أحمد لطفي السيد
من نحو سبع سنوات، بينما جو العالم يبرق بنار الحرب ويرعد جلس الأستاذ لطفي السيد إلى مكتبه ينقل كتب أرسطوطاليس إلى العربية، وقد أثار عمله هذا دهشة كثيرين جعلوا يتساءلون: كيف ارتضى مدير «الجريدة» أن يهجر ميدان السياسة إلى صحراء الفلسفة، وأن يغمض عينيه عن الحاضر الممتلئ بجلائل الأحداث ليأوي إلى كهوف الماضي يفتش فيما عما يتسلى به ويلذ له؟ وتخطى بعضهم حدود التساؤل إلى النقد: ما بال هذا الكاتب الكبير المشهود له بالفضل من أصدقائه وخصومه جميعًا يهدر وقته فيما لا يعود على أمته وبلاده بفائدة؟ وهل ترى ترجمته لأرسطو أكثر من أن تكون لذة لنفسه، وزينة عند أصحاب المكاتب الذين لا يقرأون مما يقتنون سطرًا؟
بلغ هذا النقد وذلك التساؤل مسامع لطفي السيد، كما ذهب إليه قوم يصدونه عن المضي في عمل حسبوه عقيمًا، لكنه استخف بأحلام الناقدين، ووجد من انضم إليه في استخفافه، فمضى في عمله ولا يزال حتى اليوم ماضيًا فيه. وأشهد أني ما رأيته أكثر اغتباطًا بمجهود ولا أوفر طمأنينة لكد منه باغتباطه وطمأنينته لهذا الجهد الشاق الذي يعالجه أرسطو. وإنك لتلمس غبطته بيِّنة بارزة في الجزأين اللذين نشرهما ترجمة لكتاب الأخلاق، وفي التصدير الذي قدم به هذا الكتاب.
وليست هذه الغبطة والطمأنينة مقصورة على الأستاذ وحده، بل شاركه أصدقاؤه وتلاميذه فيها؛ فقد رأوه اليوم كما كانوا يريدون أن يروه دائمًا: بعيدًا عن مضطرب الحياة اليومية وشهواتها، بعيدًا عن السواد وحكمه السريع التقلب، جالسًا حيث وجب له أن يجلس: بين أرسطو وبارتلمي سانتيليير، وبين عامة المؤلفين الذين يتحدثون إليه كلما أراد أن يستمع إليهم. وليس أخلق به من سلوك هذا الدرب من دروب الحياة؛ فهو في سكينته العبوس أسمى ألوان الحياة وأثمنها، وهي يحمل مجده في طياته غير خاضع لحكم الحاضر ولا هياب حكم المستقبل.
وليس هذا وحده مصدر طمأنينة الأستاذ وغبطة أصدقائه، بل إن لهذا الضرب من ضروب الحياة فضل الخصب في الإنتاج النافع. وقد يعجز سواد أدعياء الفهم والحكم عن إدراك هذا الفضل، وقد ينكرون لعجزهم مجد هذا الإنتاج، وقد يزيدهم إنكارًا بهرهم بما تزينه شهوات الساعة من وهم المجد، وقد يحسبون هذا الالتجاء إلى كهوف الماضي عجزًا عن النضال لمجد الحاضر، وكثيرًا ما يؤثر حكم هذا السواد من الأدعياء على اتجاه حياة الرجال الذين يعيشون للحاضر وحده، ويلذهم بريق مجده؛ لكن أكبرهم الرجل ذي الهمة أن يغالب حكم شهوته على عقله فيغلبها، كما أن أكبرهم الرجل الفاضل أن يغلب في نفسه الخير على الشر، وإن يكُ وجه الخير متجهمًا عبوسًا ووجه الشر باسمًا جذابًا. وقد وسع لطفي السيد أن يتخلى لغيره عن المتاع بمجد الشهوة، وعكف على العمل الصالح المطمئن البعيد عن كل ضجة وجلبة.
على أنه لم يرضَ أن يمر في تصديره من غير أن يدفع ما قيل من أن عمله عقيم «ولا يعتبر إلا ضياعًا للوقت»، فبيَّن أن الرجوع إلى «المعلم الأول» هو فيما يرجح: «الطريق القريب والأمين والخالي من العقبات إلى تمكين الفلسفة من بيئاتنا العلمية لتنتج في الذكاء المصري وصحة الحكم على الأشياء»؛ لأن «الفلسفة العربية قد انتشرت في مصر وفي جميع الأقطار الإسلامية. والفلسفة العربية هي في مجموعها فلسفة أرسطوطاليس».
وقد نتفق مع الأستاذ في هذا الحكم تمام الاتفاق. على أنَّا لا نرى وجه الضرورة في بيانه؛ فإن أدعياء الفهم ممن صدر عنهم ذلك النقد السليم لن يعالجوا مراجعة أرسطو وتعاليمه، والذين يعالجونه في غير حاجة إلى هذا البيان، فهم يقدرون أرسطو ويقدرون لطفي السيد. أم إن الأستاذ يرى ممكنًا أن ترجع هذه الحجة ضالًّا إلى حظيرة الهدى، إن كان بين الضالين من فتنتهم النهضة الحديثة فآثروا فلسفة العصر الحاضر على الفلسفة القديمة.
إن يكُ ذلك رأيه فليسمح لنا بمخالفته، فإن الذين فتنوا بفلسفة العصر الحاضر فتنة صحيحة يدركون التضامن في التفكير بين مختلف العصور، ويعلمون أن أدب العصر الحاضر وفلسفته يمتان لليونان بأقرب الصلة، ولا يفوتهم أن الإحاطة التامة بالشيء لا تكون إلا بعد استقصاء مصادره وأصوله. وما دامت غاية الفلسفة الوقوف على حقائق الأشياء والكشف عن أسرارها، فمن ألزم أدواتها الرجوع إلى مصادر العلم والنظر لتحقيق سلسلة النسب وضبط مرامي الفكر، فهم إذن في غير حاجة إلى التنبيه إلى فضل فلسفة أرسطوطاليس؛ لأن حاجتهم إليها ضرورية وليست حاجة كمال ولذة.
أما الذين فتنوا من فلسفة العصر الحاضر بأدب هذه الفلسفة وزخرفها، وكانوا لذلك عشاق أنصاف الحقائق وخيالاتها، فلن يقنعهم رد على نقدهم؛ لأنهم يريدون الفكرة السهلة في ثوب فياض من ألفاظ خلابة، وأن تكون هذه الفكرة مرنة ليتسنى لها أن تصادف أهواء أفئدتهم جميعًا، وليست فلسفة أرسطوطاليس وتعاليمه هي الجواب لما يسأل هؤلاء المفتونون عنه.
على أنَّا لا نعتقد أن هذا الذي دفع به الأستاذ لطفي السيد قول ناقديه هو ما دفعه إلى معالجة عمله الشاق الجليل من ترجمة أرسطوطاليس. إنما دفعه إليه ميله له وحرصه عليه؛ لذلك اغتبط به وجعل منه أسمى أمله، فلم يضنَّ عليه بوقت ولا بجهد. ولو أن الأستاذ كان حرًّا طول حياته في اختيار العمل الذي خلق له لكان قد عالج أرسطوطاليس وترجمته قبل سبع سنوات، ولكن لنا أن نعتب اليوم عليه أنه وقف عند الترجمة من غير تعليق. وما نقول ذلك رجمًا بالغيب؛ فقد عالج لطفي ترجمة العقد الاجتماعي لروسو بدء شبابه، ثم منعته ظروف عن إتمامه. وقُضي عليه بعد ذلك أن يلبس دروع الجندية حين صار مديرًا للجريدة. وفي خنادق الصحافة قضى سبع سنين تباعًا لم ينقطع خلالها حنينه الدائم لحياة العلم والفكر. ومع ما أحيط به أيام جنديته من تقدير المقدرين وإعجاب المعجبين، فما أشك في أن نفسه كان يغصها الألم حتى لتكاد تشرق به لولا عزاؤها بأداء الواجب للوطن. ولم يكن الإعجاب ولا كان المجد الأجوف ليمنع عنه ألم الحرمان من أحب الملذات إلى نفسه، فلما كانت الحرب وأُكره مترجم الأخلاق فيمن أُكره على السكوت أسرع ينهل مما حرم منه، ويؤدي ما يسرته الحياة لأدائه كواجب عليه لنفسه وللحياة.
وإنما كان لطفي السيد حين إدارته للجريدة كالشجرة القوية في واحة تحيطها الصحراء، ولا بد أن تعطي المحيطين بها ثمرًا غير ثمرها فتطعم عليها أثمار شجرة أخرى. تنتج هذه الأثمار أجود مما تنتجها أشجارها الأصلية الضعيفة، ولكن على حساب ثمرها الطبيعي؛ فإذا آن للفرع المطعوم أن يزول عادت الشجرة تعطي كل ما فيها من حياة وقوة لثمرها. كذلك عاد لطفي السيد ينتج من ثمر العلم والفكر ما طاب له، فكان من ذلك ترجمته لأرسطو وتقديمه للقراء كتاب الأخلاق.
وليس أرسطوطاليس جديدًا عند قراء العربية؛ فقد نقلت كتبه إليها أيام العباسيين كما انقطع له ابن رشد في الأندلس. وليس هذا مقام الكلام عنه ولا عن ترجمته، فكل المطلعين على فلسفة العرب أو فلسفة أوروبا يعرفون أرسطو، وكل قراء العربية يعرفون لطفي السيد. ولو أن رجلًا كان له أن يتكلم في إفاضة ودقة عن المعلم الأول، فهذا الرجل هو مترجمه، لكنا مع ذلك لا نستطيع غير القول بأن كتاب الأخلاق، وهو أول الكتب التي نشرها الأستاذ لطفي السيد من سلسلة تواليف أرسطو، لا بد مثير في حركة مصر العقلية والعلمية ثورة كبرى، فإن اللغة التي ترجم بها تجعله أقرب إلى القراء، ونظرياته التي أخذت عنها الفلسفات العربية والغربية جميعًا كفيلة بأن تبعث في الفكرة الفلسفية السامية حياة جديدة. وما أشد حاجتنا إلى هذا البعث في عصرنا الحاضر، وقد جف معين الفكر المتعمق في بحث الحقائق الذاهب إلى غور الأشياء.
لقد طال بالناس الوقوف من الأشياء على قشورها، وقد صار الباحث المدقق غريبًا بين أهل هذا الجيل المندفع وراء العاجلة الراغب عن الحق والحسن والجميل. فهل يكون مثل الأستاذ لطفي السيد في المثابرة والجد وراء إظهار الحقيقة التي عرَّفها الإغريق للناس خليقًا بأن يعيد إليهم الرغبة في الحق والحكمة؟
هذا ما نرجو. ولو صدق رجاؤنا لكان ما تقدم به الأستاذ من عمل أحبَّه وحرص عليه بشيرًا بخصب عظيم في مستقبل الشرق الفكري. والخصب الفكري هو أساس العظمة والمجد والسعادة.