حديث الشمس
تذاكر الناس شأن أمية بن أبي الصلت عند النبي ﷺ فقال: أمية آمن شعره وكفر قلبه. وبينا أبو بكر الهذلي بين يدي عكرمة يومًا إذ قال له: أفرأيت من يبلغنا عن النبي ﷺ، أنه قال لأمية: آمن شعره وكفر قلبه. فقال عكرمة: هو حق. فما الذي أنكرتم من ذلك؟ قال أبو بكر: أنكرنا قوله:
فما شأن الشمس تجلد؟ قال عكرمة: والذي نفسي بيده ما طلعت قطُّ حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقولون لها: اطلعي، فتقول: أأطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها شيطان حتى يستقبل الضياء يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع على قرنيه فيحرقه الله تحتها. وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود، فتغرب على قرنيه فيحرقه الله تحتها. وذلك قول النبي ﷺ: «تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان.» (الأغاني جزء ٣ ص ١٨٤ طبعة ساسي)
كذلك كان شأن الشمس أيام عكرمة: لا تطلع إلا كرهًا يدفعها جيش عرم من الملائكة. وما كان تقاعدها صلفًا معاذ الله أو تيهًا. بل زيادة في الخشوع وغضبًا على الضالين الذين يقرون لها بالألوهية. ومهما يكن عدد هؤلاء قليلًا إلى جانب المؤمنين من بني آدم وإلى جانب الطير والوحش تسبح بحمد الله وتقدِّس له، وإلى جانب الخليقة الخاضعة الخاشعة، فإنهم يغيرون من نفس معبودتهم حتى تنزع إلى العصيان لولا سبعون ألف منخاس تتناول جسدها حتى يدمى ويصل إلى حد إيلامها. هناك تبدو حمراء متوردة اللون آسفة. ولا تلبث أن تبدو حتى يقابلها من أعداء الله مريد يريد أن يحجب ضياءها، ويقف بقرنيه دون مسيرها، فتصب عليه نارها ويحرقه الله تحتها. وتستمر سيرتها مضيئة ناصعة تعمُّ الأرض بنورها وتأخذ إليها ألباب المعجبين بها. فإذا تمت دورتها وجاء وقت مغيبها عاودها الأسف على ما رأت فتخرُّ لله ساجدة منيبة. هنالك يجيء شيطان ثانٍ يريد أن يصدَّها عن السجود فيحترق دون ما يريد، وكذلك يتم أمر الله.
أما اليوم فقد انقضت تلك المعارك مما بين الملائكة والشمس والشياطين. وصارت الشمس غير ذات إرادة، وإنما تسير في نظام الكواكب الأخرى. أصبحت لا تطلع ولا تغيب، وإنما تدور الأرض حولها في حركة آلية لا تملك إرادة أيًّا تكون تحويلًا لها ولا تبديلًا. وأصبح توردها غير متعلق بمناخيس الملائكة الذين يجلدونها. وإنما هو نتيجة تكسر الأشعة في أثير الهواء. ولعل السر الخفي في حدوث ذلك الانقلاب الهائل في نظام الكون أن عبادة الشمس انقضَتْ من زمان، فلم يبقَ مِنْ سبب لغضب الشمس وتقاعدها عن الطلوع، ولم يبق محل لنخس الملائكة إياها. ولما كان من أثر ذلك أن تركت الشمس نفسها تسير كما توجهها الظروف، وكانت كل مَلَكَة لا تستعمل تندثر بالزمان، انحطت قوة الإرادة من نفس الشمس، وتلاشت رويدًا رويدًا حتى انعدمت، وبقي ذلك الكوكب العظيم بلا إرادة يسير في موكب الكواكب الأخرى من غير رأي ولا تدبر.
قد يرد على هذا التفسير المعقول اعتراض يجدر بنا أن نرده. ذلك أنه إذا كان دور الملائكة في نخس الشمس قد انقضى بانقضاء عبادتها، وكان سجودها قد انتهى كذلك، فإن الشياطين التي كانت تقف في وجهها صباح مساء لا يزالون بين أظهر الخليقة. فما الذي يصدهم عن مناوشتها ومناوأتها كما كانوا يفعلون من قبل؟ وإذا كانوا لا يزالون يقومون بدورهم فإن معارضتهم تكفل استمرار تنبه إرادة الشمس لإحراقهم كلما تصدَّوْا لها. ويكون ذلك معناه بقاء هذه الإرادة التي لا يبعد أن تستعملها صاحبتها اليوم أو غدًا إذا أحوجت الظروف كما كانت تستعملها من قبل.
ولو ذكر المعترض أن تعرض الشياطين للشمس من مطلعها ومغيبها، إنما كان لصدها عن ذكر الله والسجود له، وقد انعدمت هاتان الخلتان منها بانعدام سببهما لَرَدَّ على نفسه بنفسه. كذلك فإن إحراق شياطين من عتاة الشياطين كل يوم — نقول: عتاتهم؛ لأنه لن يغرر بنفسه منهم للقيام بمثل تلك المهمة ضعيف أو عاجز — من شأنه أن يوقع في قلوبهم الرعب والفزع.
إذن فهم لا يقدمون على تضحية لا طائل تحتها ولا نتيجة لها، وهي فوق هذا وذاك قد انعدم سببها؛ لذلك تركت الشمس حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. كوكب يدور في موكب الكواكب من غير إرادة لا يطلع بين قرني شيطان ولا يغيب عن قرني شيطان.
ولعل أبا بكر الهذلي كان قد نسي عباد الشمس فلم يصله علم ما كانت تقاسي بسببهم إلا عن طريق عكرمة. ولا شك أنه بقي مدة جهله محرومًا من التمتع بتصور الحركة العظيمة التي كانت تقوم في الجو ساعة سحب الشمس من وجارها في أبحر الظلمات والنور. لكنه على كل حال تمتع بهاته الخيالات بعد ما جاءه من العلم. أما نحن فقد أفقدنا العلم هذه التصورات، وأضاع علينا المتاع بها وبما تحويه من جمال.
على أنه خلق لنا عنها عزاء لا ندري إن كان حقًّا. ذلك هو اقتناعنا بأننا صرنا نعلم.