انتقام من الجمود
انعقدت المحكمة لجلسة الجنايات، ونظرت في عدة قضايا صغيرة حكمت في بعضها وأجَّلت البعض الآخر لاستيفاء التحقيق. ثم جاء دور آخر قضية في الجلسة.
ظهرت إذ ذاك في صندوق المتهمين فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تظهر من فوق برقعها عيونٌ نُجل قد قوست فوقها حواجب بديعة، وتجتلي العين من خلال هذا الحجاب الشفاف أنفًا حادًّا وشفاهًا رقاقًا. وانسدلت من رأسها على ذراعيها حبرتها اللامعة — جاءت بخطوات ثابتة فدخلت وراء الحديد وجلست، فحولت نظرها إلى جهة غرفة المداولة حتى تتقي بذلك أنظار الناس التي اتجهت إليها.
سألها القاضي عن اسمها وسنها وعما لو كانت ارتكبت الجريمة المنسوبة إليها من قتل عبد العزيز حسنين. فأجابت عن ذلك إيجابًا. وحينئذ أخذت النيابة تسرد الوقائع والأقوال. واستنادًا إلى ذلك وإلى اعتراف المتهمة طلبت من المحكمة أن تطبق على الست عائشة أحمد مادة القتل مع سبق الإصرار.
قام المدافع عن عائشة بعد ذلك فجعل يشرح موقفها والظروف التي أحاطت بها، وطلب من المحكمة أن تبرأ موكلته وأن تراعي كل هذه الظروف المخففة، وأضاف: «والرحمة فوق العدل.»
في كل هاته الأثناء كانت الفتاة وراء الحديد ثابتة النظرات، لا يظهر عليها جزع ولا تهزها الأقوال ولا يأخذها التأثر. ومن حين إلى حين كان يبين عليها أنها غائبة عن كل ما يدور في الجلسة فتحدق بالسقف وتستسلم لشيء يهجس في نفسها. وأخيرًا سألها القاضي السؤال الذي يلقيه على كل متهم ليستكمل رسميات الدعوى: إن كان عندها أقوال تدافع بها عن نفسها.
وقفت عائشة فألقت فوق أكتافها حبرتها، وحسرت عن وجهها برقعها وقالت: إنني يا سيدي القاضي أريد أن أدافع عن نفسي لا حبًّا في الحياة والبقاء، فإنني ارتكبت جريمتي التي اعترفت وأعترف بها لأجعلها مقدمة لموتي أنا الأخرى بعد إذ سئمت العيش، واستولى عليَّ التقزز من الناس.
… من سنة مضت عرفت عبد العزيز حسنين؛ لأننا كنا نسكن في بيت واحد، وكان يصادفني كثيرًا خارجة من البيت أو داخلة إليه، فيفسح لي الطريق ويبسم لي أحيانًا. وبعد أن تعوَّد كل واحد منا رؤية صاحبه كنت أرد له التحيات التي يقدمها لي. ثم جعلنا إذا سرنا في طريق نسير جنبًا لجنب ونتحادث كما يتحادث صديقان حقيقة، فإذا ما افترقنا تهادينا التحية وذهب كل منا إلى حيث يريد.
أعجبتني منه يومئذٍ صراحته في القول مع شديد أدبه واحترامه لمخاطبه. وأدخل إلى نفسي الثقة به أنه كان يصرح لي أحيانًا بما يحصل له وما يدور في نفسه. وصرت أنا الأخرى أسرُّ إليه ما لا أطلع عليه أهلي الأقربين.
اتفق مرة أن سافر أبواي إلى الريف وخرج إخوتي في صبيحة الجمعة على أن لا يعودا إلا في المساء، وبقي البيت لا يؤنسني فيه إلا الخادمة المشتغلة بتدبير أمرنا. فقلت: أخرج أنا الأخرى لعلي أجد في الشوارع وفي زجاج الدكاكين ما أصرف فيه قسمًا من وقتي. ونزلت فإذا عبد العزيز عند الباب واقفًا وعليه أثر الحيرة. فلما تهادينا تحيات الصباح وسألته عن أمره أخبرني أنه يريد أن يخرج ولكن لا يعرف إلى أين. وما كاد يعلم أني في الموقف عينه حتى سألني إذا كنت لا أجد غضاضة في أن يصحبني إلى حديقة الجزيرة.
كنا إذ ذاك في أوائل الربيع والأشجار يملأ عطر أزهارها كل الأماكن الخلوية. فأجبته إلى ما طلب ونفسي ملأى بالسرور. كما أن حلاوة حديثه وجمال نفسه جعلاني أصحبه وكلي ابتهاج وبِشر.
دخلنا الحديقة وجعلنا نطوف في طرقاتها، وبإحساس لم أفهمه وأحسبه هو الآخر لم يفهمه جعلنا نقصد الأطراف الخالية من جوانبها حتى وصلنا في ركن بعيد إلى شجرة كبيرة امتد ظلها على الحشيش تحتها. ومن خلال سور الحديقة جعلنا نرقب العربات القليلة التي تمر في الشارع، ونحدُّ بصرنا أحيانًا فيقع على زجاج النوافذ القائمة على الضفة المقابلة من النهر وقد ألهبه شعاع الشمس نورًا.
وندير رأسنا فتتقابل نظراتنا فأحس كأن في عينيه معنًى لم أكن أعرفه من قبل أو كأنهما تكنان سحرًا، نفذ به إلى قلبي — وكأنه أحس هو الآخر بمثل ما أحسست فلم نتبادل كلمة، بل قمنا ساعة رأينا الشمس تنحدر وراء الأشجار، فرجعنا إلى دارنا وافترقنا عند بابها إذ ذهب هو لبعض أمره.
من ذلك اليوم تغيرت معرفتنا الأولى، ومن ذلك اليوم جاهدت أن لا أراه، وجعل هو الآخر يتجنب ما استطاع مقابلتي.
مَرَّ بعد ذلك زمن ولم نتقابل فيه إلا مرة واحدة على السلم ولم نتبادل تحية ولا كلمة.
ثم رأيت أمي تحوم في كلامها معي حول موضوع زواجي بشخص لا أرى ضرورة لتسميته الآن، وكل ما أقوله عنه أني لم أعرفه ولم أره من قبل، ولكن تبيَّن لي من إلحاح أمي أن لأبي مصلحة في هذا الزواج. فعملت جهدي حتى تعرفت بعض أمره فإذا هو شخص أرى عارًا أن ينتسب أبنائي له. وصرت كلما ألحَّت أمي ازددت منه اشمئزازًا. فلما رأيت أن قد كاد يقرِّر أبي أمر زواجي به نهائيًّا بلغ بي اليأس أقصى حدوده.
حينذاك أخذت بنفسي رغبة شديدة متحكِّمة أن أرى عبد العزيز بعد ثلاثة أشهر من زمن التهاجر بين شخصينا، وإن لم يغب عن بالي يومًا ذكره.
كنت أعلم أنه ساعة الظهر يتناول طعام الغداء في الدار وحده. فصمَّمْت على أن أنزل إليه في تلك الساعة أندب له حظي علِّي أجد في كلمة منه عزاءً. وزادني تمسكًا بعزمي أني ساعة خرجت من باب مسكننا رأيت خادمه نازلًا ليشتري لا شك بعض الشيء مما يخص البيت. لكنني شعرت بقشعريرة لبستني ساعة وقفت على بابهم، ولم أستطع حراكًا. فلما عاودني سكوني ترددت في أن أدخل أو أرجع أدراجي. ففيما أنا في ترددي انفتح الباب وظهر أمامي عبد العزيز.
عرتني رعشة من جديد، وتولاني خجل شديد. لكني لم أستطع أن أمنع نفسي عن أن ألقي بكلي بين يديه باكية منتحبة.
فأقفل الباب وأخذني إلى غرفته وأجلسني إلى جانبه، وجعل يلاطفني حتى هدأ روعي فرفعت رأسي أنظر إليه فإذا عيناه هو الآخر مغرورقتان بالدموع، وأردت أن أقوم فإذا هو ممسك بيدي مسكة لا أنسى أثرها ساعة أحسست بها حتى أموت.
قصصت عليه قصتي؛ فجعل يهدئ من نفسي ويقول لي: إن ذلك الشخص الذي يريده أبواي متى تزوَّج صار شخصًا عاقلًا. لكني لم أقتنع، ورأيت من عينيه أنه يقول غير ما في قلبه.
تعددت مقابلاتنا بعد ذلك، وكل مرة أبث له ويبث لي من كامن ما في نفسينا حتى جاءت الساعة التي صار زواجي فيها بهذا الشخص أمرًا محتومًا. هنالك انهدمت صروح نفسي، ورحت لعبد العزيز أكرِّر له الشكوى، وأبكي بكاء الطفل؛ فضمَّني إلى صدره وقال: هل تقبلين يا عائشة أن تكوني زوجًا لي؟
وما كاد ينطق بكلمته حتى تركت نفسي بين يديه ولا أدري بأي لسان أشكره. وتركت له من تلك الساعة تصريف عناني.
وكنت أعتقد أن الزواج الرسمي بالمأذون والشهود كل قيمته أنه يذيع أمر الصلة بين شخصين صلة صمَّما إذاعتها فيما بعد؛ لذلك عددت نفسي من تلك الساعة زوجًا لعبد العزيز، وأضفت إلى حبي الأول حبًّا جديدًا، وأسلمته حياتي وحريتي وشرفي، كما اعتقدت أني أخذت منه مقدار ما أعطيته من نفسي. وجاهدت بعد ذلك حتى أنزلت أبويَّ عن رأيهما، وطلبت إليه أن نعلن صلتنا للناس فنقيم عقد الزواج.
سافر فأخبر أبويه بما يريد. وأراد أن يقنعهما فوقفا في وجهه وأبيا عليه غرضه. فلما رجع إليَّ وبلَّغني ذلك قلت له: إنني يا عبد العزيز راضية أن أكون معك في أي عيش ترضاه. أنا زوجك وأنت زوجي؛ فإذا لم يقبل أبواك ذلك فإنا نعلنه بالرغم من كل شيء أو نبقيه حتى يرضيا. ثم تركته بعد ذلك يفكر في أمره.
لكن ما هدده به أبواه من اجتنابه والانفصال عنه أخافه وراعه. ورأيته ابتدأ يتردد في أن نتم هذا العقد. وكلما تعاقبت الأيام ظهر عليه أثر التصميم على ذلك، وإن بان لي من نحوله وتعبه أنه يجاهد نفسه. وفي اليوم الذي تيقنت فيه أني حامل جاءتني منه ورقة يخبرني فيها أنه مع شديد الأسف مضطر لقطع كل علائقه معي.
هنا ضاع رشدي وفقدت صوابي. تلفتُّ حولي فإذا الجمعية بقوانينها تركتني أنوء تحت أحمال العار والألم، في حين يتمتع شريكي بحريته وشرفه. وهذا الموجود الحي الذي أحمله في أحشائي سيخرج يومًا على الأرض فلا يعرف الناس له أبًا. وحيث سرت يرمقني أمثاله بعين الاحتقار والامتهان.
لم أجرم في كل ما عملت ولم آتِ ذنبًا. ومع براءتي سبَّبَ لي عبد العزيز كل هذه المصائب.
حينذاك انقلب كل حب في نفسي له بغضًا، وصمَّمْتُ على الانتقام بعزيمة صممت بها من قبل على أن أعيش معه. وبعد هذا التصميم بأسبوع قتلته. وإنما انتقمت في شخصه من جمود الآباء.
ها ما عندي قلته وخففت بذلك عن نفسي أثقالًا أحملها. وفي أيديكم يا سيدي القاضي حياتي فاحكموا فيها …
ثم خلت المحكمة للمداولة وأجلت النطق بالحكم أسبوعًا.