تذكارات الطفولة (٢)
كنت أيامها تلميذًا في السنة الأولى الابتدائية في مدرسة … وكان … مفتشًا في نظارة المعارف. وكان درجي موضوعًا على مقربة من الحائط. وفي الحائط منور مرتفع يطل على حارة وراء المدرسة. وكنا في الحصة الأخيرة وعندنا الشيخ … معلم القرآن.
البعيد عن العين بعيد عن الخاطر؛ لهذا كثيرًا ما نفعني بُعد درجي عن كرسي المعلم؛ لأنه أبعدني بذلك بعض الشيء عن عصاه، وخصوصًا عن عصا الشيخ … معلم القرآن والخط والمطالعة. فكم كان يدور على الذين عنده! وكم كانت تنال رقابهم وأيديهم عصاه الرفيعة الشنيعة! بل كم نالتني أنا أيضًا وكم استثارت مني أنَّات وآهات صامتة يكظمها في صدري الخوف من المزيد.
كنا في الحصة الأخيرة وعندنا الشيخ معلم القرآن. وبينما نحن نعد اللحظات الباقية على فكاكنا من أسر الدرس والمدرسة، إذا المفتش دخل يتبعه الناظر وهو يسير وراءه مطأطئ الرأس، فقمنا جميعًا ورفعنا أيدينا إلى جباهنا علامة الاحترام والخضوع، وبقينا كذلك وقد ثبتت عيوننا إلى جهة الخواجة المفتش وإلى جهة الناظر.
ولما رأينا ما هو عليه من سوء الحال اضطربت مفاصلنا، وارتعشت أرجلنا وارتعدت فرائصنا. ونظرت إلى المعلم فإذا لونه قد غاض ودمه قد هرب ولا يكاد يمسك نفسه واقفًا إلا رغمًا. وأجال المفتش في الغرفة نظرات مملوءة سطوة وشدة. ثم أمرنا بالجلوس فقعدنا وصففنا أيدينا على صدورنا، ولما كانت يداي ملوثتين بالحبر جاهدت لأسترهما حتى لا يَبِين شيء منهما.
وبعد برهة سار المفتش بخُطًى واسعة حتى وصل إلى درجي، ثم صعد فوقه ووضع يده على أرضية المنور واستردها فإذا عليها تراب. هناك وضع أصابعه الملوثة على مقربة من عين الناظر ورمقه بشيء من الاستهانة والاحتقار. وتأهب للخروج فقمنا من جديد وأخذنا التعظيم اللازم. وتبعه الناظر مطأطئًا رأسه صغيرًا. ورجع الفرَّاش مبشرًا المعلم بأن المفتش خرج مباشرة وركب في العربة التي جاءت به وسار. فجاء الشيخ عندي وتخيَّل المفتش الواقف وما جاء به من التراب، وخيِّل له أني أنا المسئول عن ذلك فابتدأ يشتمني. وأخيرًا طلب إليَّ أن أريه يدي. فلما رآهما ملوثتين هرول إلى درجه، واستخرج منه العصا التي كان خبَّأها حال وجود المفتش ونزل عليَّ بها ضربًا ينال أكتافي وظهري ورأسي من غير حساب. فلما بلغ بي الألم أشده صحت باكيًا منتحبًا. وصادف ذلك مرور الناظر فدخل على الصِّيَاح، وأخذته الشفقة حين رآني والتلاميذ من حولي في هرج خفيٍّ يتغامزون.
ولما وقف الشيخ حين دخول الناظر حركة الضرب، ووقف التلاميذ احترامًا، ورفعوا أيديهم إلى جباههم، رفعت أنا الآخر يدي إلى جبيني وأدَّيْت كل الرسوم اللازمة بالرغم من دموعي. فجاء إليَّ الناظر وبحركة لطيفة أخرجني من أمام درجي وملس على أكتافي، وكفكف عبرتي، وطلب إليَّ أن أكف عن البكاء، ولا أنسى نظرات اللوم والتأنيب التي توجَّه بها إلى الشيخ. وكأنه أحس معي بمرارة الإهانة على النفس، سواء كان صاحبها طفلًا أو رجلًا؛ فعزَّ عليه أن أهان.
وسارت الأيام بعد ذلك والمفتشون يتعاقب مجيئهم للمدرسة، ولكن لا يعبأون بالصعود فوق درجي؛ لهذا لم يبق من سبب جدي يحمل الشيخ معلم القرآن على ضربي. وكأنه حين نظر إليه الناظر معنفًا شعر بفظاعة جرمه الأول، وربما أراد أن يكفر عنه بالخروج على طبيعته الفظَّة ومعاملة الأولاد باللطف والحسنى.
في هذه السنة حيث كثرت زيارات المفتشين أذكر أن النتيجة العامة للمدرسة كانت أقل جمالًا منها في السنين التي قبلها، واتخذت النظارة هذا سببًا لنقل الناظر إلى وظيفة مدرس بمدرسة أخرى مدعية عليه الإهمال، وإن كان هو بعينه الذي شكرته قبل ذلك مرات على حسن النتيجة.