. ومما يلفت النظر في هذه المدينة أن إحدى منازلها كانت على ما يظهر معملًا لطلي الخزف.
ففي إحدى الحجرات عثر على حجر غائر في رقعتها، ولا بد أنه كان يستعمل لعجن الجير المطفي بالماء. وفي الحجرات الأخرى لهذا المعمل وجد قمين مهشم ومبعثر في كل أنحاء البيت وخارجه، وكذلك وجد عدد عظيم من قطع العجين التي بدئ في تشكيل بعضها، هذا إلى وجود عدد عظيم من آلات الصقل مصنوعة من الحجر الرملي، وآلاف من حبات الخرز، وكمية من المواد المختلفة الأنواع.