تذكارات الطفولة (١)
ما أنس لا أنس يوم العلقة المليحة. أذكرها اليوم وقد مضت عليها سنون فتعروني هزة الخوف. كنا إذ ذاك يوم السوق، وكان من عادتي أن أحضر لسيدنا نصف بريزة من أبي كل سوق. فلما أصبحنا ذلك اليوم وأردت مقابلة والدي علمت أنه نائم. فألححت وبكيت وصحت وصرخت حتى استيقظ من شدة ما أحدثت من الجلبة. فخرج يسأل عن الأمر؛ فلما علمه غضب مني وأمسك بأذني وضربني كفًّا، وطردني ولم يعطني حتى ولا قرش السوق. فذهبت إلى الكُتَّاب بعد إذ كفكفت أمي دمعي وأعطتني قطعة من السكر لتسكتني. ولما وصلت نظر سيدنا إليَّ نظرة الآمل. ولكنما خيَّب كل ظنونه أني لم أضع يدي في جيبي. فتعلل وسأل عن سبب تأخري. ولما أخبرته استشاط غضبًا؛ لأنه كان ناويًا — كما علمت فيما بعد — أن يشتري بردعة لحمارته من السوق. وأنذرني إن لم أحفظ لوحي قبل الإفطار أوراني شغلي. وفعلًا لم أحفظ لضيق الوقت. فنادى بعلج من أولاد المكتب، فدنا إليَّ وقرص بيديه رجلي فوق كتفه، وأمسك سيدنا بعصًا من جريد وقام على أطراف أظافره ونزل ضربًا.
– آه! … أنا في عرضك يا سيدنا. أنا في طولك يا سيدنا. وحياة أبوك يا سيدنا … لكن ذلك كله لا ينفع. لقد أضعت عليه أمله، ولم يعد قادرًا على أن يشتري البردعة. وهذا العلج العنيف ممسك بكل قوته. والأولاد من حولي كلهم ينظرون إليَّ ولا تدمع لهم عين رحمة بي. ورأسي مطروح على الأرض أقلِّبه من شدة الألم فينال التراب وجهي. وبقيت كذلك حتى مَرَّ رجل بالباب، فدخل وشفع فيَّ وقَبِل سيدنا الشفاعة عن ذنبي.
ذهبت إلى الدار باكيًا، وسألني أبي عن سبب بكاي فأخبرته. فلما رجعنا بعد الإفطار رأيت عيون سيدنا لا تزال حمراء من الغيظ، ورأيت الأولاد ينظرون إليَّ باسمين ابتسامة الشماتة. ما أقسى قلب الإنسان وما أشده سوادًا! وجاري العزيز الذي يخرج معي كل يوم لصيد السمك يقول لي: «أكلت المليحة يا عم. علشان ما تبقاش تخطف الزق.» سبب جديد جعلني أستحق في نظره هذا العقاب. ولا بد أن يكون هناك سبب مثله عند كل واحد من الآخرين.
ومضى زمن ونحن جلوس (نحفظ) الماضي. ثم إذا أبي جاء وعليه مظهر الغضب، فخفت أن يكن ذلك لعقاب سيحلُّ بي. لكنه ما كاد يقف حتى قال لسيدنا كلمات جعلته يرتجف. وزاد أبي في القول. فلما رأيت ذلك علمت أنه قد حل بي هوان كبير، وعزت عليَّ نفسي فبكيت. ثم إذا جاري بكى.
وخرج أبي فسمعت هزة في المكتب معناها انتصار الجماعة على الفرد. ونظر الكل إلى الفقيه نظرة حقد وكراهية، وكأنما تذكَّر كل منهم يومًا كان له مثل يومي أو أشد. وأصبحت أنا وقد اعتقدوا انتصاري موضع الاحترام منهم جميعًا.
ولما خرجنا ساعة الظهر للغداء التفُّوا حولي، وجعلوا يظهرون من عطفهم عليَّ، وحنقهم على سيدنا ما أنساني لؤمهم ونظراتهم المملوءة ازدراءً وتحقيرًا.
هذه روح الجماعات. يعبدون من غلب ما دام فوزه باقيًا. فإذا ساء طالعه وفاز عليه غيره التفُّوا حول الفائز الجديد وقدَّسوه. وهكذا يبقون ما دام فائزًا.
ورجعنا اليوم التالي ورجع سيدنا. وكان معي رغيفان مخبوزان لا تزال رائحتهما من أزكى ما ينعش الأنف. فناداني إليه وعاتبني بلطف، وبلطف تناول مني رغيفًا. ولما تركته التفَّ حولي الأولاد يملقونني، وتلهَّى عنهم الفقيه بتناول الرغيف. ومضى الوقت ولم أحفظ لوحي، فجعل هو يقرؤه أمامي على سبيل تذكيري، وأخيرًا قرر أني حافظ كأحسن ما يريد. وقمت منتصرًا.
وأنساني لطف اليوم ما كان منه بالأمس، وتوسلت لأبي يوم السوق الذي جاء بعد ذلك، فدفع لي نصف البريزة دفعتها لسيدنا.