تومَاس وُودرو ولسن
أسلم توماس وودرو ولسن روحه أول من أمس، فودع هذا العالم المضطرب الذي جاهد ليكون فيه نبراس هداية للناس، ينقلهم من ظلم الحرب إلى ربوع السلام، فإذا الناس كما كانوا قبل الحرب لا يزال يغريهم منظر الدم بالدم، ولا يزالون يفرحون بكلمة الهدى ساعة ليندفعوا في تيار الضلال دهرًا.
مات الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة السابق، ومن ذا الذي لا يعرف الدكتور ولسن! ومن ذا الذي لم يردد اسم الدكتور ولسن! بل من ذا الذي لم يرَ هذا الضياء العظيم الذي نشره روح ذلك الرجل الكبير، ومن ذا الذي لم يحدق بهذا الضياء ذاهلًا معجبًا به مأخوذًا عن نفسه، فملك عليه الإعجاب كل حسه حتى نسي ضعة الناس وحقارتهم وتعلقهم بتافه شئونهم وعبادتهم دنيء شهواتهم، وخيل إليه أنهم يستطيعون أن يعتنقوا طفرة مبادئ هذا الرسول الجديد، وأن يرتفعوا عن الدنايا، وأن يتخطوا هذا العالم الأفن الذي يعيشون فيه إلى عالم جديد هو عالم المحبة والصفاء والسلام.
كلنا نعرف الدكتور ولسن، وكلنا نذكر الساعات التي حدقنا فيها بمبادئه الأربعة عشر ذاهلين مأخوذين، وكلنا لم ننسَ ما بني على هذه المبادئ من كبار الأماني، التي لا تزال تهز العالم إلى اليوم هزًّا، وهل هذا الصراع العنيف القائم بين الشرق والغرب، وبين الاستعمار وتقرير المصير، وبين الاستعباد والحرية، وبين الظلام والنور؛ هل هذا الصراع العنيف الذي بدأ من يوم وضعت الحرب الكبرى أوزارها، والذي سيستمر قائمًا إلى أن ينتصر النور وأن يعلو الحق – إلا أثرًا من هذه المبادئ الكبرى التي يحسبها بعضهم اليوم أحلام واهم، وما هي بأحلام واهم، وإنما هي القوة التي تكونت على القرون شيئًا فشيئًا، واشتركت في تكوينها الآلام والآمال العامة، والنزعات والأوهام الفردية، وتفكير المفكرين وشعر الشعراء، وكل ما في النفس الإنسانية من قوة وحس وشهوة، ثم اختار القدر هذا الرئيس ولسن ليكون ترجمانها والمعبر عنها.
لم تكن مبادئ ولسن أحلام واهم؛ فقد قالها ثم سرعان ما آمن الناس بها؛ ذلك بأنها كانت جوابًا لما يتردد في نفوسهم من نزعات وفكر وآمال وأمانٍ مضطربة، آمنوا بها ثم لم ينفذوها ثم أنكروها ثم قالوا: إنما تلك أحلام واهم. وكذلك كانت من قبل كل فكرة، تبدأ تأخذ بالنظر، ثم ينكرها الناس ويقفون في وجهها، ثم يغلون في الاندفاع وراءها، ثم هم يقدرونها حق قدرها وينظمون حياتهم على هذا القدر الصحيح.
فإذا كان ولسن قد مات فإن فكرته باقية وهي لا شك ستنتصر، وسيكون انتصارها فوزًا كبيرًا للحق وللخير وللسعادة.
•••
ولد توماس وودرو ولسن في ٢٨ ديسمبر سنة ١٨٥٦، وكان جده جيمس ولسن من أهل الصتر بإرلندة، وقد هاجر إلى أمريكا سنة ١٨٠٧، وفي السنة التي بعدها تزوج من فتاة إرلندية مثله، واحترف الصحافة ومات محترمًا بين أهل بلده الذين كانوا يدعونه القاضي ولسن. وقد أخلف عدة أولاد تزوج أصغرهم واسمه يوسف رابل ولسن من فتاة أيقوسية الأصل تدعى جانت وودرو، ومن هذا الزواج ولد توماس الذي ورث اسم أبويه، فصار توماس وودرو ولسن.
وقد ورث توماس من أبويه ما يمتاز به الإرلنديون من الظرف والإيقوسيون من البلاغة وجمال الخطاب. وكان ميله للتحرير واضحًا من أول نشأته، فاشترك وهو في الحادية والعشرين من سنه مع جماعة من أصحابه الطلبة بجامعة برنستن في إصدار مجلة انفرد هو بإدارتها بعد عام من صدورها، وفي هذه المجلة ظهر ميله للتحرير السياسي.
وقد تأثرت حياته منذ نعومة أظفاره بما مرت به بلاده من المحن السياسية؛ فقد ظلت حرب الانفصال بين جنوب أمريكا وشمالها قائمة من سنة ١٨٦١ إلى سنة ١٨٦٥، وانتهت بانتصار الشمال وببقاء الوحدة الأمريكية بفضل ما أبداه إبراهام لنكن رئيس الولايات المتحدة من حزم ونفاذ بصيرة. وكان توماس متأثرًا بهذه الأحداث في طفولته، فلما آن له أن يقرأ وأن يفكر اتجهت قراءته للناحية السياسية كما رأيت، وظل بعد إذ أصدر مجلته يتابع أبحاثه ثلاث سنوات وضع بعدها كتابًا عنوانه (الحكومة – مبادئ السياسة التاريخية والعملية)، وقد جاء في هذا الكتاب فكرة من أفكار ولسن السياسية عن الحكومة، كانت هي الفكرة الأساسية التي سار عليها، والتي ظهرت من بعد ذلك في مبادئه العامة التي أراد — كما قال في غير خطبة من خطبه — أن يلقي بها من فوق رأس الحكومات مباشرة إلى الشعوب.
ليس حتمًا أن تقوم الحكومة على القوة القاهرة، بل يجب أن تقوم على أساس آخر. ولقد أصبحت الاستبدادات الحزبية بادرة غير مطمئنة، وصارت الشعوب على غير ما كانت عليه من الانحلال أيام الاقطاعات، ومن الانحناء أيام الملكيات القديمة، فهي الآن مجاميع بلغت في قوة الإقرار وقوة الاعتراض مبلغًا عظيمًا. وقوة الأغلبيات هي من مستحدثات الجمعيات الحديثة، وفن الرجل السياسي يجب أن يتجه اليوم لإيقاظ هذه القوة الجديدة ودفعها وقيادتها.
وفي أثناء أبحاثه احترف المحاماة فلم ينجح فيها؛ لأنه كان في شغل بالقضايا العامة عن القضايا الخاصة، فلما صادف كتابه عن الحكومة النجاح دعته جامعة «برنستن» التي تخرج منها ليدرس بها، فدرس التشريع والسياسة من سنة ١٨٩٠ إلى سنة ١٩١٠، وكان رئيسًا لهذه الجامعة من سنة ١٩٠٢ إلى أن تركها حين انتخب حاكمًا لولاية نيوجرسي من سنة ١٩١١ إلى سنة ١٩١٣.
علت مكانته وهو في جامعة برنستن، وعرفت له أفكار خاصة عن حكومة الولايات المتحدة، فطمح إلى رياسة الجمهورية، ولما يترك رياسة الجامعة؛ فقد ألقى سنة ١٩٠٧ عدة محاضرات عن (الحكومة النيابية في أمريكا)، نشرها سنة ١٩٠٨ قبيل انتخابات رياسة الجمهورية التي نجح فيها المستر تافت. وقد أوضح في هذه المحاضرات أفكاره التي أذاعها من قبل في كتاب نشره أيام شبابه عن حكومة بلاده، وكانت أظهر فكرة له في هذه المحاضرات أن الدساتير السياسية ليست نظمًا أبدية حتى يمكن تعريفها وتحديدها على طريقة رياضية، بل هي كائنات حية قابلة للتطور. والدساتير في رأيه هي ما يريد الساسة أن تكون. وكان نشر محاضراته دافعًا لازدياد اهتمام الناس به، ولكنه لم يظهر ما يجول بخاطره من ميل للدخول في ميدان الانتخابات لرياسة الجمهورية، وإن كان قد قدر استطاعته الفوز فيها لما كان عليه المستر تافت من ضعف السلطان، والمستر روزفلت من عدم المهارة السياسية على قوة سلطانه، والمستر بريان من سوء الحظ لسابق فشله مرتين في الانتخابات. فلما كانت سنة ١٩١٠، وكان قد اختلف مع مجلس إدارة جامعة برنستن، وكانت انتخابات الرياسة لا تقع إلا في سنة ١٩١٢، عرض نفسه سنة ١٩١٠ لانتخابات ولاية نيوجرسي وكانت خالية، فنجح وأبدى خلال حكمه لهذه الولاية ما اشتهر معه بالحزم والمقدرة على الإصلاح. وفي سنة ١٩١٢ تقدم لانتخابات رياسة الجمهورية وكتب له الفوز فيها وتسلمها في سنة ١٩١٣، وتجدد انتخابه للمرة الثانية في سنة ١٩١٦، وظل في رياسته إلى سنة ١٩٢١.
نشعر ونحن نتقدم إلى هذا العصر الجديد، عصر الحق والإطلاق من كل معاني الرق، بشعور يهتز له فؤادنا حتى لكأنما جاء إلينا من عند الله، شعور يتألف فيه العدل الرحمة، ويجعلك ترى قاضيك وأخاك بعين واحدة.
إنا نعلم أن الواجب الذي ألقي علينا ليس واجبًا سياسيًّا فحسب، بل هو واجب سيبتلينا إلى غور وجودنا، وسيظهر مقدرتنا على فهم عصرنا وحاجات شعبنا واستطاعتنا أن نكون لسانه وترجمانه، وسيبين عما إذا احتوت جوانحنا القلب الذي يفهم والإرادة القوية التي تعرف كيف تختار أسمى وسائل العمل. فاليوم ليس يوم نصر ولكنه يوم توجه، وليس السلطان اليوم لقوة حزب، ولكن السلطان لقوى الإنسانية. وأفئدة الناس في انتظار عملنا، وآمالهم تود لو تعرف ما سنقوم به، فمن ذا يستطيع أن يفخر بأنه جدير بمثل هذه الرسالة الكبرى، ثم من ذا يستطيع أن يرفض التقدم للتجربة! وإني أدعو كل الأشراف وكل الوطنيين وكل من يتجه نظرهم للمستقبل إلى جانبي. ولن أرفض بعون الله ما يتقدمون لي به من نصيحة ومعونة.
وفي أثناء رياسة الدكتور ولسن الأولى نشبت الحرب، فظلت أمريكا على الحياد إلى سنة ١٩١٧، وظل الدكتور ولسن ينظر إلى هذه المجازر بعين الأسف لما تلاقي الإنسانية من ويلات بسبب أطماعها الوضيعة، وكان لا شك يبقى في حياده لولا ما كان من إقدام غواصات ألمانيا على نسف المراكب الأمريكية. حينذاك دخلت الولايات المتحدة الحرب، فكان دخولها بدء انقلاب كفة الميزان، وسبب انتصار الحلفاء.
وقد سافر الدكتور ولسن بعد عقد الهدنة إلى أوروبا، وأراد أن يكون لسان أمته وترجمانها في مؤتمر الصلح، لكنه مع الأسف لم يستطع أن ينفذ مبادئه، وضعف عن أن يترك أوروبا في مصائبها؛ لأن أمريكا كانت دائنة كل دول الحلفاء، ومصلحتها تقتضي بقاء تحالفهن، فلما عاد إلى أمريكا أراد أن يصادق مجلس الشيوخ على معاهدة فرساي فلم ينجح، وبذلك انهار أمل من أكبر آماله، بل انهار أمله الأكبر، ولم تفلح دعوته الناس وانتهى به الحال أن أصيب بإصابة كانت مقدمة الأمراض والعلل التي جاءت على حياته. على أن فشل ولسن في حمل بلاده على قبول المعاهدة التي عقدها لا يحط شيئًا من قدره، وسيبقى في التاريخ علمًا من هداة الإنسانية العظام، وسيبقى اسمه في التاريخ حيًّا ما بقي التاريخ.