ذكرى قاسم أمين١
لعل ذكرى الكتَّاب والمفكرين أجدر من كل ذكرى سواها بالحياة والخلود؛ ذلك أن الكتَّاب هم كلمة الحق، وكلمة الحق هي روح الحياة الخالدة، بينا عدوان القوة إنما هو رسول الموت المبيد. ذلك شعور تمتلئ به كل نفس ويقرُّه كل إنسان؛ ولذلك ينزوي رجال السيف في أركان التاريخ أشبه الأشياء بالأشباح المخيفة، وكل أثرهم أنهم كانوا في وجود الإنسانية غمامة سوداء انهمرت على سطح الأرض دمًا وموتًا. على حين ترى رجال القلم من شعراء وكتَّاب وفلاسفة ومفكرين هم الشموس السواطع التي تضيء طريق الإنسانية في سيرها إلى الكمال.
ما نابليون إلى جانب هوجو؟ وما مولتكي إلى جانب جيتى؟ وما ولنجتون إلى جانب شكسبير؟ ما أولئك إلا الأجساد البائدة إلى جانب الأرواح الخالدة. أوَلم يقل نابليون إن فخره بالقانون المدني يعدل أضعافًا مضاعفة فخره بيينا وأوسترلتز؟ وهلا ترى كل حرب تنتهي تاركة وراءها الخراب والويل ملقية عبء الإصلاح والتنظيم على عاتق العلماء والكتاب والمفكرين؟
فالاحتفال بذكرى رجال الفكر والقلم هو أجمل عمل إنساني يدل على الاعتراف بالجميل لرجال نسوا مصلحتهم الفردية حرصًا على مصلحة الجماعة.
وقاسم أمين كان من رجال الفكر والقلم الذين نصروا كلمة الحق، فمن حقه أن تحيا ذكراه وأن يعرف الناس جميعًا أفكاره ونزعاته.
•••
نشأ قاسم أمين في وقت كانت البلاد فيه تحت أثر الهمود الذي أصابها عقب الحركات العنيفة التي كانت ميدانًا لها أيام الخديو إسماعيل وفي أوائل حكم الخديو توفيق. وفي هذا الوقت كان همُّ الجميع أن يسكنوا إلى الطمأنينة وأن يخلدوا إلى الراحة؛ لذلك كانت تحل المصائب بالبلاد فتقفل المدارس ويضيق نطاق التفكير وتؤخذ مقاليد الحكم من أيدي الآهلين ويستقبل الناس ذلك بالاستسلام والسكون، وكانوا يظنون أن هذه الحالة لا بد ستنتهي بطبيعة الظروف كما انتهت حالات غيرها من قبلها، وما كانوا يدور بخلدهم أن الأفكار الاستعمارية كانت تتطور لتأخذ شكلًا جديدًا هو الاستعمار على أساس تمدين الأمم التي يعتبرها المستعمرون في نظرهم قليلة المدنية.
وظلت الحال كذلك وقاسم يشتغل في ميادين العمل الحكومي، ويدل على مواهب نادرة، ولكن من غير أن يظهر في ميدان الحياة العامة حتى ظهر كتاب الدوق داركور في سنة ١٨٩٣ عن المصريين. ويرمي هذا الكتاب إلى وصف المصريين بالتأخر في مدنيتهم وفي تربيتهم وفي تفكيرهم، وينعي عليهم حبسهم النساء وتركهم إياهن بعيدات عن العلم، ويضع أساسًا لذلك كله العقيدة الإسلامية التي يدينون بها، ويرى بالتالي ضرورة تمدين نصف المتوحشين هؤلاء على أساس آخر. هنالك أخذت قاسم النخوة وهزته وطنيته أن يدافع عن قومه. وليست حرب الأقلام بأقل مرارة وقسوة من حرب السيوف؛ فبأقلام كتابها تنصر الأمم مدنياتها، وبأقلامهم ترفع احترام كل فرد منهم لذاته، وبأقلامهم تكسب أنصارًا يقفون إلى جانبها عند الحاجة، وآثار الأقلام هي الخالدة وآثار السيوف الدمار والبوار. فوضع قاسم في سنة ١٨٩٤ كتابه «المصريون»، فنَّد به مزاعم الدوق داركور وأظهر فيه فضائل مواطنيه من غير أن ينسى الاعتراف ببعض عيوبهم التي أرجعها لا إلى عقيدتهم كما يزعم داركور وجماعة من الكتاب معه، ولكن إلى توالي الحكومات الفاسدة عليهم، ونشر هذا الكتاب بالفرنسية ليطلع عليه من يقرأ كتاب داركور فيجد فيه الفضائل المصرية من ذكاء وكرم وقوة وبأس في الحروب مؤيدة بالوقائع والأسماء، وعندئذ ينقلب الأثر السيئ الذي تركه كتاب الكاتب الفرنسي إلى أثر حسن برد الكاتب المصري المجيد.
كان قاسم رجلًا عصبيًّا حساسًا سريع التأثر شديده، قوي العاطفة ثابتها، لا يسهل أن تتركه إذا ملكته؛ لذلك لم يطوِ أوراقه بعد أن نشر هذا الكتاب ولم يعتبر نفسه قد انتهى من القيام بالواجب عليه، بل شعر من يومئذ أن واجبه تضاعف. صحيح أن دوق داركور غالى في مطاعنه على المصريين، وصحيح أنه أخطأ تمام الخطأ في رد سبب التأخر إلى عقيدتهم الدينية، وصحيح أنه اختلق عليهم معايب هم برآء منها، لكن هناك في بعض جهات الحياة الاجتماعية نقصًا؛ فالحياة المصرية يومئذ لم تكن الحياة الإنسانية الكاملة في نظر قاسم. فما هو موضع الضعف الذي يتغذى منه ذلك النقص؟ موضع الضعف هو لا شك فقد الحرية، فقد الحرية عند الرجل والمرأة. والحرية كما قال قاسم هي قاعدة ترقي النوع الإنساني ومعراجه إلى السعادة، لكن فقد الحرية عند المرأة كان أشد خطرًا وأفعل أثرًا. فلنجاهد أولًا إذن لتحرير المرأة.
هذه هي الفكرة التي دعت قاسم لتأليف كتاب تحرير المرأة. ويظهر أنه تردد كثيرًا قبل أن ينشره؛ تردد مخافة الرأي العام الذي كان محافظًا متأخرًا يومئذ. وكم ثبَّط هذا التردد من عزائم، وكم قتل من أفكار عند شبابنا في الماضي! ولا يزال أثره قويًّا اليوم، بل كم كان قاسم يكون لولاه أكثر إنتاجًا وأغزر مادة. وظل في تردده وقتًا ليس بالقصير، لكن الفكرة انقلبت عنده من مجرد رأي يقال إلى عقيدة ثابتة وإيمان قوي. والرجل المؤمن لا يقف دون الدفاع عن معتقده وإن عظمت الحوائل. وهذه الكلمة التي نشرها في أول كتابه تدل على مبلغ إيمانه بفكرته، قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.» وعلى أثر ذلك نشر كتابه داعيًا فيه إلى تحرير المرأة من رق الجهل ومن رق الحجاب.
وقد تطورت فكرة قاسم أمين نوعًا من الفترة التي مرت بين نشره كتابه الأول ردًّا على الدوق داركور وكتابه الثاني عن تحرير المرأة. وهذا التطور طبيعي؛ لأن موقفه الأول كان غير موقفه الثاني: موقفه الأول كان موقف دفاع عن قومه، وموقفه الثاني كان موقف إرشاد لقومه؛ لذلك تراه وقد كان في الحالين في صف الأحرار لا في صف المحافظين أكثر مناصرة في كتابه الثاني لمذهب الأحرار وأكثر إعلاءً لشأن الحرية.
تردد قاسم طويلًا ثم دفعه إيمانه فأظهر كتابه، وهنا ظهر هذا الرأي العام المحافظ الجامد في محافظته، وانبرى للرد عليه كثيرون لم يقرأوا الكتاب، انبروا وهم لا يقلون في الحقيقة اعتقادًا بالنقص من قاسم أمين، لكنهم كانوا «يخشون الخروج من وكرهم لتصيد الخيرات الغامضة المبعثرة في ظلام المستقبل». ليكن هذا الوكر فاسد الهواء، ليكن مملوءًا بالمكروبات القتالة، ليكن بحيث تنهمر عليهم من جوانبه الأفاعي والعقارب، لكنهم يخشون الخروج؛ لأنهم يخافون أن يجدوا في الخارج سباعًا وفيلة وهم أجبن وأضعف من أن يتصوروا مقابلة الخطر، ولو لم يكن هناك خطر.
تعرض هؤلاء للرد على قاسم في تحرير المرأة، فأظهر كتابه المرأة الجديدة في سنة ١٩٠٠ ردًّا عليهم وتأييدًا لرأيه. وبعد هذا الكتاب لم تظهر له مؤلفات حتى ظهرت في عالم الطبع كلماته التي نشرت بعد وفاته.
هذه الكتب الأربعة وبعض الخطب هي كل ما تركه قاسم للجمهور، ومما يوجب أكبر الأسف أن تنوء نفس قوية عبقرية كنفس قاسم بحمل الرأي المحافظ، وأن يختزل الموت حياته فلا تظهر من آثارها الكتابية والفكرية إلا هذه الصحائف المعدودة.
•••
في هذه الكتب الأربعة — إلى جانب ما فيها من الأفكار — صور كثيرة للمشاهد وللحوادث العامة والخاصة، وهذه الصور مرسومة بدقة مدهشة حتى يكاد الإنسان يلمسها بيده في كثير من الأحيان، وأنت تراها مرصودة بعضها تلو بعض كلما أريد التدليل على رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؛ ذلك بأن قاسم كان أميل إلى الاستقراء منه إلى الاستنتاج، كانت تأخذ بنظره الجزئيات فيبحث عن نظائرها، ويجاهد ليكوِّن لنفسه رأيًا كليًّا من مجموع هذه الجزئيات، وكان لذلك يحب دائمًا أن يحلل هذه الجزئيات، وأن يقف على دقائقها حتى لا تدعوه الملاحظة السطحية إلى الخطأ. على أنه لم يكن ميالًا إلى الأخذ بهذه النتائج التي يرتبها على الجزئيات وإلى ترتيبها والاستنتاج منها هي الأخرى والاستمرار في ذلك لإقامة بناء مذهب فلسفي عام شأن الأشخاص الذين تتغلب عندهم موهبة الفكر المجرد على المواهب الأخرى، مواهب الإحساس والعاطفة والتشكك، بل كان يعتقد «أن عقل الإنسان المحدود لا يسع غير المحدود، وأن علمه القليل لا يصل إلى إدراك المجهول الذي لا نهاية له؛ ولذلك ترى هذا الإنسان متى ترك دائرة معلوماته الحسية دخل في الظلام وسار كالأعمى يتخبط يمينًا وشمالًا لا فرق في ذلك بين الغبي الجاهل والذكي العالم». هذه هي كلمة قاسم، وهي تدل على أنه لم يكن من عشاق النظريات البحتة، كما كان يرى «أن المطلق ليس له وجود ذاتي، وأن الذوات الجميلة التي نحبها ونقدسها؛ كالخير والحق والعدل، لا يمكن أن توجد في الخارج إلا مختلطة بنقيضاتها».
«لا بد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة، العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة.
هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها، لكن حلها يكاد يكون محالًا؛ إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي. والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة، وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تتنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة، ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه إن لم يكن متولدًا عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شرهه وأطماعه وشهواته؛ خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم، خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية مصادفة سعيدة وعارضًا مؤقتًا.
فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للاستغراب منه، هي الحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان، هي الميراث الذي تركه آدم وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن اقتربا من الشجرة المحرمة وذاقا ثمرتها التي يخيل إليَّ أنها كانت ألذ من كل ما أبيح لهما. من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتها، وانتقلت منهما إلى ذريتهما جيلًا بعد جيل، ذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقًا إلى الفضيلة العاجزة عن الحصول على اليسير منها إلا بمقاساة أصعب المجهودات، حتى هذا النزر القليل لا سبيل إلى بلوغه إلا بتمرين طويل يتخلله حتمًا سقوط متكرر في الخطيئة يكون منه الدرس المفيد لإتقانه في المستقبل.
وأخيرًا فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب؛ فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا هي عولجت» …
هذه الكلمة ومثيلاتها مما يوجد في كتب قاسم يدل على أنه كان يقف بتفكيراته عند الملاحظة والتجربة والاستقراء أكثر مما تدفعه إلى التفاؤل. صاحبها أكثر ميلًا للوحدة والانزواء ليجد الفرصة التي يفكر فيها فيما رأى من الحوادث، وليستسلم إلى تيارات عواطفه وإحساساته المتأثرة بهذه الحوادث؛ لأنه ليس من وصل بالعاطفة إلى ملأ الوجود الأعلى.
والنفوس العصبية التي تتأثر بالعاطفة تدفع بصاحبها إلى التشاؤم، أولئك الذين صاغوا لأنفسهم قوالب من التفكير وقفوا عندها وألبسوا عواطفهم ومشاعرهم ثوبها، فلا تحيلهم الحوادث مهما عصفت، ولا تهز أوتار أفئدتهم المشاهد مهما اشتدت، ليس ماكينة تعمل ما دامت تجد الوقود الذي يملأ جوفها، ولكنه روح إنسانية راقية متصلة بأجزاء العالم المختلفة تتأثر بما يصيب هذه الأجزاء من مختلف الآثار. وهذه النزعات هي ما كان يشاهد في قاسم وما تدل عليه كتاباته، وهي ظاهرة في تقدمة كتابه المرأة الجديدة إلى صديقه سعد زغلول، حيث يقول: «فيك وجدت قلبًًا يحب وعقلًا يفكر وإرادة تعمل، أنت الذي مثلت لي المودة في أكمل أشكالها فأدركت أن الحياة ليست كلها شقاء، وأن فيها ساعات حلوة لمن يعرف قيمتها.» فهذا الاعتقاد بأن معظم ما في الحياة شقاء، وهذا الميل الذي يدفعه إلى أن يجد السآمة في المجتمعات ولا يشعر بها في الوحدة، وهذا الألم الذي يشعر به للنقص الذي يجده حوله، وإحساسه العصبي العميق؛ هذا كله كان نتيجة سببها تحكم العاطفة في نفس قاسم في كل ما يتعلق بمسائل الوجود العام.
ولا عجب فقد كان قاسم ممن يعتقدون بأن العواطف هي التي تسيِّر أعمالنا في الحياة، وأن العناية بها أثناء الطفولة وتربيتها تربية عالية هي التي ترفع الشخص من المستوى الوضيع الذي لا يهتم فيه إلا بمصالح الجسد، ليعرف للروح مصالحها، ويهتم بغذائها ويجاهد لرفعها، وليفهم ضرورة اتصالها بالأرواح الأخرى لفائدة الجماعة، ولفائدة الوطن، ولفائدة الإنسانية. وكان يقول بأن السبب في التأخر والانحطاط الذي كان يشاهد يومئذ في بعض بلاد الشرق ليس راجعًا فقط إلى توالي الكوارث والمصائب على هذه البلاد، قال: «وإنما السبب الحقيقي لفقد الشعور هو إهمال تربية العواطف عندنا في زمن الطفولة، وتبع ذلك أن أعصابنا أصبحت لا تتأثر إلا بالإحساسات المادية التي تقع عليها مباشرة، وصارت غير قابلة للتأثر بالمعاني النفسية. رأيت مدة وجودي في فرنسا طفلًا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبي على فرقة من العساكر الفرنساوية وهي عائدة من حرب التونكين، فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام ورفع قبعته، وحيا العلم وصار يتابعه بنظراته حتى غاب عنه، فأحسست أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه وأثار عنده جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خلته رجلًا كاملًا. أما الرجال والنساء الذين كانوا يشهدون هذا المنظر، فقد وصلت بهم قوة الشعور إلى أنهم صاروا يعملون أعمال الأطفال، فكان الكثير من النساء يقبِّل العساكر ودموع الفرح تسيل على خدودهن، وأغلب الرجال كانوا يرقصون ويغنون ويلقون بقبعاتهم في الطريق. فبمثل هذه المناظر وما يدور فيها وعنها من الأحاديث أمام الأطفال ينغرس الشعور الوطني في نفوسهم ويزهر ويثمر. هكذا الحال في تربية الفضائل الأخرى.»
فهذه الحكاية البسيطة مكتوبة بتلك اللغة الرشيقة تبين بوضوح وجلاء طريقة تفكير قاسم، وتحكم العاطفة فيه، وتأثير إحساسه الشديد عليه، وعدم ذهابه في البحث عن مصادر الخلق للتفتيش في أعمال عظماء الرجال وكبار القادة. بل كفى أن يرى هذه الحادثة التي تمر أمامنا مثيلاتها كل يوم فلا نلتفت لها ولا نهتم بها لتثير نفسه الحساسة؛ ولتستفز عواطفه وتستوقف عندها تفكيره فيتذكر إلى جانبها مثيلاتها مما مر به ويبني على ذلك حكمه في النهاية. وإن من قرأ كتبه ليجد فيها جميعًا هذه النزعة الميالة إلى البساطة الطبيعية الدالة على عظمة النفس عظمة صحيحة لا تكلف فيها ولا ادعاء.
يظهر أن المسيو داركو ينعي علينا عدم وجود الفوارق الاجتماعية عندنا، ويعيبنا لأنَّا ليس من طوائفنا الأشراف بالمولد أو بغير المولد، وكل السكان الذين يقيمون في بلد إسلامي هم متساوون أمام القانون بلا تفرقة بين أجناسهم ودياناتهم، ولم يعرف الإسلام امتيازات الميلاد أو الثروة، وفي هذا هو قد تقدم بأكثر ألف سنة أشد الأنظمة السياسية الثورية، وذلك ليس عيبًا فيما أعتقد؛ فليس من العدل أو الفائدة في شيء أن تخلق مصادفة الميلاد مركزًا ممتازًا، وليس كون الشخص باشا كافيًا ليكون ابنه كذلك، بل ليعمل هذا الابن وليجدَّ حتى يستحق بنفسه هذا الشرف أو ما يزيد عليه، ثم إنه لنائله.
فهذه النزعة الديمقراطية في نفس قاسم هي التي كانت تدفعه ليشعر مع الناس جميعًا، هو لم يكن يعرف المظاهر الكاذبة والألقاب الفارغة، لم يكن يهتم بالرجل المترف العائش في النعيم لترفه ونعيمه، ولكنه كان يهتم من كل إنسان رجلًا كان أو امرأة بقوة خلقه وبشرف نفسه، كان يكره الضعة والصغار والجبن النفسي، لا فرق أن يكون مصدرها القائد العظيم أو الفلاح الحقير، ولا فرق أن تظهر في المواقف الكبيرة أو في الحالات التافهة. وكان يكره ذلك بميله الفطري المتأثر بعاطفته الإنسانية العالية.
وهذه الحكاية الصغيرة من مشاهدات قاسم تدل دلالة بينة على ما تقدم. قال:
قبيل الغروب وقف بنا وابور النيل الذي كان يحملنا بجانب غيط مزروع، وكان يشتغل فيه رجلان لمح أحدهما ثعبانًا غليظًا قصيرًا ففر وهو يصيح: (ثعبان ثعبان ثعبان.) أما الآخر فتقدم إليه حاملًا فأسه وضربه بها عدة ضربات حتى قضى عليه، ثم تركه في مكانه وأخذ سلاحه وعاد إلى عمله، ولم يتكلم في أثناء ذلك بكلمة، وحينئذ تحرك زميله ومشى محترسًا على أطراف قدميه شاخصًا إلى الحيوان، واقترب منه بطيئًا بطيئًا ولما وصل إليه لمسه بطرف الفأس التي كانت في يده وقلبه مرة ثم مرة أخرى حتى إذا تحقق أنه مات صاح: (يا ابن الكلب!) وطعنه بالفأس طعنة قوية. ولما رأى الثعبان لا يتحرك أمسكه من ذنبه، وصعد به إلى الجسر وكان في هذه الساعة عامرًا بالمارة فاستوقف الأطفال والنساء والرجال، وصار يقص الواقعة عليهم قائلًا: (هجم علينا فقتلناه.) وفي آخر الرواية يلقي الثعبان على هذا الجمع فيفرقهم، وتصيح النساء ويهرب الأطفال، فيضحك هذا البطل الباسل من هذا الجبن، وما زال كذلك حتى جاء الظلام فانصرفوا جميعًا وهو في مقدمتهم حاملًا فريسته. أليس هذا هو الحال دائمًا في جميع مظاهر الحياة الدنيا؛ ترفُّع من رجال العمل عن حب الظهور، وجرأة من رجال القول على اغتصاب أعمال غيرهم والتبجح بها!
١١ فبراير سنة ١٩٠٨ يوم الاحتفال بجنازة مصطفى كامل، هي المرة الثانية التي رأيت فيها قلب مصر يخفق؛ المرة الأولى كانت يوم تنفيذ حكم دنشواي: رأيت عند كل شخص تقابلت معه قلبًا مجروحًا وزورًا مخنوقًا، ودهشة عصبية بادية في الأيدي وفي الأصوات، كان الحزن على جميع الوجوه؛ حزن ساكن مستسلم للقوة مختلط بشيء من الدهشة والذهول، ترى الناس يتكلمون بصوت خافت وعبارات متقطعة وهيئة بائسة، منظرهم يشبه منظر قوم مجتمعين في دار ميت، كأنما كانت أرواح المشنوقين تطوف في كل مكان من المدينة.
ولكن هذا الاتحاد في الشعور بقي مكتومًا في النفوس لم يجد سبيلًا يخرج منه، فلم يبرز بروزًا واضحًا حتى يراه كل إنسان.
أما يوم الاحتفال بجنازة صاحب «اللواء»، فقد ظهر ذلك الشعور ساطعًا في قوة جماله، وانفجر بفرقعة هائلة سمع دويها في العاصمة، ووصل صدى دويها إلى جميع أنحاء القطر.
هذا الإحساس الجديد، هذا المولود الجديد الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل.
ليتك عشت يا قاسم حتى كنت ترصد بلغتك الجميلة المتأثرة، وبإحساسك الدقيق، صور الحركات القوية المنبعثة من أعماق نفس هذه الأمة، والتي كنت تتوق أن تراها فترصد للخلف آيات ما يفعل أهل هذا الجيل، ولكن المنية فاجأت قاسمًا وهو لا يزال في ريعان القوة فتركنا تاركًا لنا من تفكيره وكتابته أبدع الأثر، ممليًا علينا أن: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة ليست حيازة الذهب ولا شرف النسب ولا علو المنصب، ولا شيء من الأشياء التي يجري وراءها الناس عادة، ولكن أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم.»