العرب والحضارة الإسلامية
سبعون مليونًا أو يزيدون يتكلمون اللغة العربية في هذا العصر الحاضر. ويقيمون في دول متجاورة تمتد حول الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وتحيط بالبحر الأحمر، وتمتد داخل آسيا إلى العراق، وتتسلل بعده إلى بعض طوائف في العجم وأفغانستان وتركستان والهند. وهذه الدول المتجاورة يَدِين الأكثرون من أهلها بالإسلام. وقد خضعت كلها منذ أكثر من ألف سنة لمصائر متشابهة فسرت بينها مع وحدة اللغة والعقيدة والحظ وحدة في الفكرة وفي الحضارة، جعلت منها كتلة تتأثر بمؤثرات متشابهة وتنظر إلى المستقبل ولكل منها فيه ما لسائرها من رجاء.
هذه الوحدة في اللغة والعقيدة والمصائر يرجع تاريخها في هذه الأمم جميعًا إلى تاريخ دخول الإسلام إليها مع العرب الفاتحين. أما قبل ذلك فكان لكل أمة منها لغتها وعقيدتها، وكانت أمم أفريقية تكاد تنفصل عن أمم آسيا خلا سوريا وفلسطين وما يتصل بهما، فكانت — في أكثر حقب التاريخ — وشيجة الاتصال بمصر وإن استقلت بلغتها الآرامية عن الهيروغليفية وغير الهيروغليفية من اللغات التي استقرت على ضفاف النيل. ولقد لعبت هذه الدول التي اتحدت لغة وعقيدة ومصائر بعد الإسلام دورًا في تاريخ العالم من أكبر الأدوار، لا يزال له أثره بارزًا. وقد أقرت هذه الدول في العالم حضارة لا يزال أثرها ولن يزول.
كان لكل أمة من هذه الأمم قبل الإسلام لغتها وعقيدتها، وكان مصير بعضها يتعلق تارة بدولة كبيرة أخرى كدول الفراعنة أو دولة الروم أو دولة الفرس، ويتحكم تارة في مصائر هذا الغير من طريق الغزو أو من طريق الدين، كما كان الأمر بعد ظهور اليهودية والمسيحية. أما العرب المقيمون في شبه الجزيرة والذين نشروا الإسلام في أقطار الأرض بعدما نزل وحيه على رجل منهم، فقد كانوا قبل الإسلام — كما هم اليوم — قبائل وعشائر تعيش في بلاد كانت — كما لا تزال — قاحلة لا يتجه نظر أحد للاستيلاء عليها إن لم يكن من هذا الاستيلاء، أية فائدة. ولذلك لم يفتحها اليونان والرومان كما فتحوا سائر الممالك المجاورة لها. وكانت تعتمد في قوامها الاقتصادي على التجارة أكثر من اعتمادها على الثمرات القليلة الضئيلة التي وهبها القدر إياها. وكانت بلادهم، بموقعها بين آسيا وأفريقية، بجدبها واضطرار أهلها للسعي في مناكب الأرض وراء الرزق، طريق التجارة بين الأمم المحيطة بها. وكان البر يومئذ وسيلة صالحة للنقل؛ لأن البحر كان لما يذلل متنه، ولما يخضع لحكم الإنسان عبابه. لكن العرب لم يكونوا لذلك تجارًا، بل كانوا حماة للتجارة التي تمر بأرضهم من غزو القبائل إياها وعدوانهم عليها، كما كانوا أصحاب رواحل تنقل المتاجر من مصدرها إلى موردها. وهذه الحياة التي تُقْضَى في الحماية من غزو المعتدي وفي نقل التجارة من بلد إلى بلد تدفع إلى النفس أسمى معاني البطولة والإقدام والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات. لكنها كذلك حياة قاسية قليل ما تدره من الربح، كثير ما تستغرقه من وقت من يعانيها. وهي بعد حياة تجوال قلَّ أن يستقرَّ صاحبها إلى ذويه، وقلَّ أن تسمح بقيام المدن وتكوُّن الجماعات المتشابكة المصالح القائمة حياتها العامة على التضامن والتنافس جميعًا. وما تزال تلك هي الحال الاقتصادية في جزيرة العرب إلى يومنا الحاضر. فالمدن فيها قليلة، والموجود منها قليل عدد سكانه. ولقد حرمت ما كان لها من قبل من مزية مرور التجارة بها بعدما أصبح البحر أكثر من البر أمنًا، لكنها استعاضت عن ذلك بموسم الحج يُدِرُّ عليها من فضل الله ما يقيم أهلها طوال عامهم.
مثل هذه الحياة الاقتصادية التي تقضي على أهل شبه الجزيرة بالعزلة والتجوال، وتحتم عليهم مواصلة العمل لكسب الرزق، ولا تيسر إنشاء المدن الكبيرة، ليس في طبيعتها أن تقرَّ حضارة ثابتة القواعد باقية الأثر؛ ذلك بأن الحضارة ثمرة من ثمرات الاجتماع في الحضر، وهي لا تتفق وحياة البادية في كيانها على نحو ما هو ظاهر من لفظ الحضارة نفسه. ثم إن الحضارة فيض من عمل الإنسانية عن حاجاتها المادية والمعنوية والأدبية يزيد من هذه الحاجات، ثم يحفز الإنسانية في نفس الوقت إلى سعي جديد يكون من أثره فيض جديد. وهذا الفيض المتتابع هو الذي نقل الإنسانية من حياتها الأولى إلى تنعم به اليوم من ترف ورفاهية، وهو الذي سينقلها في حدود النظام والتقدم إلى أبعد مدى ترتجيه نحو الكمال. وقد كان العربي في وفرة من حاجاته الأدبية والمعنوية. لكن حاجاته المادية وحكمها القاسي الذي اضطره إلى البداوة وإلى عيش العزلة هي ركن من قواعد الحضارة لا سبيل لقيامها بدونه.
وهذا في ظننا هو أكبر السبب في غموض تاريخ العرب قبل الإسلام غموضًا يكاد يكون تامًّا. فبينا يرجع تاريخ مصر لأكثر من ستة آلاف سنة، فيصور لنا حضارة عظيمة ثابتة الأركان والقواعد، تمتد من ضفاف النيل عبر البحر المتوسط إلى اليونان وروما، وتجتاز برزخ السويس إلى فلسطين وسوريا وما وراءهما، وتظهر فيها الحياة المادية والمعنوية والأدبية واضحة الحدود والثنايا، ثم هي ما تزال تزداد بالبحث والتنقيب ظهورًا ووضوحًا؛ وبينا يحدثنا التاريخ عن اليونان وروما، ويدل فيهما على حضارة ترجع إلى نحو ثلاثة آلاف من السنين؛ وبينا سائر الأمم التي كانت معروفة في تلك العصور النائية قد تأثرت بهذه الحضارات، وأثَّرت فيها، وكانت لها حضارات خاصة — بينا يكشف لنا التاريخ عن هذا إذا به لا يروي عن شبه جزيرة العرب قبل الإسلام بأكثر من مائتي سنة شيئًا معينًا.
وإذا رواياته عن هذين المائتين من السنين لا تدلُّ على أكثر من أن العرب كانوا أهل بأس ونجدة وحياة معنوية فياضة. أما الحضارة ومظاهرها من علوم وفنون، أما هذا الفيض الذي يربو على حاجات الإنسانية ثم يندمج فيها ليخلفه فيض جديد يندمج ليجيء بعده فيض غيره، ثم ما يكون من ذلك من التقدم في سبيل الكمال، فلا يحدثنا تاريخ العرب قبل الإسلام عن شيء منه. بل لا يزال شبه الجزيرة في تاريخه من بعد الإسلام إلى يومنا خلوًا من هذا؛ لأنه لا يزال كما كان خاضعًا لسلطان الحياة الاقتصادية التي لا تجود بما يقيم الركن المادي من أركان الحضارة.
على أن الناحيتين، المعنوية والأدبية، كانتا قويتين في النفس العربية قبل الإسلام، ولا تزالان قويتين فيها إلى حد عظيم. وهذه القوة المعنوية أثر من آثار قسوة الحياة الاقتصادية العربية، أو هي تعويض عن هذه القسوة تجود به الطبيعة وتقيمه في الكائن الحي فطرة الاحتفاظ بالحياة. فلو أن الحرمان المادي قابله حرمان معنوي لما استطاع هذا البدوي المقيم على شَظَف العيش أن يجد في نفسه من الهمة ما يتغلب به على شدائد الدهر ونوائب الزمن. بل لو أن نفسه كان فيها هذا الاستسلام الوادع المطمئن إلى ما تجود به الطبيعة من عيش ناعم لقضى نحبه جوعًا وظمأً. والقليل الذي بقي لنا من أدب العرب قبل الإسلام وفي صدره الأول يفيض بمعاني هذه الهمة وآثار تلك القوة التي كانت دائمة التحفز لمجالدة الطبيعة ومغالبتها. وماذا تسمي هذا الازدراء للتكسب بالشعر إلا أنه سموٌّ عن المسألة واحتقار لكل من تحدثه نفسه بأن يعيش عالة على غيره وأن يكسب حياته من غير جده ونشاطه؟ ثم ماذا تسمي هذا الترفع من جانب الرؤساء عن قول الشعر — حتى كان امرؤ القيس عارَ أبيه — إلا أن هؤلاء الرؤساء كانوا يرون واجبهم في الدفاع عن عشائرهم والذَّوْد عن حياضها والحكم بين أهلها يقضي عليهم بالترفع عن القول إلى العمل، خصوصًا إذا أوجب هذا القول ما يوجبه الشعر العربي من غزل لا يتفق ورياساتاهم الرفيعة. على أن الشعر الذي قاله الرؤساء وغير الرؤساء كان يفيض حماسة ونجدة، وينبئ عن رفعة في النفس تبعدها عن الدنايا وتدفعها إلى أسمى الغايات.
هذا الفقر في الناحية الاقتصادية والغنى في الناحية المعنوية، وهذه العزلة الدائمة التجوال، كل ذلك جعل من العربي رجلًا خياليًّا لا يعرف من دقائق حياة الوجود إلا قليلًا. ثم مع هذا يردُّ كل ما في الوجود إلى شخصه فيمتلئ بذلك زهوًا وافتخارًا. وأنت فيما ترجع إليه من أشعار العرب قبل الإسلام لا تجد إلا حديث الشاعر عن نفسه. فحبه وغزواته وكرمه ومجده ونسبه. وأنت تجد ذلك كله مذكورًا بزهو أي زهو، وإعجاب أي إعجاب. فأما ما كان من مظاهر الحضارة في الشعر؛ أما هذا الوصف لحياة الجماعات ونشاطها وغزوات الدول الأجنبية إياها وفخارها بالنصر، وألمها للهزيمة مما تجده في إلياذة هوميروس، وأما هذه الفلسفة الدينية أو الوثنية التي تعبر عن إيمان الجماعة وآمالها في الحياة، وفيما بعد الحياة مما تجده في آثار المصريين واليونان والرومان، وأما هذه الفلسفة التي تعبر عن نظام الجماعة التي فرغت من سعيها لحياتها، وجلست تفكر في أمسها ويومها وفي الحياة والموت وما بعدهما، وأما هذه القصص التي يتلهَّى بها أهل المدن في مسارحهم وحين قصفهم ولهوهم؛ أما هذا وما إليه منآأثار الفكر والفن ومن ثمرات الحضارة، فلا تكاد تحسه في الشعر العربي قبل الإسلام. وكيف تطلبه إلى قوم حياتهم الاقتصادية ما رأيت ولهوهم هو هذا الغزل بالنساء والإشادة بالحب وذكره؟ والحب كما تعلم ليس إلا حديث بقاء النوع، كما أن الكفاح ليس إلا حديث الاحتفاظ بالحياة.
تلك كانت حياة العرب قبل الإسلام. أعدتهم الطبيعة لحياة العزلة والجهاد فظلوا قبائل لحمتُها النسب وسعيُها حماية الجار عربيًّا كان أو غير عربي. وأنت لن تجد في شعر الجاهلية معنى أسمى من هذه الحماية وبذل النفس في سبيلها واستعداء العشيرة على من يتعدى عليها. كما أنك لن تجد عند الجاهليين من دوافع الطبيعة غير الغزل جاوز عندهم ما تدفع إليه فطرة استبقاء النوع وتحسينه إلى أن صار فنًّا. يفكر الأعرابي في محبوبته على أنها أمل يتخيله وصورة يصل في وصفها إلى ما لم يصل إليه سواه. وذلك أن الشاعر العربي القديم كان يقاسي من ضرورات الحياة ما يقاسي، ثم لا يجد من صور الترف والنعمة سوى المرأة. فكان لذلك يُسبِغ عليها كل ما في عقله وقلبه وكل ما في بصره وبصيرته من الصور والمعاني.
أما ما سوى هذه المظاهر من صور الحياة فلم يذكر عنه التاريخ شيئًا. وإذا كان بعض المؤرخين قد وجد في بلاد اليمن وفي بعض سواحل العرب شيئًا من آثار الحضارة؛ فذلك لأن تلك السواحل كانت في حياتها الاقتصادية أحسن حظًّا من داخلية البلاد المحاطة بالصحراء، لكن حظها لم يكن من الوفرة بحيث ينيل ما وراءها من المتاع المادي الذي يقيم الحضارة في شبه الجزيرة أو في قسم منها ذي قوام خاص؛ لذلك بقيت حياتها البدوية أساس كيانها، وبقي لها من هذه الحياة كل ما سبق وصفه من الآثار.
ولما جاء الإسلام كانت شبه الجزيرة على حالها القديم منقسمة شيعًا وقبائل كلٌّ منها ذات كيان مستقلٍّ بحاله من نسب وتقاليد ولهجة عربية، تختلف قليلًا أو كثيرًا عن لهجة قريش. لكنها كانت جميعًا ذات حياة معنوية وأدبية ممتازة في القوة. وكانت هذه الحياة المعنوية غير متفقة مع ما كان سائدًا بينها من عقائد أورثها إياها سلفها، وجنى عليها ما كان يرد إليها مع أبنائها حماة التجارة من عقائد القبائل والشعوب المجاورة؛ لذلك وجدت كلمة الإسلام في بساطتها وقوتها وحقيقتها مرعًى خصبًا في نفوس ترجو أن تطمئن، فلما اجتمعت كلمة العرب في شبه الجزيرة حول الإسلام، وتناصرت قبائلهم المتقاتلة، وأصبحوا أمة جمعت كل قوى العربي المعنوية، اتجهوا إلى الفتح؛ ليقيموا الدين ولو كره الكافرون.
أوغل العرب المسلمون إلى الشام والعراق والفرس ومصر، فألفوها بلادًا ذات حضارة كاملة الأداة والمظهر، ووجدوا فيها ثمرات الاجتماع من فلسفة وعلم وفن. وتلك شئون ليس لشبه الجزيرة بها عهد. ولكنهم ألفوا الجانب المعنوي من هذه الحياة الحضرية ضعيفًا متهدمًا نخره الترف وزعزعت أسسه المظالم. وهذا الضعف المعنوي، هذا الضعف في إيمان النفس بذاتها، هو الذي فتح أمام النفوس العربية — التي ازدادت بإيمانها الجديد قوة وحماسة — أسوار هذه الأمم. فبدأ العرب أول فتحهم هذه البلاد ينشرون الدين فيها ويقيمون العدل بين أهلها، ويعفون عما استقر من الحضارة بين ربوعها. وهذا يفسر لنا ما يقال من إحراق بعض دور الكتب، وعدم العناية بأي مظهر من مظاهر الفن. لكن فترة الغزو الأولى لم تلبث أن تمرَّ ولم يلبث العرب أن اطمأنوا إلى معاني النعمة التي أفاضتها عليهم خيرات البلاد المفتوحة؛ حتى بدأوا يترددون في وجوب التعفف عنها. ولعل أول مظاهر هذا التردد صراحة انتقال حكومة الدولة من مكة والمدينة إلى دمشق. فليس شك في أن من الأسباب التي أدت إلى هذا الانتقال ما رأى العرب من فقر شبه الحزيرة وإقفارها، ومن استحالة قيام الحضارة فيها. وبانتقال الحكومة إلى دمشق وأخذ الخليفة من مظاهر الترف بنصيب بدأ هؤلاء الذين قضوا حياتهم إلى ذلك الحين في شظف من العيش ينالون من آثار النعمة ما يرفه عنهم مضض الجهاد، وما يزيدهم للغزو حبًّا وفيه إمعانًا.
وإذ كانت الناحيتان الأدبية والمعنوية ناميتين عنده كما أسلفنا، وكان ذا حظ من الذكاء عظيم، فقد استطاع أن يتمثل حضارة البلاد التي مرَّ بها. بل استطاع أكثر من ذلك أن يهضم الحضارات المختلفة، وأن يسيغها، وأن يجعل منها حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية. فهو قد وجد على شواطئ دجلة والفرات، ووجد في بلاد فارس صورًا من الحضارة ماثلة في مظاهر الفكر والفن على غير الصورة التي مثلت بها الحضارة الرومانية على ضفاف النيل، وعلى غير ما وجد على شواطئ البردا بدمشق. مع ذلك جمع هذه المظاهر كلها ومزجها في فكره مزجًا، وأبرز منها للحضارة الإسلامية صورة جعلت ترقى رويدًا رويدًا وتزداد باتساع الفتح رقيًّا، وتتمثل صورًا ومعاني للحضارة جديدة، حتى كانت حضارة بغداد وحضارة قرطبة غاية ما وصل إليه التقدم الإنساني في تلك العصور. ولما تدهورت دولة العرب وقام الترك على حكم المسلمين وقفت هذه الحضارة الإسلامية التي ساغها العقل العربي، فلم تتقدم وظلَّت واقفة إلى زمن قريب من عصرنا الحاضر، ثم هبت عليها نسمات من الحياة تبعث في النفوس اليوم أكبر الأمل أن يعود لهذه الحضارة مجدها وسلطانها.
خرج العرب المسلمون إذن من شبه الجزيرة ولا حضارة لهم، ثم كانوا أداة اتصال بين الحضارات المختلفة القائمة في الفرس وفي مصر وفي الأندلس فتمثَّلوها، ثم خلقوا من مظاهرها جميعًا … وفنية كبرى. ولقد قام أهل البلاد التي فتحها الإسلام بهذه المجهودات فألفوا بها بين حضارتهم السابقة وحضارات الأمم التي اشتركت معها الحضارة ما اقتضاه قيام كل حضارة سبقتها من مجهودات عقلية، حضارة متحدة هي الحضارة الإسلامية. وقد اقتضى قيام هذه بعد فتح العرب إياها في نعمة الإسلام. أما العرب الفاتحون أنفسهم فقليل منهم من اشترك في هذه المجهودات الفكرية والفنية وإن كانت جميعًا قد تمت بأمرهم وتحت إشرافهم. ولعل أكبر ما يقنعك بهذا أن الأدب العربي، الذي كان باقيًا للعرب أنفسهم لم يشاركهم فيه من أهل الأمم المحكومة إلا قليل، قد بقي بطابعه العربي القديم مع قليل من التحول زمنًا طويلًا. ثم هو على كل حال لم يتأثر في غير الأندلس بمظاهر الحضارة الجديدة من وصف للمدائن والقصور وما تحتويه. وهو لم يتأثر ولا في الأندلس تأثرًا ظاهرًا بالأبحاث التاريخية والفلسفية والعلمية التي كان يعالجها أهل تلك الأمم، والتي بلغت في رفعة الحضارة الإسلامية مقامًا محمودًا، وكانت ذات أثر مباشر في تطور المدنية الغربية وفي بلوغها مكانتها الحاضرة.
وإنه لعجب حقًّا أن يدل الأدب العربي على أن العرب الذين تمثلوا حضارات الأمم التي حكموها ظلوا محتفظين بسحنتهم العربية، حتى لكأنما أنفوا أن يستعيروا من أدب غيرهم ما لم يكن في أدبهم قبل الإسلام من قوالب وصور. أم أنها لم تكن أنفة، بل كان الطبع العربي السريع التنقل والتجوال هو الذي احتبسهم في تلك القوالب القديمة؟ أرأيت شاعرًا عربيًّا قحًّا عدا في أوزانه أوزان العرب الجاهليين؟ وهل رأيت كتاب العرب اختلفوا في نقل الروايات عمن سبقوهم؟ ثم هل جدد عربي في الأدب نوعًا من الأنواع لم يكن معروفًا من قبل؟ وهل وضع أحد القصة الطويلة أو الرواية التمثيلية، أو ما إلى ذلك مما عرفه أدب اليونان والرومان وما كان معروفًا في مصر وفي غير مصر من البلاد التي خضعت للفتح العربي؟ أم أن الذين جددوا في اللغة العربية لم يكونوا عربًا أعرابًا، وأن الذين كتبوا كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وقصة عنتر، وما إلى هذا من الأنواع الجديدة إنما كانوا من أهل البلاد التي دخلها العرب واتصل ما بينهم وبين أهلها برابطة الإسلام، فكان تعاون على إعلاء شأن الدين والحضارة التي لازمته.
أستغفر الله فقد ابتدعت في الأندلس صيغ وأوزان في الشعر جديدة أخذها مشارقة المسلمين عنهم. كما أن الشعر العربي والنثر العربي تأثَّرَا بكل حياة جديدة مرَّا بها في تصويرهما المعاني. لكن أكبر عوامل هذا التجديد ليسوا العرب الأعراب، وإنما هم الذين دخلوا في الإسلام واتخذوا اللغة العربية لغةً لهم. وقد يكون من الأعراب من تابعهم. لكن العرب الذين نزحوا من شبه الجزيرة ظلوا أغلب أمرهم محتفظين بكيانهم القديم، كما ظلوا أدوات اتصال بين الأمم التي شاركتهم دين الهدى والحق.
على أن أكبر ما يسَّر للعرب الإشراف على قيام حضارة مشتركة بين هذه الأمم المتجاورة ما تربط الطبيعة به هذه الأمم من أواصر، فهي جميعًا ترجع إلى أجناس متقاربة، كما أن وسائل الاتصال بينها عريقة في التاريخ تقرب بينها اليوم كما كانت تقرب بينها من قبل. ميسورة بسبب وقوعها جميعًا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط أو على مقربة منه. ولقد كانت الحضارة التي قامت على شواطئ هذا البحر متقاربة أبدًا. وكان التفاهم لذلك بين أممه ميسورًا.
وكان فضل العرب الأكبر أنهم جاءوا إلى هذه البلاد في عصر انحلَّت فيه عناصر قوتها المعنوية وتخاذلت النفوس، فدفعوا إليها من قوتهم ومن إيمانهم الجديد نشاطًا وقوة وتماسكًا حفزتها للعود بحضاراتها إلى الإنتاج والتقدم كما قربت بين هذه الحضارات وأدمجتها في الحضارة الإسلامية. واتصال العرب بهذه الأمم جميعًا اتصال جوار وجنس وتجارة مكَّن لهذه الحضارة الجديدة أن تؤتي كل ثمراتها، وأن تبدع في مظاهر الفكر والفن والعلم مبتكرات ما يزال أثرها إلى اليوم باقيًا.
أليس عجبًا أن نذكر في هذا الظرف الذي يحدونا فيه الرجاء، ويملأنا الأمل في أن نرى جدة مدنية الشرق العربي كيف كان هؤلاء العرب الأعراب — ولا حضارة لهم — سببًا في تكوين الحضارة الإسلامية وفيما خلفت من آثار جمة في العالم، أوليس عجبًا كذلك أن يظل هؤلاء العرب الأعراب إلى يومنا هذا ولا حضارة لهم لأن واديهم غير ذي زرع لا يصلح مستقرًّا للحضارة وأدواتها من فن وعلم وفلسفة. وأعجب من كل هذا أن أولئك الذين لا حضارة لهم قد أقروا في منابت أكبر حضارات شهدها التاريخ لغتهم، فربطوا بذلك بين أمم هذا الشرق بأوثق رباط، وصار حتمًا مقضيًّا على هذه الأمم أن تتفق حضارة ومصائر ما اتفقت لغة وعادات. ولكن لا عجب؛ فإنما الإيمان الذي رفع النفس العربية إلى المستوى السامي الذي يبعث النفس الإنسانية إلى التقدم نحو الكمال هو الذي بعث الحياة الإنسانية في نفس الأمم التي أضعفها الاستعباد والترف، فانتقلت بإيمانها طفرة إلى النشاط الصالح، وأقامت الحضارة التي بعثت إلى الكون حياته مئات من السنين.
ولقد كان الإيمان منذ بدأت الإنسانية هو القوة الدافعة إلى الرقي والتقدم، وكان قوام الحضارات في مصر وآشور واليونان ورومة كما أن الإيمان بالعلم وسلطانه هو قوام المدنية الغربية الحاضرة. وإيمان شعوب الشرق العربي في هذا العصر الحاضر هو الذي يبعث في كل نفس أكبر الأمل بأن أمم هذا الشرق ستقوم عما قريب بدور عظيم في أدوار حياة الإنسانية.