مصطفى صادق الرافعي
طلبت الجامعة المصرية للكتاب والأدباء في مصر أن يضعوا تاريخًا لأدب اللغة العربية؛ ليكون كتابًا لطلابها، فكان من السابقين لإجابتها حضرة مصطفى صادق الرافعي. وقد ظهر أخيرًا الجزء الأول من كتابه. وهو جزء ضخم كبير القطع يقع في أربعمائة وأربعين صفحة. وقد بقي أمام المؤلف أربعة أجزاء «من غرار هذا الجزء وحجمه». فنحن لذلك إنما نحكم الآن على قسم من خمسة أقسام من التاريخ العام الذي أخذ المؤلف نفسه بوضعه. على أننا سنبدي آراء تشمل هذا الجزء وما بعده فيما يختص ببعض المسائل كأسلوب الكاتب وطريقة تقسيم الكتاب وسيره في عمله. وآراء أخرى تختص بهذا الجزء وحده؛ لأنها تقتصر على النظر في محتوياته.
المؤلفون اليوم في مصر وفي البلاد العربية على العموم قليلون. والمواضيع التي يطرقونها محصورة؛ لذلك ترى كل واحد منهم متى أخذ يكتب في موضوع أراد أن يستوعب في كتابه كل ما جاء في هذا الموضوع أو يمسه، ويكسب من ذلك أن يخرج الكتاب كبير الحجم يسر مؤلفه ويعجب الناظر إليه. وقليل جدًّا من يحصر كتابته في الموضوع الذي يبحثه إلا متى اضطرته الحاجة للمساس بغيره. وهم في ذلك معذورون؛ لأن هذه الطريقة الدقيقة التي تضطر الكاتب لأن يحدد عمله في الوقت عينه يتعمق ما استطاع في دائرة كتابه إنما تجيء نتيجة لازمة لكثرة البحَّاث والكُتَّاب؛ مما يضطرهم لتقسيم العمل فيما بينهم، ويجعل كل واحد ملزمًا أن يُخرج للناس جديدًا من الأفكار أو الأشكال أو المعلومات حتى يجدوا في قراءته لذة أو فائدة. أما في البلاد الفقيرة فكل بضاعة رائجة؛ لأن المطلوب دائمًا أكثر من المعروض؛ لهذا أرى واجبًا أن ننظر لكُتَّابنا من غير تشدد، وأن لا نطالبهم فيما يعملون باتِّباع طريقة دقيقة. فإذا جاء الكاتب الذي يعرف طريقة التأليف، ويفهم أن المطلوب ليس هو وضع أخبار ومعلومات بعضها فوق بعض؛ كنا مدينين له بالشكر الكبير.
وأظهر الكتب دلالة على ما أقول ما كتب عندنا عن أدب العرب، فإنك قل أن تجد في هذا الباب على أنه مطروق كتابًا انتهج صاحبه فيه طريقة تأخذ بنفس القارئ جدتها أو جودتها. والغريب أنهم حين يريدون الكتابة في تاريخ الأدب، أي: حين يريدون أن ينقلوا للقارئ ابن القرن العشرين نفس أهل القرون الأولى، تراهم انتقلوا هم أنفسهم بين أهل هذه العصور المتقدمة، وانتحلوا لأنفسهم طريقة أولئك في الفهم والفكر والتعبير، ثم بقوا هناك من غير أن يترجموا لنا عن صور نفس أهل هذه العصور؛ لذلك كانت كتبهم قليلة الفائدة؛ لأن الواجب المهم على الكاتب ليس أن يسرد الوقائع أو أخبار الرجال أو آراءهم العامة المعروفة. بل أن يبين لقارئه النقط النافعة الظاهرة فيما يريد أن يكتب عنه. فإذا فرغ القارئ من الكتاب خرج منه بفكرة معينة مضبوطة تدل على نفس الكاتب، ومبلغ تقديره للحوادث. وإلا فما معنى أن يكتب كاتبون مختلفون فضلًا عن عدد كبير من الكتاب في علم واحد أو مسألة واحدة أو تاريخ خبر مخصوص، إذا كان القصد نقله عن كتاب قديم أو رواية موجودة. أليس الأحسن — إن صح ذلك — أن نرجع للكاتب القديم نفسه أو أن نراجع الرواية.
وعذر بعض هؤلاء الكتاب أن اللغة العربية هي لغة الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذلك فخير من يكتب بها هو من يضاهي المتقدمين من الكُتَّاب في ألفاظه وتعابيره. وكأنهم ما علموا أن الألفاظ والتعابير تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان لآخر. وأنقل هنا كلمات مصطفى صادق الرافعي في هذا الموضوع قال (ص٤٩): «الإنسان ملهم بفطرته أصول الحياة، وليست اللغة بأكثر من أن تكون بعض أدواتها التي تعين عليها؛ ولذا تراها في كل أمة على مقدار ما تبلغ من الحياة الاجتماعية قوة وضعفًا.» وقال (ص٥٥): «اللغة بنت الاجتماع، وهي ألفاظ ملك السامع في الحقيقة لا ملك المتكلم.» وهذه الفكرة غاية في الدقة والإمعان. فإذا كان ذلك فلِمَ يبتعد الكُتَّاب بمراحل عما يتصوره قارئوهم أو سامعوهم؟ ولِمَ هم يذهبون في تحريرهم كأنما يريدون تعليق كتبهم على أطلال العرب؟
لنا اليوم لغة كتابية متعارفة بيننا نكتب بها في جرائدنا وفي رسائلنا وفي مذكراتنا، فلِمَ ننساها مرة واحدة ساعة نريد أن نكتب كتابًا في علم ما، وخصوصًا في تاريخ أدب العرب؟ أحسب ذلك راجعًا لتقدير الذين يتناولون هذا النوع من الكتابة أنهم هم أنفسهم أدباء، فيجب أن تسمو كتاباتهم عن هذه الكتابة المعروفة اليوم خيفة أن لا يكون لهم فضل. هم يظنون أن القارئ يحني رأسه اعترافًا بعلوِّ مركزهم حين يسمعهم يجيئون بالألفاظ غير المعروفة ولا المتداولة، بالرغم مما يكون في تركيبهم من التعقيد اللفظي والمعنوي وفي أساليبهم من الركاكة. وهذا الظن من جانبهم يكفي ليُفهم الكثيرين قدرهم بمجرد قراءتهم.
ليس الأديب بالشخص العارف لعويص الألفاظ ومتروكها، ولكنه الشخص الذي يستطيع أن يُلبس المعاني الجميلة أو الأفكار الدقيقة أو الصور أو النغمات — أو أي شيء مما يقع تحت الحس أو يجول في النفس — لباسًا يظهر من خلاله جمالها وإبداعها. وكلما سهلت ألفاظه كانت أعذب سماعًا وأقرب للقلب وأحب للنفس.
يخيل لي أن الكاتب الذي ينتزع نفسه من الوسط الذي يعيش فيه، وينتحل في أسلوبه وخيالاته وأفكاره صورًا ليست له ولا لقومه، شخص شارد عن الجماعة التي يقيم بينها خارج عليها منكر نفسه وأصحابه. وإلا فما ذا الذي يدعو كاتبًا عاش في مصر وبين المصريين ليستمطر الغيث أو يعشق البادية ما لم يكن منكرًا مصر ومقامه فيها.
(١) أسلوب كتاب الرافعي
وإني آسف أن أقول: إن كتاب تاريخ آداب العرب فيه شيء من هذا الرجوع إلى أطلال سكان شبه الجزيرة الآسيوية. ويكفي دليلًا على ذلك أن أنقل للقارئ السطور الأخيرة من كتابه. قال (ص ٤٣٧): «هذا مجمل من أمر الرواية والرواة، ولولا أني حبست من نفس المقال، وعدلت بالقلم عن انتجاع الغيث إلى التلال لأمضيت البحث لطيته. وتركت الخاطر على سجيته. ولكنها قصبة من جناح قد طار. وأَثَارة من علم صار من الإهمال إلى ما صار. وإن هو إلا بساط كان منشودًا فطوي وحديث قيل ثم روي.»
أريد أن أطابق بين مثل هذه الأسطر — والقارئ يقع على مثلها من حين لآخر في عرض الكتاب — وبين اعتبار اللغة ملك السامع فأعجز دون ذلك. ويزيد عجزي حين أريد أن أطبق عليها قوله (ص١٥٩): «الألفاظ في كل لغة من اللغات إنما هي أدوات الحياة الذهنية الخاصة بالنفس، كما أن مدلولاتها أدوات الحياة المادية الخاصة بالحواس.»
وإني لا أحسب المؤلِّف رجلًا يمكنه أن يسير في كتابته على القواعد التي يضعها هو. وإنما أحسب السبب في وقوعه أحيانًا في النسيان شديد إعجابه بالعرب ولغتهم وأقوالهم وأعمالهم. ومفهوم أن الإنسان يجتهد في أن يتحدى كل ما يعجب به إلا حين يرى هذا التحدي غير صالح. وفي هذه الحالة الأخيرة قد يغلب عليه النسيان. ذلك شأن الرافعي في بعض ما كتب، أي إنه نسيان منه لقواعده.
لذلك نراه في غير هذه الأسطر يكتب بلغة معتادة وبأسلوب معتاد، أي إنه لا يمتاز فيهما بشيء خاص، ولا تظهر له فيهما صفة معينة. بل ترى مادة الحياة قليلة في هذا الأسلوب المتشابه. والسبب في ذلك أن الرافعي لا يدعو لشيء معين فيكون أسلوبه خطابيًّا. وليست عنده روح النقد الدقيق لتظهر في كتابته، ولا هو متمسك بتقليد الأقدمين فتكون له صبغتهم.
ثم هو في الوقت عينه غير دقيق في انتقاء الألفاظ وترتيبها، بل يجيء أحيانًا بجمل تكون من الغموض بحيث تستلزم وقتًا طويلًا لفهمها، وهي لا تحتوى ما يستدعي ذلك من خبر غريب أو معنى عميق، مثال ذلك ما جاء في صفحة ٩، قال: «إن تاريخ الآداب ليس فنًّا من الفنون العملية التي يحذو فيها الناس بعضهم حذو بعض، ويأخذ الآخر منها مأخذ الأول، وتتساوق فيها الأمم على وضع واحد؛ لأنها لا تتغير على الجملة في تعرف مادتها وتصرف أداتها حتى يتعين علينا أن نجعل آداب لغتنا جميلة على آداب اللغات الأعجمية، يفصل على أزيائها وإن ضاقت به وخرج بارز الهيئة مجموع الأطراف متداخل الأعضاء، وكأنه مشدود الوَثَاق أو مأخوذ بالخناق.» ولو أنه اكتفى بقليل وقال: «إن تاريخ الآداب يختلف من لغة للغة، وليس من الضروري أن ننهج في الكتابة عن آداب لغتنا منهج الإفرنج (أو الأعاجم إن شاء) حين يكتبون عن آداب لغتهم.» لكان أظهر في المعنى وأقصر في اللفظ، ولوفر على القارئ وقته، وعلى نفسه البحث عن تشبيهات هي على خلوها من الجمال لا تؤدي معنًى في هذا المكان.
أمثال هذه الجملة التي نقلنا كثير في الكِتَاب. ولا ندري لعل اعتبارنا للبلاغة يختلف اختلافًا كليًّا عن اعتبار المؤلف، فإنا نراه يجيء أحيانًا بسجعات أو تشبيهات يخيَّل إلينا أنها لا تتفق والبلاغة بحال. فقوله مثلًا في (ص١٨): «ثم إن موارد هذا التاريخ لم يتولَّها الكاتب بالذهن الشفاف. ولم يعتبرها بالفطنة النفَّاذة حتى يكون نبيها كالعراف.» قول قاصر جد القصور من جهة الفصاحة في انتقاء اللفظ، ومن جهة البلاغة في حسن سبك التعبير. كذلك قوله في (صفحة ١٣): «إنا استفدنا تحقيق معنى اللغات بما يقطع الريب ويمتلخ عرق الشبهة فيما أيقنا به.» أفلا كان الأجمل به أن يتنازل عن «يمتلخ عرق الشبهة»، ولا جمال فيه ولا ضرورة له. ومثل هذا يجده الإنسان في مواضع متعددة من الكتاب.
وهناك كلمة جميلة المعنى لا تسمح لي نفسي أن أغتفر للكاتب إلباسها ثوبًا غير جميل من اللفظ. تلك قوله (ص١٠): «من ذلك تجد الأمة التي لا حوادث لها ليس لها تاريخ.» ولو أنه قال: (لا تاريخ لها) لأعطى الجملة رونقًا يزينها.
على أن أسلوب الكتاب وإن لم يكن أسلوبًا مثلًا في مجموعه وتنقصه غالبًا طلاوة اللفظ ودقة التعبير، فإنه يصعد أحيانًا حتى يكاد يكون بليغًا. انظر إلى قوله (ص١٦٥): «فهي (اللغة) في الكفاية سواء يوم كانت لغة الطبيعة البدوية الخشنة لا تلقيها إلا على ألسنة البدو الذين هم الجزء المتكلم من هذه الطبيعة الصامتة، ويوم صارت لغة الحياة المنبسطة تصرِّفها الألسنة والأقلام في مناحي العلوم والآداب والصناعات التي قام بها التمدن الإسلامي.» وأنت تجد قطعًا جميلة كذلك في الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات.
وأظن أن السبب في اختيار المؤلف أحيانًا لألفاظ غليظة لا جمال فيها ما عنده من الاعتقاد بأن اللغة العربية والخشونة صنوانِ، وأن الرجل متى سكن المدن ذهبت فصاحته «وبدأت سليقته تتحضر، فكأنما انصدع مفصل العربية من لسانه.» (ص٢٥١). وهذه الفكرة الغريبة إن صحت عند العرب فلا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن تصح بين المصريين الذين هم متحضرون بطبيعة بلادهم. أم أن الرافعي يجاهد لينسلخ عن طبيعة مصر؛ ليبقى بذلك عربيًّا فصيحًا. أخشى إن صح هذا أن يقصر دون الأعراب ودون الحضر.
أسلوب البادية تتفق معه الخشونة أحيانًا. هذا صحيح. ولكن ليس معنى هذا أن العربي يتكلف الخشونة ليكون فصيحًا، وإنما معناه أنها تجيئه بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه. أما أسلوب أهل الحضر فإن الخشونة لا تلائمه وهو ينبو بطبيعته عنها؛ لذلك كان الكاتب من أهل الحضر الذي يكلف نفسه الخروج على طبع بلاده يجد نفسه منظورًا من قومه وكأنه غريب عنهم وإن أخطأ بعضهم أحيانًا في فهم هذه النظرة فظنها نظرة الإعجاب. ولا شيء أدل على ذلك من أن ما يكتب يبقى قراؤه قليلين محصورين في دائرة ضيقة. ويكون شأن المعجبين به شأنَ ريفيٍّ يرى البالون لأول مرة.
ثم إن بعض الكتاب يحب أن يواري عجزه عن بلوغ درجة البلاغة، فيتوارى وراء الألفاظ الغليظة السميكة، ويتخذ لنفسه منها ستارًا. وما أظن رجلًا تسمو به ملكة القول أو توحي إليه الموجودات بروح الشعر أو تجعله الأفكار يسير بخطى متتالية الأسباب المنطقية واحدًا بعد الآخر في حاجة أن يثقل نفسه بكلمات تحتاج إلى الشرح والتفسير؛ مما يدل على عدم دقتها وصلاحها للمعنى المراد منها.
نشرت إحدى المجلات المصرية مقدمة كتاب الرافعي لأول ظهوره، وعدتها آية من آيات البلاغة. وإني لشديد الأسف أن لا أجد فيها هذه البلاغة وأن أراها ألفاظًا متراكمة فوق ألفاظ، وصورًا عتيقة تتلو تشابيه ضعيفة المعنى. وإنما أعطاها في نظرهم هذا الثوب من البلاغة أنها سميكة الألفاظ صعبة الفهم لمن يحب أن يكون دقيق الفهم. وإلى القارئ بعض عبارات منها: «هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام. واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام. وقد أخصب في الأوهام. حتى نفشت في واديه كل جرباء وامتزج أمره بالأحلام … إلخ إلخ.» فأي بلاغة في هذه الجملة التي لا تعطي معنًى ذا قيمة يحتاج ضخامة التركيب إلى حد تصبح الكلمات فيه لا معنى لها.
أسلوب الكاتب مرآته. فالكاتب السهل الأسلوب السَّيَّال الألفاظ هو الكاتب السهل موارد الفكر. والشخص الذي يعتمد في بلاغته على غموض المعاني فلا ينتقي الألفاظ الدقيقة لمعانيها الموضوعة لها، إنما يدل بذلك على عدم وضوح أفكاره أمام نفسه.
(٢) طريقة أبي السامي في التأليف
ويدل على ذلك ما اتخذه أبو السامي — وتلك هي الكنية التي اختارها الرافعي لنفسه ووضعها على غلاف كتابه — في طريقة وضع كتابه وتأليفه. فإنك تجده جاء ما بين طرفيه بأخبار ومعلومات وضعها بعضها إلى جانب بعض، بحيث يكون من كبير التجاوز أن نسمي هذا الوضع ترتيبًا. وبالرغم من أنك تقرأ على غلاف الكتاب أنه «تاريخ آداب العرب»، فإنك تمر به من أوله إلى آخره ولا تكاد تقف على كلمة واحدة عن آداب العرب وتاريخها. تجد فيه كل شيء عن العرب إلا ما يخص أدبهم. وكأن أبا السامي خشي أن لا يجد عنده من مواد التأليف ما يكفي ليظهر كتابه في خمس أجزاء من «غرار الجزء الأول وحجمه»، فنفد منه الجزء الأول قبل أن يكتب كلمة واحدة في موضوعه، بل لقد كتب عن أشياء لا تتعلق قليلًا ولا كثيرًا بأدب العرب ولا بتاريخه. ويكفي الإنسان أن يراجع فهرست الكتاب ليعلم أن ما فيه لا يفيد مريد الوقوف على الآداب العربية شيئًا مطلقًا.
ولقد حسبت حين رأيت ذلك أنه وضع للفظ الأدب معنًى خاصًّا به. وقَوَّى هذا الظن عندي أن التعاريف التي جاء بها عن الأدب تشمل تحتها علومًا متعددة. فهذه الكلمة تشمل — على حساب ابن الأنباري — «ثمانية علوم: النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافي وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم. أما الزمخشري فجعل علوم الأدب اثني عشر.» والرافعي نفسه يعتقد «أن كتب الأدب هي على الحقيقة كتب العلوم التي مرت.» وبما أنه كان يكتب عن تاريخ الأدب، فقد حسب نفسه مكلفًا بطرق أبواب كل هذه العلوم، وإيراد ما جاء عن العرب فيها.
ولو أنه سمى هذا الجزء من كتابه تاريخ اللغة العربية، لكان أدق في انتقاء عنوانه وأبعد عن أن يخدع القارئ، الذي يحسب نفسه سيجد في المجلد الضخم الذي يرى شيئًا عن أدب العرب، فإذا هو يراه خلوًا منه على الإطلاق، حاويًا لمواضيع بعيدة في الغالب عنه، تتعلق بالنحو والصرف والفقه، ولا صلة بينها وبين الأدب. هذا خلاف قسم عظيم وضعه عن الرواية والرواة، يخيل للقارئ أنه يجد فيه شيئًا عن الأدب، فإذا هو متعلق باللغة وبالفقه، ولا يفيد المطلع عليه عن أدب العرب شيئًا.
هذه المواضيع التي كتب فيها الرافعي مفيدة في ذاتها، وتستحق البحث، وأن يتعمق فيها ويفتش عن دقائقها. لكن ذلك شيء وتاريخ أدب العرب شيء آخر. لا بأس لو أن الكاتب جاء بكل ما جاء به عن هذه العلوم في مقدمته للكتاب. لكنه لم يفعل. فلك أن تأخذ كل الجزء الذي ظهر دليلًا على أن المؤلف ليست عنده فكرة من أدب أية أمة من الأمم.
خلط أبو السامي بين اللغة في ذاتها وبين أدب اللغة؛ فصار حين وضع كتابه كالذي أراد أن يكتب عن الآلات البخارية، فأطال في البحث عن الحديد وأصله وكيفية تكونه في طبقات الأرض، وكيف أمكن استخراجه، وكيف وصل الناس إلى الانتفاع به، وكيف تناقلوه. فهل هناك إنسان يفهم أبسط الفهم في الآلات البخارية يستطيع حين يقرأ هذا البحث أن يقول إنه موضوع عن الآلات البخارية؟ كذلك لا يستطيع إنسان يقرأ كتاب الرافعي أن يقول إنه مكتوب عن تاريخ أدب العرب.
هذا، وإذا نحن انتقلنا من هذه النقطة إلى غيرها، واعتبرنا الكتاب في ذاته بالنظر إلى المواد المجموعة فيه فماذا نرى؟
عنَّى الرافعي نفسه وبحث كثيرًا في كتب العرب، وأراد أن يخرج من بحثه بنتيجة يفخر بأنها شيء جديد. أما المعلومات التي في الكتاب فكثيرة ومنها المفيد. لكن النتيجة العامة لا تفيد إلا الأقلين، وفي مواضيع ليست بذات أهمية كبيرة.
من الفصول الطيبة في ذاتها وإن لم يكن لها مساس بأدب اللغة الفصل الذي كتبه عن أصل اللغات. فقد أبان فيه عن فهم للأمور ووقوف على ملاحظات الكتاب والعلماء إلى حد يلذ القارئ ويفيده. وإذا كان هو نفسه يعترف بأن ما كتبه ظني أكثر منه علمي؛ فذلك لا ينقص من قيمته ولا من حُسن تقديرنا له. فقوله مثلًا (ص٤٨): «من ثم قيل: إن الإنسان يستعمل الصوت للدلالة بعد أن استكمل علم الإشارة؛ ولذلك بقي الصوت محتاجًا إليها احتياجًا وراثيًّا، ثم ارتقى الإنسان في استعمال الأصوات بارتقاء حاجاته، وساعده على ذلك مرونة أوتار الصوت فيه، وبتجدد هذه الحاجات كثرت مخارج الأصوات، واتَّسع الإنسان في تصريف ألفاظه؛ فتهيأ له من المخارج ما لم يتهيأ لسائر الحيوان، يدل على عدم تقيده بآراء المتقدمين تقيدًا يبلغ حد التعصب.»
لكن القسم الأكبر من هذه الفصول غير مستوفى بحثه؛ لذلك يغلب على ظني أن المؤلف اعتبر جزأه الأول مقدمة لتاريخ الأدب، وظن أن وقوف القارئ على كل هذه المعلومات ضروري ليتمكن من حسن تفهُّم أدب العرب. ومع بُعد هذه الفكرة عن الحقيقة فقد كان ممكنًا اغتفارها لصاحبها، لو أنه عرف أن يلبس ما كتب صفة المقدمة؛ حتى لا يضل القارئ ويبلغ به الملال أن يعدل عن قراءة الكتاب. لكن والحال هي هذه فإنا لا نستطيع دون الحكم على الكاتب بأنه سار على طريقة فاسدة، وعلى الكتاب بأنه لم يصل إلى شيء مما أراده منه صاحبه.
أهم الصفات لزومًا في مقدمة كتاب من الكتب أن تدل على روح الكاتب، وكيفية تقديره للأشياء التي يريد أن يكتب عنها. وليس من ذلك شيء في كل ما كتبه الرافعي. فإنه كما سبق القول ليس صاحب أسلوب؛ حتى تتتابع فيه الفكرة فيتسنى للقارئ أن يخرج منه بنظرة عامة، ولكنه مجرد جمع لقواعد وأسماء وحوادث لا تظهر الصلة بينها. وإذا نحن بالغنا في التساهل واعتبرنا الجزء الأول مقدمة، فإنه لا يفي بهذا الغرض؛ لأنه لا يقوم بذاته ولا يؤدي فكرة مما أراد المؤلف.
والغريب أن روح النقد ضعيفة للغاية في كل الكتاب. وسبب ذلك فيما أعتقد أن أبا السامي اعتبر نفسه عربيًّا مكلَّفًا بإقامة تمثال للعرب، لا مؤرخًا يأخذ الوقائع ويزنها ويرتِّبها ليصل من ذلك لوضع تاريخ مفيد. فكلما جاء ذكرهم رأيته أرسل قلمه بالمديح من غير حساب، حتى ليخيل للإنسان أن عرب أبي السامي جماعة من الملائكة هبطوا إلى الأرض، ولبسوا أجسامًا إنسانية، ثم أقاموا بين الناس ليكونوا مثال الكمال البشري … قال الرافعي (ص٣٥): العرب «هم جيل تدلت عليه الشمس منذ القدم في هذه الجزيرة التي كأنها قطعة اختزلت من السماء مع الإنسان الأول، فلا يزال أهلها أبعد الناس منزعًا في الحرية الطبيعية، وأشدهم منافسة في مغالبة الهمم، كأنما ذلك فيهم ميراث الطبيعة الأولى، فهم منه ينبتون وعليه يموتون. سكان الفيافي وتربية العراء ينبسطون مع الشمس، ويعيشون مع الظل، ويطيرون في مهب الهواء. بل أولاد السماء ما شئت من أنوف حمية. وقلوب أبية. وطباع سيالة (؟) وأذهان حداد ونفوس منكرة. وقد أصبحت بقاياهم الضاربة في بوادي العربية (أي بلاد العرب) ومصر وسورية لهذا العهد موضع العجب لأهل البحث من علماء الطبائع (من هم؟) حتى أجمعوا على أنه لا بد لهذا الجنس في جميع السلائل البشرية، من حيث الصفات التي تتباين فيها أجناس البشر خلقًا، وحتى صرح بعضهم بأن هذه السلالة تستمر على سائر الأجيال بالنظر إلى هيئة القحف وسعة الدماغ وكثرة تلافيفه (؟) وبناء الأعصاب وشكل الألياف العضلية والنسيج، وقوام القلب ونظام نبضاته، فضلًا عما هي عليه من ملاحة السحنة، وتناسب الأعضاء، وحسن التقاطيع، ووضوح الملامح، وفضلًا عما في طباعها من الكرم والأنفة والأريحية وعزة النفس والشجاعة … لا جرم كانوا أهل هذه اللغة المعجزة.»
يخيَّل للإنسان حين يقرأ هذا أن كاتبه أعرابي جاء من الصحراء يستجدي أحد أمراء العرب لا مؤرخٌ ينظر للناس والحوادث بعين الناقد الدقيق. ولكن لا غرابة؛ فإن الرافعي مولع بقول الشعر، ومرجعه في كل معلوماته كتب العرب وأسفارهم. فلا شك في أنه يأخذ عنهم من أخلاقهم مدح الآخرين، والتغني بأخبارهم والذهاب في الفخر إلى غايات تظهر سمجة لمن لا يفهم طباعهم.
على أن ذلك ليس من شأنه أن يبعث للنفس ثقة بما كتبه الرافعي. فمدار الثقة أن لا يترك المؤرخ نفسه لشهواته وأهوائه يرسل القول على عواهنه، ولكن أن يتقدم للقارئ دائمًا بالبرهان، بين يديه أدلته معتمدًا عليها مظهرًا أن كل حركة من حركات نفسه يظهرها قلمه، إنما دعا إليها أمر معين يستدعيها. هنالك يجد القارئ نفسه مدفوعًا ليعتقد صحة ما يقرأ ويؤمن به.
على أن كتاب الرافعي وإن خلا من حسن الطريقة وطلاوة التعبير، وخرج عن الموضوع الذي كتب له فإن فيه مجموعًا من المعلومات والأخبار والحوادث، وبعض آراء طيبة تستحق أن يقرأها من يريد أن يقف على بعض مسائل خاصة عن لغة العرب، والاختلاف اللغوي بين القبائل، وأصل الحديث وروايته، واتخاذ الرواية طريقًا لتدوين الشعر، إلى غير هذا من المعلومات التي لا تعدم من يحب الاطلاع عليها. أما من يريد أن يقف على تاريخ أدب العرب، فلا يتعبْ نفسه ولا يُضِعْ وقته بالبحث في الجزء الذي ظهر من كتاب أبي السامي. ولنا شديد الأمل أن تكون الأجزاء التي ستظهر أشدَّ مساسًا بالموضوع الذي يكتبها صاحبها من أجله وأحسنَ عبارةً وأدقَّ وضعًا.